وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

منذ 2024-05-23

قال ابن عاشور: "والمسيح كلمة عبرانية، ونقلت إلى العربية بالغلبة على عيسى، ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}

{{إِذْ}} اذكر {{قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ}} يخبرك بخبر سار مفرح لك، وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله، وبالأمر بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها، ولا يجري لامرأة بعدها، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها.

{{بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}} الكلمة مراد بها كلمة التكوين.. أي يكون وجوده بكلمة من الله تعالى: «كن» بلا أب، وذلك في قوله تعالى: {{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}} [آل عمران:59].. ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة.

وقوله: {{مِنْهُ}} من للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة، وقد دل على ذلك قوله: {{إِذَا قَضَى أَمْراً}} .

{{اسْمُهُ الْمَسِيحُ}} سُمي المسيح، -كما قال بعض السلف-: لكثرة سياحته. وقيل: لأنه كان مسيح القدمين: أي لا أخْمَص لهما، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل. وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى.

قال ابن عاشور: "والمسيح كلمة عبرانية، ونقلت إلى العربية بالغلبة على عيسى، ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملكونهم عليهم من عهد شَاوِلَ الملك، فصار المسيح عندهم بمعنى الملك: ففي أول سِفْرِ صَمْوِيلَ الثَّانِي مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت: «كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ».

فيحتمل أن عيسى سمي بهذا الوصف كما يسمون بِمَلِكٍ، ويحتمل أنه لقب لقبه به اليهود تهكما عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكا على إسرائيل ثم غلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك، فلذلك سمي به في القرآن".

{{عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}} أتى بالوصف المفيد للنسب لأن السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف، وتُذكر الأم في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم: زياد بن سمية قبل أن يلحق بأبي سفيان في زمن معاوية بن أبي سفيان، وإما لأن لأمه مفخرة عظيمة كقولهم: عمرو ابن هند، وهو عمرو بن المنذر ملك العرب.

{{وَجِيهًا}} والوجيه ذو الوجاهة وهي: التقدم على الأمثال، والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال، فأطلق على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال: وجه النهار لأول النهار قال تعالى: {{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}} [آل عمران:72]

ويقولون: هو وجه القوم أي سيدهم والمقدم بينهم. واشتق من هذا الاسم فعل وجُه كَكَرُمَ فجاء منه وجيه صفة مشبهة، فوجيه الناس المكرم بينهم، ومقبول الكلمة فيهم، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام { {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً}} [الأحزاب:٦٩].

{{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}} قال الزمخشري: الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة.

بل هو من أولي العزم من الرسل، الذين هم أعظم الناس جاهاً في الدنيا والآخرة، ولهم بالآخرة مقامات لا تكون لغيرهم.

{{وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}} من المقربين إلى الله عز وجل في الدنيا والآخرة. وقيل: وكونه من المقرّبين رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة.

{{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}} المهد: مضجع الصبي وهو رضيع، وهو شبه الصندوق من خشب لا غطاء له يمهد فيه مضجع للصبي مدة رضاعه يوضع فيه لحفظه من السقوط.

وبين هذا الكلام في سورة "مريم" بقوله: {{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً, قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً, وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً, وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً, وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} } [29-33]

وهذا كلام من أفصح الكلام وأعظمه، وهو في المهد، وهذا من آيات الله عز وجل الدالة على قدرته، ولهذا كانت آيات عيسى كلها تدور حول هذا الأمر، حول خوارق العادات في الأمور الكونية؛ فهو نفسه آية خُلِقَ بلا أب، وكلم الناس في المهد، وهذا من الآيات، ويصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، ويبرئ الأكمه والأبرص ولا أحد يبرئهما من الأطباء، ويحيي الموتى ويخرجهم من القبور.

وتكلم في المهد سبعة: عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وصبي ماشطة امرأة فرعون، وصاحب الجبار، وصاحب الأخدود، وقصص هؤلاء مروية، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً، ثم أعلم بالباقين.

{{وَكَهْلًا}} الكهولة سنّ ما بين الشباب والشيخوخة، من الحادية والثلاثين إلى الأربعين، والمعنى: يكلمهم من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء.

فكلامه في المهد ككلامه وهو كهل؛ يعني ليس ككلام الصبي الذي يتكلم في المهد كلام أطفال، بل كلامه فصيح من أبلغ الكلام كما يتكلم به وهو كهل.

{{وَمِنَ الصَّالِحِينَ} } من صلحت سريرته وعلانيته، وصلح قوله وعمله، فله علم صحيح وعمل صالح، والصالحون أيضا هم الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، وأصل الصلاح: استقامة الأعمال وطهارة النفس، ومن دعاء إبراهيم –عليه السلام-: {{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}} [الصافات:100].

{{قَالَتْ رَبِّ}} استعطاف منها حيث قالت: {رَبِّ} ومعلوم أن كلمة رب هنا مضافة إلى ياء المتكلم التي حذفت للتخفيف وأصلها: «ربي».

{{أَنَّى}} كيف؟، استفهام ليس على سبيل الشك، ولا على سبيل الاستبعاد، ولكنه على سـبيل التعجب. ولذلك أجيبت بجوابين أحدهما: { {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} } فهو لرفع إنكارها، والثاني: {{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}} لرفع تعجبها.

{{يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}} المسيس هنا كناية عن الوطء، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره.

{{قَالَ كَذَلِكِ}} الأمر كذلك، وعلى هذا فيحسن الوقوف هنا، أي يحسن أن تقف فتقول: كذلك، ثم تبتدئ فتقول: {{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}} ، وهذا التركيب له نظائر في القرآن، مثل قوله: {{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} } [الدخان:٥٤]، وإنما تأتي هذه الصيغة للتقرير والتثبيت، يعني الأمر مثلما وقع تماماً .

{{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}} سواء كان على وفق العادة أو على خلاف العادة.. كما وكيفاً ونوعا، وعلى سبب معلوم وعلى سبب غير معلوم.

وصرح هاهنا بقوله: { {يَخْلُقُ} } ولم يقل: "يفعل" كما في قصة زكريا، من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف، وإن قل، وفي قصة مريم: { {يَخْلُقُ}} ، لأنه لا يتعارف مثله، وهو وجود ولد من غير والد، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي، فلذلك جاء بلفظ: {{يَخْلُقُ}} ، الدال على هذا المعنى.

فهو خَلْقٌ أُنف غير ناشئ عن أسباب إيجاد الناس، فكان لفعل يخلق هنا موقع متعين، فإن الصانع إذا صنع شيئا من مواد معتادة وصنعة معتادة، لا يقول: خلقت، وإنما يقول: صنعت.

وقيل: لئلا يبقى شبهة، وأكد ذلك بقوله: {{إِذَا قَضَى أَمْرًا}} أراده وحكم بوجوده {{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}}

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 319

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً