صلاح الأمة طريق التمكين
لا تظنُّوا أنَّ استخلافَكم في الأرض يعني الأمنَ التامَّ لكم، أو المنعَ من القتل، فالمسلمون قبل أن يستخلفَهم اللهُ ويُمكِّنَ لهم، وبعد أن يُمكِّنَ لهم بالاستخلافِ في الأرضِ، يظلُّون في حالةِ نزالٍ، يُنصَرون أحيانًا، وأحيانًا يُبتَلون، بالقتلِ والأَسْرِ والجراح...
كان الصحابةُ في المدينة المنوَّرة مشفقينَ من غزو المشركين لهم، ومن كيد المنافقين، حتى شكا بعضُهم إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أمَا يأتي علينا يومٌ نأمنُ فيه؟ فقال -عليه السلام-: «لا تلبثون إلا يسيرًا، حتى يَجلِسَ الرجلُ منكم في المَلأ العظيم مُحتبيًا، ليس عليه حديدة» ؛ يعني أنَّ المسلمين سيكونون في ظلّ دولةٍ يأمنون فيها على أنفسهم من الكفَّار وأعوانهم، فأنزل الله قولَه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النُّورِ: 55].
أيُّها المؤمنون: هذه الآيةُ الكريمة فيها ثلاثةُ وعودٍ لكم من اللهِ أصدقِ الواعدين: الوعدُ الأوَّلُ استخلافُكم في الأرض، والوعدُ الثاني التمكينُ لدينِكم بين الناس، والوعدُ الثالثُ أن تأمنوا بعدَ الخوف.
أيُّها المسلمون: وهذه الآيةُ دلالةٌ على نُبُوَّةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أنجزَ لكم وعودَه الثلاثةَ، وسوف يُتِمُّها عليكم فيما تبقَّى من الدنيا. فأَبشِرُوا، وأمِّلوا باستخلافِكم في الأرض.
يا عبادَ الله: وهذا وعدٌ لجميعِ الأُمَّة بملكِ الأرضِ كلِّها تحتَ كلمةِ الإسلامِ، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ اللهَ زَوَى لي الأرضَ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وإنَّ أُمَّتِي سيبلغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها» .
يا مؤمنون: وتاريخُنا الإسلاميُّ يُؤكِّد هذا الاستخلافَ لأُمَّةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فقد استخلفَ اللهُ مَنْ سبَقَنا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فملَّكهم البلادَ، وجعَلَهم أهلَها؛ فهذه الشام، والعراق، وبلادُ المسلمين، هي ثمرةُ الوعدِ الربانيّ لنا -نحن أمّةَ النبيّ الأكرم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
يا مسلمون: والنبوّةُ -مع كونها نبوّةً- قد تحقَّق فيها وعدُ اللهِ بالاستخلاف، فكان -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا وحاكمًا وإمامًا.
أيُّها المسلمون: لا تظنُّوا أنَّ استخلافَكم في الأرض يعني الأمنَ التامَّ لكم، أو المنعَ من القتل، فالمسلمون قبل أن يستخلفَهم اللهُ ويُمكِّنَ لهم، وبعد أن يُمكِّنَ لهم بالاستخلافِ في الأرضِ، يظلُّون في حالةِ نزالٍ، يُنصَرون أحيانًا، وأحيانًا يُبتَلون، بالقتلِ والأَسْرِ والجراح؛ انتصروا في بدر، وأُصيبوا في أُحد، وكذلك في تاريخِنا الإسلاميّ شواهدُ كثيرةٌ لما نقول، ولكن العاقبةَ للمؤمنين.
يا مسلمون: ومِنْ صُوَرِ وعدِ الله بتبديلِ الخوفِ بالأمن أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابِه: «واللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون»، وقد تحققَ هذا الوعدُ، حتى سارَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ، وإلى أبعدَ منها، آمنًا في بلادِ المسلمينَ.
يا مؤمنون: وعدُ اللهِ لكم بالاستخلافِ والتمكينِ وتبديلِ الخوفِ أمنًا يستلزمُ أن تأخذوا بأولِ أسبابِه؛ وهو طاعةُ اللهِ والرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النُّورِ: 54]، فالهدايةُ إلى هذه الوعودِ الثلاثةِ لا تتحقَّقُ إلا بطاعتِكم للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
أيُّها المسلمون: استخلافُكم في الأرض يمتدُّ أحيانًا وينقبضُ أحايينَ أخرى، وهذه سُنَّةُ اللهِ فيه، ولكنَّ حُرمةَ أمتنا ستظلُّ منتشرةً بين الأمم، يسعون في مرضاتِكم ومسالَمَتِكم ما دمتُم متصفينَ بالصلاحِ والإصلاح، وهذا هو الاستخلافُ الكاملُ لكم في الأرض؛ فقد كنتُم في الأندلس، وامتدَّ حكمُكم بالإسلامِ فيها، ثم انقبَض، ولكنَّ حرمتَكم لا تزالُ، وسوف تبقى إلى أن يأتيَ اللهُ بأمره.
يا مؤمنون، يا عبادَ الله: والأندلسُ مَثَلٌ من أمثلةِ استخلافِكم في الأرض، تمدُّدًا حينًا وانقباضًا حينًا آخَرَ، وشواهدُ التاريخِ عديدةٌ، وانقباضُ استخلافِكم فيما مضى من العقود مثلٌ تعيشونه، وسوف تعيشون امتدادَ الاستخلافِ فيما يأتي من الزمان، فكلُّ ابتلاءٍ لكم يعقبه فرجٌ، وكلُّ خوفٍ يصيبكم يَتبَعُه أمنٌ وسِلمٌ، وكلُّ حصارٍ لدينِكم بكلِّ الوسائل ستكون عاقبتُه انتشارًا لهذا الدينِ الذي يأبَى اللهُ -سبحانه- إلا أن يُتمَّ نورَه.
يا مسلمون: ومن هذه الوعودِ الثلاثة أنَّ اللهَ يُزِيلُ الشركَ والنفاقَ من هذه الأُمَّة، وإن حدَث خوفٌ فيها أو أطلت رقابٌ منافقةٌ بين جموعِها، فهي عرضٌ لا يلبثُ إلا قليلًا، ثم ينتهي، وقد مرَّتْ أُمَّتُنا بحالاتِ خوفٍ وحالات أخرى من النفاق، ثم ذابت كما يذوبُ الملحُ في الماء، وحكَم الإسلامُ وعزَّ، وحكَم الإسلامُ وساد.
فيا عبادَ الله: أَحسِنُوا إيمانَكم بالله، وتَرجِموه إلى أعمالٍ صالحةٍ، فهذانِ شرطانِ شرطَهما اللهُ لكي يتمَّ لكم وعودَه الثلاثةَ، فأَتِمُّوا هذين الشرطين كي يتمَّ اللهُ لكم وعدَه بالاستخلاف، والتمكينِ لدينِكم، والأمنِ بعدَ الخوفِ الذي تحيونَه. فلا تُحِبُّوا غيرَ اللهِ، ولا تُراؤوا في عبادتِه، ولا تُنافِقوا، ولا تَخلِطُوا الصلاحَ بالفساد، واستقيموا، واستغرِقوا حياتَكم بالصالحات، حقِّقُوا كلَّ ذلك في حياتِكم حتى تفوزوا بوعودِ الله لكم، فتَسعَدُوا في الدنيا، وتَهنؤوا في الآخرة.
أيُّها المؤمنون: لقد بيَّن اللهُ للحُكَّام على لسانِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- تصرُّفاتِهم في شؤونِ رعيتِهم ومع غيرِ المسلمينَ، فهل اهتمَّ الحُكَّامُ بهذه الشؤون؟ وما هي مكانةُ رعيتِهم منهم؟ وكيف هي تصرُّفاتُهم مع غيرِ المسلمين؟ هل هي كما وضَّحَها الرسولُ وبيَّنَها لهم؟
عن أبي زرعةَ أنَّ الوليدَ بنَ عبدِ الملك قال له: أيحاسَبُ الخليفةُ؛ فإنك قد قرأتَ القرآنَ وفقهتَ؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، أنتَ أكرمُ على الله، أم داودُ؟ إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جمَع له النبوّةَ والخلافةَ، ثم توعَّدَه في كتابه فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص: 26].
فإذا كان الخليفةُ تحتَ توعُّد اللهِ إن لم يحكمْ بما أنزلَ الله، فكيف بمن هو دونَه ممَّن يملكون رقابَ الناسِ بالحكمِ فيهم؟!
يا مسلمون، يا مؤمنون: اعلموا أنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُعجِّلُ لكم بالشرِّ، وإنزالِ العقوبةِ، بل هو -سبحانه- لطيفٌ بكم، قال اللهُ -سبحانه-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ في هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الْأَنْبِيَاءِ: 105-107]، فأنتم الصالحون، وأنتم العابدون، الذين كتبَ اللهُ لكم وراثةَ الناسِ بالإسلام، لتكونوا من رحمةِ اللهِ لهم وبهم، ذلك كلُّه مسطورٌ في الزبورِ وفي القرآن.
أمَّا بعدُ: فأوَّلُ الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ -رضي اللهُ عنه-، اتَّخَذَ الخلافةَ أمانةً، ينصرُ فيها الضعفاء، ويأخذُ على أيدي مَنْ أراد العبثَ بالدين.
وأمَّا الفاروقُ عمرُ -رضي اللهُ عنه-، فلم يقبل أن تتعثَّرَ بغلةٌ في بلادِ المسلمين وهو حيٌّ يُرزَق حتى يُسوِّيَ لها الطريقَ.
وأمَّا عثمانُ بنُ عفَّان -رضي اللهُ عنه-، فلم يهدأ له بالٌ حتى نَشَرَ المصحفَ، وجمعَ المسلمين عليه.
وأمَّا عليٌّ -رضي اللهُ عنه-، فكان فارسًا للحقّ، ممتطيًا صهوةَ العدل.
ولا تسألوا عن الخليفةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز؛ فقد أمرَ بجمعِ السُّنّةِ في ديوانٍ واحدٍ، ووعدَ كلَّ فردٍ من أفرادِ المسلمين بعملٍ يُناسِبُه، وبيتٍ يَسكُنُه، وزوجةٍ يأنسُ إليها، ودابّةٍ تحمله إلى حيثُ يشاء.
أيها المؤمنون: هذا هو الاستخلاف في الأرض، وهذه هي ثماره: قرآنٌ وسُنَّةٌ نبويةٌ تَحكُم الناسَ بالعدل والأمد، والسِّلْم والخير؛ لا يُظلَم في ظلها مسلمٌ ولا كافرٌ، ولا يُظلَم فيها بشرٌ ولا حيوانٌ، ولا يُرفَع فيها رأسُ نفاقٍ أو خذلانٍ أو ردةٍ، ولا تُستباح فيها إنسانيةُ بشرٍ؛ فلا نهبَ ولا سلبَ ولا اغتصابَ؛ فالأعراض محفوظة، والدماء مصونة، والأموال محروزة؛ لأنَّ استخلافَكم في الأرض يعني أنكم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس؛ همُّكم واحد، وطموحكم واحد. فاللهمّ اجعل بلاد المسلمين آمنةً بأمانك، عزيزةً بعزكَ، مصونةً بشرعكَ ودينكَ، محكومةً بكتابكَ وسنةِ رسولكَ، اللهمَّ وَحِّدْ صفَّها، واجمع كلمتها في ظلِّ رجلٍ صالحٍ يأخذ بيدها إلى ما تحبه وترضاه.
أيها المسلمون: أَقبِلُوا على الكتابِ والسُّنَّةِ، تمسَّكوا بهما، وحرِّرُوا أنفسَكم من عبادة الشيطانِ والأهواءِ والشبهاتِ؛ فهذه كلُّها لا تَصلُح أن تأخذوها معكم وأنتُم تسيرون إلى منصَّة الحكم بهذا الدين، تأمنون هناك على أنفسكم ولا تخافون، وتُعَبِّدُونَ الناسَ لربِّهم فلا يهلكون.
يا عبادَ اللهِ: وإنْ كان حكمُ عيسى ابن مريم لكم بالإسلام أربعينَ عامًا حقًّا لا مريةَ فيه، وإن كان المهديُّ بشارةَ رسولكم ليحكم بالإسلام قبل عيسى سنواتٍ معدوداتٍ، فإنما ينزل بكم من فتنٍ ومِحَنٍ هو إرهاصٌ بين يَدَيْ فجرٍ مشرقٍ بهذا الدين ليس لكم وحدَكم، بل للناس جميعًا، وما ينزلُ بكم هو محبّةٌ من الله لكم ليرفعكم الدرجاتِ العليا عنده. وما ينزل بكم من الضُّرِّ ليس انتقامًا من الله منكم، أو تعذيبًا لكم بذنوبكم، فهذا قولُ علماء السوء والجهلة والمنافقين؛ فرسولكم -صلى الله عليه وسلم- وهو خير الخلق عند الله، وأصحابُه وهم خِيرةُ الناس في زمانِه وبعدَه، امتحنَهم اللهُ امتحانًا شديدًا فعُذِّبوا واضطُهِدوا؛ فهل كان كلُّ ذلك محبّةً من الله لهم، أم انتقامًا وتعذيبًا؟ حاشاه -سبحانه-.
يا مسلمون: حين تريدون أن تأكلوا طعامًا لذيذًا تضعونه على النار حتى ينضج؛ فإذا مسته النار لفترة زمنيَّة نضج وطاب أَكْلُه، وهذا مَثَلٌ بسيطٌ لِمَا يصيبكم، ولما ينزل بكم من صنوف الأذى؛ فإن نار البلايا والمِحَن والفتن لا تكون إلا لأهلِ اللهِ وخاصَّتِه من المؤمنينَ الصادقينَ الصابرينَ، وقد اقترب نضوجُ فَرَجِكُم لتعودوا خلفاءَ اللهِ في الناس، حاكمينَ بدينِ العدلِ بالإسلام، الذي تَسعَدُ البشريّةُ كلّها في ظلاله، فأَصلِحُوا قلوبَكم وضعوها قريبةً من أقصاكم صلاةً وعبادةً وذِكرًا وتسبيحًا؛ فالأقصى أقصاكم، والمسرى مسراكم، والله وليُّكم ومولاكم.
اللهمّ نجِّ المستضعفينَ في بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ فرِّقْ جموعَ المنافقينَ، اللهمَّ لا تُسلِّطْ على المسلمين كافرًا ولا منافقًا ولا مخذِّلًا، اللهمّ وأتمم على أقصانا بركَتَه، اللهمّ أتمم على قدسِنا زينتَه، اللهمَّ أتمم علينا غدونا وروحنا إلى بيتك المقدَّس.
____________________________
الكاتب: الشيخ محمد سليم محمد علي
- التصنيف: