من مساوئ الأخلاق "الظلم"

منذ يوم

إن الظلم من مساوئ الأخلاق، ومن الصفات السيئة والذميمة، في الإنسان في العموم، وفي المسلم في الخصوص.

إن الظلمَ من مساوئ الأخلاق، ومن الصفات السيئة والذميمة، في الإنسان في العموم، وفي المسلم في الخصوص.

 

ولذا نفى الله عن نفسه الظلم؛ فقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وأكَّد انتفاء حبِّه للظالمين، انتفاءً كليًّا في حق الكفار، وانتفاءً جزئيًّا في حق الواقعين فيه من المسلمين، وذلك تحذيرًا من الوقوع فيه ابتداءً؛ فقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، وحذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح مسلم قال: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظُلُماتٌ يومَ القيامة».

 

والظلم ضعفٌ في صاحبه وليس قوة؛ لأنه لم يستطع أن يقود نفسها، ويتجاوز بها عن حظوظها السُّفْلِيَّة، ويضبط سلوكه وتصرفاته بضابط العقل والاتزان، وتحكيم الضمير، فقدَّم الباطل على الحق، في القول أو الفعل، تماشيًا مع أهوائه ورغباته السفلية؛ لأن الظلم بأنواعه من السفل، وليس من العلو في شيء، ولو زيَّن لصاحبه أنه كان قويًّا، في المكانة أو الجسم، أو القول أو التزيُّن، لظَلَمَ هذا أو ذاك، من منع حقٍّ ممكن للجميع، أو أخذ شيءٍ بوجه غير شرعي.

 

والظلم هو وضعُ الشيء في غير موضعه؛ وهو تعدي عن الحق إلى الباطل مع العلم والإصرار، سواء كان في القول أو الفعل، وهو جَورٌ؛ لأنه انحراف عن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

 

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135].

 

قال الشيخ ابن باز رحمه الله عند هذه الآية: "وهذه الآية العظيمة تُوجِب على جميع المسلمين القيامَ بالعدل في كل شيء؛ ولهذا قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]؛ يعني: لا رياء، ولا سمعة، ولا لأجل الهوى لزيدٍ أو عمرو، ولكن لله؛ يعني: إظهار الحق، والدعوة إليه، وإقامة العدل بين الناس.

 

فالواجب على الشاهد وعلى غير الشاهد ممن يتولى شيئًا من أمور المسلمين، أن يتحرَّى الحقَّ والقسط، وهو العدل، إلى أن قال رحمه الله: فالواجب على الحاكم والشاهد والمثمِّن والمقوِّم وغيرهم ممن يُوكَل إليه شيء، أن يؤدي الأمانة، وأن يعدل، وأن يحذر الجور واتباع الهوى؛ لأن هذه الأمور لا تستقيم إلا بالعدل، ولا تصلح إلا بالعدل؛ ولهذا قال جل وعلا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: لا يحملنَّكم بُغضُهم وعداوتهم على الجَورِ.

 

وقال أبو جعفر الطبري في تفسيره لآية المائدة رقم: ٨: "يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تَجُوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري.

 

إلى أن قال: وأما قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، فيقول: ولا يحملنَّكم عداوة قوم على ألَّا تعدلوا في حكمكم فيهم، وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة"؛ [انتهى].

 

فكيف الحال إذا لم تكن هناك في الأصل عداوة حقيقية بين هذا أو ذاك إلا اتباع الأهواء، وحظوظ النفس لإيقاع الظلم على هذا أو على ذاك؟

 

لا شكَّ أن الظلم هنا يكون أشدَّ جرمًا؛ لأن من كان فيه بينك وبينه عداوة حقيقية، فالمسلم مُطالَب بالعدل والإنصاف، والبعد عن الظلم والجَورِ، فكيف بمن لم يكن بينك وبينه شيء في الأصل، والله المستعان؟

 

والظلم أنواع ثلاثة:

ظلم العبد لنفسه، وظلم العبد لربه، وظلم العبد لغيره من بني جنسه وغير بني جنسه، وكل هذه الثلاثة في الحقيقة هي ظلم للعبد لنفسه أولًا، إما بالتعدي عليها مباشرة، أو بالتعدي على الآخرين، أو بالتعدي على أوامر الله ونواهيه إفراطًا أو تفريطًا، وإن التعدي والظلم أمر عظيم، ولكن وقوعه على الآخرين، بجعل صاحبه مرهونًا لهم في الدنيا والآخرة بالاقتصاص، ولا مجال للمسامحة فيه والعفو بين العبد وربه؛ لأنه متعلق بحقوق الآخرين، ومن عدالة الله أن جَعَلَ هذا الأمر فيه القصاص يوم القيامة، أو طلب التسامح من المظلوم في الدنيا قبل الوقوف بين يدي الله للتحاكم والقصاص بين الظالم والمظلوم، وهنا الخطورة.

 

لأن المجازاة بأخذ الحسنات من الظالمين للمظلومين، أو بطرح السيئات من المظلومين على الظالمين، إن نفِدت حسنات الظالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم: «أتدرون ما المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أُمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار».

 

نعم، إن من أنواع الظلم التعدي على الآخرين، بالقول أو الفعل، ومن أشد أنواع هذا الصِّنف ظلم ذوي القربى، حتى إن الشاعر وصفه بأنه أشد وقعًا وفتكًا على النفس من وقع الحُسامِ الْمُهنَّد؛ فقال الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة   **   على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ 

 

فالأصل أن الأخ أو الجار، أو القريب أو الصديق، أو من تربطك به علاقة خاصة، يجب أن يكون مع أخيه أو جاره أو صديقه، أو من تربطه به علاقة خاصة وألَّا يخذله، فالأصل أن يكون ذلك الشخص مساندًا ومساعدًا وداعمًا، ومحبًّا وناصحًا، ومناضلًا عن إخوانه ومعارفه وأصدقائه، وأصحابه في السراء والضراء، ومبادرًا على الدوام في نصرتهم وإعانتهم على الخير والصلاح.

 

يفرح لفرحهم، ويألم لألمهم، ويسعد لسعادتهم، ويتكدر لكدرهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دَمُهُ وماله وعِرْضُه»؛ (رواه مسلم).

 

وهذا حديث عظيم، شمل ما يجب للمسلم على المسلم، من حقوق وواجبات، وتشتدُّ وتعظُم هذه الحقوق والواجبات في حق الأقارب والمعارف والأصدقاء فيما بينهم قربًا وبعدًا، وما يكون خلاف ذلك فهو تعدٍّ وظلم وجَورٌ، وهو من مساوئ الأخلاق، الذي ينبغي أن يترفَّع عنها المسلم في العموم لجميع الناس، والأقارب والمعارف والأصدقاء في الخصوص، لماذا؟

 

لأن ذلك خلاف هَدْيِ الإسلام وأخلاقه وتوجيهاته، ثم لأن الوقوع في ذلك يكون أكثر إيلامًا وجرحًا وعمقًا في الإيذاء من أي جهة أخرى تخلَّقت بتلك المساوئ من الأخلاق؛ يقول علي شريعتي: "إن ضربة العدو لا تُوجِع، بل تعطي الحياة معنًى وقوة، ولكن المأساة في خصومة الصديق؛ لأنها تبُثُّ اليأس، وتزيد الضعف، وتُورِث الوهن، وهي سيئة سيئة.

 

قلت: نعم، ولله درُّ الشاعر، عندما وصف الظلم أنه من هذه المساوئ الأخلاقية، التي حذر منها الإسلام في العموم، وحذر منها في الخصوص، كما تطرقنا لذلك سابقًا؛ فقال الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً   **  على المرء من وقع الحسام المهند". 

 

نسأل الله بلطفه وعفوه ورحمته، أن يهدي قلوبنا، وأن يرتقي بأخلاقنا، وأن يجعل سلوكنا مطابقًا لقِيَمِنا وأخلاقنا ومبادئنا في السراء والضراء، ورحِم الله أحمد شوقي عندما قال:

إنما الأمم الأخلاق ما بقِيَــــت   **  فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا 

‏صلاح أمرك للأخلاق مرجعــه   **  ‏فقوِّم النفس بالأخلاق تستَقِـمِ 

‏ إذا أُصيب القوم في أخلاقهم   **  ‏فأقِم عليهم مأتمًا وعويــــــلا 

 

ومن المقالة الصادقة التي تُكتب بماء الذهب في هذا الباب:

لا تبحثوا عن أخلاق الرجال في المساجد، ولا في ساحات الذكر وميادين العبادة، بل ابحثوا عنها عند تقاطع الحقوق، وعند البيع والشراء، وعند التعامل بالدينار والدرهم، وعند توزيع الميراث، راقبوها في السفر، ومجاورة المنزل، والمصاهرة، وعند الخصومات؛ فالخصومات تفضح متصنعي الأخلاق.

 

هنا تظهر الحقائق، ويستبين الحال، وتنكشف النفوس، وتظهر معادنها.

 

وفي الختام: أهمس لنفسي ولكل قارئ ومتابع: إياك أن تتباكى، ‏ما أجمل أن يعيش الشخص منا وهو صاحب قيم وأخلاق، فِعْلُه يصدِّق قوله، يعيش في اتزان نفسي مع نفسه ثم مع الآخرين من حوله، من قريب أو بعيد، إذا قال لا يكذب، وإذا حكم لا يظلم، وإذا استُشير لا يخون، وإن كان خلاف ما يهواه، فليس شرطًا أن ترتاح نفسك لهذا أو ذاك، لكن الشرط أن تكون صادقًا، ولنفسك قائدًا وضابطًا، فالنفس في الأصل أمَّارة بالسوء: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

_______________________________________________
الكاتب: د. عوض بن حمد الحسني

  • 1
  • 0
  • 68

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً