الوفاء المؤجّل
فإن أردت أن تعرف موقعك من الحق، فلا تنظر أين تقف بعد الفتح، بل أين كنت حين كان الصمودُ مكلفًا، والمبدأُ بلا جمهور، والطريقُ محفوفًا بالخسائر.
من لم يتذكرك في زحمة انشغاله، فلن يُنجدك في ساعة فراغه، فليس الوفاء أن يُصافحك الناس في فسحة الوقت، ولكن أن يُقيموا معك في ضيق المسار؛ إذ الذي لا يستصحبك في لحظة الانشغال، ولا يحمل همّك وهو يترنّح تحت همومه، لا تُعوّل عليه إذا اتسعت موائد الفراغ وتزخرفت المجالس.
ومن لا تراه إلا في أزمنة السَّعة والفراغ، ثم يتلاشى في مواسم الجدّ، لا يُعوّل عليه في البناء ولا النهوض؛ لأن مواقفه – مهما ازدانت بالحديث – محكومةٌ بمزاجه لا بمبدئه.
وهذه القاعدة في الأفراد، تسري على مواقف الناس من أمتهم كذلك؛ فالعاقل لا يُخدع بمن يرفع شعار الأمة حين تعلو، ثم يغيب عنها حين تئنّ، ولا تلوح له قضيتها إلا إذا صارت موضةً ثقافية أو ورقةً رابحة، فالذي لا يبعثه ألم الأمة على شيء من التذكّر والدعاء، ولا يستنفره جرحها لبذل الفكرة أو صوغ مشروع، فليس جديرًا أن يُعوَّل عليه إذا تنفّست الأرض رخاءً، وتزيّنت الأحوال بالطمأنينة.
وهذا من دقائق السنن الربانية؛ فإن الله – جلّ في علاه – امتدح من استجابوا بعد الجراح، فقال: “ {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح…} ”، لأنهم ثبتوا حين كانت دواعي القعود أقوى، وأسباب التخلف أكثر إغراءً، ونسب الفضل لمن أصرّ على الطريق في ظلّ التعب، وهذا هو الفيصل بين من امتلأت روحه بالهمّ الحق، وبين من كانت فكرته مشروطة بالتصفيق والظهور.
وليس من قبيل المصادفة أن يخبرنا الله في سورة النصر بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}؛ فهذا التتابع ليس محض تسلسل زمني، بل هو توصيف دقيق لناموس اجتماعيّ يتكرر في كل مشهد صراعيّ بين الحق والباطل: أن أكثر الناس لا يدخلون إلا بعد أن تنكشف الغُبرة، وتُحسم المعركة لصالح المنتصر.
أما ما قبل الفتح، فذاك موطن التمييز؛ هناك حيث تختلط الأصوات، وتضيع الشعارات، ولا يبقى إلا من ربط قلبه بالله، لا بالنتائج، ومن اختار المبادرة لا الترقّب، والثبات لا التلوّن.
فإن أردت أن تعرف موقعك من الحق، فلا تنظر أين تقف بعد الفتح، بل أين كنت حين كان الصمودُ مكلفًا، والمبدأُ بلا جمهور، والطريقُ محفوفًا بالخسائر.
وحين تتأمل في سِيَر المصلحين، فإن أعظمهم لم يكونوا أبناء ظرف مريح، بل ثمرات لحظة صعبة فُتحت فيها نوافذ الوعي، لا لمن جلس يراقب، بل لمن نزل إلى الميدان وقدم الفعل على الكلام.
أولئك الذين تُعوّل عليهم الأمة حين تدور الدوائر، وليسوا أولئك الذين يخرجون إذا زال الغبار، ليسألوا: “أين وصلتم؟
- التصنيف: