الصومال الآن: (توصيات)

منذ 2012-03-02

يبدو المشهد مغرقاً في سرياليته لصراع لا يملك أطرافه قوة بإمكانها صد أي عدو خارجي، وتظل تحارب دون كلل ذاتها من دون أن يمكنها تفسير جدوى تلك السلسلة المتطاولة من الحروب والصراعات، فمعلوم أنه لا يوجد في الصومال الآن جيش أو قوة نظامية..



يبدو المشهد مغرقاً في سرياليته لصراع لا يملك أطرافه قوة بإمكانها صد أي عدو خارجي، وتظل تحارب دون كلل ذاتها من دون أن يمكنها تفسير جدوى تلك السلسلة المتطاولة من الحروب والصراعات، فمعلوم أنه لا يوجد في الصومال الآن جيش أو قوة نظامية، وكل ما لدى فصائله جميعاً حتى إذا ما توحدت بضعة آلاف، وتعجز أكثر قواه المعارضة راديكالية واندفاعاً عن إلحاق الأذى بقوات مدرعة قليلة العدد لا تجاوز 5 آلاف جندي إفريقي، وهذا بدوره يدفع للتساؤل، هل يدرك تنظيما الشباب والحزب الإسلامي أنهما يديران معركة عبثية، لا يمكن أن تفضي إلى بناء دولة؟ وأن صناعة الدول لا تكون بمغامرات كهذه؟ لاسيما أن القوات الحكومية المدعومة بالقوات الإفريقية بدت قادرة على كبح طموحات المعارضة في العاصمة إلى حد ما، وأن تنظيماً موالياً للحكومة (ويقال إنه موالٍ لإثيوبيا أيضاً)، هو أهل السنة والجماعة، التنظيم الصوفي القبلي الصاعد، قد نجح في دوسماريب مسقط رأس الشيخ أويس، في إلحاق هزيمة لم تكن الوحيدة لتنظيم الشباب وأرغمه على الانسحاب من المدينة الغنية باليورانيوم، وأن الخلاف قد دب بين الشباب بحيث نالوا من الحزب الإسلامي في معقل أحد زعمائه الشيخ حسن تركي، بما يؤشر للحلقة المفرغة التي يدور فيها المقاتلون بوعي أو بدونه؛ فهل تدرك المعارضة المسلحة بكل تنوعاتها أن التحالف مع قوة كبيرة نسبياً كإرتريا لن يمنحها في أي معادلة استراتيجية فرصة لتجاوز طموحاتها وأجندتها الرافضة لالتفات إثيوبيا إليها؟ هل تدرك أن أي طرف ضعيف يحالف قوياً يخضع بشكل أو بآخر لتنفيذ أجندته هو؟!

الأمر ذاته ينسحب على الطرف الحكومي، الذي عليه أن يدرك أن قوته الحقيقية تكمن في تحفيز مكنونات قوته الشعبية ويعمل على التفات الشعب له، والعمل على تقليص النفوذ الخارجي في بلده.

هناك تطرف وتكفير لقطاع من الشعب الصومالي العربي المسلم وإرهاب وسفك دماء بدون وجه حق يستهدف آمنين يحصل من قبل جهات داخل المعارضة المسلحة لنظام شريف، وهناك في المقابل عجز عن الاستقلال من جانب النظام عن الخارج الإفريقي والدولي، بما يقدح بجلاء في سيادة هذا البلد، وعليه لابد من معاودة المصالحة من جديد، لكن برؤية أخرى مختلفة هذه المرة.


والواقع أن كلا الطرفين يجد نفسه في وضع ضعيف غير قادر على مناورة حلفائه، فضلاً عن مقارعة أعدائه، وهذا هو الحال النموذجي الذي تضعه الاستراتيجيات العالمية للصومال؛ فمحال أن يتصور أن تقبل الدول بصومال قوي، وهذه هي المعادلة الصفرية المطلوبة للصومال، وكلا الطرفين بوعي أو بدونه يسهم في تحقيقها تحت ذرائع مختلفة، والحل المنطقي يكمن في اللعب على المتناقضات في الحالة الدولية، من دون الانزلاق إلى الانسياق.

لا تستطيع مصالحة أن تتجاوز اللاعبين الحقيقيين في الصومال، كما لا يمكنها أن تقفز على الحاجات الضرورية للشعب الصومالي، وليس بوسعها تجاهل المسلحين مهما كانت درجة الاختلاف معهم، ولا النظام الصومالي مهما كان ضعيفاً، وفي بؤرة الصراع ينبغي الإقرار بأن مشكلة الصومال لن تحل إلا عبر المفاوضات، والتوازنات، وقد جربت المحاكم دخول العاصمة فاتحة فاصطدمت بمعطيات الظرف، وهو عدم قدرتها على الاستمرار، ما لم تقبل عواصم إقليمية ودولية بصيغة توافقية، ومعيار ما سيتمكن الشعب الصومالي من الظفر به، هو بمقدار قدرته على توسيع دائرة حكمه، وجذب عوامل القوة لصالحه، والمناخ لا يمنح الحالمين فرصة إقامة دولة صومالية قوية تحت أي لافتة، ولو علا صراخهم، وامتلأت بنادقهم، أو رفعوا الرايات البيضاء للمجتمع الدولي خاضعين.


إن مكمن قوة هذا الشعب تبقى في ثوابته، وفي عدالة قضيته، وحسن طرحها، وتوسيع دائرة المؤمنين بقضيته، ولا يمكن لذلك أن يكون إلا بعزل المتهورين والخانعين كليهما؛ فالتكفير والتخوين الذي يوزع بالمجان في الساحة السياسية الصومالية سيفتتها ويعيد التجارب الفاشلة في كل أرجاء العالم، وعلى الحكماء أن يتصدروا المشهد، وهذا لا يكون إلا بعودة وفود الوساطة من العلماء مرة أخرى، لكن هذه المرة بلون مختلف؛ حيث ينبغي أن تدخل الدول العربية المؤثرة على خط المصالحة، لأن أمنها الإقليمي والقومي بات مهدداً بالفعل الآن أكثر من أي وقت مضى، واستراتيجيات التطويق لم تعد سراً، أو قضية بحثية ترفيهية، بل صارت موضوعة على جدول التنفيذ، وإحلال قوات إسلامية وعربية رغم الرفض المستمر لها لن يصب إلا في مصلحة الولايات المتحدة و"إسرائيل".

ولدى العلماء جملة من التحديات لابد من مواجهتها بشجاعة لا تنقصهم، وأن يتسع وقتهم لها، والحديث هنا عن العلماء ليس لأنهم أهل احترام وإجلال من المسلمين والعرب فحسب، بل لأن الصراع في الصومال بالفعل قد أخذ هذا المنحى، بمعنى أن جزءًا من المشكلة بات مناقشات دينية وتقريب وجهات نظر الفرقاء على هذه الأرضية، ولا جدوى في الحقيقة من استبعاد حل كهذا، ليس لأماني هذا الطرف أو ذاك، بل لأن الاحتراب يجري الآن على أسس أيديولوجية، على الأقل فيما يبدو من رأس الجليد، وبالتالي لم يعد ممكناً القفز على تلك الحقيقة، حتى لدى الأطراف التي تبذل جهداً مشكوراً لكنه دون القدرة على الفعالية والتأثير كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.


لقد مر الصومال بنحو 16 محاولة للمصالحة كلها باءت بالفشل في زمن وجيز لا يجاوز عشرين عاماً، وقد بدا واضحاً بلا مواربة أن القوى الدولية تساهم في إغراق الصومال، وتقتل أي محاولة لوقوفه مجدداً، وغدا الطريق مهيأ لمحاولة تقبل بها دول حوض البحر الأحمر، وتهيئ لها من المحفزات ما يسهم في تحريك رواكد المصالحة.

وغني عن البيان أن بعض الدول العربية قد قدم حوافز هائلة لإنجاح وساطات عربية أخرى، وبوسع دول عربية معنية أن تفعل الشيء ذاته في الصومال، وتشجع الاستثمار وتساعد الصومال في بناء قطاعات دولته شريطة تجاوب الفرقاء مع المساعي العربية والإسلامية.


وسيكون من الضروري، العمل على تحويل الطاقة القبلية إلى عنصر بناء في الدولة الصومالية، عبر جهود الوسطاء، التي لن تقوم هذه المرة على وعود بالمحاصصة بل بتحقيق العدالة التي تنشدها كل القبائل، ولدى زعماء العشائر والقبائل ما يحفزهم على التجاوب مع نداءات المصالحة، برغم ما خلفته مرحلتا بري والحرب الأهلية من خصومات، ولعل من الجدير فعله، إخراج الغالبية السلبية من الشعب الصومالي من صمتها، وتحفيزها على المشاركة في عزل المتاجرين بقضيته، ولن يكون ذلك ممكناً في الحقيقة من دون تدخل عربي وإسلامي فعال على نحو يمتلك فيه زمام مبادرة الحل، لأن القوى النافذة في الساحة الصومالية قد عجزت بالفعل عن حل أزمتها بنفسها، ولم يعد بد من التدخل العربي والإسلامي، وهذا كله يجب أن يكون للعلماء فيه سهم، لأن دورهم لن يكتمل إلا بالنظر إلى كل الفاعلين في الساحة الصومالية، ومنهم القبائل، ولن يكون نافذاً من دون إثارة القضايا الاقتصادية التي تعني الصوماليين، وتقديم النصح لهم ومناداة المستثمرين للتجاوب معهم، ولن تكون فعالة ما لم يصاحبها مناقشة معمقة للشبهات التي يثيرها حملة السلاح، وقد قام البعض بتوجيه نداءات محكمة في هذا الخصوص، لكنها لا تمثل إلا نواة لما ينبغي أن يكون من مناقشة ومحاججة قوية لأولئك الذين يقدمون أهوائهم وتوهماتهم على مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء.


إن الحالة السائلة المؤدية إلى الاستقطاب اللحظي، وتبدل القناعات والولاء، بقدر ما هي معبرة عن مرض، بقدر ما هي معبدة لطريق الاصطفاف الجديد على أرضية فكرة جديدة، يكون فيها النظر إلى حقائق التاريخ وإدراك نقاط القوة والضعف لدى الصوماليين من جهة، ولدى محيط دولتهم، والقوى الدولية من جهة أخرى، والعمل على تحييد تقوية الضعيف ذاتياً، وتحييد القوي خارجياً هو بداية خطوات الطريق.

__________________

• من خاتمة كتاب "الصومال..مفردات الأزمة وأبجديات الحل"/ ـ أمير سعيد ـ مركز الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية ـ طبعة 2010.
 
  • 1
  • 0
  • 2,076

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً