متى سأتخلص من الاكتئاب وأعيش حياة طبيعية؟
قبل أن نبدأ بعلاج الاكتئاب، لنتَّفق على نسيان أو على الأقل تناسي الماضي، فالماضي قد مضى، ولَّى إلى غير رجعة، أنت الآن حرٌّ ومستقل، وبعيد كل البعد عن آلامك تلك، تاريخيًّا وجغرافيًّا، صحيح أن المشاعر ما زالت كما هي..
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: فمشكلتي بكل بساطة هي المعاناة من الاكتئاب منذ حداثة سنِّي، دون أن أعلم بذلك، وأنا أرجِّح ذلك لعامل وحيد، هو والدي! الذي أعتبره السبب الرئيس في مشكلتي هذه، فقد عاملَني أنا وإخوتي معاملة قاسية جدًّا دون رحمة ولا شفقة، وكان يضرب أمي ويعاملها بعنف أمام أعيننا بدون سبب كما لو كانت مجرد خادمة لديه! فأثَّر ذلك على مجرى حياتي دون إخوتي (أَيْ إنهم لا يعانون أَيَّ مرض نفسي) و هذا هو ما يحيِّرني، لكن عليَّ أن لا أنكر أنني كنت ألاحظ منذ صغري أن شخصيتي كانت ضعيفة جدًّا عكس إخوتي الخمس، الذين كانوا وما زالوا يتمتَّعون بشخصية سليمة وقوية. نعود إلى والدي الذي أرى أنه قد أخذ جزاءه بالفعل، فقد تحوَّل من رجل تطغى عليه قوَّتُه الجسدية الهائلة إلى آخرَ لاحول له ولا قوة، فهو الآن مُقعَد لا يستطيع المشي دون العكاز، لكن مع كامل الأسف فهو لم يفهم الرسالة الربانية، و ما زال مستمرًّا في تعجرفه على الرغم من ضعف قوَّته، خاصة تجاه والدتي التي ما زالت تتحمله حتى الآن، وللإشارة فلم يَعُد يعيش معه أحد من إخوتي سوى أمي وجدتي. أما مشكلتي أنا فلم أستطع التخلص منها لا في المغرب ولا هنا بالديار الإسبانية، حيث عرضتُ نفسي على طبيب نفساني، وأنا الآن أتلقى العلاج وأتناول الأدوية مدة عام لكن دون جدوى، فلا أشعر إلا بأن الأمور تزداد سوءًا، ويومًا بعد يوم تزداد الحياة صعوبة بالنسبة لي. فبماذا تنصحونني جزاكم الله خيرًا؟! عذرًا على الإطالة وشكرًا.
بدايةً، أهنِّئك على الأجور العظيمة التي امتلأ بها ميزانُ حسناتك طوال هذه السنوات، ومن حيث لا تدري، أليس الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نصب، ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه، إلا كُفِّر به من سيئاته))؟ رواه مسلم.
يعجبني فيك فَهمُك لمشكلتك، وتحليلك الرائع لأسبابها وبمنتهى الدقة والوضوح، وقد تجلى لي ذلك مرتين:
1- مرة عندما كتبتَ: (فمشكلتي بكل بساطة هي المعاناة من الاكتئاب منذ حداثة سنِّي، دون أن أعلم بذلك، وأنا أرجح ذلك لعامل وحيد، هو والدي الذي أعتبره السبب الرئيس في مشكلتي هذه)، فهنا شخَّصتَ الحالة، وذكرتَ السبب الرئيس لها.
2- ومرة حين كتبت: (فأثَّر ذلك على مجرى حياتي دون إخوتي (أَيْ إنهم لا يعانون أَيَّ مرض نفسي) و هذا هو ما يحيرني، لكن عليَّ أن لا أنكر أنني كنت ألاحظ منذ صغري أن شخصيتي كانت ضعيفة جدًّا عكس إخوتي الخمس)، وهناأيضًاأدركتَ سبب الاختلاف، وهو نتيجة للفروق الفردية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
خبرات الطفولة هي القاعدة الأولى التي يُؤسَّس عليها بناءُ الشخصية مستقبلاً، وهذا الألم الشديد الذي قاسيتَه في طفولتك أنت وإخوتك ووالدتك من والدك - لا يمكن بحقٍّ نسيانُه أبدًّا، كما لا يمكن وصفُه بكلمات، لكن برغم ذلك، برغم كل الأحاسيس المؤلمة التي تختلج في أعماقك، وبرغم كل الذكريات الحزينة بل والمخيفة التي تختزن في ذاكرتك، أريد منك أن تتذكَّر شخصًا آخرَ قاسَى أشدَّ مِن ذلك وصبَرَ! لا تظن أنني أقلل من عمق جراحك حين أقول ذلك، لا... أبدًا، لكنَّ النظر إلى مَن هم أكثر ألمًا مِنَّا، يخفف عنا كثيرًا من مشاعر الوحدة، ويقلل نسبيًّا من اجترار الأحزان وخيبات الألم؛ لذلك أطلب منك أن تتذكر هذا الرجلَ العظيم كلما شعرت بالحزن والألم، وتترحم عليه دائمًا، فلقد مات منذ آلاف السنين... اسم هذا الرجل: موسى - عليه السلام!
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أُوذيَ يتذكَّر الأذى الذي أوذي به موسى - عليه السلام - فتهون أمامه المصائب، ويقول:
((يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبرَ))؛ رواه البخاري.
لئن كان والدك بلا قلب، فما ظنك بفرعون إذًا؟ ذلك الذي وصفه الله بأنه {طَغَى} [طه: 24] و{عَلاَ فِي الأَرْضِ} [القصص: 4]؟!
ولئن عانت والدتك من أبيك، فلقد ماتتْ آسية امرأة فرعون على يديه بلا رحمة!
ولئن فررتَ أنتَ من بلادك بغية التكسب أو العلاج، فلقد فرَّ موسى من مصر إلى مدين خشية الموت!
إذًا قل دائمًا لنفسك المتألمة: (يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)!
قصتك مع والدك هي رواية حقيقية من روايات الحياة المؤلمة، وبرغم أن هذه الرواية لم تنتهِ بعدُ إلا أن فصولها الحزينة قد قاربتِ الآن على النهاية!
دعنا نتوقف الآن عند فصلها هذا، وهو الفصل ما قبل الأخير!
اترك الرواية جانبًا، واسأل نفسك بصدق: أتريد حقًّا أن تكون هذه هي النهاية؟
أبٌ قاسٍ يصبح في آخر عمره وحيدًا، عاجزًا، مقعدًا، لا يسير إلا على عكاز؟!
أحقًّا تريده أن ينتهي هكذا؟ أحقًّا تريده أن يموت وحيدًا؟
أرجوك لا تفعل ذلك! فأنا - واللهِ - لا أحب مثل هذه النهايات إطلاقًا، ولمن؟ لأبيك يا أخي؟!
أتدري لِمَ لم يُجدِ معك الدواء والسفر بعيدًا؟ لأنَّ نفسك هذه التي بين جنبيك، هي هي لم تتغير، والسحر الفعال لا يكمن في الدواء أو تغيير المكان؛ بل ينبع من دواخلك أنت، من طريقة تفكيرك وأسلوب حياتك، وكل ما يأتي بعد ذلك إنما هي مدعمات ليس إلاَّ!
إذا أردتَ أن تتخطى هذه المرحلة الصعبة، فسامح واصفح واعفُ عن أبيك أولاً!
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
أخي الكريم... لي أخ وحيد في عمرك تمامًا، وقد قرأتُ استشارتك بالاهتمام نفسِه الذي كنتُ سأقرأ به لو أن أخي هو مَن كتب هذه الاستشارة! لقد اعتبرتُ نفسي بمقام أختك الكبرى التي تتمنى لك تمام العافية، لذا أصغِ إليَّ جيدًا وبإذن الله سوف تتخلص من كل مشاعر الضيق والاكتئاب، وستعيش حياتك كأجمل ما تكون، فأنت ما زلت في عمر الربيع، ونحن ما زلنا في فصل الربيع الذي أظن أنه قد أتى يختال ضاحكًا من الحسن في إسبانيا، أليس كذلك؟
قبل أن نبدأ بعلاج الاكتئاب، لنتَّفق على نسيان أو على الأقل تناسي الماضي، فالماضي قد مضى، ولَّى إلى غير رجعة، أنت الآن حرٌّ ومستقل، وبعيد كل البعد عن آلامك تلك، تاريخيًّا وجغرافيًّا، صحيح أن المشاعر ما زالت كما هي، لكن أنت رجل مؤمن بالله، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو إني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان))؛ رواه مسلم.
غدًا ستتزوج وتصبح أبًا، وأنا واثقة تمامًا أنك ستكون نموذجًا للأب الحنون، لذا تحرَّرْ من دور الابن الذي اعتدتَ عليه طيلة هذه السنين، وأعِدَّ نفسَك من الآن لدور الأب الذي ينتظرك، أعدَّ نفسك للحياة الحقيقية التي تكون أنت فيها الراعي والأمير، حين تكون لك زوجة تَسعَد بها وأولاد يَسعَدون بك، ستكون قدوة لهم، فهل ستكون نموذجًا للأب الضعيف المتخاذل؟
كلاَّ... يجب أن تتجاوز هذه المرحلةَ الآن، وستتخطاها بلا أدنى شك، والدليل على ذلك أنك توجَّهتَ مِن فَوْرِك لطبيب نفسي لتصحيح الخلل، والذهاب إلى الطبيب النفسي كالذهاب لأي طبيب آخر، من حق النفس المتألمة أن تتلقى العلاج تمامًا كأي عضو متألم آخر، فضلاً عن ذلك كتبت لنا، وهذا فخر لنا أن نَكسِب أخًا عزيزًا في مثل عمرك الجميل، وأسلوبك الأدبي الرفيع، وروحك المتسامية التي تركتْ ظلالَها بين الكلمات والسطور، لذا سآخذ وعدًا منك بالصفح والغفران، والنهوض الروحي والتسامي عن الأحزان وجراحات الماضي، من دون أن ننسى علاج الاكتئاب بالطرق التالية:
1- عُدْ إلى طبيبك المعالج وأخبرْه أنك لم تستجب للدواء، ولم تتحسن حالتُك برغم مرور عام، وسيعرف طبيبك كيف يجعلك تتوقف عنه دون أن تحصل لك أيةُ مضاعفات، وهذه نقطة مهمة جدًّا (إياك أن تقطع الدواء بنفسك)، ولعلَّه أن يصف لك دواء بديلاً أكثر ملائمة لكولحالتك.
2- في أوروبا تستخدم عشبة اسمها "حشيشة القلب" ST. JOHN'S WORT كمضاد طبيعي للاكتئاب الخفيف والمتوسط، وهي تحتوي على مركب "هيبريسين" الذي أوضح الباحثون أنه فعَّال في الحد من أعراض الاكتئاب، فقد كشفَتْ دراسة حديثة أجريتْ في النمسا أن 67% من المرضى الذين يعانون اكتئابًا خفيفًا إلى معتدل تَحسنوا عندما أُعطُوا مستخلصًا من حشيشة القلب، وقد أثبتت ذلك نتائجُ تجارِبَ سابقةٍ بيَّنت أن العشبة جيدة للاكتئاب، ويتمُّ تناولها بصورة صبغة (مستخلص سائل) حوالي نقطة إلى نقطتين (تعادل نصف ملعقة صغيرة) تخلط بالماء، ويشرب ثلاث مرات يوميًّا على معدة خاوية، وهي فعالة بهذه الصيغة أكثر من تناولها ككبسولات عشبية أو منقوع للشرب، لكنَّ لهذه العشبة مشكلتين:
أ- أنها محظورة في بعض البلدان!
ب- أنه يتعارض استخدامُها كصبغة مع العلاج الدوائي (كالبروزاك Prozac مثلاً).
لذا يجب تناول هذه العشبة تحت إشراف طبي، وخبير بالعلاج التكميلي، استشر طبيبك عنها في زيارتك المقبلة، ولا تصرفها بنفسك، وقد أعذر مَن أنذر! اتَّفقنا؟
3- التحق بنادٍ رياضي وزاوِل رياضتك المفضلة، ليس المهم هنا هو نوع الرياضة؛ بل المهم أن ترتاح لنوعية الرياضة كي لا تملَّ منها، فالهدف الرئيس هو الانتظام على ممارسة الرياضة؛ لتحفيز إنتاج هرمون الأندورفين؛ وهو أحد الناقلات العصبية التي تحسِّن الحالة المزاجية، وتكسر دائرة التفكير السلبي.
4- ضع 4 نقاط من زيت الخزامى العطري Lavender Oil على وسادتك قبل أن تخلد إلى النوم، واحرص عند شراء أي نوع من أنواع الزيوت العطرية أن يكون بالمواصفات التالية:
* معبأ في زجاجات صغيرة.
* معبأ في زجاجات داكنة اللون مانعة للضوء.
* مكتوبًا عليها Essential Oil Pure؛ (إذا كنت تشتريه من صيدلية أو متجر للأغذية التكميلية).
5- عزِّز الجانب الإيماني في قلبك بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وتلاوة القرآن الكريم كل ليلة – أظنك كمغربي ستقرأ على رواية ورش؛ وهي قراءة لها موسيقية مطربة للأُذن فعلاً- حاول أن تقرأه كل ليلة بخشوع وترتيل ومُدَّ به صوتك ونفَسَك، فالقرآن كلام الله، وكلام الله خير شفاء، وادعُ بدعاء الهم والحزن، وألِحَّ على الله بتعجيل الشفاء.
6- أنت تكتب بعربية جيدة ورائعة، وأكاد أجزم أنك تتقن الفرنسية، فهل تعلَّمت الإسبانية بحكم وجودك فيها؟ إن لم تتعلمها فالتَحقِ الآن بمعهد لتعليم اللغة الإسبانية وابدأ في التعلم، وبالمناسبة أتذكر أن الإذاعة الإسبانية الناطقة باللغة العربية كانت تقدِّم برامجَ لتعليم الإسبانية مجانًا، كما تفعل إذاعة الـBBC الآن في تعليمها للغة الإنجليزية، أما إن كانت إسبانيتك جيدة، فأنت مدعوٌّ للمشاركة معنا في الموقع لتترجم لنا عن الإسبانية بعضًا من أخبار الأقلية المسلمة في إسبانيا، ما رأيك في هذا الاقتراح؟
7- هل زرتَ المواقع الإسلامية في إسبانيا؟ أنت عينُنا هناك، فاكتب لنا عن مشاهداتك للمعالم الإسلامية وما بقي منها؟ وما يشد السياحَ الأوربيين والإسبانيين أنفسهم فيها؟ حدِّثنا عن غرناطة حورية الأندلس، وقصر الحمراء الشهير، وبلاط الأسود في الحمراء، فلقد اشتقنا للأندلس حقًّا.
8- صحيح أنك مغترب، لكن حسب علمي تمثل الجالية المغربية أكبر جالية عربية مسلمة في إسبانيا، أليس كذلك؟ لذا حاول أن تكسِب صداقاتٍ حميمةً مع إخوانك هناك، والتفُّوا معًا لخدمة الإسلام والمسلمين بحب وسلام، فنحن ننتظر الكثير منكم، وإذا تهاونتم أو تهاويتم، فستعيدون لنا من جديد مرارة سقوط الأندلس، أمَا حان للأندلس أن تفرح بأبنائها؟!!
أخي الفاضل...
إذا رغبتَ أن تكتب قصتك كاملة في رسالة خاصة، أو كنتَ أكثر جرأة وحولتها إلى رواية، فأنا بانتظار قراءة هذا التفريغ الانفعالي في صورة كلمات مرهفة ومعبرة، وثِقْ أن قلوبنا جميعًا هنا في الألوكة مشرعةٌ أبوابُها لك ولكل مَن يثق بنا على هذه البسيطة، ولو أردتَ الاحتفاظ بها لقلبك فهذا حق من حقوقك، المهم عندي أن تفرِّغ ذكرياتك هذه في قالب كتابي، سواء في صورة قصة أو رسالة لتشعر ببعض الارتياح، فأنا شخصيًّا أفعل ذلك، وأظلُّ أقرأ ما أكتبه عدة أيام، وفي آخر الأمر أقوم بالضغط على أيقونة "مسح Delete"، فأشعر حقًّا بأن هذه التجربة المريرة التي عانيتُها قد امَّحت ولو جزئيًّا من تفكيري، جرِّب ذلك بنفسك ولا تنسني من صالح دعائك.
دعواتي الصادقة لك بالشفاء العاجل والسعادة الدائمة أبدًا ما حييت، تحية إجلال وإكبار مني لأمك الرائعة.
الكاتبة: أ. عائشة الحكمي.
- التصنيف:
- المصدر: