وظيفة العالم!

منذ 9 ساعات

فالعالمُ في الأمة قائدها، وميزانُ هدايتها، وصوتُ ضميرها، وصمّامُ أمانها، فإذا انكفأ عن البيان، أو ساير في الدين، أو مال إلى الهوى، أو آثر الدعة والسكون خبا النور في قلب الأمة، وتشوشت بوصلة الناس.

العالم في الأمة وارثُ وظيفة النبوة، فالعلماء ورثةُ الأنبياء، وقد جَلَّت الآياتُ الكريماتُ وظائفَ رسلِ الله، وبيَّنت أن من أعظمها: البلاغ المبين. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، 
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

فمتى قصَّر العالم في البيان، أو توانى في البلاغ، فإنه لم يقم بوظيفته، ولم يؤدِّ الأمانة التي حمَّله الله تعالى إياها على الوجه المطالب به.

ومن الملحوظ في واقع كثير من علمائنا اليوم: اشتغالهم بجوانب من الدين إلى حدِّ الإغراق، وإهمالهم لجوانب أخرى إلى حدِّ الغياب، مع أن الجوانب المهملَة قد تكون في ميزان الشرع أعظمَ خطرًا وأولى بالبيان. وليس المقصود التهوين من اهتمامهم، ولكن التنبيه إلى أن الدين كلٌّ لا يتجزأ، وأن الاقتصار على بعضٍ دون بعض لا ينهض بواجب البلاغ المبين الشامل الذي ورثوه عن الأنبياء.

ومن الملحوظ أيضًا: اقتصار بعض العلماء على ما تأذن به حكوماتهم من أصول الدين وفروعه، وكتم ما لا يروق لها أو لا يخدم سياساتها، وهو أمر خطير يوهم العامة أن المسكوتَ عنه ليس من الدين، وأن ما تقترفه السلطات من زيغ غير منكر؛ إذ لو كان منكرًا — كما يظنون — لأنكره العلماء. فيستسهل الناس الحرام، ويألفون المخالفة، لأن صوتَ العالم صمتَ، أو غيّره الخوفُ إلى تبريرٍ وتأويل.

ومن الملحوظ كذلك: سيرُ بعض العلماء خلف جماعاتهم وتياراتهم، فما أرادته الجماعة قالوه، وما أعرضت عنه أهملوه، وإن كان في دين الله بمكان. فتحوَّل العالم بسبب تلك التبعية الخاضعة إلى تابعٍ يُساق بدل أن يكون قائدًا يُتَّبع، وإلى صدىً لقيادة جماعته وسياساتها بدل أن يكون صوتًا ناطقًا بالحق. والعالم إذا أصبح لسانًا لحزبٍ أو تيار، فقد خلع عنه على التحقيق رداء العلم، ولبس عباءة التوظيف الدعوي أو السياسي، وفَرْقٌ بعيد بين من يُستفتى لبيان حكم الله وتبليغه، وبين من يُستعمل لتبرير واقع الناس أو تمرير سياساتٍ أو تغليب جانبٍ على آخر.

ومن الملحوظ أيضًا: مسايرة بعض العلماء لأذواق الشارع وتقلبات الناس، تيسيرًا حيث لا وجه للتيسير، وتشديدًا حيث لا موجب للتشديد، فيغيب عنهم ميزان الدليل والحجة، ويتقدَّم في فتاواهم رضى الخلق على رضى الله، أو استحسان المتابعين على مقاصد الشرع. وهنا تضيع هيبة العلم، ويتحوَّل الفقيه إلى متحدث اجتماعي، يساير المزاج العام أكثر مما يُبيِّن مراد الله من عباده.

ومن الملحوظ — وهو من أخطر ما يكون — انصراف بعض العلماء عن وظيفة الإنكار والتصحيح، أو التأصيل والتقعيد اكتفاءً بالوعظ العام أو الحديث عن الفضائل، خشية الفتنة أو طلبًا لرضا الناس. وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، فخشيةُ الناس، ومجاملةُ السلطان أو الجمهور، ومسايرة أهواء الجماعات هي أولُ طريق التفريط في الأمانة، وأخطرُ أبواب انحراف الخطاب الديني عن غايته.

أيها الأحبة، إن العالم الرباني ليس موظفًا عند الناس، ولا أداةً في يد سلطان، ولا بوقًا لجماعة، بل هو شاهدٌ لله بما عَلِم، لا يزيده المدح بطرًا، ولا يُنقصه الذمُّ خورًا، يقول الحقَّ حيثما كان، وينصر الدليلَ وإن خالفه القريبُ والرفيق.
وهو بجرأته في قول الحق، وحكمته في عرضه، وورعه في قصده، يبثُّ العلم، ويشيع الخير، ويزكي النفوس، ويظهر الحق، ويكشف الزيغ، ويوقظ الأمة من غفلتها، ويعيد للدين بهاءه ومنزلته في النفوس.

فالعالمُ في الأمة قائدها، وميزانُ هدايتها، وصوتُ ضميرها، وصمّامُ أمانها، فإذا انكفأ عن البيان، أو ساير في الدين، أو مال إلى الهوى، أو آثر الدعة والسكون خبا النور في قلب الأمة، وتشوشت بوصلة الناس.

فيا علماء الأمة: إن وظيفتكم هي تأسيس التقوى، وتبيين الحق وتبليغه كما أنزله الله إلى الناس، لا الصمت ولا الانتقاء بحسب الأهواء، ولا البحث للناس عن حِيَلٍ ومخارج تُلبِّس الباطل ثوبَ الحق. فقوموا  يرحمكم الله بالأمانة التي حمَّلكم الله إياها على وجهها، وبلِّغوا كما بلَّغ نبيكم الكريم، واصدعوا كما صدع، واصبروا كما صبر، ورتبوا أوليات البلاغ كما رتب، فوالله ما قامت أمةٌ إلا بعالمٍ صادق، ولا خبت أمةٌ إلا حين صمت علماؤها عن بيان الحق وتعرية الباطل.

والله الهادي

  • 1
  • 0
  • 42

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً