رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (46)- بصفتين لابد منهما

والمستشرقون المتبتلون، بلا شك عندهم، هم أهل خبرة بكل ما في دار الإسلام قديمًا، وما هو كائن فيها حديثًا، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفي أحوال المسلمين من عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم، إلى علم وثيق شأن دولهم وأقاليمهم وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من الأرض. فكل دارس منهم مأمون عند كل أوربي، مأمون على ما يقوله، مصدق فيما يقوله، في أمور لا سبيل لأحد منهم إلى معرفتها، لأنها تتعلق بأقوام لسانهم غير لسانهم، ولا يقوم بها إلا دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب، متصف بصفتين لابد منهما حتى يكون مصدقًا: الصفة الأولى: أن في قلبه كل الحمية التى أثارها الصراع ين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام الممتنعة على الاختراق على مدى عشرة قرون على الأقل، الصفة الثانية: أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوربين وعامتهم، وملوكهم وسوقتهم، من الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (45)- التفوق الحاسم

ينبغي أن يكون بينًا لك أن أوربة عند استواء يقظتها، أدركت إدراكًا واضحًا أن الذي بلغته قد تضمن لها التفوق الحاسم، وأنها مقبلة على زحف شامل يخترق قلب دار الإسلام، لا بقعقعة السلاح، بل بوسائل أخر أمضى من وقع السلاح، أدرك ذلك ساستها ورهبانها وعامة جماهيرها المثقفة. وهذا الزحف الصامت المصمم الخفي الوطء، سوف يضم ألوفًا مؤلفة من أشتات الناس، والنية أن تتكون من هؤلاء الأشتات جاليات كبيرة تقيم في دار الإسلام، تعاشر المسلمين فتطول عشرتهم أو تقصر، ولكل امريء منهم اتجاه أو هوى أو أسلوب أو فهم. فأمر مخوف أن يخالطوا عالمًا له دين وحضارة باقية الآثار، كان له الغلبة والتفوق والسيادة من قبل قرونًا طوالًا، كما جربوا وعلموا، أمر مخوف أن يخالطوه دون أن يكون لهذا العالم عند أكثرهم صورة مستقرة في أنفسهم تحميهم، فصار حتمًا أن يكون في متناول هؤلاء صورة للإسلام وحضارته مكتوبة بدقة ومهارة ومقنعة، يصورها لهم خبير ثقة مأمون عندهم. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (44)- دوائر المعارف الإسلامية

وما هو إلا قليل حتى كان تحت يد الاستشراق آلاف مؤلفة من مخطوطات من كتب دار الإسلام نفيسة منتقاة، مشتراه أو مسروقة، موزعة مفرقة في جميع أرجاء أوربة وأديرتها ومكتباتها وجامعاتها. ولما كانت هذه المخطوطات التي يعكف نفر منهم على دراستها متفرقة في البلاد، حبيسة تحت يد عدد قليل جدًا، قد يكون رجلًا واحدًا في قرية أو دير، عمدوا إلى نشر بعضها مطبوعة. ولكي تكون الفائدة أكثر تمامًا والجهد أكثر جدوى، أنشأوا أيضًا مجلات بكل لسان من ألسنتهم، ينشر فيها كل مستشرق نتائج بحثه ودراسته، لتكون عونًا لكل دارس مستشرق وغير مستشرق، وهي مجلات الدراسات الإسلامية أو الشرقية. بل سمت همتهم فبدأوا في صناعة جماهر الإسلام التي يسمونها (دوائر المعارف الإسلامية)، وكذلك أصبح الاستشراق في أوربة كلها هيئة واحدة، لها هدف واحد، ونظام واحد، وفهم واحد، وأسلوب واحد، ونظر مشترك واحد، إلى حضارة دار الإسلام قديمها وحديثها. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (43)- حضارة جديدة!

وصارت أوربة عالمًا مخيفًا مرهوب الجانب، وتزداد كل يوم ثقافة وعلمًا، وفهمًا ويقظة، وتجربة وخبرة في كل خير وشر، وتزداد أيضًا نفاقًا وخبثًا ومكرًا وغدرًا بالآمنين حيث كانوا في أرجاء عالم كانت تحجبه عنهم دار الإسلام قرونًا طويلًا. أما دار الإسلام فعلى الأيام وهنت قوة طليعته المسلمة الناشبة في قلب أوربة، وصارت دارًا محصورة في الجنوب، بعد أن كانت حاصرة للمسيحية في الشمال. وكذلك بدأت حضارة عتيقة تتضعضع قواها وترث حبالها، وقامت في الأرض حضارة جديدة، غذيت بالدم المسفوح، ومزجت ثقافتها بالمكر والغدر والدهاء والخبث، توزها نار أحقاد مكتمة، ثم صارت لهيبًا يؤج أجًا! حضارة سوف تطبق وجه الأرض، وهي بذلك كله حضارة إنسانية عالمية، أليس كذلك؟ ويزيدها إنسانية وعالمية أنها جاءت مبشرة بدين جديد، عقيدته مبنية على البغضاء والحقد والجشع والغدر وسفك الدماء!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (41)- أهداف ووسائل

وكان ما كان.. فمع اليقظة ازدادت الأهداف وضوحًا وجلاءً، وازدادت الوسائل دقة وتحديدًا وشمولًا؛ الأهداف معروف لك الآن، أكبرها شأنًا هي اختراق دار الإسلام، ثم تمزيقها من قلبها، ثم الظفر بالكنوز الغالية التي كانت، ولم تزل، تراود كل قلب ينبض في أوربة بأحلام شرهة مسعورة إلى الغنى والثروة والمتاع، غرست بذورها في أعماق النفوس أحاديث العائدين من حملات الحروب الصليبية القديمة. أما الوسائل، فقد وضعت قواعد راسخة تجنبهم أخطاء المراحل الثلال السابقة التي منيت بالإخفاق. كان على هذه القواعد: تنحية السلاح جانبًا، بعد أن ثبت لهم إخفاقة في اختراق دار الإسلام، لأنه يستثير ما لا يعلمون مغبته من سوء العواقب. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (42)- تنحية السلاح قاعدة!

فمن يومئذ صارت القاعدة الراسخة في سياسة أوربة هي اجتناب استثارة هذا العالم الضخم المبهم الذي كان الترك هم طلائعه المظفرة الناشبة أظافيرها في صميم المسيحية الشمالية في قلب أوربة، ثم العمل الدائب البصير الصامت الذي يتيح لهم يومًا ما تقليم هذه الأظافر وخلعها من جذورها، حتى يأتي عليه يوم لا يملك فيه إلا أن يستكين ويستسلم، وليكن كل ذلك وراء الغفلة، وبالدهاء والرفق تارة، وبالتنمر والتكشير عن الأنياب تارة أخرى.. وكذلك كان ما كان، وما هو كائن إلى هذه الساعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (40)- بطل عمل الميزان!

ولا أقول شال الميزان، بل أقول بطل عمل الميزان، وصار في الأرض عالمان، عالم في دار الإسلام مفتحة عيونهم نيام، يتاخم من أوربة عالمًا أيقاظًا عيونهم لا تنام، وقضى الأمر الذي فيه تستفتيان! وبدأت المرحلة الرابعة في الصراع بين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام التي تحجب عنهم من ورائها عالمًا مبهمًا مترامي الأطراف. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (39)- لا تفرق قط بين أحد منهم!

همي هنا مصروف إلى (الإستشراق) لعلاقته الحميمة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية، ولأن حاجة (التبشير) و(الاستعمار) إليه، حاجة كانت ملحة، وهي إلى اليوم حاجة دائمة، لا يستغنيان عنه ولا عن نصائحه وإرشاداته وملاحظاته طرفة عين. ومرة أخرى، لا تنس ما حييت أن هذه الثلاثة إخوة أعيان لأب واحد وأم واحدة، لا تفرق قط بين أحد منهم! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (37)- المستشرقين

ومن يومئذ نشأت هذه الطبقة من الأوربيين الذي عرفوا فيما بعد باسم (المستشرقين) وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوربية، لأنهم جند المسيحية الشمالية، الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المخفية وراء أكداس من الكتب، مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوربة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لا هم لهم ليلًا ولا نهارًا إلا حيازة كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل، تتوهج أفئدتهم نارًا أعتى من كل ما في قلوب رهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم، وعلى وجوههم سيمياء البراءة واللين والتواضه وسامة طوية البشر.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (38)- الاستعمار والتبشير

وبفضل هؤلاء المتبتلين المنقطعين عن زخرف الحياة الجديدة، وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي جمعوها من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذلوها لملوك المسيحية الشمالية، نشأت طبقة الساسة الذين يعدون ما استطاعوا من عدة لرد غائلة الإسلام ثم قهره في عقر دياره، ولتحقيق الأحلام والأشواق التي كانت تخامر قلب كل أوربي، أن يظفر بكنوز الدنيا المدفونة في دار الإسلام وما وراء دار الإسلام، وهم الذي عرفوا فيما بعد باسم رجال (الاستعمار)، وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي زودوا بها رهبان الكنيسة، ثارت حمية الرهبان، ونشات الطائفة التي نذرت نفسها للجهاد في سبيل المسيحية، وللدخول في قلب العالم الإسلامي لكي تحول من تستطيع تحويله عن دينه إلى المللة المسيحية، وأن ينتهي الأمر إلى قهر الإسلام في عقر داره، هكذا ظنوا يومئذ وهذه الطائفة هي التي عرفت فيما بعد باسم رجال (التبشير). 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (36)- السياحة في أرض الإسلام

فكان من الأهداف والوسائل بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما، تخرج لتسيح في أرض الإسلام، وتجمع الكتب شراءً أو سرقة، وتلاقي العلماء، وتخالط العامة من المثقفين والدهماء، وتدون في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونًأ طوالًا. يخرجون أفواجًا تتكاثر على الأيام، ويجوبون أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتمام عملين عظيمين: إمداد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سطوا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها، باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم، وفي تفسير رموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها، وأيضًا إطلاع رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام، وما رأوه عيانًا فيها، وما لاحظوه استبصارًا.

 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (35)- العلم الحي

فالذي يعنيني هنا ما كان عند بدء اليقظة في أوربة. فبالهمة والإخلاص والعقل أيضًا، كان لا بد لهم من أن يزداد عدد الذين يعرفون اللسان العربي ويجدونه زيادة وافرة، لحاجتهم يومئذ أن يعتمدوا اعتمادًا مباشرًا على الاتصال بالعلم الحي عند علماء الإسلام، لكي يتمكنوا من حل الرموز اللغوية الكثيرة المسطرة في الكتب العربية، ولا سيما كتب الرياضة والجبر والكيمياء والطب والفلك وسائر علوم الصناعة التي قل من يعرفها.

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً