عالمنا المجهول

منذ 2024-04-14

رسالتي إليك: إن كنت تبحث عن ذلك الإنسان الذي سيُغيِّر حياتك، فانظر في المرآة.

هل خُضْتَ تجرِبة الغوص يومًا ما؟ لست متأكدة من ذلك، لكنك حتمًا سمعت عن عالم الغوص، وما فيه من مغامرات مثيرة أحيانًا وصادمة أحيانًا أخرى، بطبيعة الحال تصدمنا المفاجأة، وتثيرنا الاكتشافات، ليست في عالم البحار والمحيطات فحسب، بل في عالمنا المجهول كذلك.

 

قائد ومسؤول...

فكم منا مَن مارس الغوص في أعماق ذاته! وكم منا من تعرض في رحلته هذه للصادم والمثير! فإن لم تكن - عزيزي القارئ - ممن غاص، أو صُدم واستثار، فإنك تُبحِر في عالم مجهول، تجهل جماله فلا تستمتع بروعته ولا تنتفع بثرواته، وتجهل قوته فلا توجهها لترسيك على شاطئ مليء بأحلامك ورغباتك، فتلتقطها باحترافية من هنا وهناك لتكون أنت كما تريد، فلو عرَف الفرد منا جمالَ روحه التي نفخ الله جل جلاله فيها من روحه، ما سمَّى شيئًا بالجمال قط، ولو عرف قوته وقدرته الكامنة التي وهبه الله تعالى إياها، لَما انتابته لحظات عجز وإحباط ويأس، لكنك ما إن تصل إلى أعماقك فستدرك أن وعيك بذاتك ارتقى إلى الحدِّ الذي يجعلك القائد الوحيد لنفسك، والمسؤول الوحيد عنها، فتمتلك وتمتع بقدرة غير معهودة منك على إعادة توجيه إدراكك، والتحكم بانفعالاتك.

 

تأمل معي...

لحظة تأمل وسؤال لأنفسنا، إذا كان العقل البشري هو من يحرك برامج الحاسوب، فما الذي يحرك هذا العقل ويوجِّهه؟ فلو تفكَّرنا قليلًا، لأدركنا أن سلوكياتنا متمثلة بمشاعرنا وأفكارنا وتحركاتنا هي بمثابة البرامج التي توجِّه العقل البشري، فمتى يكون العقل هو من يوجه البرامج وليس العكس؟

 

سيد الموقف...

سأجيب عن سؤالي من خلال مقالي هذا، وبعد دراسة مستفيضة، وبحث عميق، وخبرة وتجارب ليست بالقصيرة، أخي الكريم، وأختي العزيزة، متى ما كان العقل هو الموجِّه وتسيَّد الموقف، أصبح لدينا وعي عالٍ بذواتنا؛ من رغباتها وحاجاتها واحتياجها؛ لذا فإن السعي لإدراك ذواتنا وزيادة الوعي فيها، يعتبر من أسمى وأرقى أنواع السعي؛ لأنها تحقق السلام والاطمئنان والسكون، وتقودها إلى هداها وفطرتها السليمة، فتكون مفتاحًا لتسوية رغباتها وتحقيقها، ولحل أغلب مشكلاتها؛ وذلك لأن جميع الحلول الواقعية لكل ما نعانيه تكمن في دواخلنا، فعِوَضًا عن سعينا لتصحيح وتعديل المشكلات من إطارها الخارجي، كان علينا السعي لإصلاحها من أعماقنا الذي غُصْنا فيه.

 

ارفع لياقتك...

قد يبدو الأمر صعبًا في بداية الأمر، وهذا أمر طبيعي في أي مهارة جديدة، فذاك الغوَّاص الذي جاب البحار حتى احتكَّ بأعماقها، ما كان له هذا إلا بعدما تمرَّن وتدرَّب، ورفع لياقته في بدنه وتنفسه، وأنت - يا صديقي يا من تود الغوص في أعماقك - عليك بالتدرب على هذه المهارة السهلة الممتنعة.

 

طفلك المدلل...

إليك مني أول فصول الدرس لتبدأ به: تحدَّث مع ذاتك بما تشعر به، وتحب وترغب، وأشبِعْ احتياجها المباح، اجعلها طفلك المدلل، كما جُبِلت عليه فطرتنا بتدليل أحباب الله، ومسامحتهم على ما يفعلون، واحتوائهم مهما فعلوا أو أخطأوا، وليس هذا فقط، بل نحن نسعى جاهدين في تعليمهم كل ما هو جميل وإيجابي؛ كي يسموا إلى أرقى الأخلاق، وأجمل السلوكيات، وهكذا يجب أن نحتوي ذواتنا لنرتقي بها، نفهمها ونتفهمها، نسامحها ونقومها، ونلبي احتياجاتها، ولا نقف هنا فقط بل نتعمق في الدرس من فصله الثاني: قوِّ "عضلة" إدراكك؛ لتدرك بأن النفس حقيقةً كالطفل، إذا أسأت معاملته، نفر منك، ولن يطيعك في أي توجيه، ولن يطاوعك في أي حوار، وإساءة معاملة النفس تكون على شكل تجاهل شعورها ودفعها لإرضاء الآخر فيما لا تحب وترغب، وبقائها في منطقة الراحة، وقبل ذلك كله البعد عن الطاعات، واقتراف الذنوب والمعاصي، مما يجلب الحزن والبؤس والتعاسة، فالطف بها، ليصبح هناك انسجام وتناغم بين عقلك وقلبك.

 

لن تجد المتعة...

قابلت شخصًا ذات يوم، وكانت ملامح وجهه تدل على سنوات الخبرة الطويلة ونظراته تحكي ألمًا صنعته تلك الخبرات، فاستعار انتباهي صمته ومراقبته لما حوله بهدوء عميق، مما دعاني لسؤاله: هل لك أن تخبرني بعد هذا العمر كيف هي علاقتك بذاتك؟ فقال لي: "الآن جيدة، بعدما مزقتني ومزقتها، وإن كان بإمكاني أن أقول شيئًا واحدًا لنفسي عندما كنت أصغر سنًّا فسأقول: توقف عن محاولة الارتقاء إلى مستوى توقعات الآخرين، وتوقف عن مقارنة حياتك بحياة أولئك الذين بالكاد تعرفهم، بدلًا من ذلك كان عليَّ أن أبدأ بمعرفة من أنا، وماذا أحب، وما الذي أريد أن أمثِّله، وماذا أريد أن أصبح عليه وأكون"، أنهى حديثه، وغادر المكان بهدوء، تاركًا خلفه ضجيج أفكاري حول الحياة وجوهرها؛ لأصِلَ لِما أنا عليه اليوم من يقين وإدراك بأن جوهرها هو جُلُّ هذه العملية، أعني معرفة عالمك المجهول، وإن لم تفعل فإنك تهدر أثمن مواردك؛ ألَا وهو الوقت، ولن تجد المتعة السوية الحقيقية في حياتك.

 

ليس هناك متسع من الوقت...

ومن هنا ننتقل للفصل الثالث من الدرس؛ حيث ندرك قيمة الاستشعار بالوقت وأهميته لتبدأ الآن، فالوعي بالذات ليس مجرد كلمة تُقال، وليس بمصطلح فلسفي معقَّد، بل هو ممارسة يومية مستمرة يمكن أن تجعل حياتك أكثر سلاسة وسعادة، فيما لو مُورِست على النحو الصحيح الذي ينقلك بدوره إلى درجة كبيرة من الوعي بأفكارك ومشاعرك وتصرفاتك؛ لتستطيع أن تحسن علاقتك مع ذاتك ومن ثَمَّ مع الآخرين وبشكل مستدام.

 

كنزك المفقود...

هذه الرحلة العميقة ليست عبئًا عليك ومشقة، بل هي فرصة لاستكشاف أعمق جوانب شخصيتك، والتعرف على قوتك وضعفك بشكل أفضل، لتصل إلى حيثما تحب وترغبن فلا تخشَ من البحث في دواخلك، ولا تخجل حينما تجد ما لا يعجبك ويروق لك، فلا بد من المفاجآت الصادمة، والاكتشافات المثيرة، لا بأس، عليك بالاستمرار مرارًا وتكرارًا؛ لتجد في كل مرة كنزًا من الحكمة والقوة.

 

أزِحْ قدميك...

اعقلها وتوكل، ولا تنتظر من يدفعك ويحفزك؛ فالتحفيز عملية ذاتية تحدث تلقائيًّا عندما تؤمن بقدرتك على التغيير، وتأثيرك على مسار حياتك؛ حيث البداية تحت قدميك، عليك فقط أن تطلق لها العِنان؛ فالله تعالى يقول في محكم كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

 

إذا نظرت إلى المرآة فابتسم...

رسالتي إليك: إن كنت تبحث عن ذلك الإنسان الذي سيُغيِّر حياتك، فانظر في المرآة.

__________________________________________________________
الكاتب: آلاء بدر النصار

  • 0
  • 0
  • 122

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً