الفقه القرآني
في عمق هذا المورد القرآني، تتكشّف أمام الناظر إحدى اللطائف الباهرة في هندسة الخطاب الشرعي، إذ يُقرّر القرآن حكمًا فقهيًا دقيقًا في شؤون الأسرة
في عمق هذا المورد القرآني، تتكشّف أمام الناظر إحدى اللطائف الباهرة في هندسة الخطاب الشرعي، إذ يُقرّر القرآن حكمًا فقهيًا دقيقًا في شؤون الأسرة، ثم يشدّ بنيانه إلى أصلٍ عقديّ راسخ، ويغرسه في تربة الإيمان، ويعلّق عليه بميزان التزكية والترقي الروحيّ والطهارة الباطنية.
قال تعالى: {وَإِذا طَلَّقتُمُ النِّساءَ فَبَلَغنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعضُلوهُنَّ أَن يَنكِحنَ أَزواجَهُنَّ إِذا تَراضَوا بَينَهُم بِالمَعروفِ ذلِكَ يوعَظُ بِهِ مَن كانَ مِنكُم يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكُم أَزكى لَكُم وَأَطهَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ}.
في هذا السياق الفقهي، لا يتوقف القرآن عند ضوابط الطلاق والنكاح، بل يربطها بـ “من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر”، وكأن المعنى: إن هذا الحكم لا يستقيم في واقع الناس إلا إذا كان وراءه رصيدٌ من الإيمان وامتثالٌ لعظمة الله ومراقبةٌ ليوم المآل.
فالفقيه إذا نظر إلى ظاهر النص دون أن يحمل قلبه على تعظيم الله، قد يُصيب الفتوى ويخطئ المقام، أما من تشرّب قلبه الإيمان، فإن فقهه يصطبغ بالخوف من الله، والرجاء في وجهه، والتماس ما هو “أزكى” و”أطهر”، لا ما هو أيسر أو أكثر توافقًا مع المزاج العام.
وحين يُنهى الوليّ عن عضل المرأة، لم يكن الخطاب موجهًا للعقل القانوني المجرد، بل للنفس التي تُبتلى بالغيرة أو التسلّط أو مصالح الدنيا، فجاء التوجيه القرآني يحرّر هذه النفس من أغلالها، ويهديها إلى مراتب الطهر والسكينة.
فالقرآن لا يكتفي بتقرير الحقوق، بل ينقِّي مساراتها من الشوائب، ويربّي النفوس على العدل لا بوصفه إجراءً قانونيًا، بل عبادةً وتزكية، فالعاقل لا يُمسك زمام الولاية ليكسر بها قلبًا، بل ليحفظ بها عرضًا، ويقود بها إلى الخير، بميزان الوحي لا بهوى النفس.
- التصنيف: