سقوط طليطلة... وانتصار غزة
فما الذي حدث بعد هذا السقوط؟ وكيف استعاد المسلمون مجدهم؟ وهل استعادوه بالاتفاقيات والمفاوضات كما يفعل البعض اليوم؟
الحمد لله نصيرِ المؤمنين ووليِّ المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله قاصم الظالمين والمتكبرين، سبحانه وتعالى، لن تجد لسنته تبديلًا، ولن تجد لسنته تحويلًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الطيبين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله عبادَ الله، واشكروه، وتوبوا إليه، واستغفروه؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5].
معاشر المؤمنين:
التاريخ دروس وعِبَرٌ، وللتاريخ دورات تتكرر، تحكمها سننٌ ربانية، من وَعَاها وآمن بها، وعمِل بمقتضاها، مدركًا لأسبابها ونتائجها، حازَ زِمامَ المبادرة، وأدرك أسباب النصر والتمكين، وبلغ مراتب التقدم والحضارة، ومن عاكسها وخالفها، تردَّى في مهاوي الذل والهزيمة والرَّدى؛ وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
وهذا ما يستوجب من الأُمَّةِ استجلاءَ الحقِّ بتدبُّر كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والاستبصار بأحداث التاريخ ودروسه:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ** ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر
وإليكم - عباد الله - هذا الحدث التاريخيَّ الكبير، الذي كان برهانًا على سنن الله تعالى؛ إنه سقوط مملكة عظيمة من ممالك المسلمين، كان سقوطها إيذانًا بسقوط الأندلس، وانتهاء العصر الإسلامي بعد أربعة قرون للحضارة الإسلامية، لولا أن المسلمين تداركوا الأمر، وعادوا للأخذ بسنن الله في النصر والتمكين والعزة؛ من الجهاد في سبيل الله، والوحدة تحت القيادة المؤمنة، فامتدَّ حكمهم لثمانية قرون؛ إنه سقوط طليطلةَ عبادَ الله، هذا الثغر الإسلامي الأوسط في بلاد الأندلس، تلك المدينة العظيمة التي كانت عاصمةً للقوط النصارى، والتي فتحها طارق بن زياد بستة آلاف مجاهد، جاؤوا لنشر الإسلام بتلك الربوع، والتي كان عبدالرحمن الناصر يستقبل فيها أيام حكم الأمويين للأندلس الجزيةَ من النصارى.
فكيف سقطت طليطلة رغم حصانتها وموقعها في وسط الأندلس؟
كان السبب الأول - عباد الله - هو تفرُّق المسلمين لدول وممالك، فيما سُمِّيَ بعصر ملوك الطوائف؛ اثنتان وعشرون مملكة لكل منها مَلِكٌ، يتناحرون فيما بينهم، ويستعين بعضهم بالنصارى على بعض، ويعقدون معاهدات الذل والهوان، يدفعون بسببها الجزية، بعد أن كانت تُدفَع للمسلمين في عصور العزة والمجد، هذا العصر كان مقدمةً لسقوط طليطلة، بل وسقوط الأندلس كلها بعد قرون، أما السبب المباشر لسقوطها، فكان لجهل حاكمها المأمون، وإعراضه عن حقائق القرآن ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ربنا جل وعلا يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلًّا لا ينزِعه، حتى ترجعوا إلى دينكم»؛ (رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني).
ولكن هذا الحاكم أعرض عن هذا النور المبين، واستضاف ألفونسو ابن حاكم قشتالة المملكة النصرانية في شرق الأندلس، الذي أثقل كاهله وكاهل المسلمين بالجزية والغارات والإتاوات، يستقبل ابنه الهارب عنده في طليطلة تسعة شهور، تعرَّف خلالها هذا الخائن على المدينة بكل تفاصيلها، وأخذ المأمون عليه العهد أن يحفظ له ملكه على طليطلة إذا رجع لمملكته، فأعطاه العهد والميثاق على ذلك، وغفل هذا الحاكم الساذج عن غدر النصارى، وأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، مات المأمون، وحكم بعده حفيده القادر الذي أحاط نفسه ببطانة السوء، فأساء في حكمه وأفسد، وأبعد المصلحين الناصحين، وقرَّب ذوي الأهواء والمفسدين، فما استقر له الحكم، وثارت عليه الحروب، فاستنجد بألفونسو مذكِّرًا إياه بما قدَّمه له جده حين استضافه، وتمت له النجدة، وأعاده هذا النصراني لطليطلة حاكمًا، لا ليستقر بها، ولكن ليحاصره ويقتطع أملاكه قطعة قطعة، ثم ليحتل بعدها طليطلة، ويُخرجه منها ذليلًا مهزومًا.
وسقطت طليطلة، واهتز العالم الإسلامي في الشرق والغرب؛ صوَّر ذلك الشاعر ابن عسال بقوله:
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب الجزيرة منسولًا من الوسـطِ
من جاور الشر لا يأمن بوائقـه ** كيف الحياة مع الحيات في سفطِ
فما الذي حدث بعد هذا السقوط؟ وكيف استعاد المسلمون مجدهم؟ وهل استعادوه بالاتفاقيات والمفاوضات كما يفعل البعض اليوم؟
- أدرك المسلمون عِظَمَ الخطر المحدِق بهم بعد سقوط طليطلة، وثاب بعض ملوك الطوائف لرُشْدِهم، وأيقنوا أن سقوط دويلاتهم قادم لا محالة، فبعثوا بوفد من العلماء لزعيم المرابطين يوسف بن تاشفين ليقدم للأندلس من المغرب، ويواجه ذلك الاحتلال النصراني، واستجاب رحمه الله وعبر للأندلس مع جيشه، وشاركت معه جيوش الأندلسيين التي غابت عن ملاحم الجهاد ضد النصارى لعقود طويلة، وأقبلت جموع المتطوعين راغبةً في الجهاد، والتقى الجيشان؛ جيش المسلمين في ثلاثين ألفًا، وجيش النصارى أضعاف ذلك العدد، في وادي الزَّلَّاقة، وكانت ملحمةً عظيمة، في رمضان عام 479 هجرية، اشتبك الجيشان، وكان الأندلسيون في المقدمة، وقاتلوا قتالًا شديدًا، وصبروا أمام كثرة الأعداء، وسقط الشهداء، وكاد النصر يتحقق للأعداء، عندها دخل ابن تاشفين المعركة بحركة التفاف محكَمة خلف جيش النصارى، واستحرَّ القتل في جيش النصارى، وجُرِح قائدهم الذي فرَّ مع بضعة وثلاثين رجلًا من جيشه الذي أُبيد على بكرة أبيه، وكان نصرًا مؤزرًا للمسلمين، أمدَّ في حكمهم للأندلس أربعة قرون أخرى، وتوحَّد المسلمون بعد ذلك تحت لواء المرابطين؛ لتتحقَّق سُنَّة الله تعالى ووعده: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وهذا ما تتأمله الأمة اليوم في مواجهتها للصهاينة والغرب الصليبي على رُبا فلسطين، هذا التحالف الظالم الذي يناصر مجرم الحرب ويؤيده ويصفق له، كما شاهدنا قبل البارحة، في مشهد الخزي والعار والنفاق لمجلس الديموقراطية في الدولة العظمى كما تزعم، يصفقون لحرب الإبادة الظالمة التي استهدفت البشر والشجر والحجر، حرب إبادة جبانة، تتحطم أمام ضربات مجاهدي غزة الأبطال، وشعبها الصابر المحتسب، عجَّل الله لهم نصره وفتحه، وأرانا في الصهاينة وأعوانهم بطشه؛ فهو العزيز الحكيم.
- التصنيف: