وقفات تربوية مع قوله تعالى :( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)

منذ 6 ساعات

سورة الكوثر هي السُّورة رقم 108 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ثلاث آيات. وهي أقصر سور القرآن من حيث عدد الكلمات وعدد الحروف

 

   سورة الكوثر هي السُّورة رقم 108 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ثلاث آيات. وهي أقصر سور القرآن من حيث عدد الكلمات وعدد الحروف ، ومن مقاصدها: بيان مِنَّة الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقطع سبيل المبغضين له.

وعلى الرغم من أن كلمات هذه السورة المباركة قليلة إلا إنها تضمَّنت من المعاني البديعة والفصاحة والبلاغة الشيء الكثير، وفي هذه السطور وقفات مع الآية الثانية منها، وهي قوله تعالى {{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}} ، وحتى لا أثقل الحواشي اكتفيت بذكر المرجع في نهاية النقل.

1) الإقبال على العبادة هو الكمال الحق:

اشتملت السورة على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أُعْطِيَ الخير الكثير في الدنيا والآخرة، وأَمْره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة، وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة، وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله، وغَضَب الله بَتْرٌ لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله، وإن انقطاع الولد الذَّكَر ليس بَتْرا لأن ذلك لا أثر له في كمال الإنسان. (التحرير والتنوير)

2) من ضروريات الدين، إخلاص الصلاة والنسك لله:

سبب الاقتصار على ذكر هذين النوعين من العبادة هو كونهما أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك، فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم، وتوجه القلب إلى المعبود، والخوف منه والرجاء فيه، وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغالون في تعظيم الصالحين، وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم، وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر... إن كون الصلاة والنسك -لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده- أمر ظاهر، يُعَد من ضروريات الدين. (تفسير المنار)

3) في الصلاة والنحر إغاظة للمشركين:

الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته. وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} [العلق: 9، 10] ، لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم.

أما النحر فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين اقترب وقت الحج- كان يود أن يطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ، ولعله كان يتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم ، فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله. (التحرير والتنوير)

4) ما يجتمع للعبد في الصلاة والنحر:

وقوله: {{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}} ، أَمَرَهُ الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين ، وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات ، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره -من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله- أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص.

 عَكْسُ حال أهل الكبر وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، وتركا لإعانة الفقراء وإعطائهم ، وسوء الظن منهم بربهم. ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى {{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}} والنُسُك هي الذبيحة ابتغاء وجه الله. (مجموع فتاوى بن تيمية )

5) إنعام قبلهما وإنعام بعدهما!!!

الصلاة والنُسُك هما أَجَلُّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك وهو الصلاة والنحر سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر والخير الكثير، فشُكْرُ الْمُنْعِمِ عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان بل الصلاة نهاية العبادات وغاية الغايات.

كأنه يقول: {إنا أعطيناك الكوثر}، وهو الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرا لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك، فَقُمْ لنا بهما، فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما وإنعام بعدهما...

وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أَمْرَ رَبِّهِ ، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة , وكان ينحر في الأعياد وغيرها. (مجموع فتاوى بن تيمية )

6) ترك الالتفات إلى الناس:

وفي قوله: { {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر}} إشارة إلى أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا ، وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر. وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ الذي صلاته ونسكه لغير الله. (مجموع فتاوى بن تيمية )

7) من أصول العبودية :

 قوله: (فَصَلِّ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وقوله: (وانحر) إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين. (تفسير الرازي)

 والسياق الذي جاءت فيه الآية يشير إلى أصل ثالث، أشار إليه ابن تيمية في قوله: وأعظم عون للعبد ثلاثة أمور: أحدها: الإخلاص لله والتوكل عليه بالدعاء وغيره. وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال. الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب. (مجموع فتاوى بن تيمية )

8) الأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة:

إن قيل: اللائق عند النعمة الشكر، فلم قال: (فَصَلِّ) ولم يقل: (فاشكر) ؟

 الجواب: أن الشكر عبارة عن التعظيم، وله ثلاثة أركان، أحدها: يتعلق بالقلب، وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره. والثاني: باللسان وهو أن يمدحه، والثالث: بالعمل، وهو أن يخدمه ويتواضع له، والصلاة مشتملة على هذه المعاني، وعلى ما هو أزيد منها، فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة، فكان الأمر بالصلاة أحسن. (تفسير الرازي)

9) لا تبالي بقولهم واشتغل بالطاعة بمقتضى الفاء !!

الفاء في قوله: (فَصَلِّ) تفيد سببية أمرين،

 أحدهما: سببية العبادة ، كأنه قيل: تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية

 والثاني: سببية ترك المبالاة، كأنهم لما قالوا له: إنك أبتر، فقيل له: كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم.

 لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ولقد صلى حتى تورمت قدماه، فقيل له: أو ليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» ، إشارة إلى أنه يجب علي الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله: (فَصَلِّ). (تفسير الرازي)

10) لو لم يكن فيها لام (لِرَبِّكَ) كانت ميتة مرمية!!!

اللام في قوله: (لِرَبِّكَ) فيها فوائد،  منها:

 الفائدة الأولى: هذه اللام للصلاة كالروح للبدن، فكما أن البدن من مفرق الرأس إلى القدم إنما يكون حسنا ممدوحا إذا كان فيه روح، أما إذا كان مَيِّتًا فيكون مَرْمِيًّا ، كذا الصلاة والركوع والسجود، وإن حَسُنَتْ في الصورة وطالت، لو لم يكن فيها لام (لِرَبِّكَ) كانت مَيْتَةً مرمية ، ... وقيل: إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له: لتكن صلاتك ونحرك لله.

الفائدة الثانية: كأنه تعالى يقول: ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءاة، فَصَلِّ أنت لا للرياء، لكن على سبيل الإخلاص. (تفسير الرازي)

11) ربك مستحق للعبادة وأنت جدير بها:

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: {(فَصَلِّ لِرَبِّكَ)} دون: (فَصَلِّ لنا)، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه. (التحرير والتنوير)

ومن فوائدها اللطيفة الالتفات في قوله: {{ فَصَلِّ لربك وانحر}} الدالة على أن ربك مستحق لذلك وأنت جدير بأن تعبده وتنحر له. (مجموع فتاوى ابن تيمية)

12) التشريف والتقريب:

التربية: تبليغ الشيء إلى كماله تدريجيا، لتضمنها: العطف والرحمة والافتقار في كل حال. وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أبلغ من قوله: (فَصَلِّ لله) لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله: (إنا أعطيناك الكوثر)، ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه. (تفسير الرازي)

وإضافة (رب) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يَرُبُّهُ ويرأف به. (التحرير والتنوير)

13) خص الإبل لنفاستها وعظيم نفعها للفقراء:

والنحر يختص بالإبل، والذبح للبقر والغنم، لكنه ذكر النحر، لأن الإبل أنفع من غيرها بالنسبة للفقراء والمساكين، ولهذا أهدى النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع مائة بعير، ونحر منها بيده ثلاثة وستين ، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحرها. ...، والأمر في الآية أمر له وللأمة، فعلينا أن نخلص الصلاة لله، وأن نخلص النحر لله كما أُمر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلّم. (الشيخ ابن عثيمين ) 

14) لِمَ كان المذكور هنا النحر وليس الزكاة؟

والجواب:

- أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان، فقيل له: اجعلهما لله.

- أن من الناس من قال:إنه عليه السلام ما كان يدخل في ملكه شيء من الدنيا، بل كان يملك بقدر الحاجة، فلا جرم لم تجب الزكاة عليه، أما النحر فقد كان واجبا عليه.

- أن أعز الأموال عند العرب هو الإبل، فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى، تنبيها على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها (تفسير الرازي)

15) البشارة بزوال الفقر والخوف:

وفي ترتيب الأمر بالصلاة والنحر -على أن أعطاه الكوثر- خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى: {( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين)} (97، 98) سورة الحجر.

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صد المشركين إياه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا، أي قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، (التحرير والتنوير)

والسورة مكية في أصح الأقوال، وكان الأمر بالنحر جاريا مجرى البشارة بحصول الدولة، وزوال الفقر والخوف، أي: أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل. (تفسير الرازي)

وأخيرا: أسال الله أن يوفقنا لفهم القران وتدبره والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحمد عبد المجيد مكي

حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية

  • 0
  • 0
  • 56

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً