الغبن تلك الخسارة الفادحة
نُضيّع الساعات الذهبية في قيلٍ وقال، أو في تصفح شاشات لا تورث إلا الحسرة، وننسى أن كل تكبيرة، كل تهليلة، كل ركعة، كل دمعة خشية... هي "سهمٌ رابح" في بورصة الآخرة.
هاتف محمول من أحدث طراز، على ظهره تلك العلامة الشهيرة للتفاحة المقضومة، يعرضه صاحبه للبيع على أحد المواقع بأقل من معشار ثمنه!
سيارة رياضية فارهة، لا يملك أغلب الناس ثمن إطارٍ واحد من إطاراتها، تُعرض بجوار الهاتف على نفس الموقع وبثمن ينافس سيارة 128 متهالكة!
شقة فاخرة في أرقى (الكومباوندات) المسوّرة، تُباع على نفس الموقع بتقسيط مريح القسط الواحد لا يكفي لاستئجار غرفة فوق سطح مبنى قديم!
للوهلة الأولى، ستقول إن هذه الأمثلة محض خيال، أو فخ منصوب لإيقاع السذج، أو أن البائعين قد أصابهم مسٌ من جنون أفقد عقولهم صوابها.
لا أحد عاقل يرضى بمثل هذه الخسارة الفاحشة بلا مبرر.. أليس كذلك؟
هذا المشهد العبثي هو ببساطة التعريف الدقيق لمصطلح: "الغبن".
هو المعنى الذي اختاره الله تعالى ليُسمّي به يوم القيامة في سورة كاملة: "يَوْمُ التَّغَابُنِ".
والغبن في لغة التجار هو الخديعة في الصفقات..
أن تبيع الغالي بأبخس الأثمان، أو تشتري الرخيص بأغلى الأسعار، فتكون الخسارة فاحشةً لا تُحتمل.
ولاحظ لفظ "خسارة فاحشة"..
المفسرون اشترطوا ذلك لتسمى الخسارة غبنا..
شيء أشبه بتلك الأمثال التي ضربتها لك ابتداء... خسارة لا تكاد تصدق
في ذلك اليوم المهيب، ستُعرض "الصفقات" الكبرى التي كانت الخسائر فيها أفحش مما ذكرت..
ستسقط الأقنعة عن "قيمة" الأشياء الحقيقية.
هناك سيعرف كل إنسانٍ موقعه..
هل كان "تاجرًا بارعا واعيا" أم كان من المغبونين؟
ويومها، يغبن أهل الجنة أهل النار؛ حين يرث المؤمنون منازل الكافرين في الجنة التي كانوا سيدخلونها لو آمنوا، بينما ينحدر الآخرون إلى منازلهم في النار.
ويا لها من صفقة خاسرة!
ويالها من خسارة فاحشة!
أن يبيع المرء جنةً عرضها السماوات والأرض، مقابل شهوةٍ عابرة لا تدوم لذتها ساعة، أو متعةٍ فانية، أو كسلٍ عن طاعة!
إن الخسارة في ذلك اليوم ليست كخسارة أسهمٍ في بورصة، أو تعثر في صفقة تجارية يمكن تعويضها في الدورة القادمة.
خسائر الدنيا مجرد "خدوش" تندمل مع الوقت.
أما خسارة الآخرة، فهي الكسر الذي لا يُجبر، والحسرة التي لا نهاية لها، والندم الذي يفتت الأكباد ولا ينفع صاحبه.
وقد قيل في الأثر: إن أهل الجنة أنفسهم، وهم يتقلبون في النعيم المقيم، لا يتحسرون على شيءٍ فاتهم من الدنيا إلا على "ساعةٍ" مرت عليهم لم يذكروا الله فيها! فكيف بمن فرّط في العمر كله؟
وكيف بمن كانت حياته سلسلة من الصفقات الخاسرة؟
تخيل لو أنك دخلت "سوقاً" مفتوحة تُعرض فيها بضائع نفيسة، وجواهر، وكنوز لا تُقدر بثمن..
وبجانبها أكوامٌ من "خردة" الدنيا المعتادة: ترابٌ، ورماد، وزينةٌ زائفة من بلاستيك وطلاء.
والعملة الوحيدة المقبولة في هذا السوق هي "وقتك".
ثم ترى الناس – ويا للعجب – يتزاحمون بالمناكب على أكوام التراب، ويدفعون فيها الغالي والنفيس من ساعات أعمارهم، ويتركون الجواهر الحقيقية ملقاةً على قارعة الطريق، لا يلتفت إليها إلا القليل!
يبيعون "الذكر" بـ "الثرثرة"، ويستبدلون "القرآن" بـ "اللغو"، ويشترون "رضا الناس" بـ "سخط الرب".
أي حسرةٍ ستعتصر قلب من يكتشف، بعد فوات الأوان وانفضاض السوق، أنه ملأ جعبته بالتراب وترك الذهب؟!
حين يكتشف أنه للأسف قد غُبن.
هذا المشهد ليس بعيداً عن واقعنا، بل هو واقعنا اليومي.
الحياة الدنيا هي تلك السوق التي نُصبت خيامها لفترة محدودة.
والأكثرون، للأسف، يمرّون بهذه السوق مرور الكرام، كمن يتجول في "مول" فاخر كمتفرج أعمى لا يرى بريق الجواهر المعروضة أمامه!
يا له من "غبن"؛ أن تُتاح لك فرصة العمر لتُصبح من أثرياء الخلود، فتُضيعها بلا منطق.
أن تُعرض عليّ تجارةٌ لن تبور، فأفضل عليها صفقاتٍ خاسرة لا تقارن أبداً بأرباح ركعة في جوف الليل، أو تسبيحة في زحام الطريق، أو صدقة تطفئ غضب الرب.
كم منا يتعامل مع دقائق عمره الثمينة كأنها "فكة" لا قيمة لها؟
ننشغل بـ"فتات" الدنيا، بلهوها وصخبها، ونُفرّط في "رأس المال" الحقيقي.
نُضيّع الساعات الذهبية في قيلٍ وقال، أو في تصفح شاشات لا تورث إلا الحسرة، وننسى أن كل تكبيرة، كل تهليلة، كل ركعة، كل دمعة خشية... هي "سهمٌ رابح" في بورصة الآخرة.
إنه الغبن بعينه يا صديقي..
تلك الخسارة الفادحة التي لا تليق بمؤمنٍ يرجو لقاء ربه.
كل يوم تشرق فيه الشمس هو فرصتك لتعويض ما فات، ولتنمية رأس مالك الأغلى.. أنفاسك.
ألم يقل النبي ﷺ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَغُ»؟
لاحظ استخدام لفظ "مغبون"..
فإذا انتبهت للقيمة، كانت فرصتك لتجديد الدماء في عروق إيمانك، ولشحن همتك التي أصابها "الفتور" من طول الركض في دوامة الحياة.
كل عمل صالح، حتى لو كان مجرد تبسم في وجه أخيك، أو إماطة أذى عن الطريق هو رصيد يُضاف، وربح يتضاعف عند ربٍّ شكورٍ حليم.
إن سوق العمر لم تزل مفتوحة أبوابها، لكن لا أحد يضمن متى يُنادى بـ "إغلاق السوق".
فإياك أن تُغبن.
وإياك أن يخدعك الشيطان بـ "سوف"، أو تُلهيك الدنيا ببريقها الزائف عن تلك الفرصة التي قد تكون الأخيرة.
لا تكن من الذين يُقايضون "باقياً" بـ"فانٍ".
استيقظ من غفلتك..
انفض عن روحك غبار الكسل، وادخل هذه السوق بهمّة "التاجر البارع" الذي يميز الجواهر من الخزف.
عش في هذه الدار وعينك ترنو إلى الدار المقبلة.
لا تُفرّط في "سلعة الله الغالية" – الجنة – فإنما هي أنفاسٌ معدودة، ورحلة عابرة لا تلبث إلا أن تطوي خيامها فإياك أن تخرج منها خالي الوفاض، محمّلاً بـعبء الحسرة.
اخرج منها فائزاً، رابحاً، سعيداً بتجارتك.
ففي "يوم التغابن" الحقيقي، لن ينفعك إلا ما قدّمت..
ولن يسرك إلا ما ادخرت.
يوم يظهر فيه الفوز العظيم للمتقين، والخسارة المبينة لأولئك... "المغبونين".
- التصنيف: