دعاء الأنبياء لأولادهم

منذ 13 ساعة

إنَّ من جوانبِ الهدايةِ النبويةِ التي لا يستغني عنها أحدٌ هدْيَهم في تعاملِهم مع أولادِهم ذكورًا وإناثًا؛ فللأنبياءِ منهجٌ ربانيٌّ في تربيةِ الولدِ معصومٌ، قد أبانَ الشرعُ دعائمَه التي عليها يَقومُ...

الأنبياءُ بشرٌ اصطفاهمُ اللهُ لحملِ هدايتِه ونشرِها في الأرضِ؛ يُجسِّدونها عملًا مطابقًا لما أنزلَه اللهُ في كتبِه؛ دون منافرةٍ بين فعلٍ وقولٍ وخُلُقٍ؛ ليرى الناسُ تلكمُ الهدايةَ واقعًا بشريًا مُطِّردًا شاملًا جميعَ مناحي الحياةِ، يعيشون تفاصلَيه، ويَرْقُبون دقائقَه، ويَحكون واقعَه، وبقيتْ تلكمُ الآثارُ النبويةُ محفوظةً مرويةً في نصوصِ الكتابِ والسنةِ؛ بُغيةَ الاقتداءِ بأئمةِ الهُدى؛ للظفرِ بالفلاحِ في الدّارين، كما قال اللهُ -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

هذا، وإنَّ من جوانبِ الهدايةِ النبويةِ التي لا يستغني عنها أحدٌ هدْيَهم في تعاملِهم مع أولادِهم ذكورًا وإناثًا؛ فللأنبياءِ منهجٌ ربانيٌّ في تربيةِ الولدِ معصومٌ، قد أبانَ الشرعُ دعائمَه التي عليها يَقومُ، والذي يأتي في مُقَدَّمِها، ويُشَكِّلُ صُلْبَها الناظمَ لما عداه والداعمَ له جؤارُهم إلى اللهِ وافتقارُهم إليه بالدعاءِ لأولادِهم؛ فما هي الدعواتُ التي كان أنبياءُ اللهِ -عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه- يَضِجُّونَ بها إلى اللهِ لأولادِهم؟ لقد سطَّرَ الكتابُ والسنةُ عُمَدَ تلك الدعواتِ النبويةِ التي لا غِنى لأحدٍ عنها؛ لصدورِها من أعلمِ الخلْقِ باللهِ وبشرعِه وخلْقِه، وأنصحِهم، وأفصحِهم، وشمولِها صلاحَ الدينِ والدنيا والآخرةِ، وأسبقيَّتِها حمْلَ الولدِ وأثناءِ حمْلِه وبعدَه، بل بعدَ وفاتِه، وكان لها أبلغَ الأثرِ في إمدادِ اللهِ لهم بالقدرةِ على تكاليفِ التربيةِ ورَهَقِها وتذليلِ عسيرِها وإكرامِهم بصلاحِ الذريةِ وحفظِهم؛ حُسْنَ ثوابٍ من اللهِ لهم حين أظهروا بإدمانِ دعائهم وإلحاحِهم تبرؤَهم مِن حولِهم وإبداءَ افتقارِهم إلى ربِّهم وعظيمَ تعلُّقِهم به وحسنَ توكلِهم عليه وظنِّهم به؛ فكان الثوابُ خيرًا من العملِ، واللهُ عند ظنِّ عبدِه به. كيف ودعاءُ الوالدِ لولدِه مضمونُ الإجابةِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ‌ «ثَلَاثُ ‌دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ ‌لِوَلَدِهِ» (رواه ابنُ ماجه وحسَّنَه الألبانيُّ)

 

أيها المؤمنون!

الدعاءُ بصلاحِ الولدِ دعوةٌ كان الأنبياءُ يَبْتدِرون بها الولدَ قبل حمْلِه، كما دعا بها إبراهيمُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- مع شيخوختِه وعُقْمِ زوجِه قائلًا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وهكذا كان أتباعُهم يدْعون خاصةً عند بلوغِهم سنَّ الأَشُدِّ أربعين سنةً، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]. يرجون بطلبِ صلاحِ ذرياتِهم قيامَ تلك الذريةِ بأداءِ حقِّ اللهِ وحقِّ العبادِ الذي لا يتحققُ الصلاحُ إلا باجتماعِهما. وكان من أهمِّ مفرداتِ الصلاحِ التي خَصَّ بها الأنبياءُ أولادَهم في دعائهم التي إنْ صلحتْ صلحَ سائرُ العملِ تحقيقُ التوحيدِ والسلامةُ من الشركِ وإقامُ الصلاةِ بأكملِ وجهٍ، وذلك ما دعا به الخليلُ لذريتِه حين كان يُلِحُّ على ربِّه قائلًا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35-36]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]. بل سمتْ بهمُ الهمةُ في دعائهم بأنْ سألوا اللهَ لذرياتِهم منزلةَ الولايةِ؛ بأنْ يتولاهمُ اللهُ، ويتخذونَه وليًا؛ فيكونوا من أوليائه المفلحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، كما دعا نبيُّ اللهِ زكريا -عليه السلامُ- على عُتُوِّ كِبَرِه وعَقْرِ زوجِه فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 4-5].
وكانوا يدعون لأولادِهم بالعلمِ النافعِ وتزكيةِ النفوسِ وتطهيرِها بالتوبةِ، كما كان يَلْهَجُ الخليلُ وابنُه إسماعيلُ -عليهما السلامُ- وهما يرفعان القواعدَ من البيتِ قائلَيْنِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 128-129]. وكانوا دائبي الطلبِ لربِّهم يدعونه أنْ يباركَ في ذرياتِهم؛ ليكونوا نافعين لهم وللأنامِ في أمرِ الدينِ والدنيا، وتبقى آثارُ أعمالِهم الخَيِّرةِ شاهدةً على بركتِهم حيثما حَلُّوا، فقد كان من دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يُعلِّمُه أصحابَه: «اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا ‌وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا» (رواه أبو داودَ وصحَّحَه الألبانيُّ). وبركةُ الذريةِ هو طيبُها الذي سألَه نبيُّ اللهِ زكريا -عليه السلامُ- إذ يقولُ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]. 

والدعاءُ بالظفرِ برضا اللهِ وجعلِ القبولِ بين العبادِ الذي يَحملُ في مضمونِه تميُّزَ الولدِ في دينِه وخُلُقِه مما كان الأنبياءُ يخصُّون به أولادَهم، كما دعا زكريا -عليه السلامُ- بقولِه: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]. وكان للأنبياءِ دعاءٌ طموحٌ جامعٌ بين كونِ أولادِهم سببًا لقرارِ أعينِهم وفرحِهم وبين بلوغِهم معهم رتبةَ الإمامةِ في الدينِ واقتداءِ المتقين بهم؛ فتلك دعوةُ عبادِ الرحمنِ -والأنبياءُ قادتُهم- التي حكى اللهُ لَهَجَهم بها ومداومتَهم عليها بقولِه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. واستغفارُ الأنبياءِ الدائمُ لذرياتِهم من عُمَدِ دعائهم لهم؛ فالمغفرةُ نهرُ بركةٍ يَغْمُرُ الذريةَ؛ يُنَمِّي خيرَها، ويُطهرُ كدَرَها، ويُزيحُ عنها مُهيجاتِ الشرورِ وموانعَ البِرِّ، وذاك ما كان يديمُ به نبيُّ اللهِ نوحٌ -عليه السلامُ- سؤالَ ربِّه إذ يقولُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].

 

أيها المؤمنون!

والدعاءُ للذريةِ بالرزقِ المُغني الذي لا يُطغي؛ لاقترانِه برجاءِ الشكرِ من أدعيةِ الأنبياءِ لأولادِهم، كما دعا به الخليلُ -عليه السلامُ- لذريتِه إذ يقولُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]. وكما أنَّ الأنبياءَ يسألون الخيرَ لأولادِهم في دعواتِهم، فإنّهم يُعوِّذنَهم باللهِ من أخطرِ الشرورِ؛ شياطينِ الجنِّ والإنسِ، والهوامِّ ذواتِ السُّمومِ، والعينِ -خاصةً إنْ كانوا صغارًا لا يُدرِكون التحصينَ-، فقد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: «إِنَّ ‌أَبَاكُمَا - يعني: إبراهيمَ عليه السلامُ - كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ؛ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ ‌التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» (رواه البخاريُّ).

 

عبادَ اللهِ!

إنَّ مما أبانَه اللهُ في سرِّ استجابتِه دعاءَ الأنبياءِ لأولادِهم، بل وصلاحِ أزواجِهم أعمالًا ثلاثةً كانوا يُدِيمونها؛ المبادرةَ في فعلِ الخيرِ، والدَّأَبَ في العبادةِ رجاءَ ثوابِ اللهِ وخشيةَ عقابِه، والتواضعَ للهِ والتذللَ له، كما ختمَ اللهُ ذِكرَ دعاءِ زكريا -عليه السلامُ- بالولدِ، فقالَ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89-90]. هذا، ولم يُحفظْ عن نبيٍّ من الأنبياءِ دعاءٌ على ولدِه وإنْ كان كافرًا؛ لعظيمِ خطرِ الدعاءِ على الولدِ، يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا ‌تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى ‌أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ رواه مسلمٌ. فدونَكم -أيها الوالِدان- منهلَ الأنبياءِ الرَّوِيَّ في دعواتِ الأولادِ؛ اجعلوها من صلبِ دعائكمُ اليوميِّ لأولادِكم في مواطنِ الاستجابةِ وأزمنتِها؛ تَنْعَموا بهم بِرًَّا وأجرًا، وذِكرًا وذُخرًا.

دعاءٌ ضارِعٌ تَرجون رُشدًا   **   لأولادٍ كدعوى الأنبياءِ 

  • 0
  • 0
  • 114

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً