كيف أتغلب على المعاصي؟

منذ 2017-09-10

فتاة تخاف مِن الفشل، ولديها طُموحات كثيرة، وتحلم بتحقيقها، وتعلَم أن التقرُّب من الله هو الحل، لكنها تفعل المعاصي، وقد بدأتْ تتقرب إلى الله أكثر.. وتسأل: هل إذا استغفرتُ ستتحقَّق أمنياتي؟

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاةٌ عمري 21 عامًا، تخرجتُ منذ أشهر، ولم أجدْ وظيفةً بعدُ، وحاليًّا أتدرَّب في مصنعٍ.

لا أدري ما مشكلتي، لكنها تكمُن في أني أخاف الفشل، ولدي طُموحات كثيرة، وأحلم بتحقيقها، وأعلم أن التقرُّب من الله هو الحل، لكني أفعل المعاصي؛ فأستمع إلى الأغاني، وأغتاب البعض، وعصبيَّة، وأحيانًا لا تكون معاملتي جيدة مع الناس، وحجابي ليس الحجاب الشرعي، وأُصَلِّي لكن لا أتلَذَّذ بصلاتي، وأدعو الله كثيرًا لكن يُراودني الشك في استجابة الدعاء، لكن سرعان ما أبطل ذلك الشك بأن الله قادرٌ على كل شيء.

أُحبُّ الله، وأحبُّ كلَّ فعل يقربني إليه، وأريد اليد التي تهديني إليه، فهل مع كل المعاصي التي أفعلها إذا استغفرتُ ستتحقَّق أمنياتي؟

بدأتُ أستغفر ربي، ولا يترك لساني الاستغفار، والحمد لله.

لدي تجارب فاشلة في الخطبة، فيتقدَّم لي أشخاص وأرتاح، لكن لا يتم الأمر، وأخاف ألا يقبل الله توبتي، أشعُر بقلقٍ رهيب، وأريد أن أكونَ مثل أولئك الذين يحبهم الله.


فأرشدوني إلى الطريق، بارك الله فيكم

الإجابة:

لحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فدائمًا ما نقول: إنَّ الأفكار السلبية يتبعها سلوكٌ سلبيٌّ، بخلاف الفكرِ الإيجابي الذي يدْفَع إلى العمل الإيجابي، وهذا هو ملخَّص مشكلتك أيتها الابنة الكريمة؛ فأنتِ حاصرتِ نفسك بالأوهام، والوساوس، والقلق، والمخاوف، حتى أثَّرتْ عليك تأثيرًا سلبيًّا، ولو أنك استبدلتِ بتلك الأفكار أخرى إيجابية، لتَرَتَّبَ عليها عملٌ مفيدٌ يَشغلك عن التفكير في أوهامك ومخاوفك.

وسأُلَخِّص لك بعض النقاط العملية التطبيقية التي تُعينك على التخلص منها:

• أولاً: اقضِي على مَخاوفك بالانشغال بما يجب عليك فِعْلُه، وطرْحِ التفكير السلبي المثبِّط عن العمل؛ مثل: هل سيُقْبَل الدعاء؟ هل سيتقبل الله التوبة أو لا؟ إلى غير هذا مما هو ليس مِن شأن الإنسان، وإنما هو شأن الله تعالى، فأقبلي على شأنك، وأحسني العملَ مُتأمِّلة الآيات الكريمات: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25]، ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].

• ثانيًا: تفاءلي بالخير تجديه، وفي هذا اقتداءٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان يُعجبه الفأل الحسَن؛ لأن فيه حُسنَ ظن بالله، ويكره الطيَرة وهي: التشاؤُم؛ ففيها جَعْلُ ما ليس بسبب سببًا.

• ثالثًا: أذْكُر لك مثالاً عمليًّا مِن سيرة سيد بني آدم صلى الله عليه وسلم، وكيف ثبَت هو وأصحابه الكرام في شدة الألم واستحكام الشدائد والكرب والهول الذي روَّع المدينة يوم الخندق، وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطَفان واليهود مِن بني قريظة مِن كلِّ جانبٍ؛ مِن أعلاها، ومن أسفلها، فحاصروا المدينة كما وصفها اللهُ في كتابه: {إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [الأحزاب: 10، 11]، وفي وسط تلك الظلمات الحالكة تجدين النبي صلى الله عليه وسلم مُطمئنَّ القلب، واثقًا بالله، راضيًا بقضاء الله، مُستيقنًا مِن نَصْر الله، كما وصفه الله بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} ﴾ [الأحزاب: 22]، قال البَراء بن عازب: «لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفرَ الخندق، عرَض لنا فيه حجرٌ لا يأخذ فيه المِعْوَل، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبَه، وأخذ المِعْوَل، وقال: "بسم الله، فضرَبَ ضربة، فكسر ثلث الصخرة"، قال: "الله أكبر، أُعطيت مفاتح الشام، والله إني لأُبْصِر قُصورها الحُمر الآن مِن مكاني هذا"، قال: ثم ضرَب أخرى، وقال: "بسم الله، وكسر ثلثًا آخر"، وقال: "الله أكبر، أُعطيت مفاتحَ فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة"، وقال: "بسم الله، فقطع الحجَر"، قال: "الله أكبر، أُعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء"» .

• رابعًا: حاولي وتعلَّمي، ولا تخافي الفشل، وكُوني طَموحًا دائمًا للأفضل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتَح عمل الشيطان»؛ رواه مسلم، عن أبي هريرة.

ومن أجود ما رُوِي في سير تاريخ الخلفاء قولُ عمر بن عبدالعزيز: "فإنَّ لي نفسًا توَّاقة لم تَتُقْ إلى منزلةٍ فنالتها إلا تاقتْ إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقتْ إلى الجنة".

وقال أبو الطيب المتنبي:

 إِذا غامرْتَ في شرَفٍ مَـرُومٍ          فلا تَقْنَعْ بما دونَ النجـــــومِ

فطَعْمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ           كطَعْمِ الموتِ في أمرٍ عَظيمِ

• خامسًا: المخالَفات الشرعية التي تقعين فيها يمكنك التغلُّب عليها وتجاوُزها بالتوبة النصوح، وتحقيق الاستسلام التام لله؛ فليس التوحيدُ مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومَليكه، كما كان عُبَّادُ الأصنام مُقِرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيدُ يتضمَّن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنْع والعطاء، والحب والبغض - ما يَحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي، والإصرار عليها، ومَن عرَف هذا عرَف كيف يُقاوم غلبات الطبْع والتواءات النفس وغفلتها وتقاعسها واعتزازها بما ألفتْ، وتزيين النفس والشيطان، ويتمكن مِن قهر هواه، ويثق بعفو الله وكمال قدرته وعزته وكمال مَغفرته وعفوه ورحمته وكمال بره وستره وحلمه وتجاوزه وصفحه، وأنه إن لَم يَتَغَمَّدْه برحمته وفضله فهو هالكٌ لا محالة.

• سادسًا: ذكَر الإمام ابن القيم في كتابه الفذِّ: طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 175-177) قاعدةً في ذِكْر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، سأنقله لك فتأمَّليه وتدبريه، قال:

وهي شيئان:

• أحدهما: حِراسة الخواطر وحفظها، والحذَر مِن إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله مِن قِبَلها يجيء؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب، فإذا تَمَكَّن بذرها تعاهدها الشيطانُ بسقيه مرة بعد أخرى، حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكونَ عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمرَ الأعمال، ولا ريب أن دفْعَ الخواطر أيسر مِن دفْعِ الإرادات والعزائم، فيجد العبدُ نفسه عاجزًا أو كالعاجز عن دفْعِها، بعد أن صارتْ إرادة جازمةً، وهو المفرِّط إذا لم يدفَعْها وهي خاطرٌ ضعيفٌ، كمَن تهاوَن بشرارةٍ مِن نارٍ وقعتْ في حطبٍ يابس، فلما تمكنتْ منه عجز عن إطفائها.

فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟

قلتُ: أسباب عدة:

• أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.

• الثاني: حياؤك منه.

• الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلقه لمعرفته ومحبته.

• الرابع: خوفك منه أن تسقطَ من عينه بتلك الخواطر.

• الخامس: إيثارك له أن تُساكن قلبَك غير محبته.

• السادس: خشيتك أن تتولدَ تلك الخواطر، ويستعرَّ شرارها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله؛ فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.

• السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليُصاد به، فاعلمْ أن كل خاطر منها فهو حبة في فخٍّ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.

• الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلاً، بل هي ضدها مِن كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدُهما صاحبه، وأخرجه واستوطن مكانه، فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة، فأخرجتْها واستوطنتْ مكانها، لكن لو كان للقلب حياةٌ لشعر بألم ذلك وأحس بمُصابه.

• التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحرٌ مِن بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلاً، فقلبٌ تملكه الخواطر بعيدٌ من الفلاح، مُعَذَّبٌ مشغولٌ بما لا يفيد.

• العاشر: أن تلك الخواطر هي وادي الحَمْقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثتْه الوساوس، وعزلتْه عن سلطانها، وأفسدت عليه رعيته، وألقتْه في الأسر الطويل، كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية، فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بُذر فيها خواطر الإيمان، والخشية والمحبة، والإنابة والتصديق بالوعد، ورجاء الثواب، وسُقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبُها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرتْ له كلَّ فِعل جميل، وملأتْ قلبه مِن الخيرات، واستعملتْ جوارحه في الطاعات، واستقر بها الملك في سلطانه، واستقامتْ له رعيته، ولهذا لما تحققتْ طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، فكان ذلك هو سيرها وجل عملها، وهذا نافعٌ لصاحبه بشرطين:

• أحدهما: ألا يترك به واجبًا ولا سُنة.

• والثاني: ألا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة، والإنابة والتوكل والخشية، فيفرِّغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معًا كان خاسرًا، فلا بد مِن التفطُّن لهذا".

ولمزيد معرفة عما سألتِ عنه، راجعي على شبكة الألوكة تلك الاستشارات: "الالتزام ومقوماته"، "كيف أجد أثر الطاعة في تصرفاتي وأخلاقي؟"، "كيف أشعر بالتوبة؟"، "كيفية التوبة"، "الهداية".

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 12
  • 0
  • 27,930

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً