إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ

منذ 2024-08-12

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91) } {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً} يعني أنهم صاروا والعياذ بالله ينحدرون في دركات الكفر، فكلما تمادى الإنسان في الكفر، ولم يتب، فإنه يزداد كفرا؛ لأن كل وقت يمر عليه يزداد وزراً إلى وزره، كما أن المؤمن يزداد أيضاً بزيادة الأيام إيماناً؛ لأن كل يوم يمر عليه وهو مؤمن فإنه يضيف إيماناً إلى إيمانه .

وقال قتادة، وعطاء، والحسن: "نزلت هذه الآية في اليهود"، وعن أبي العالية أنها في اليهود والنصارى.

فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفرا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفرا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{{لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}} باب التوبة مفتوح لكل أحد كافراً كان أم عاصياً، كافراً أصلياً أم مرتداً، وهذا أصل قد دلَّت عليه نصوص كثيرة، وشواهد متعدِّدة. فتأويل الآية متعين: لأن ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أن إسلام الكافر مقبول. ولو تكرر منه الكفر، وأن توبة العصاة مقبولة، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال.

ولما كان الأمر كذلك فإن العلماء –رحمهم الله- قد وجهوا المراد في الآية في قوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وللمفسرين فيه عدة أقوال:

الأول: {{لن تقبل توبتهم}} إذا أخروا التوبة إلى الموت، قال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: "نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة" قال النحاس: وهذا قول حسن..  وقال الشنقيطي -رحمه الله- ويستشهد له قوله تعالى: {{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}} [النساء:18] وعلى هذا التوجيه اقتصر ابن كثير رحمه الله.

الثاني: {{لن تقبل توبتهم} } إذا ماتوا على الكفر، ويدل عليه قوله تعالى: {{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}} فكنّى عن عدم توبتِهم بعدم قبولِها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حالِ الآيسين من الرحمة.

قال الزمخشري: كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة للتغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها. ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة؟

الثالث: أن المراد أنهم لا يوفقون للتوبة، فهم لا يتوبون فتقبل توبتهم، وقد قال الله تعالى: {{ِإنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}} [النساء:137]

وإذا علم الله تعالى من قلوبهم عدم الاعتراض خذلهم، ونزع عنهم توفيقه؛ عدلاً منه وحكمة جل وعلا {{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}} [الأنفال:23]

الرابع: أن علة عدم قبول التوبة كونهم عزموا على إظهارها مع الكفر بقلوبهم، فهو إما تحذير من شأنهم أو بيان بأن الله تعالى لا يقبلها منهم ولو أظهروها بألسنتهم لكفر قلوبهم. ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء فقال { {لن تقبل توبتهم} } وفي الآية التالية قال { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم} } لأنه لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ الفِديةِ زيدت الفاءُ هاهنا للإشعار به.

قال ابن حيان: ولم تدخل: «الفاء»، في: لن تقبل، هنا، ودخلت في: فلن تقبل، لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق، وهناك قال: وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد.

وبهذا يتبين أن هذه الآية لا تتعارض مع الأصل المقرر، وهو قبول توبة الكافر والعاصي ولو تكرر كفره وعصيانه إذا استوفت الشروط.

{{وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ}} الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغَيِّ، أو: الهالكون، من: "ضل اللبن في الماء" إذا صار هالكاً.

{{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ}} قرأ عكرمة: فلن نقبل {مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ} قدر ما يملؤها، كناية عن الكثرة المتعذرة، لأن الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدرة، وهذا كقولهم عدد رِمَالُ الدَّهْنَاءِ، وعدد الحصى {ذَهَباً} وميز هذا المقدار بذهبا لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله.

{{وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}} هو على سبيل الفرض والتقدير أي: لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بذله، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله.

فمن مات على الكفر لن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا في الدنيا فيما يراه قُرْبة، كما سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عبد الله بن جُدْعان -وكان يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ العاني، ويُطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: (لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ) [مسلم].

وكذلك لو افتدى في الآخرة بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه، كما قال تعالى: {{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ}} [البقرة:123]، وقال {{لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}} [البقرة:254] وقال: {{لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}} [إبراهيم:31] وقال {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [المائدة:36]

ولهذا قال تعالى هاهنا: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}} فعطف {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} على الأول، فدل على أنه غيره، وما ذكرناه أحسن من أن يقال: إن الواو زائدة، والله أعلم.

وقيل: التقدير: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً إذا بذله من غير أن يصرح بأنه افتداء. وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} يعني ولو صرح بأنه افتداء. والفرق بينهما أنه قد يعطي الأول تزلفاً لا معاوضة، وأما إذا أعطاه افتداء فهو معاوضة. هذا هو الفرق بينهما، إذن سواء أعطاه من باب التودد والتحبب، أو أعطاه على أنه فداء ومعاوضة، لن يقبل منه .

ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها.

روى البخاري عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: «(إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ)»

وروى الإمام أحمد عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟، فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، قَالَ: فَيُقَالُ: لَقَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ» : { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} } [آل عمران: 91])

وروى أحمد عن عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ خَيْرُ مَنْزِلٍ، فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّ، فَيَقُولُ: مَا أَسْأَلُ وَأَتَمَنَّى إِلَّا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، شَرُّ مَنْزِلٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أَتَفْتَدِي مِنْهُ بِطِلَاعِ الْأَرْضِ [أي:بمِلْئها] ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نَعَمْ، فَيَقُولُ: كَذَبْتَ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ، فَلَمْ تَفْعَلْ فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ)»

والأمر يسير على المؤمن؛ لأنه يفتدي من عذاب الله بما هو أقل من ملء الأرض ذهباً. فإذا آمن وقام بالعمل الصالح، وأدى ما يجب عليه من الحقوق المالية نجا من هذا العذاب مع أنه أقل بكثير من ملء الأرض ذهباً.

{{أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر، لما بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه، بيَّن في هذا الإخبار ما له من العذاب الموصوف بالمبالغة في الآلام له، إذ الافتداء، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدي من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء.

{{وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}} وهذا إخبار ثالث لما بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة، واندرج فيها النصرة بالمغالبة، والنصرة بالشفاعة.

فهو تكميل لنفي أحوال الغناء عنهم وذلك أن المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال، وقد يكفله من يوثق بكفالتهم، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة، وكل من الكفيل والشفيع ناصر.

وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحد.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 178

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً