السخرية والاستهزاء بالآخرين
والباعث على السُّخْرِية واحتقار الناس إنما هو الكبرُ، وهو من أعظم خصال الشر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول كما في "صحيح مسلم"...
يُفْهَم من نَهْي المولى عز وجل عن السُّخْرِية بأنواعها المختلفة أنها حرام، يقول الإمام السفاريني رحمه الله في كتابه "غذاء الألباب" (1/ 135): وتحرم السُّخْرِية والهُزْءُ؛ لقوله تعالى: { ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾} الآية [الحجرات: 11]، ولنَهْيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما سيأتي.
• والباعث على السُّخْرِية واحتقار الناس إنما هو الكبرُ، وهو من أعظم خصال الشر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول كما في "صحيح مسلم": (( «الكِبْر بطرُ الحقِّ وغمطُ الناس» )).
فالمُتَكَبِّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيرِه بعين الانتقاص؛ فيحتقرهم ويزدريهم، وهذا الصنف نذكِّره بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجَنَّةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر» (رواه الترمذي).
• ويا مَن تسخَر من الناس في الصورة أو الشكل، أُذَكِّرُكَ بقول الله تعالى: ﴿ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ﴾ [آل عمران: 6].
فالله هو الخالِق البارئُ المصوِّر؛ فليس لصاحب الشكل الدَّميم ذنبٌ فيُعيَّر ويُلام، وليس لصاحب الشكل الجميل فضلٌ أو يدٌ فيُشكَر ويُزَان.
قال رجلٌ لحكيم: "يا قبيحَ الوجه! فقال: ما كان خَلْقُ وجهي إليَّ فأُحسنه"؛ (الإحياء: 3/ 198)؛ فذمُّ الإنسانِ لخلقتِه هو ذمٌّ لخالقه، فمَن ذمَّ صنعةً، فقد ذمَّ صانعَها، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «كلُّ خَلْق الله عزَّ وجلَّ حسن» ))؛ (الصحيحة: 1441).
• ويا مَن تسخر من الناس لفقرِهم أو للباسهم، أُذَكِّرُكَ بقوله تعالى: { ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ ﴾} [الرعد: 26]، وبقوله تعالى: {﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾} [سبأ: 39]، وبقوله تعالى: {﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ } [الزخرف: 32]، فالله سبحانه هو الرزَّاق، وهو الذي يُعطي هذا ويمنع هذا، فلا اعتراض على حُكمه ولا رادَّ لقضائه.
• الحاصل أن الصورة والمال ليسا بمقياس لتوقِير الناس، أو السُّخْرِية منهم، إنما المفاضلة في طَهارة القلب، وحُسن الأعمال.
ويدلُّ على هذا ما أخرجه الإمامُ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((إنَّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم))» ، فالكرامةُ والفوز تكون لأصحاب القلوب التقيَّة النقيَّة مهما كان حاله وصورته؛ قال تعالى: { ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾} [الحجرات: 13].
وهناك مَن يسخر من معصية أخيه بدلاً من نصحه، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا في الحديث الذي أخرجه الترمذي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «مَن عيَّر أخاه بذنبٍ [قد تاب منه]، لم يَمُت حتى يعمَله» ))؛ (ضعفه الألباني رحمه الله في جامع الترمذي: 661).
فأنت إذا رأيت رجلاً مبتلًى، فاحمد اللهَ على العافية، واسأل اللهَ أن يعافيه بدلاً من أن تسخَر منه، فيعافيه الله ويبتليك، وكما قيل: "لا تسخر من أخيك، فيعافيه اللهُ ويبتليك".
• وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "البلاءُ موكَّلٌ بالقول، لو سخرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحوَّل كلبًا"، وزاد في "نزهة الفضلاء": "وإني لأكرهُ أن أرى الرَّجل فارغًا ليس في عمل آخرةٍ ولا دنيا"؛ (سير أعلام النبلاء: 1/ 496)، (تفسير القرطبي: 16/ 325).
وعن إبراهيم النخَعي رحمه الله أنه قال: "إني لأرى الشيءَ ممَّا يُعاب، ما يمنعني من غيبتِه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى به"؛ (رواه هناد في الزهد: 1192).
وعن الأعمش رحمه الله قال: "سمعت إبراهيم يقول: "إني لأرى الشيءَ أكرهُه، فما يمنعني أن أتكلَّم فيه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى بمثلِه"؛ (رواه البيهقي في الشعب: 5/ 315، رقم 6775).
وقال عمرو بن شرحبيل رحمه الله: "لو رأيتُ رجلاً يرضع عنزًا فضحكتُ منه، لخشيتُ أن أصنَع مثل الذي صنع"؛ (تفسير القرطبي: 16/ 325).
وقال ابن سرين رحمه الله: "عَيَّرتُ رجلاً، وقلتُ: يا مفلِس، فأفلستُ بعد أربعين سنة"؛ (صيد الخاطر: ص44).
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: "كانوا يقولون: مَن رمى أخاه بذنبٍ قد تاب منه، لم يمُت حتى يَبتليه الله به"؛ (فيض القدير: 6/ 183).
وكان عيسى عليه السلام يقول: "لا تنظروا إلى عيوبِ الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبِكم كالعبيد، إن الرَّجل يبصر القَذاةَ في عين أخيه، ولا يبصر الجِذع في عينَيه، وإنما الناس رجلان: معافًى ومبتلًى؛ فاحمدوا الله على العافية، وارحموا المبتلى".
وقال بعضهم:
عجبتُ لمَن يَبكي على موتِ غيره
دُموعًا ولا يبكي على موته دَما
وأعجَب مِنْ ذا أن يرى عيبَ غيرِه
عظيمًا وفي عينَيه عن عيبِه عمى
• فعلى الإنسان أن يُمسك عن السُّخْرِية والاستهزاء بالآخرين؛ فإن فَعَل فهي له صدَقة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ((على كلِّ مسلمٍ صدقة))، قيل: أرأَيْت إن لم يجِد؟ قال: ((يعتمِل بيديه فينفع نفسَه، ويتصدَّق))، قيل: أرأيت إن لم يستطِع؟ قال: ((يعينُ ذا الحاجة الملهوف))، قيل: أرأيت إن لم يستطِع؟ قال: ((يأمرُ بالمعروف أو الخير))، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ((يُمْسِك عن الشرِّ؛ فإنها صدقة))» .
وفي رواية عند مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيله))، قال: قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفَسُها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا))، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا، أو تَصنع لأخرق))، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفتُ عن بعضِ العمل؟ قال: ((تكفُّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ مِنك على نفسك))» .
وفي رواية عند مسلم أيضًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن أفضل الأعمال بعد الجهاد، فقال: «((مؤمنٌ في شِعب من الشِّعاب يعبد اللهَ، ويدَع الناسَ من شرِّه))» .
وأخرج الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((مَن أحبَّ أن يُزحزَح[1] عن النار، ويدخل الجَنَّة، فلْتَأْتِه منيَّته وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليَأْتِ إلى النَّاس الذي يحب أن يُؤتَى إليه))».
وكان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: "واللهِ ما يحلُّ لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حقٍّ، فكيف تؤذي مسلمًا؟!"؛ (سير أعلام النبلاء: 8/ 427).
وقد روي عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله أنه قال: "ليكُن حظُّ المؤمن منك ثلاث خصالٍ لتكون من المحسنين: أحدها: أنك إن لم تَنْفعه فلا تضرَّه، والثانية: إن لم تسرَّه فلا تغمَّه، والثالثة: إن لم تمدَحْه فلا تذمَّه"؛ (تنبيه الغافلين: ص 124).
[1] يزحزح؛ أي: يبعد وينجو.
- التصنيف: