سوانح تدبرية من سورة الفاتحة - |5| مالك يوم الدين
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
قال تعالى في سورة الفاتحة: {{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3)}}
أي: مالك الأمور ومدبّرها، وقاضيها يوم المجازاة للعباد على أعمالهم؛ بإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين، وهو يوم القيامة.
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو المتصرِّف في جميع خلْقِه بالقول والفِعل.
فوائد ووقفات وهدايات وتأملات:
1- لما وصف الله نفسه بالرحمة، خشية أن يغلبَ الرجاءُ على العبد، نبّه بملكه ليوم الدين، ليدفعه إلى الخوف والعمل، وليوقن أن الجزاء آتٍ على ما قدّم من خير أو شر.
2- لما وصف الله تعالى نفسه بأنه {{مالك يوم الدين}} ، أراد أن يُظهر للعالمين كمال عدله، فقال: {{وما ربك بظلام للعبيد}} [فصلت: 46]، ثم بيّن صورة هذا العدل فقال: {{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئًا}} [الأنبياء: 47].
فدلّ ذلك على أن حقيقة ملكه ليوم الدين تتجلّى في عدله الكامل، إذ لا يُظلم فيه أحد، ولا يُهضم فيه حق.
3- لما بين اللهُ سبحانه ملكَهُ التام في الدنيا بقوله {{رب العالمين}} أتبعَ ذلكَ ببيان ملكه التام والمطلق في الآخرة، فقال سبحانه {{مالكِ يوم الدين}} .
4- {{مالكِ يومِ الدين}} و {{ملِكِ يومِ الدين}} : قراءتان سبعيتان متواترتان.
5- "مالك": هو: المتصرِّفُ بالفِعل في الأشياء المملوكةِ له.
6- "مَلِك": هو الحيُ المتصرِّف بالقول أمرًا ونهيًا في مَن هو مَلِكٌ عليهم، يأمرُ وينهى ويُطاع.
7- قوله تعالى: {{مالك يوم الدين}} يتضمن تمجيدًا لله وثناءً عليه، حيث يُظهر عظمة الله وتفرده بالملك والحكم في الآخرة، مما يوجب على المسلم التقديس والتسليم لله.
8- مَن أكثر مِن حمد الله وشكره وعمل بما يرضيه، نجّاه الله برحمته يوم القيامة.
9- لأن الرحمة فضل من الله، بينما الجزاء عدل، وفضل الله سابق؛ لذا قدّم ذكر الرحمة على {يوم الدين}.
10- قال تعالى: {{مالك يوم الدين}} ولم يقل: "مالك الدين" ليبيّن أن للدين يومًا معينًا يُجزى فيه كل عامل بعمله.
11- قال تعالى: {{مالك يوم الدين}} ولم يقل: "يوم القيامة" لأن الدين هنا يشير إلى الجزاء والحساب، وهو أنسب للفظ {رب العالمين}.
كما أن القيامة تتضمن أحداثًا لا تتعلق بالجزاء وحده، فبذكر {{يوم الدين}} يُستحضَر يوم المحاسبة والطاعة والاعتقاد السليم، وهو اليوم الذي يُبرز فيه الدين ويُعظّم. إضافة إلى ذلك، يُظهر المعنى أن الجزاء يكون حسب نقاء دين المرء وعقيدته.
12- إذا قرأ العبد في كل ركعة {{مالك يوم الدين}} ، تذكر الآخرة، فتأهب لها، واستعد للقاء الله، فدفعته الآية للطاعة، وردعته عن المعصية.
13- وإن كان الله يملك الدنيا والآخرة، فقد خُصَّ يوم الدين لأنه لا يشاركه فيه أحد، إذ يزول كل مُلك، ويُعلن: {{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}} ، فيستوي الخلق جميعًا أمام ملكه، وإذا كان يملك هذا اليوم العظيم، فما سواه أولى وأحرى.
14- خصَّ الله يوم الدين بالملك، مع أنه يملك كل الأيام، ليُظهر عظمة ذلك اليوم، ويُبيِّن أنه يوم الجزاء والحساب، لا حكم فيه إلا لله وحده، ولأن الأملاك يومئذ زائلة، فلا ملك ولا أمر إلا لله سبحانه.
15- من المعاني المهمة التي تغرسها سورة الفاتحة في النفوس، كلما قرأها المصلي، هي عقيدة الإيمان باليوم الآخر، والجزاء، والحساب، والبعث.
16- إن قوله تعالى: {{مالك يوم الدين}} ليس مجرد خبر عن ملكه سبحانه للآخرة، بل هو نداء للمؤمن أن يعلو فوق شهوات الدنيا، وألا تستهويه رغباتها، أو تأسره أهواؤها، أو يغفل عن آخرته.
17- مَن أيقن أن هناك يومًا يُدان فيه الناس، وأن الله هو مالك ذلك اليوم، لم يركن إلى دنيا زائلة، بل سامى بنفسه إلى ما هو أبقى.
18- المتأمل في قوله تعالى: {{مالك يوم الدين}} ، يجد في نفسه دافعًا عظيمًا للعمل بإخلاصٍ لوجه الله، ويشعر بخشيةٍ تردعه عن كل بغيٍ وظلم، وتمنعه من مقارفة المعصية والإثم.
فإنّ من استحضر ملك الله المطلق ليوم الحساب، لا يرضى أن يلقى ربه وهو مُثقلٌ بالذنوب.
19- هذه الآية تُكسب المؤمنين الطمأنينة لموعود الله، وتمنحهم الصبر والثبات على دين الله، وحينها تطمئن قلوبهم إلى أن هناك حياة أخرى أبدية تستحق منهم أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لنصرة الحق في سبيل الله.
20- في قوله تعالى: {{مالك يوم الدين}} تذكيرٌ للعبد بيوم الجزاء، وتحفيز له ليستعد بالعمل لذلك اليوم الذي يُجازى فيه كل عامل بعمله.
فمن أيقن بيوم الدين، لزمه مجاهدة النفس والاستعداد له بالعمل الصالح.
21- قوله تعالى: {{يوم الدين}} يتضمن إثبات البعث بعد الموت، إذ لا جزاء إلا بعد إحياء الخلق للحساب.
22- الآية تضمنت إثبات الجزاء على أعمال العباد، خيرها وشرها، في يوم الدين.
23- تضمنت الآية تفرد الله بالحكم يوم الدين، حيث يُجازي العباد على أعمالهم، ولا حكم لأحد سواه.
24- تتضمن الآية تسليةً لكل مظلوم قد ضاع حقه، حيث يُقتص له من ظالمه يوم القيامة، ويُظهر أن الجزاء في الدنيا ليس هو الجزاء النهائي. فيقتص الله للعبد بالكلمة والنظرة والضربة، وغير ذلك. فمحكمة الدنيا قد تكون جائرة، أما محكمة الآخرة فهي عادلة.
25- أُثِرَ ذكرُ إلهية الله سبحانه وربوبيته ورحمته وملكه في بداية الفاتحة، لأن هذه الصفات الأربع تتضمن جميع صفات كماله عزَّ وجلَّ.
26- في قوله: {{مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}} جاء تخصيصُ اليومِ بالإضافة؛ إمَّا لتعظيمه وتهويله، أو لتفرُّده تعالى بنفوذِ الأمر فيه، وانقطاعِ العلائق بين المُلَّاك والأملاك حينئذٍ بالكليَّة.
27- قوله تعالى: {{مالك يوم الدين}} يدعونا إلى اغتنام الأوقات بالطاعات، فكل لحظة في الحياة فرصة للعمل الصالح، لأن يوم القيامة هو يوم الجزاء، ولن تنفعنا إلا الأعمال التي نُقدّمها في الدنيا.
28- يا أيها الملوك، لا تغتروا بما آتاكم الله من مالٍ وسلطان، فإنكم أسرى في قبضة قدرةِ {{مالكِ يومِ الدين}} .
29- يا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو { {مالك يوم الدين}} ؟!
30- من تمام أحكام كونه تعالى ملكًا، أنه ملكٌ لا يُشبه ملوك الدنيا؛ فإن ملوكهم إن تصدّقوا أو أنفقوا، نقصت خزائنهم، وقلّ ملكهم.
أما اللهُ عز وجل، فملكُه لا ينقص بالعطاء، ولا تضعف خزائنه بالإحسان، بل هو الغني الحميد، وكلما أعطى عباده ازداد ملكُه جلالًا، وحمدًا، وكمالًا.
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: