وماذا عن الثورة .. في الإنسان المصريّ؟

منذ 2012-01-25

إنّ إعادة بناء الإنسان المصريّ يجب أن تتوازى مع إعادة بناء الهَياكل الإداريّة والإجرائية، فإنه لن يكون هناك خيرٌ قطّ دون أن يكون الإنسانُ فاعلاً بنّاءاً، ذا خلقٍ ودين.


الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

كُلنا يتحدث عن التغيير، بمعناه السياسيّ، التغيير في طريقة الإنتخاب، في الدستور، في أشْخاص الوزراء والمُحافظين، في منهج السياسة العامة، مالياً وخارجياً، في النظم الأمنية والشَرطة. وبكلمة أخرى، يتّجه كلّ تفكيرنا إلى التغيير في شكل العلاقة بين الدولة والمواطن. وهو أمر مرغوبٌ ومطلوبٌ. لكن، أين الحديث عن الإنسان ذاته؟ أين الحديث عن القيم والخلق والمبادئ التي تحكم الإنسان، الذي يحكم؟ لا أراه يستحوذ على أي مكان في الصحف والمقالات، أو مكانة في التوجيه والإرشاد.

ولا يكاد القلم يُسعِفُ إزاء ذلك الفيض من الأفكار والخواطر، تشير إلى ما يجب أن يتناوله التغيير في الإنسان المصري. كلّ شيء، تقريباً. فإن الهدم الذي حدث في العقود الستة الماضية، لم يكن فقط هدماً في المنظومات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية لمصر، بل كان، بالأساس، هدماَ ممنهجاً للإنسان المصريّ، في المنظومات الأخلاقية والثقافية والحَضارية، نتج عنها ذلك الخَراب المُتصاعد، المُستشرى كالسّرطان في جسد مصر، من رأسها إلى أخمص قدميها.

الإنسان المصري، هو ما يجب أن يتوجّه اليه النظر أولاً عند الحديث عن التغيير. الطفل المصريّ، والرجل والمرأة، كلّ في موقع مسؤليته، يحتاج إلى تغيير شامل وثورة عارمة، يزيح بها التكتلُ العَفِنُ لقيمِ المجتمع الفاسد، الذي عاش فيه الإنسان المصريّ عقوداً متطاولة، جعلت منه أداة طَيّعة للحاكم الفاجر الفاسد، بل وصَبّته كصورة منه. إذ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أعقد مما يتصور المرء لبادى الرأي. وقد قال تعالى: "وَكَذَ‌ٰلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضًۢا بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ" الأنعام 129. وقديما قيل "الناس على دين ملوكهم".

والمجتمع كالفرد في تلك العلاقة التبادلية بينه وبين النظام السائد الحاكم. كما إنه مثله في التفاعل مع الظروف التي يمر بها من حرية أوعبودية. فكما نجد أن للعبد خلقاً، نجدُ أن للمجتمع المُستعبد خلقاً، وكما أنّ الإنسان الحبيس، سليبُ الحرية، موؤود الإرادة، له خلقٌ وطبع يختلف عن الإنسان الحر الطليق، جملة وتفصيلاً.

هذه المَنظومة الخُلقية التي ولّدتها عبودية عقودٍ متوالية، لم تأت من فراغ. بل أتت من مكر الليل والنهار. جاءت هذه المنظومة الخلقية من الكَبت، والظُلم، والترهيب، وزياراتِ الليل، وتعذيب النهار، وشيوع السرقة، وإنتشار الرشوة، وتعوّد الإهانة، وسيادة المحسوبية، وإتساع هوة الفقر والجهل والمرض، مما أدى إلى الظواهر الخلقية الفاسدة، مثل استمراء الكذب، والوقيعة، والأثرة، وحب النفس وفقدان الثقة بها في آن واحدٍ، والضّن بالمال، وإخلاف الموعد، وإحتقار الغَير، وإنعدامُ الضَمير، وكلّ آفة نفسية يمكن أن يتصورها العقل.

الواجب أن ننتبه إلى أن الثورة لن تُحقق أهدافها بقطع رؤوس حُكامها لاغير، فإن ذلك رَمزٌ للتغيير، لكنه ليس هو التغيير ذاته. الشَعب المُصري، يحتاج إلى من يوجّهه إلى الوِجهة الصّحيحة في منظومة الخُلق والقيم، التي تبدلت وتحولت، وشابها العَطن والفساد عقوداً. الشعب يحتاج إلى ان يأخذ بالإسلام بقوةٍ، من حيث هو منظومة حياة متكاملة تهتم بالخلق وترعى القيم، قبل كلّ شيئ. ذلك بداية من الطفل الصغير، وما نزرعُه فيه من الخلق الحسن القويم، إلى المعلم نفسه، الذي طالته قيم الفساد، بعد أن لجأ إلى خيانة عمله، بالتدريس الخاص، لتحصيل فائضٍ من المال، يحوطه وأسرته من الفاقة. ومن الموظف، الذي باع ضميره بوقروش معدودة، يحجب عن الطالب طُلبَته، ليستحوذ على قروش منه حتى ينظر في أمرهن غلى صاحب العمل، الذي استغلّ قوته وسطوته، ليُطفّف على العاملِ عمله، فيعطيه نصف أجره، ويسميها "قانون العرض والطلب"، وهو ليس إلا قانون الغَدرِ والغَلَب.

مادة الثورة هي الإنسان، ومادة الشعب هي الإنسان، بنجاحه تنجح الثورة، وبفشله تفشل، وبه يقوم المجتمع، وبه يسقط. وها نحن نتحدث عن إعادة الهيكلة النفسية والتأهيل المعنوي لرجال الشرطة، الذين تغوّلوا بتغوّل أسيادهم وأولياء نعمتهم، وننسى أن رجال الشرطة قطاعٌ من مجتمعٍ متكاملٍ، يحتاجُ إلى إعادة الهيكلة والتأهيل. وأذكر، في هذا السياق، تجربة حقيقية، أخرجتها هولي وود تحت اسم "التجربة" ‘The Experiment”، أُختير فيها 24 فردا من عامة الناس، الذين ليس لديهم أي سجلٍ إجرامي مُسبق، وقُسّموا إلى قِسمين، قسمٌ يلعب دور السّجين، وقسمٌ يتقمّص دور السّجان، لمدة شهرٍ كاملٍ دون إتصال بالخارج. وفي هذا الشهر الواحد، تشكّلت نفسيات الفريقين حَسب الدور الجَديد، فظهرت أخلاق السّجان، بما فيها من تعالٍ وتكبرٍ ومقتٍ للغير، وتشكلت نفسية السجين بما فيها من جبنٍ وأثرة وتخوّف، مما أدى إلى وصول الأمر بالفريقين إلى التقاتل والقتل. وهذا الذي حدث، إنما وقع في ظرف شهرٍ واحدٍ، فكيف بسِتةِ عقودٍ كئيبة متتالية؟ وهو أمر لا ينكره إلا أحمقٌ أو مُغرض.

والأمر، إن تعمّقنا النّظر فيه، صَعبٌ أشدُ الصعوبة، عَصيّ أشد العِصيان، إذ إنّ الهَدم أبسطُ أمراً وأقربُ وسيلةً من البنيان. ذلك إنه إن أردنا تنشئة الطفل على المنظومة القيَميّة الجَديدة، إحتجنا إلى المعلم الذي يحوزها أصالة، وأنّى لنا به؟ وإن أردنا المرؤوس الشريف العفيف، الكفء النشيط، أردنا له الرئيس الشريف العفيف، الكفء النشيط، ليكون له مثلاً، وأنّى لنا به؟ فالأمر إذن، بمن نبدأ قبل أن يكون متى أو كيف نبدأ.

ولا يحسبَنّ أحد أن ذلك الخَرابَ النَفسيّ ظلّ بعيداً عن أية فئة أو طَائفة في المُجتمع، بل قد طَال هذا الفَساد العَفِن كلّ طوائف الشَعب، بما فيها الإسلاميون، إلا من عَصَم الله. إذ إن تطبيق الإسلام في ظلّ منظومَة الفَساد والعَفن والقَمع، يختلفُ، وسيلة ونتيجة، عن تطبيق الإسلام في ظِلّ منظومة الحق والعدل والحرية. وليس ذلك لعيبٍ في الإسلام، بل لعيبِ الطبيعة الإنسانية التي لا تمكن أن تنفصل عن الواقع إنفصالاً شعورياً تاماً، مهما أوتِيت من قوة، أو بذلت من جهد. ولا يجبُ أن ننسى أن الله سبحانه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفضل أهل الأرض أخلاقاً وأسوأهم إعتقاداً. وقد كانت قريش في الذِروة من أحساب العرب، حيث تمتّع أهلُها بالشجاعة، والإيثار، ونصرة الضعيف، وإجارة المظلوم، وكفالة العَاني، ورِعاية اليتيم، وحفظِ العَهد، ووصلِ الجار. فالخامَة الإنسانية للصحابة رضوان الله عليهم كانت، ولازالت، الأعلى والأنقى في تاريخ البشرية.

موجز القول، إنّ إعادة بناء الإنسان المصريّ يجب أن تتوازى مع إعادة بناء الهَياكل الإداريّة والإجرائية، فإنه لن يكون هناك خيرٌ قطّ دون أن يكون الإنسانُ فاعلاً بنّاءاً، ذا خلقٍ ودين.


د. طارق عبد الحليم
 

  • 0
  • 0
  • 1,153

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً