وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
{{وَلَقَدْ كُنْتُمْ}} قبل خروجكم إلى الجهاد.. أكد هذه الجملة لإقامة الحجة عليهم، والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: بالقسم المقدر، وباللام الواقعة في جوابه، وبـ «قد» كنتم فيما مضى تمنون الموت من قبل أن تلقوه.
{{تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}} أي: الحرب؛ لأنها سبب الموت في سبيل الله.. عبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت.
والموت شهادة أغلى أمنية الشجاع صادق الإيمان، ولقد وُصِفَ فارس الإسلام علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بأنه كان إذا تقدم إلى الميدان لَا يدري أيقع على الموت أم يقع الموت عليه، فكان يقع -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على الموت يصيب به أعداء الله وأعداءه.
ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله تعالى.
** وفيه أنه لا ينبغي للإنسان أن يتمنى المكروه؛ لأنه إذا تمناه ووقع ربما ينكص ولا يصبر، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ). وهكذا الإنسان ينبغي له أن يسأل الله دوما العافية لكن إذا ابتلي فليصبر .
{{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}} أي من قبل أن تشاهدوا شدائده وأهواله، والضمير في {تَلْقَوْهُ} عائد على الموت، وقيل: على العدوّ، وأضمر لدلالة الكلام عليه. والأوّل أظهر، لأنه يعود على أقرب مذكور.
{{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}} فاء فصيحة عن قوله: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ}.. أي عاينتم أسبابه في الحرب المستعر من لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح، وصفوف الرجال للقتال.
والفاء الفصيحة هي التي يحذف فيها المعطوف عليه مع كونه سببا للمعطوف، وسميت فصيحة لأنها تفصح عن محذوف وتفيد بيان سببيته. فهذه الفاء يؤتى بها للإفصاح عن شيء مقدر لابد من تقديره ليستقيم المعنى.
ومن أمثلة الفاء الفصيحة قوله تعالى:
{{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}} [الفرقان:19]
{{فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ}} [الروم:56].
{{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}} [الفرقان:36]
{{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} } [البقرة:54]
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60]
{{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} } وفي إيثار الرؤيةِ على الملاقاة وتقييدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في مشاهدتهم له، وتأكيد لحال الرؤية أو تصوير لرؤيتهم؛ لأن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر، فيستحضرها العقل كما وقعت، وكما ظهرت في الوجود.
والمقصود: أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية. وهو توبيخٌ أو عتب أو لوم لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم جُبنِهم وانهزامِهم.
والخطاب للمؤمنين، وظاهره العموم والمراد الخصوص. وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر، إذ كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما خرج مبادراً يريد عير القريش، فلم يظنوا حرباً، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون لهم يوم كيوم بدر، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد.
فلما كان في يوم أحد ما كان، رمى عبدُ اللَّه بنُ قَميئةَ الحارثيُّ رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحجر فكسر رَباعيتَه وشج وجهَه الكريمَ، فذبّ عنه مصعبُ بنُ عميرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وكان صاحبَ الرايةِ حتى قتله ابنُ قميئة وهو يزعُم أنه قتل النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "قتلت محمداً" وصرخ بذلك صارخ قيل إنه إبليسُ، وفشا ذلك فانكفأ الناسُ فارّين، فدعاهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إليَّ عبادَ الله) قال كعبُ بنُ مالك: كنت أولُ من عرف رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المسلمين فناديت بأعلى صوتي: يا معشرَ المسلمين هذا رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحملوه حتى كشفوا عنه المشركين، وتفرّق الباقون وقال بعضُهم: "ليت ابنَ أُبيَ يأخذ لنا أماناً من أبي سفيانَ"، وقال ناس من المنافقين: "لو كان نبياً لما قُتل، ارجِعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم"، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت.
وتجويزُهم لقتله عليه الصلاة والسلام مع قوله تعالى: {{والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} } [المائدة:67] لما أن كلَّ آيةٍ ليس يسمعها كلُّ أحدٍ، ولا كلُّ من يسمعها يستحضِرُها في كل مقام لاسيما في مثل ذلك المقامِ الهائل.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: