كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ

منذ 2024-08-18

اتبعوا ملة إبراهيم في التوحيد، وعدم الشرك، وهي التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

{بسم الله الرحمن الرحيم }

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}

{{كُلُّ} } من صيغ العموم {{الطَّعَامِ}} ما يطعم. فإن قرن بالشراب صار المراد به ما يحتاج إلى مضغ، والشراب ما لا يحتاج إلى مضغ، إذا قيل: "طعام وشراب". وأما إذا أطلق وقيل: "طعام" صار شاملاً لما يؤكل وما يشرب.. قال الله تعالى: {{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّي}} [البقرة:٢٤٩] فسمى شرب الماء طعماً أو طعاماً.

{{كَانَ حِلًّا}} حلالا، وسمي حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه.

{{لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}} هم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسرائيل بمعنى «عبد الله»، وبنو عمهم هم بنو إسماعيل بن إبراهيم، فإسماعيل وإسحاق أخوان أبوهما إبراهيم، ويعقوب هو ابن إسحاق، وقد بشر الله به جدته على لسان الملائكة: {{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ}} [هود:۷۱]

قال القفال: لم يبلغنا أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع أنّهما طعام، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تدَّعي أنها كانت محرمة على إبراهيم، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم.

{{إِلَّا مَا حَرَّمَ}} حظر ومنع.

{{إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}} استثناءٌ متصلٌ من اسم كان، أي كان كلُّ المطعوماتِ حلالاً لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيلُ.. وحرمه باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى.

{{مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ}} فيها قراءتان: «تُنَزَّل» بتشديد الزاي و«تُنْزَل» بالتخفيف، وكلتا القراءتين سبعيتان، يعني أنه يجوز أن نقرأ بهذه وهذه، والقاعدة في القراءتين أن السنة أن تقرأ بهذه مرة، وبهذه مرة؛ لأن كلتا القراءتين ثبتت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا قرأت بواحدة، وهجرت الأخرى، لم تأت بالسنة كاملة. بل اقرأ بهذا مرة، وهذا مرة، لكن بشرط أن تكون متأكداً من القراءة؛ لأن القرآن كلام الله. فلو قرأت شيئاً لم تتأكد، وكان على خلاف ما أنزل الله، كنت مفترياً على الله كذباً.

الشرط الثاني: أن لا يحصل في ذلك تشويش. فإن حصل في ذلك تشويش، كما لو قرأت بقراءة ثانية عند العامة الذين لا يعرفون إلا ما في مصاحفهم، فإن ذلك حرام، لا يجوز لأنه يؤدي إلى تشكك العامة، وإلى رميك أنت بالسوء، تقول: هذا الرجل يحرف كلام الله، يقرأ بغير ما أنزل الله، فتكون عرضة لسب الناس واغتيابهم، فإياك، ورحم الله امرأ كف الغيبة عن نفسه.

أما فيما بينك وبين نفسك فاقرأ بها، اقرأ بالقراءة الثانية إذا كنت متقناً لها وعارفاً بها. وكذلك إذا كنت بين طلبة علم، حتى يعرفوا القراءات وينتفعوا بها.

{{التَّوْرَاةُ}} وبين إسرائيل وبين نزول التوراة دهور طويلة، وأزمان كثيرة، فهو تصريح بمحل الحجة من الرد إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى.

والتوراة هي الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى. وقد نزلت التوراة مكتوبة، كتب الله تعالى التوراة في الألواح، فأخذها موسى، وتلاها على الناس وعلمهم إياها، وبقيت التوراة إلى أن جاء محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن صار فيها تحريف، كما قال الله تعالى: {{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تَبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كثيراً}} [الأنعام:٩١] أي يكتبونه في دفاتر مقطعة.

وهذه على أن دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإن الحنيفية لم يكن ما حرم من الطعام بنص التوراة محرما فيها، ولذلك كان بنوا إسرائيل قبل التوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرما عليهم ما حرم من الطعام إلا طعاما حرمه يعقوب على نفسه.

ويحتمل أن اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذ أباح للمسلمين أكل المحرمات على اليهود، جهلا منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلا من أحبارهم لعامتهم، تنفيرا عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنما يتعلقون بالمألوفات، فيعدونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانا للقبول والنقد، فبين لهم أن هذا مما لا يلتفت إليه عند النظر في بقية الأديان، وحسبكم أن دينا عظيما وهو دين إبراهيم، وزمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرمون ذلك.

  {{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}} أنتم أيضاً لا نحن حتى لا تتهمونا بأننا حذفنا شيئاً وأضفنا شيئاً، اتلوها أنتم بأنفسكم حتى يتبين لكم أن ما جئت به هو الحق. وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنهم لا يأتون بها إذا استدلوا على الصدق.

وهكذا ينبغي أن تكون المخاصمة بحجة دامغة دافعة بعيدة عن الأمور المشتبهة، فإذا أتيت بالشيء المشتبه فقد تكون خاذلاً للحق والحق معك. فلا بد أن تأتي بشيء قوي لا يستطيع الخصم أن يقف أمامه. كقول إبراهيم {{فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}} [البقرة:258]

{{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}} وخرج قوله: { {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}} مخرجَ الممكن، وهم معلوم كذبهم. وذلك على سبيل الهزء بهم.

وكان سبب هذا أن اليهود كانوا ينكرون ما جاء به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويقولون: إنك أحللت شيئاً، وحرمت شيئاً، والشرائع لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها من عند الله، ولهذا كانوا يُنكرون النسخ، ويقولون: إن النسخ في أحكام الله مستحيل؛ لأن النسخ إما أن يكون لحكمة أو عبثاً، فإن كان عبثاً فالله منزه عنه، وإن كان لحكمة لزم منه أن الله تعالى تظهر له الحكمة بعد أن كانت خافية عليه، وهذا يلزم منه الظهور بعد الجهل، وهو أيضاً مستحيل على الله، ولهذا كذبوا عيسى وكذبوا محمداً، لأن في شريعتهما نسخ والنسخ على الله مستحيل، ولا يمكن أن تنسخ الشرائع، فقيل لهم: هاتوا التوراة فاتلوها، والتوراة تثبت وتقرر أن الطعام كان حلاً لبني إسرائيل –كل ما يُطعم – ثم حرم إسرائيل على نفسه أشياء، ومعلوم أن الله أقره على ذلك، وهذا تشريع من الله، وبقي هذا التحريم في ذريته حرام عليهم.

وفي هذا إقامة الحجة عليهم بما ادعوه من أنه لا يمكن أن تنسخ الشرائع، فأراد الله أن يبين كذبهم من كتبهم.

وما ادعاه اليهود من أن النسخ يستلزم وصف الله بالنقص إما في الحكمة وإما في العلم فهو كذب. لأن النسخ لا يستلزم لا هذا ولا هذا، بل إن النسخ لحكمة، لكن هذه الحكمة تتبع مصالح العباد، والعباد مصالحهم تختلف فقد يكون من المصلحة أن يُشرع لهم الحل في هذا الزمن والتحريم في زمن آخر، وقد تكون هذه الأمة من المصلحة أن يُشرع لها الحل، والأمة الأخرى من المصلحة أن يُشرع لها التحريم، فهنا الحكمة لا تتعلق بفعل الله، ولكن تتعلق بالمخلوق الذي شرع له هذا الحكم، وهذا أمر يختلف بلا شك.

{{فَمَنِ} } من عامة، يعني أي إنسان { {افْتَرَى} } والافتراء معناه: التقول بغير حق، يعني أن تنسب إلى الشخص ما لم يقله، أي: اختلقه وزوره وقاله.

والافتراء مرادف الاختلاق. وهو مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذي النعل ويصنع النطع أو القربة. وافترى افتعال من فرى لعله لإفادة المبالغة في الفري، يقال: افترى الجلد كأنه اشتد في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى. فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأن أصله كناية عن الكذب وتلميح، شاع ذلك حتى صار مرادفا للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردافه بقوله هنا الكذب تأكيد للافتراء، وتكررت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.

{{عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}} هو الإخبار بخلاف الواقع {{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} } من بعد هذا البيان أنه لا يمكن أن تنسخ الشرائع بعضها ببعض.

{{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} } نهاية لتسجيل كذبهم أي فمن استمر على الكذب على الله، ومن افترى منكم بعد أن جعلنا التوراة فيصلا بيننا.. إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدعوه شبهة لهم في الاختلاق، وجعل الافتراء على الله لتعلقه بدين الله.

والظلم في الأصل النقص، كما قال تعالى: {{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً} } [الكهف:۳۳] أي: لم تنقص منه شيئاً، وهو في الحقيقة إما تفريط في واجب، وإما انتهاك لمُحرَّم، وكلاهما نقص؛ لأن المنتهك للمحرَّم، أو المفرط في الواجب قد نقص الأمانة والرعاية؛ لأنه أمين على نفسه، وراع عليها، فإذا أقدم على فعل المحرم، فقد أخل بما يجب عليه من الرعاية، وخان الأمانة. فإذا فرط في الواجب فكذلك.

** وفيه: أنه متى ظهر الحق فحاد الإنسان عنه صار أشد ظلماً؛ لقوله: {{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} } كأنه لا ظالم سواه، وكأنهم هم الذين أخذوا الظلم كله؛ لأنه إذا قامت الحجة لم يبق للإنسان محجة، يعني لم يبق له أي طريق يمكن أن يتوصل إليه، أو أن يفر منه.

** وفيه أيضا: أنه لا إثم مع الجهل؛ لقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد أن يتبين الحق فهذا هو الظالم، أما من ارتكب محرماً قبل أن يتبين له الحق فإنه لا يلحقه إثم ذلك المحرم، لا في الواجبات ولا في المحرمات.

من ارتكب شيئاً بغير علم فإنه لا إثم عليه، ما لم يفرط في الواجبات ولا في المحرمات، ولكن بالنسبة للمحرمات لا يترتب عليه شيء من آثارها أبداً، لا إثم ولا كفارة. فلو أن رجلاً فعل محظوراً من محظورات الإحرام وهو جاهل أنه محظور، فلا شيء عليه، بل لو أن الإنسان جامع وهو محرم، يظن أنه لا شيء عليه في الجماع، فلا شيء عليه، لا كفارة، ولا فساد حج، ولا غير ذلك.

أما في الواجبات إذا فعل شيئاً محرماً عليه في الواجب يعني بأن ترك واجباً أو فعل ما يُبطل ذلك الواجب وهو جاهل، فلا إثم عليه، لكن يجب أن يتدارك هذا الواجب ما دام في وقته.

مثال ذلك: رجل جاءنا وقال: إنه صلى صلاة الظهر، ولكنه لم يقرأ الفاتحة، لم يعلم أن الفاتحة واجبة، نقول: لا إثم عليك، مع أنك لو تركت الفاتحة وأنت تعلم أنها واجبة لأثمت بلا شك؛ لأن هذا من اتخاذ آيات الله هزواً، لكن يجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن ذمته الآن مشغولة بهذه الصلاة.. فلا بد أن يُعيدها. أما الصلوات الماضية، فإنه لا يجب عليه إعادتها، ولو كان قد ترك الفاتحة فيها، لأنه جاهل، ودليل ذلك حديث المسيء في صلاته، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ( «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ) [البخاري] ولم يأمره بإعادة أو بقضاء ما سبق من الصلوات.

 

روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ، عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ، إِذْ قَالُوا: اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قَالَ: (هَاتُوا) قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلامَةِ النَّبِيِّ؟، قَالَ: (تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ) قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ، وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: (يَلْتَقِي الْمَاءَانِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنَثَتْ) قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: (كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا [وهو عرق يمتد من الورك إلى القدم في الرجل، ويؤلم كثيراً ويتعب]، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إِلا أَلْبَانَ كَذَا وَكَذَا - قَالَ أَبِي: " قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْإِبِلَ " - فَحَرَّمَ لُحُومَهَا)، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: (مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بِيَدِهِ - أَوْ فِي يَدِهِ - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ، يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ) قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: (صَوْتُهُ) قَالُوا: صَدَقْتَ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي نُبَايِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبكَ؟ قَالَ: (جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ)، قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] إِلَى آخِرِ الْآيَةَ [حديث حسن دونَ قصة الرعد فهي منكرة]»

وفي رواية وقال: « (أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سُقْمُهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا) فقالوا: اللهم نعم. قال: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ)» .

وقال ابن جُرَيْج والعَوْفَيّ، عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: كان إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- يَعْتَريه عِرق النَّسَا بالليل، وكان يقلقه ويُزعِجه عن النوم، ويُقْلعُ الوَجَعُ عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عِرْقًا ولا يأكل ولد ما له عِرْق. قيل: فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم. وقيل: لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حق الفخذ إلى هذا اليوم.

وهكذا قال الضحاك والسدي. كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره. قال: فاتَّبعه بَنُوه في تحريم ذلك استنَانًا به واقتداء بطريقه.

قال ابن عاشور: وقد استدل القرآن عليهم بهذا الحكم لأنه أصرح ما في التوراة دلالة على وقوع النسخ فإن التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدل على أن يعقوب حرم على نفسه أكل عرق النسا الذي على الفخذ، وقد قيل: إنه حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فقيل: إن ذلك على وجه النذر، وقيل: إن الأطباء نهوه عن أكل ما فيه عرق النسا لأنه كان مبتلى بوجع نساه.

قال أبو السعود: التوراة مشتمِلةً على تحريم ما حُرِّم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبةً لهم وتشديداً وهو ردٌّ على اليهود في دعواهم البراءةَ عما نعى عليهم قولُه تعالى: {{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً}} [النساء:160] وقوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [وهو كل ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنَّعام] {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الثروب وشحم الكلي] {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [أي ما علق بها منه] { أَوِ الْحَوَايَا } [الأمعاء] { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } [منه وهو شحم الأَلْيَة والجنب فإنه أحل لهم] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} } [الأنعام:146]، بأن قالوا: لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فحرمت علينا، وتبكيتٌ لهم في منع النسخِ والطعنِ في دعوى الرسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موافقتَه لإبراهيمَ عليه السلام بتحليله لحومِ الإبلِ وألبانِها.

قال ابن كثير: "ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان:

إحداهما: أن إسرائيل -عليه السلام- حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله، وكان هذا سائغًا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه، كما قال: {{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}} [البقرة:177] وقال: { {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}} [الإنسان:8].

المناسبة الثانية: لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه. وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى -شَرَع في الرد على اليهود، قَبَّحهم الله، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن الله -عز وجل- قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا -عليه السلام- لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها، فاتبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أخر زيادة على ذلك. وكان الله -عز وجل- قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك. وكان التَّسَرِّي على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم، وقد فعله الخليل إبراهيم في هاجر لما تسرَّى بها على سارّة، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم. وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا وقد فعله يعقوب -عليه السلام-، جمع بين الأختين، ثم حُرِّم ذلك عليهم في التوراة. وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، فهذا هو النسخ بعينه، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح -عليه السلام-، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدين القويم، والصراط المستقيم، ومِلَّة أبيه إبراهيم فما بَالُهم لا يؤمنون؟!"

وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجة القاطعة قال: {{قُلْ}} قل يا محمد، وللأمة بالتبع؛ لأن الخطاب الموجه لإمام القوم خطاب للجميع.

{{صَدَقَ اللَّهُ}} فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن.. جملة تتضمن الثناء على الله بالصدق، وإذا كانت تتضمن الثناء على الله فهي عبادة. وهو تعريض بكذبهم لأن صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.

وقد قال الله تعالى: { {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}} [النساء:١٢٢] فلا أحد أصدق من الله، والصدق مطابقة الخبر للواقع، والكذب مخالفة الخبر للواقع.

ولم يذكر الخبر الذي حكم عليه بالصدق فيكون ذلك عاماً شاملاً، أي صدق الله في كل شيء، كل ما أخبر الله به فهو صدق، ومن ذلك ما أخبر به مما أحل لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه .

{{فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ}} دين وشريعة، فالإسلام ملة، واليهودية ملة، والنصرانية ملة، وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى) أي: مفترقتين.

{{إِبْرَاهِيمَ}} أي: اتبعوا ملة إبراهيم في التوحيد، وعدم الشرك، وهي التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مِرْية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم.

{حَنِيفًا} مائلا عن الشرك إلى التوحيد {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لما قبلها.

وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ في اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وتصريحٌ بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً، والغرضُ بيانُ أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه سبحانه وتعالى.

ولذلك يسمى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: «إمام الحنفاء».. كما قال تعالى: {{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}} [الأنعام:161] وقال تعالى: {{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} } [النحل:123].

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 343

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً