هل أنا مضطر في هذه الحالة؟
لا أعلمُ مِن أين أبدأ، ولكن سأُحاول أن أختصرَ حياتي في بضعة أسطر؛ لقد عِشتُ حياةً عصيبة جدًّا؛ بسبب أبي؛ إذ كان دائمًا يضرب إخوتي دون سببٍ، وكان يسبُّهم ويشتمهم ويَلعنهم، ويَصفهم بأوصافٍ لا تُحتَمل، ولا يجوز حتى أن أَذكرها، فمنذ كنتُ صغيرًا وأنا أراه يضربهم، ويضرب والدتي، لم أكنْ أعرف السبب!
كنتُ مُتفوِّقًا في دراستي، وكنتُ مِن الأوائل في المدرسة، وعندما أعود للمنزل يستهزئ بي، ولا يُعيرني اهتمامًا!
كانتْ حياتي عذابًا، فمنذ أن فتَحت عيني على هذه الدُّنيا، لم أرَ غير الإهانات، وضرْبه لأمي ولإخوتي.
وحتى الجانب المادِّي، كان لا يُنفق علينا، ولا يأتنا بكُتُب المدرسة، تحمَّلتُ الكثير من الألم، وكبرتُ وأنا أظن أن الأمورَ ستتَحسَّن، لكنها أصبحتْ أصعبَ!
حصلتُ على البكالوريا، وتوجَّهتُ إلى التدريس في مجال من المجالات، وحصلتُ على دورات ودبلومات، وعملتُ في أكثر من عمل، لكني اكتشفتُ أن الشركات التي أعمل فيها تقوم بالنصب على العُملاء!
لديَّ القُدرة على الدخول إلى العديد مِن المناصب، ولكنها تحتاج إلى وساطة، وتحتاج إلى دفْع الرِّشوة، وكل باب أطرقه أجد الحرام، وما يزيد الطين بلة أنني أصبحتُ مثل الأحمق في وسط المجتمع الذي أعيش فيه، فالجميعُ يقول لي: أنت أحمق لترْكِك هذا، وتركك هذا، وإنَّ الله غفور رحيم، وإن دفعتَ الرِّشوة فأنت مُضطرٌّ، وكل يوم أُعاني مِن مُشاهدة أبي الذي لا يعلم حتى ماذا أفعل، أو ماذا أحتاج، وأنا بين هذا الوسط الذي لم يعُد يهتم بما هو حرام أو حلال!
لقد تعبتُ صراحةً، وأصبحتُ أخاف جدًّا أن يأتي عليَّ يومٌ وأنسى فيه هذه القِيَم والمبادئ، وأُصبح ذكيًّا كما يظنون، وأُصبح بهذه الضغوط أتملَّص من الحرام، وأجد له تبريراتٍ واهيةً، والتي أنا موقنٌ أنها لن تنفع غدًا أمام الله.
أرجوكم، أشيروا عليَّ، وأفيدوني بالنصيحة، فلم أعدْ أستطيع تحمُّل هذا الضغط والألم الذي يزداد يومًا بعد يوم، وجزاكم الله خيرًا.
الحمد للهِ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فنسأل الله تعالى أن يجعلَ لك مِن كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كلِّ ضيق مخرجًا، وأن يرزقك من حيث لا تحتسب، وأن يُعوِّضك عمَّا ذكرته مِن مُعاناة، وأن يُثبِّتك على الاستقامة، ويقوِّي التزامَك بالدِّين، كما أسأله سبحانه أن يهديَ والدَك، وأن يرُدَّه إلى الحق، وأن يُعيذه مِن شرِّ نفسه، وشرِّ الشيطان.
وبعدُ، فقد أحسنتَ بالصبرِ عن الحرامِ، والامتناع عن دفْعِ رشوة لتجدَ عملًا، ما دمتَ تجد ما تسد به حاجتك، إلا أن تضطرَّ، ولا تجد ما تنفقه على حاجتك الأساسية، فحينئذٍ يجوز دفْعها للحُصُول على عملٍ، والإثم على مَن يأخذها ما دامت الوظيفةُ مناسبةً لمؤهلاتك الدراسيَّة، والضرورة تُقَدَّر بقدْرِها؛ لأنَّ أوامر العزيز الحكيم الرحيم مبنيَّة على رفْع الحرَج ودفْع الضرر؛ قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتُكم عنه فاجتَنِبُوه، وما أمرتُكم به، فأتوا منه ما استطعتُم" [متفق عليه].
ولتعلم رعاكَ الله أنَّ رزقكَ مقسومٌ لك ومكتوبٌ، وسيأتي في اللحظة التي قدَّرها الله، والإيمانُ بذلك مِن أركان الإيمان؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وأن تُؤمِنَ بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه"، وقال: "إنك لن تَجِدَ طعم الإيمان؛ حتى تُؤمِنَ بالقَدَرِ، وتعلمَ أن ما أصابك لم يكن لِيُخطِئَك، وما أخطأك لم يكن لِيُصِيبَك"، وقال: "كلُّ شيءٍ بقَدَر، حتى العجز والكَيْس، أو الكَيْس والعجز" [رواه مسلم عن ابن عمر]، وقال صلى الله عليه وسلم: "احْرِصْ على ما ينفعُك، واستعِن بالله، ولا تَعجِز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا، لكان كذا وكذا، فإن (لو) تفتحُ عَمَلَ الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل".
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشُه على الماء" [رواه مسلم عن عمرو بن العاص].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ القلم، فقال له: اكتُبْ، قال: يا رب، وما أكتب؟ قال: اكتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعة، مَن مات على غيرِ هذا، فليس مني" [رواه أحمد، وأصحاب السُّنن].
وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رُوحَ القُدُس نَفَثَ في رُوعي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكمِلَ أجَلَها، وتستوعبَ رزقها؛ فاتَّقوا الله، وأجملوا في الطَّلَب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعتِه" [رواه أبو نُعيم في "الحِلية"، من حديث أبي أُمامة، وصحَّحه الألبانيُّ].
فاستمرَّ في حِرصِكَ على طاعة الله ومَرْضاته؛ فالله تعالى جَوادٌ كريمٌ شكورٌ؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، ولن تدع شيئًا اتقاءَ الله عز وجل إلا أعطاكَ الله خيرًا منه؛ كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في "مسند أحمد"، ومُريدُ الآخِرة لا بدَّ أن يَصبرَ عن متاع الحياة الدنيا، ويَحرِص على ألا يَبيع دينَه بدنياه، وأَكثِر من الدُّعاء بالتوفيق للخير والرِّزق الحلال، وصَرْف الشرِّ.
أمَّا خوفُك على نفسك من الذَّوَبان في المجتمع، وضياع قيَمِك الإسلاميَّة النبيلة، فاستعِن بالله، وسَلْه سبحانه الثبات على الحق، وأكثِر من الأدعية التي فيها طلبُ إعانة الله لك على فعْل الطاعات؛ كأن تقول: "اللهمَّ أعنِّي على ذِكرك وشُكرك، وحُسن عبادَتك"، وتقول: "يا مُقلب القلوب، ثبتْ قلبي على دينك، ويا مصرِّف القلوب، صرِّف قلبي على طاعتك وطاعة رسولك"، وتقول: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وتقول: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، وتقول: "اللهم ألْهِمني رشدي، وأعِذْني مِن شرِّ نفسي".
ورأسُ هذه الأدعيةِ وأفضلُها قولُه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].
فإنه يجمعُ صلاحَ العبدِ في الدِّين والدنيا والآخرة.
- التصنيف:
- المصدر: