فزتُ وربّ الكعبة!
إن للحياة معنًى يجعل للفوز والخسارة معايير غير التي يتعارك عليها البشر
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
الموت نهاية محتومة لكل حيّ؛ فلا شماتة بهذا المصير الذي سيؤول إليه الخلق بلا استثناء. رسوخ هذه الحقيقة، وثبات ذلكم المبدأ، يكاد أن يكون عامًّا منذ القدم، فلا يشذّ عنهما إلا ناقصُ عقل أو عديم مروءة، أو مَن خالطت الوساوس مجاري دمائه حتى عاثت به الشياطين، وتلعّبت به تلعُّبًا.
ليس الشأن الأهم هو هذا الأجل المكتوب بذاته، بل كيف يأتي؟ وماذا بعد مجيئه؟ ما سوى هذين السؤالين عن الزمان والمكان، وغيرهما؛ ليست سوى تفاصيل زائدة، وقد لا يكون لها أيّ تأثير في الموازين المعتبَرة.
ثمة فرق كبير بين راحلٍ مضَى تاركًا بعده آثارًا سيئة، أو يغلب عليها السوء والفحشاء، أو راحِل ترجَّل دون أثرٍ، أو بأثرٍ ضئيل، وبين راحِل يُخلِّف وراءَه حميد المآثر، وكريم الروايات، مع خطًى تُقتدَى، ومنهجًا يُستنار به ويُسترشَد إلى أمدٍ أو أبدٍ.
البون شاسع بين ميتة كأيّ ميتة تحلّ بأيّ كائن حيّ، وبين خاتمة يصحّ أن يُقال فيها: إنها خالصة لله ربّ العالمين. تلك النهاية التي لا يَظفر بها إلا مَن كانت صلاته ونُسكه ومحياه لمولاه الحي القيوم، فغدا مصيره الأخروي مع وفود طيبة يقال فيهم: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}؛ لأنه جاء مُقبلًا غير مُدبر، كارًّا غير فارٍّ، حتى وهو يُصارع الموت، ويشاهد الأعادي وأسلحتهم.
لا مجال للمقارنة بين راحِلٍ يُحْيِي برحيله أجلّ المعاني، ويُرسِّخ أعلى المبادئ، حتى يتعجب منه الباغي المعتدي حين يسمعه يختم حياته مُبتهِجًا مقسمًا بربّ الكعبة على أنه الفوز، بينما الدماء منه تثعب، والجروح تنزف، والأنفاس تتسارع للخروج، والروح تفارق الجسد، ولو كان الغادر الجبان الخوَّان هو القتيل لتحسَّر ألف حسرة، وهو يَلفظ أنفاسه الأخيرة، مفارقًا حياة كان مِن أحرص الناس عليها، وأكثرهم تشبُّثًا بها.
إن للحياة معنًى يتجاوز السكون. إن للحياة معنًى لا يقتصر على الحياة الدنيا؛ فهي عاجلة قصيرة. إن للحياة معنًى لا يُدركه مَن رضي بمنزلة أقلّ من منزلة الإنسان، وبرتبة دون ما أراده الله لأوليائه الصالحين ولعباده المتقين.
إن للحياة معنًى يجعل للفوز والخسارة معايير غير التي يتعارك عليها البشر، وتختلف كثيرًا عما يَجُول في نفوس أرضية سفلية لا نصيب لها من الارتقاء والعلو، ولا نصيب لها من العاقبة عند الرب القويّ الحميد الرحيم؛ تلك العاقبة التي يحيى بها العباد وإن كانوا من عداد الأموات.
- التصنيف:
- المصدر:
عنان عوني العنزي
منذ