عظّموا أقداركم بالتغافل
في زوايا العقلاء مسلكًا مغمورًا، لا يلوح في شعارات المتفوقين، ولا يُدرَّس في مقرّرات الذكاء الاجتماعي؛ مسلكٌ لا يعلو صوته في ضجيج التدقيق، لكنه يترك في النفوس أثرًا لا تصنعه ألف محاضرة عن “العلاقات الإيجابية”، وهو مسلك التغافل.
ليست كلّ مهارة تُدرَّس، ولا كلّ فضيلة تُصفَّق لها الجماهير، ثمّة أخلاق لا تصرخ في وجهك، بل تهمس في ضميرك؛ لا تُعلَّق على جدران الخطاب، بل تُمارَس في صمت النبلاء.
وفي هذا المناخ المزدحم بالتحليل والتدقيق في حياتنا اليومية، تفقد النفوس بوصلة البساطة، وتذبل روح الرحمة، وتتعثر العلاقات في أوحال الشكوك، وتشتد حدّة الملاحظة، وتكاثرت الأقلام الناقدة، حتى أضحى المرء يُحاسَب على الهمسة، ويُدان على الظنّة، ويُطالَب بالوضوح حتى في لحظات التردّد، ولقد غدت الدقّة فخًّا، والتتبّع مرضًا، والذكاء وقودًا للحرق لا للبناء.
غير أنّ في زوايا العقلاء مسلكًا مغمورًا، لا يلوح في شعارات المتفوقين، ولا يُدرَّس في مقرّرات الذكاء الاجتماعي؛ مسلكٌ لا يعلو صوته في ضجيج التدقيق، لكنه يترك في النفوس أثرًا لا تصنعه ألف محاضرة عن “العلاقات الإيجابية”، وهو مسلك التغافل؛ ذلك الفنّ الرفيع في أن ترى ولا تفضح، وتعلم ولا تُشهِّر، وتُدرك الزلّة ثم تمضي كأنك لم ترَ شيئًا.
هذا الخُلق النبيل لا يصدر إلا عن نفسٍ عظيمة، تعرف قدر نفسها، فلا تُسقطها في وحل الصغائر، ولا تُتعبها في تتبّع الهفوات، بل تترفّع، وتصفح، وتتجاوز.
وما أحكم قول الإمام جعفر الصادق حين قال: "عظّموا أقداركم بالتغافل" ولم يكن يعلّمنا التجاهل، بل كان يُدرّب أرواحنا على اللياقة القلبية، أن تمشي بين الناس بعينٍ تُبصر العثرة، وقلبٍ يُنكرها، ووجه يُمضي كأن شيئًا لم يكن.
- التصنيف: