تدبر آية الأخلاق

منذ 2024-12-12

في الأمر بأخذ العفو مشروعية الإغضاء عن الضعف البشري، وهذا واجب الأقوياء تجاه الضعفاء، فعلى الرجال أن يرحموا النساء، وعلى الكبار أن يرحموا الصغار، وعلى الأغنياء أن يرحموا الفقراء، وعلى الأصحَّاء أن يرحموا المرضى، فمن الحكمة معاملة الناس باللطف والرحمة، بما يشرح صدورهم، ويجبر خواطرهم.

أمرنا الله سبحانه بتدبُّر آيات كتابه الحكيم؛ لنتذكر به ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، ونتدبر في هذه الخطبة آية الأخلاق، وهي قوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

 

يقول الله تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وجميع أمته: اقبل ما تيسَّر من أخلاق الناس، وما سمحت به نفوسهم، ولا تستقصِ عليهم فتطالبهم بما يشق عليهم، ويسِّر عليهم، ولا تُغلِظ عليهم، وأْمُر نفسك وجميع الناس بكل معروف، وعلِّم الناس ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وأعرض عن الجاهلين جهل علم أو جهل طيش وسفه، ولا تؤاخذهم بزلَّاتهم، ولا تشغل نفسك بمجادلتهم ومجازاتهم.

 

أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة تضمنت قواعدَ الشريعة في تكليف العباد، وفي معاملةِ الناس في جميع الحالات، وهي مثالٌ ظاهرٌ على بلاغة القرآن وإعجازه في إيجازه المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، ففي هذه الآية هدايات قرآنية كثيرة، منها ما يلي:

    · اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية التي يحتاج إليها الإنسان في معاملة الناس.


    · في الآية ردٌّ على العلمانيين الذين يريدون فصل الدين عن الحياة، فالآية تبين كيف يتعامل المسلم مع الناس بمختلف طبائعهم وأحوالهم وأخلاقهم.


    · وصية الله لرسوله وأمته بالأخذ بالعفو، والأمر بالعُرْف، والإعراض عن الجاهلين، فعلينا أن نتواصى بهذه الوصايا العظيمة، فكثير من الشرور والفتن التي تصيب الناس سببها الإخلال بهذه الوصايا أو ببعضها.


    · في الأمر بأخذ العفو مشروعية الإغضاء عن الضعف البشري، وهذا واجب الأقوياء تجاه الضعفاء، فعلى الرجال أن يرحموا النساء، وعلى الكبار أن يرحموا الصغار، وعلى الأغنياء أن يرحموا الفقراء، وعلى الأصحَّاء أن يرحموا المرضى، فمن الحكمة معاملة الناس باللطف والرحمة، بما يشرح صدورهم، ويجبر خواطرهم.


    · الأمر بأخذ ما تيسر من أخلاق الناس، وعدم التحسس من أخلاقهم السيئة، وطبائِعهم المختلفة، وعدم تكليفهم ما يعسر عليهم من الأخلاق والأموال وغير ذلك، وعدم مطالبتهم بزيادة في أداء الحقوق الواجبة، ومن الحكمة قبول ما طابت أنفس الناس بأدائه من الحقوق التي عليهم، مما يخف عليهم أداءه، وإن كان أقل مما يجب عليهم، ومن الشهامة التغاضي عن الحق كرمًا، وترك الاستقصاء في طلب الحق، فيُسقِط الكريم ما يمكن إسقاطه من حقوقه من غير ظلم أحد من الناس.


    · التخفيف عن الناس بدفع الحرج والمشقة عنهم بما لا يخالف الشريعة السمحة، فالشريعة جاءت بالتيسير لا بالتعسير، وما جعل الله علينا في الدين من حرج، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، ولا مكروه مع الحاجة.


    · من الأخذ بالعفو التيسير على النفس، وعدم تحميلها ما لا تطيق.


    · الحث على عدم التكلف، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ترك التكلف في جميع أمورهم، في علمهم وعباداتهم ودعوتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وجميع شئون حياتهم.


    · من الأخذ بالعفو ترك التنَطُّع بالسؤال والبحث عما سكتت عنه الشريعة، والواجب ترك تكليف الناس بما لم يكلفهم الله ورسوله.


    · من الأخذ بالعفو ترك التنَطُّع بالبحث عما لا ينبغي البحث فيه من أحوال الناس المستورين، وترك التفتيش عن حقائق بواطن الناس.


    · الرفق في التعامل مع الناس، والتيسير وترك التعسير، والتبشير وترك التنفير.


    · شكر الناس على ما أحسنوا فيه من قول أو فعل ولو كان قولهم وفعلهم دون ما كان ينبغي، والتجاوز عن تقصيرهم ونقصهم، فليس كل الناس مأمور بالكمال، وليس كل أهل الجنة من السابقين المقربين، بل أكثر أهل الجنة من الأبرار أصحاب اليمين، وممن يتجاوز الله عن سيئاتهم بفضله ورحمته.


    · مشروعية التوسُّط في الأمور، وترك الإفراط والتفريط، فالتوسُّط من العفو المأمور بأخذه.


    · الأخذ في هذه الآية معنويٌّ لا حسيٌّ، والأخذ يدل على الحركة والمبادرة، فالحركة بركة، والمبادرة عنوان النجاح.


    · التأكيد على العفو بتشبيهه بأمر محسوس يُؤمر المسلم بأخذه والحرص عليه، وعدم تركه، فالخير والمصلحة في العفو، وإن كان الظاهر أنَّ في العفو نقصًا فهو في الحقيقة زيادة لمن أخذ به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».


    · العفو عن ذوي الأرحام القاطعين لأرحامهم، وصلتهم وإن كانوا ظالمين، والعفو عن الزوجة الناشزة، وإن كانت ظالمة لزوجها بنشوزها.


    · العفو من الأخلاق التي يحبها الله، فهو عفو يحب العفو، ومن عفا عفا الله عنه، وكلما كان الذنب أكبر كان العفو عنه أكمل.


    · من الأخذ بالعفو قبول اعتذار المسيئين، وعدم قطع الصحبة والمودة بسبب الخصومة الدنيوية، وسرعة الرجوع إلى إصلاح ذات البين عند حصول الخلاف.


    · من عزَّ أخوه وصاحبه فليهُن له، وليتواضع بالصبر عن إساءته، وليتابعه فيما يُمكن متابعته مما لا يخالف الشريعة، ولا ضرر فيه، فإذا عاسَرَك أخوك وصاحبك فياسره، ولا تشاححه فتقع الشرور، وكذلك الحال بين الزوجين.


    · الحث على أخذ العفو مما يسره الله للعبد من رزق، والرضا والقناعة، وترك الطمع والحسد.


    · ترك التشفي بالانتقام من الظالم، فمصلحة العفو عن الظالم أعظم من لذة الانتقام.


    · عمل النبي عليه الصلاة والسلام بما أمره الله به في كتابه من العفو، فكان خُلُقه القرآن، ومن ذلك عفوه عن المشركين بعد فتح مكة.


    · مشروعية العفو إذا كان سببًا لتسكين الفتنة، ورجوع الجاني عن جنايته، أما إذا صار العفو سببًا لمزيد جرأة الجاني، فلا ينبغي العفو عنه، يؤخذ هذا من الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 39 - 41].


    · ترك التشدُّد فيما يتعلق بالحقوق المالية، وعدم التعنُّت في الخصومات، وعدم تعقيد الأمور، وإلا وقعت الشرور.


    · في ذكر الأمر بالعُرْف بعد الأمر بأخذ العفو إشارة إلى وجوب الأمر بالمعروف، وحمل الناس على أداء الحقوق وإن لم يسمح بعض الناس بما يجب عليهم.


    · الحث على المسامحة في كل ما يمكن التساهل فيه من الحقوق، وما لا يمكن التساهل فيه يجب أمر الناس فيه بالمعروف.


    · وجوب الأمر بالمعروف، ويُفهم منه وجوب النهي عن المنكر، فالأمر بالشيء يشمل النهي عن ضده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين، وفرض على جميع المسلمين مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه.


    · حث الناس على كل معروف من الواجبات والمستحبات، وكل ما يعرف العقلاء صوابه، وتستحسنه النفوس، مما لا يخالف الشريعة، ونهيهم عن كل المنكرات ما ظهر منها وما بطن.


    · الشعور بالمسئولية تجاه المسلمين، والعمل للدين.


    · فضل العلم؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتقدمه العلم.


    · أهمية البلاغة لتبيين الحق بالكلام أو الكتابة، فهما وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


    · أعظم العرف الذي يجب الأمر به: توحيد الله وعبادته وحده، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره، ومن العرف الذي يجب الأمر به: اتِّباع السُّنَّة، وجمع الكلمة على الحق، واجتناب البدع والتفرق، وإعطاء الناس حقوقهم، وترك ظلمهم، وشكر الله على نعمه، والتواصي بالصبر والرحمة، وتقوى الله سبحانه، والتحلي بالأخلاق الحسنة.


    · حث كل قريب وبعيد على فعل الخير وترك الشر، ومن ذلك تعليم الناس الخير الديني والدنيوي.


    · وجوب أمر النفس بالمعروف، ونهيها عن المنكر، فهي مقدَّمة على غيرها، فيدخل في الأمر بالعرف أن يأمر الإنسان نفسه بالمعروف، وينهاها عن المنكر، ومن ذلك أن يعطي الناس حقوقهم، ويُنصِفهم من نفسه وإن لم يطالبوه بها.


    · الحث على صنع المعروف حتى مع الكفار والعصاة والمسيئين، وهذا مما يسهل عليهم قبول الحق، فينبغي للدعاة إلى الله الاهتمام بصنائع المعروف، من إطعام المساكين، وإعانة المحتاجين، وتنفيس الكرب عن المكروبين، ونصر المظلومين.


    · على الداعي إلى الله أن يأمر الناس بما يعلم أنه من المعروف، وأن يحذر أن يأمرهم بما لا يُعرف في الشرع وجوبه أو استحبابه أو إباحته، ولا يأمرهم بما فيه غرر ومخاطرة.


    · يؤخذ من كلمة العرف أنه معتبر شرعًا، والعرف المأمور به هو العرف الصحيح الذي لا يخالف الشرع، أما العرف الفاسد فلا عبرة به.


    · إظهار أهل العلم الحكم الشرعي فيما يعرفون وينكرون مما لا يخالف الشرع، والاستقامة على الشريعة، وعدم تمييعها إرضاء للكفار أو اتِّباعًا لأهواء العوامِّ والأمراء.


    · عدم مشروعية الاقتصار على الأخذ بالعفو مع ترك الأمر بالمعروف؛ لأن في ذلك تغييرًا للدين، وإبطالًا للحق، فلا بد من بيان الحق مع الأخذ بالعفو.
     

    يقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ومن الهدايات التي نستفيدها من هذه الآية:

    · في الجمع بين الأمر بالعرف والأمر بالإعراض عن الجاهلين دلالةٌ على عدم التنازل عن الثوابت الدينية، وعدمِ ترك النصيحة لأجل إرضاء الجاهلين، وعدمِ اعتبار عُرف الجهال المخالف للشريعة.


    · الإعراض عن الجاهلين من المشركين لا ينافي الأمر بجهادهم، فيجب الصبر على سوء أخلاقهم، وألا يقابل أقوالهم وأفعالهم السيئة بمثلها، مع وجوب قتالهم عند القدرة، جمعًا بين الأدلة الشرعية.


    · مشروعية الإعراض عن الجاهلين من الكافرين والمنافقين والفاسقين، وعدم الانشغال بهم، وترك السؤال عن حالهم، وعدم التكلف في طلب عقوبتهم، وعدم التحسر عليهم، وعدم الحزن على هلاكهم، والإعراض عن السفهاء والغافلين عن طاعة الله استهانة بهم، وترك متابعتهم في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، والإعراض عن الظالمين، وعدم الركون إليهم.


    · الإعراض عن المتعصبين لآرائهم الخاطئة، المصرِّين على الباطل جهالة منهم وظلمًا؛ لأن الرد عليهم لا ينفعهم، والإعراض عنهم قد يذلل نفوسهم، والإعراض عنهم يكون بعد أمرهم بالمعروف، فقد أمر الله بالإعراض عن الجاهلين بعد الأمر بالعرف، وليس المراد الإعراض عنهم جملةً وتفصيلًا، فإنَّ التصدي لبيان أخطائهم من الأمر بالمعروف.


    · أعظم سببٍ للسلامة من شر الجاهلين هو الإعراض عنهم، والسكوت عن جوابهم، سواء كان جهلهم جهل علم أو جهل طيشٍ وسفه.


    · الحرص على تقليل العداوات؛ لتكمل للإنسان منافع دينه ودنياه.


    · صيانة النفس والوقت عن منازعة السفهاء، ومماراة الجُهَّال، وعن مقابلة الجاهلين بجهلهم، والحرص على اغتنام الأوقات فيما ينفع في الدين والدنيا.


    · ذم الجهل، والحض على طلب العلم، ومدح العلم والعلماء، ويفهم من الأمر بالإعراض عن الجاهلين أنَّ على المسلم أن يُقبِل على أهل العلم، وأن يحرص على مجالستهم ومصاحبتهم وسؤالهم، والاستفادة من علمهم.


    · من آداب العالم إذا سئل عن شيء لا ينبغي السؤال عنه أو ليس الجواب عنه مناسبًا في ذلك الوقت أن يسكت عن الجواب، ويعرض عن السائل الجاهل.


    · من الحكمة في التعامل مع الناس الجمع بين الأخذ بالعفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، ومعاملة كل إنسان بما يناسبه.


    · حث الإسلام على محاسن الأخلاق، ومعاملة الناس بالتي هي أحسن، وذلك بأخذ العفو، والأمر بالعرف، والإعراض عن الجاهلين، فعلى المسلم أن يجعل هذه الآية منهجه في معاملة الناس.

     

      أيها المسلمون، القرآن العظيم هداية للأفراد والأسر، والمجتمعات والدول، وفيه كل ما يصلح الأمة في عقيدتها وعبادتها وأخلاقها ومعاملاتها، وفيه حل جميع مشاكلها الداخلية والخارجية، وهو السبيل لعز المسلمين وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

       

      اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا تلاوة كتابك وتدبُّره، والعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لنا أجمعين، وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

      _______________________________________________
      الكاتب: د. محمد بن علي بن جميل المطري

      • 2
      • 0
      • 115
      • عبد الرحمن محمد

          منذ
        غراس التوحيد تثمر.. ولو بعد حين • يمنّي الصليبيون وأذنابهم من الطواغيت والمنافقين أنفسهم أن يناموا يوما ما ليستيقظوا وقد اختفت الدولة الإسلامية من الوجود، وأن عقيدتها ومنهجها قد انتزعا من صدور المسلمين، رغم أنهم باتوا يعلمون علم اليقين أن أحلامهم هذه مستحيلة التحقّق بإذن الله، حتى باتوا لا يخفون يقينهم بأن معركتهم العقدية مع الدولة الإسلامية أصعب بكثير من معاركهم العسكرية. فالمشركون قد جربوا سابقا العمل على هزيمة الدولة الإسلامية في ساحات المعارك، مستخدمين كل ما أوتوا من قوة ومكر، وجندوا كل ما توفر لديهم من مرتزقة وصحوات، وأمعنوا قتلا وأسرا في كل من شكّوا في ارتباطه بالمجاهدين، وضيقوا الأرض عليهم ما أمكنهم ذلك، حتى لم يبق في العراق كله من المجاهدين العاملين سوى ثلة من المؤمنين، ولكن العقيدة التي ثبت عليها قادة الدولة الإسلامية وجنودها، ودفعوا من دمائهم وأشلائهم أثمانا باهظة لثباتهم عليها، ورفضهم التنازل عنها، أثمرت - بفضل الله - عشرات الألوف من المجاهدين الجدد الذين فتح الله بهم البلاد، وهدى بهم العباد، حتى باتت راية الخلافة الإسلامية تخفق في أرجاء الأرض. فعقيدة التوحيد إذا ما قامت في قلب فإنها تحيله إلى شعلة من نار لا تنطفئ حتى تحرق المشركين، وهذا هو الانتصار الأكبر الذي منّ الله به على الدولة الإسلامية، والذي يفوق في أهميته كل الانتصارات العسكرية التي تحققت على الأرض، إذ زرعت في قلوب الملايين من الناس بذور هذه العقيدة، فمنها ما برعم، ومنها ما نبت، ومنها ما استوى على سوقه، ومنها ما أزهر ثم أثمر جهادا واستشهادا. وقد بتنا - بفضل الله - نرى النتائج على الأرض في الآونة الأخيرة على وجه الخصوص، والتي زاد فيها الصليبيون والمرتدون من شدة حملتهم ضد دولة الخلافة، حيث بلغت أعداد الاستشهاديين والانغماسيين أرقاما قياسية، ففي كل شهر تبلغ أعداد المنغمسين في أعداء الله بأجسادهم، وسياراتهم المفخخة، وأحزمتهم الناسفة ما يقارب المائتين بفضل الله، عدا عن المئات من الشهداء المقتحمين في الصفوف الأولى، وفي كل شهر نجد أن أعداد الاستشهاديين والانغماسيين من عشاق الشهادة في ازدياد والحمد لله، فبأي شيء يتوعدنا الصليبيون والمرتدون، إن كان إخواننا يتسابقون إلى الموت، وكلما فني منهم جيل، مضت على آثار خطواتهم أجيال من أهل التوحيد وأصحاب الجهاد. إن الأحداث الماضية أظهرت للناس جميعا أن ما يمكن لجنود الخلافة أن يأخذوه في أيام قليلة، وبأقل الأعداد من المجاهدين الصادقين، سيحتاج أعداءُ الله شهورا طويلة لاستعادته، إن تمكنوا من ذلك، بعد أن يخسروا الآلاف من جنودهم، والعالم كله يعرف أن عودة الدولة الإسلامية لاستعادتها مرة أخرى ليس بعسير إذا ما يسّره الله، وأن امتدادها لأي من أطراف محيطها الهش هو أسهل من ذلك بكثير، وما قصص الرمادي وتدمر عنا ببعيد، فبأي شيء يتفاخر الصليبيون والمرتدون، إن كان اكتسابنا للأرض سهلا علينا، بفضل الله، عسيرا على أعدائنا، وما ينحاز جنودنا من جهة من الجهات إلا واقتحمنا عليهم جهة أخرى هي أعز على نفوس أعدائنا مما انحزنا عنه من الأرض. إن الأرض لله كلها، وإنما نحن مستخلفون فيها لا أكثر، لنعمل فيها بما أمرنا، من إقامة شرعه، والدعوة إلى عبادته، وما دمنا نقوم بذلك في كل أرض يفتحها الله علينا، فإنا لا نبالي بأسماء الأماكن التي يسخرنا الله لفتحها، والتي لن ننحاز منها إلا بعد أن نعمر القلوب بتوحيد الله، فنخرج منها بالموحدين، ولا يستطيع هو أن يدخلها بمن معه من المشركين والملحدين إلا وهو خائف يترقب. لقد أثبتت تجارب التاريخ، أن عقيدة التوحيد إن تمكنت من الظهور في أرض ما ولو لسنوات قليلة فإن أثرها يبقى في هذه الأرض لقرون، وإن البذور التي تزرع فيها، تنتج أجيالا من الموحدين، كلما فني جيل أورث الذي يليه حبا لدين الله ونقمة على أعداء الله، وتربصّا بهم، وجهادا لهم، وإن كل المناطق التي دخلتها الدولة الإسلامية اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، ستبقى غصة في حلوق المشركين لقرون عديدة ولو تمكنوا من قتل كل هذا الجيل من جنود الخلافة وحراس التوحيد، فليتربّصوا إنا معهم متربّصون. ◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 23 السنة السابعة - الثلاثاء 12 جمادى الآخرة 1437 هـ المقال الافتتاحي: غراس التوحيد تثمر.. ولو بعد حين

      هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

      نعم أقرر لاحقاً