أنت على دين خليلك
إنّ المرء قد يتخيّر طعامه وشرابه، وقد يتأنّى في اختيار ثوبه ومسكنه، ولكنه يغفل عن أمرٍ أخطر من ذلك كله، أمرٍ يتعلّق بقلبه وروحه، ومصيره في الدنيا والآخرة: من يصاحب؟ ومن يخالل؟
قد يمشي الإنسان في طريقه آمنًا، مطمئنّ النفس، مستقيم السيرة، ولكنّه لا يدري أن خطوة واحدة قد تغيّر مصيره، وأن يدًا تمتدّ إليه قد تجرّه إلى حيث لا يريد. فكم من صالحٍ أفسدته صحبة السوء، وكم من غافلٍ ردّته يدُ الصديق المخلص إلى طريق الهداية!
إنّ المرء قد يتخيّر طعامه وشرابه، وقد يتأنّى في اختيار ثوبه ومسكنه، ولكنه يغفل عن أمرٍ أخطر من ذلك كله، أمرٍ يتعلّق بقلبه وروحه، ومصيره في الدنيا والآخرة: من يصاحب؟ ومن يخالل؟
فالصداقة ليست مجرد لقاء عابر أو تسلية تمضي بها الأوقات، بل هي باب إلى الجنة أو طريق إلى الهلاك، وهي ميزانٌ دقيقٌ يعرف به المرءُ معدنه، فكما قيل: "الصاحب ساحب"، إمّا أن يرفعك إلى العلياء، أو يهوي بك إلى الدركات.
وقد جاء التحذير النبوي واضحًا جليًّا: «"الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"» . فهل تأمّلت هذا الحديث؟ وهل تدبّرت عواقب الصحبة؟ تعالَ معي في هذه السطور لنغوص في معانيه، ولنستكشف أثر الصديق على الإنسان، فننظر أين نضع أقدامنا، ومع من نسير في طريق الحياة.
إنّ الإنسان لا يسير في حياته منفردًا، ولا يعيش في دنياه معزولًا، بل هو مخلوق اجتماعي بطبعه، تتقاطع دروبه بدروب الناس، ويخالط في سيره أشتاتًا من الخلق، بين صديق ورفيق، ونديم وجليس. وما من أحدٍ إلا وله صاحب يأنس به، أو رفيق يُفضي إليه بشكواه، ويبثّ إليه همومه وأحلامه، فالصداقة من ضرورات الحياة، وهي من طبائع النفوس، ولكنّ المرء إن لم يحسن اختيار من يخالل، وجد نفسه كمن يمشي في طريقٍ محفوفةٍ بالمخاطر، تحفّها المهالك من كل جانب، وربما انزلق في مهاوي الردى وهو لا يدري.
وقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"، فهذا الحديث قانونٌ اجتماعيٌّ ثابت، وسنةٌ لا تتخلف، فما المرء إلا انعكاسٌ لجليسه، وما القلب إلا وعاءٌ يمتلئ مما يصب فيه، فإن كان الصاحبُ صالحًا، كان المرء إلى الخير أقرب، وإن كان فاسدًا، جرّ صاحبه إلى الهلاك، من حيث يشعر أو لا يشعر.
الصديق مرآتك ..
قد ترى نفسك في المرآة، فتتأمل وجهك، وتصلح من شأنك، وتميط الأذى عن ثوبك، ولكن المرآة الصادقة في الحياة هي الصديق، فهو الذي يبصّرك بعثراتك، ويعينك على نفسك، ويذكّرك إذا نسيت، وينبهك إذا غفلت. فإذا كان صالحًا، دفعك إلى الفضائل، وحملك على مكارم الأخلاق، ودلّك على طريق الخير، وإذا كان سيئًا، أغراك بالمزالق، وزين لك المعاصي، وجرّك إلى حيث لا تحبّ.
رفقاء السوء ومهالكهم ..
إنّ المرء قد يكون تقيًّا، نقيَّ القلب، سليم الطبع، فإذا خالط أهل الشرّ، واغترّ ببهرجتهم، واستأنس بمودّتهم، لم يلبث أن انحدر إلى مستواهم، وتشبّه بهم شيئًا فشيئًا، حتى يصير منهم. فالطبع يسرق الطبع، والقلب يلين لما يجاوره، حتى لا يكاد يميّز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر.
وما أكثر الذين كانت بداياتهم طيّبة، ولكن صحبتهم لأهل الفجور أفسدتهم، فانحدروا في مهاوي الهلاك. ألم نسمع عن فتى كان ورعًا، صالحًا، ثم جالس أهل الفساد ففسد؟ ألم نرَ شابًّا نشأ في بيت التقوى، لكنه اتخذ بطانة سوء، فانقلب حاله وتبدّل شأنه؟ وهذا ليس بغريب، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم، مصوّرًا حال أهل الغواية يوم القيامة حين يندمون على قرناء السوء: {﴿يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾} [الفرقان: 28].
الصحبة الصالحة طريق إلى الجنة ..
وكما أنّ الصحبة السيئة طريق إلى الهلاك، فإنّ الصحبة الصالحة باب من أبواب الجنة، بل إنّ من فضل الله على عباده أنّ الأخوّة في الله سببٌ لدخول الجنة، كما جاء في الحديث القدسي: " قال اللهُ عزَّ وجلَّ المتحابُّونَ في جلالي لهم منابرُ من نورٍ يَغبِطُهم النَّبيونَ والشُّهداءُ ".
ولذلك، فإنّ من أعظم النعم التي يمنّ الله بها على عبده أن يوفّقه إلى صحبة الأخيار، الذين يعينونه على الطاعة، ويذكّرونه بالله إذا نسي أو غفل، ويأخذون بيده إذا ضعف، ويرفعونه إذا سقط.
فانظر من تصاحب! ..
أيها القارئ الكريم، إنّ الإنسان يُولد صفحة بيضاء، ولكنه لا يلبث أن يكتب فيها أهلُه ورفقاؤه أول السطور، فإذا شبّ وترعرع، صبغته البيئة التي يعيش فيها، وأثّرت فيه الصحبة التي يختارها لنفسه. فكن على حذرٍ في انتقاء من تخالط، واحرص على مصاحبة الأخيار، فإنهم زادك في الطريق، وإنهم عونك في الشدائد، وإنهم سراجك الذي ينير لك عتمة الأيام.
وإذا هممت أن تتخذ صاحبًا، فاسأل نفسك: هل يقرّبني من الله أم يبعدني؟ هل يأخذ بيدي إلى الخير أم إلى الشر؟ فإن كان من أهل الصلاح، فتمسّك به، وأحسن إليه، واصدق في مودّته، وإن كان من أهل السوء، فابتعد عنه، واحذر منه، فإنّه والله سيفسد عليك دينك ودنياك فـ"الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"… فهل نظرت؟
يا أخي، إنّ الحياة قصيرة، وأيامها معدودة، وما أنت فيها إلا مسافرٌ يشدّ رحاله إلى دار البقاء، فاحذر أن تكون رفقة السوء هي القيد الذي يثقل خطاك، أو الغشاوة التي تحجب عنك النور! فإنّ الصاحب ساحب، وإنّ القلوب تتشابه بمن تجالس، وإنّ الطبع يسرق الطبع، ولو بعد حين.
كم من إنسانٍ كان قريبًا من رحمة الله، فابتعد بسبب جليس سوء أغواه! وكم من غافلٍ كان تائهًا، فضمه رجل صالح إلى ركب الهداية، فنجا ونجح! فالصحبة إمّا قنديلٌ يضيء لك طريق الجنة، وإما ظلامٌ يمتدّ بك إلى مهاوي الهلاك.
قف مع نفسك وقفة صدق، وانظر فيمن تخالل، فمن كان من أهل التقوى والصلاح، فازدد به تمسكًا، ومن كان من أهل الفجور والضلال، فابتعد عنه قبل أن يصبح قلبك مثله، فتندم حيث لا ينفع الندم.
يا صاحبي، هذه حياتك، وهذا دينك، وهذا مصيرك، فلا تضيّعه بصحبة تجرّك إلى الخسران، بل اختر لنفسك من يرفعك، من يذكّرك إذا نسيت، ويعينك إذا ضعفت، ويأخذ بيدك إلى الجنة.
"الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"… فانظر، وقرر، واختر طريقك، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه الندم، ولا تجد من أصحابك إلا الحسرة والخذلان!
- التصنيف: