رجاء رحمة الرحمن وحسن الظن به
من موجبات الجنة أن يكون العبد حسن الظن بالله تعالى، فمن حسن ظنه بربه فقد بلغ مبلغا عظيما في القرب منه- سبحانه وتعالى -

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، أظهَر الحق بالحق وأخزى الأحزاب، وأتَم نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب، أرسَل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأجرى بفضله السحاب، وأنزل من السماء ماءً، فمنه شجر ومنه شرابٌ، جعل الليل والنهار خلفة، فتذكَّر أولو الألباب، نحمده تبارك وتعالى على المسببات والأسباب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من المؤاخذة والعتاب، ونسأله السلامة من العذاب وسوء الحساب.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله العزيز الوهاب، الملك فوق كل الملوك، ورب الأرباب، الحكم العدل، يوم يُكشف عن ساق وتوضَع الأنساب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، خلَق الناس من آدم، وخلَق آدم من ترابٍ، خلق الموت والحياة ليبلونا وإليه المآب، فمن عمِل صالحًا فلنفسه، والله عنده حسنُ الثواب، ومن أساء فعليها، وما متاع الدنيا إلا سراب.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المستغفر التواب، المعصوم صلى الله عليه وسلم في الشيبة والشباب، خلقه الكتاب ورأيه الصواب، وقوله فصلُ الخطاب، قدوة الأمم وقِمة الهمم، ودُرة المقرَّبين والأحباب، عُرضت عليه الدنيا بكنوزها، فكان بلاغه منها كزاد الرُّكاب، ركب البعير ونام على الحصير، وخصَف نعله، ورتَق الثياب، أضاء الدنيا بسُنته، وأنقذ الأمة بشفاعته، وملأ للمؤمنين براحته من حوضه الأكواب، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب ما هبَّت الرياح بالبشرى، وجرى بالخير السحاب، وكلما نبت من الأرض زرعٌ أو أينَع ثمرٌ وطاب.
اعلَم علَّمني الله وإياك أن من موجبات الجنة أن يكون العبد حسن الظن بالله تعالى، فمن حسن ظنه بربه فقد بلغ مبلغا عظيما في القرب منه- سبحانه وتعالى - إذ حسن الظن هو الدافع إلى خشية الله والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، لذا حثنا رسولنا الكريم إلى أن نحسن الظن بالله حتى حال الموت.
فحسن الظن فيه النجاةُ والفوز بالجنان ورضا الرحمن، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم سلم قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يَموتن أحدكم إلا وهو يُحسن بالله الظن» [1].
وإذا كان العبد حسنَ الظن بربه، فقد نال المنى، فالله أخبر أنه بعظمته عند ظن عبده به إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هَرولة» [2].
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - قوله: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي؛ أي: قادر على أن أعمَل به ما ظن أني عامل به.
وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف، وكأنه أخذه من جهة التسوية، فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يَعدِل إلى ظن إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مُقيد بالمحتضر، ويؤيد ذلك حديث لا يموتَن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله، وهو عند مسلم من حديث جابر، وأما قبل ذلك، ففي الأول أقوال ثالثها الاعتدال، وقال بن أبي جمرة: المراد بالظن هنا العلم، وهو كقوله: وظنوا أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه.
وقال القرطبي في المفهم: قيل: معنى ظن عبدي بي، ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكًا بصادق وعده، قال: ويؤيِّده قوله في الحديث الآخر: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
قال: ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه، موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يُخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك، وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور، فليظنَّ بي عبدي ما شاء.
قال: وأما ظنُّ المغفرة مع الإصرار، فذلك مَحض الجهل والغرة، وهو يَجُرُّ إلى مذهب المرجئة، قوله: وأنا معه إذا ذكَرني؛ أي بعلمي، وهو كقوله: إنني معكما أسمع وأرى، والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
وقال بن أبي جمرة: معناه: فإنا معه حسب ما قصد من ذكره لي، قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط، أو بالقلب فقط أوبهما، أو بامتثال الأمر واجتناب النهي، قال: والذي يدل عليه الإخبار أن الذكر على نوعين:
أحدهما: مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر، والثاني: على خطر، قال: والأول يستفاد من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
والثاني: من الحديث الذي فيه: «مَن لَم تَنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يَزدد من الله إلا بعدًا» [3].
لكن إن كان في حال المعصية، يذكر الله بخوف ووجلٍ مما هو فيه، فإنه يُرجى له، قوله: فإن ذكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي؛ أي: إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًّا، ذكرته بالثواب والرحمة سرًّا[4].
واعلَم علَّمني الله وإياك أنه ينبغي للعبد طالب المغفرة والقرب منه - سبحانه وتعالى - أن يُحسن ظنه بخالقه لعدة أمور؛ منها:
أولًا: لأن فيه امتثالًا واستجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
ثانيًا: له ارتباطٌ وثيق بنواحٍ عقدية متعددة، ومن ذلك مثلًا:
أ- التوكل على الله تعالى والثقة به؛ قال ابن القيم رحمه الله: الدرجة الخامسة - أي من درجات التوكل - حسن الظن بالله عز وجل، فعلى قدر حُسن ظنك بربك ورجائك له، يكون توكلك عليه [5].
ب- الاستعانة بالله والاعتصام به، واللجوء إليه سبحانه؛ قال بعض الصالحين: استعمل في كل بلية تَطرُقك حسنَ الظن بالله عز وجل في كشفها؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج.
ج- الخوف منه سبحانه وتعالى، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: مَن حَسُنَ ظنُّه بالله عز وجل، ثم لا يخاف الله، فهو مخدوع[6].
ثالثًا: لأن العبد من خلاله يرجو رحمة الله ورجاءه، ويخاف غضبه وعقابه؛ يقول بن القيم رحمه الله: ويكون الراجي دائمًا راغبًا راهبًا مؤمِّلًا فضلَ ربِّه، وحُسن الظن به.
رابعًا: حثَّت عليه النصوص النبوية، ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتَن أحدُكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجل، أنا عند ظن عبدي بي، مَن أحب لقاء الله أحبَّ الله لقاءه» .
خامسًا: معرفة واقع الناس وحالهم مع حُسن الظن بالله؛ يقول ابن القيم رحمه الله: فأكثر الخلق بل كلُّهم - إلا من شاء الله - يظنُّون بالله غير الحق ظنَّ السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلَمني ربي ومنعني ما أستحق، ونفسُه تشهد عليه لذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسَر على التصريح به، ومن فتَّش نفسه وتغلغَل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمونَ النار في الزناد، فاقدَح زناد مَن شِئت، يُنبئك شَراره عما في زناده، ولو فتَّشت من فتَّشته، لرأيت عنده تعتبًا على القدر وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُستقل ومُستكثر، وفتِّش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة ** وإلا فإني لا إخالك ناجيَا[7]
سادسًا: لأن مَنْ أحسن الظن بربه عز وجل، فأيقَن صدق وعده وتمام أمره، وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين، اجتهِد في العمل لهذا الدين العظيم والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله بماله ونفسه.
سابعًا: أثره الإيجابي على نفس المؤمن في حياته وبعد مماته، فمن أحسَن الظن بربه، وتوكَّل عليه حقَّ توكله، جعل الله له في كل أمره يسرًا، ومن كل كرب فرجًا ومخرجًا، فاطمأنَّ قلبه وانشرَحت ونفسه، وغمرته السعادة والرضا بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه جلا وعلا.
ثامنًا: المبادرة إلى طلب عفو الله ورحمته ورجائه ومغفرته؛ ليطرق بعد ذلك العبد باب ربه منطرحًا بين يديه، راجيًا مغفرته، تائبًا من معصيته، إن الله تعالى يبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلُع الشمس مِن مَغربها[8].
تاسعًا: يعين على التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته، وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والأسماء الحسنى، والصفات العلى، مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءَها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها وهذا مطَّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح [9].
[1] أخرجه مسلم ح 2877.
[2] أخرجه البخاري ح 6970 ومسلم ح 2675.
[3] الطبراني 11/ 54 (11025)؛ قال الهيثمي 2/ 258: وفيه: ليث بن أبي سليم، وهو ثقة لكنه مدلس، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (2).
[4] فتح الباري، ابن حجر، [جزء 13 - صفحة 385].
[5] تهذيب مدارج السالكين ص 240.
[6] [حسن الظن بالله ص 40] .
[7] [زاد المعاد 3 / 235].
[8] رواه مسلم.
[9] [مفتاح دار السعادة ص 424].
- التصنيف: