عقوق الأم
فتاة ثلاثينية عاشت في بيت ملؤه القلق والنزاع والشقاق والجدال، تشكو أنها بعد وفاة أبيها لا تستطيع أن تكون بارة بأمها التي - على حد قولها – لم تكن رحيمة بها أبدًا، لذا عزمت على تقليل الجلوس معها، وتسأل: هل يعد هذا عقوقًا؟ وقالت أن أمها كانت غير بارة بجدتها، وتسأل: هل عقوقها لأمها نتيجة لعقوق أمها لجدتها؟ وهي في النهاية تريد نصيحة كي تكون بارَّة بأمِّها.
السلام عليكم
أقول: أنا فتاة في الثلاثينيات من عمري، أمي تمثل لي معاناتي؛ فأنا غير بارَّة بها، أنتقدها في كثير من تصرفاتها، وأرفع صوتي عليها، وأرد عليها إذا ما عاتبتني، ولا أشعر تجاهها بمشاعر حبٍّ أبدًا، فأمي لم تكن رحيمةً بنا كسائر الأمهات قط، دائمًا تفتعل معنا المشاكل، وتنقل الكلام بين أبنائها محدِثة بذلك الفرقة بيننا إن غضبت من أحدنا، استحال في نظرها شيطانًا رجيمًا، وأخذت تعيِّره بالصفات السيئة، وهي تنسى دائمًا إحساننا إليها، ولا تتذكر لنا إلا السقطات والزلات، منذ نعمومة أظفاري وبيتنا دائم الشقاق والخصام، فقد كانت أمي في شقاق دائم مع أبي الذي كان قاسيًا معها، وأهل بيتي دائمو النزاع والجدال؛ ما جعلني أعيش جوًّا من القلق والتوتر وعدم الاتزان النفسي، وقد كبرت تلك الأشياء معي، لذا فقد عزمت على تربية نفسي، وحَمْلِها على حميد الصفات والخصال، وقد نجحت إلى حدٍّ ما، وبعد وفاة أبي جاهدت نفسي كثيرًا على بِرِّ أمي وتحمُّلِ تصرُّفاتها، أحيانًا أنجح، وكثيرًا أُخفِق، لذا أصبحت أبتعد عنها، وأقلل الجلوس معها درءًا للمشاكل، ووالله أودُّ مِن كل قلبي أن أكون معها بارَّة، لكنني لا أوفق لذلك، علمًا أن أمي لم تكن بارَّة بجدتي، وكانت ترفع صوتها عليها وتستهزئ بها، وكانت تتذمر من العناية بجدتي عندما طعنت في السن، فقد عنفتها – أعزكم الله – على رائحة فضلاتها ووسخ فراشها، فهل عقوقنا نتيجة لعقوق أمنا بجدتنا؟
لأنه يقال أن البِرَّ دَيْنٌ، وأن الله يُعجِّل عقوبة العقوق في الدنيا، فإذا كان الله عز وجل يجعل الأبناء عقوبةً للآباء على عقوقهم، فكيف يؤاخذ الأبناء بالعقوق وهم تسليط الله على آبائهم العاقين؟ هذا سؤالي الأول،
وسؤالي الثاني: كيف أتعامل مع أمي، فمشاعري لا تساعدني على برها، فأنا لا أكِنُّ أي حبٍّ لها؟ وهل تقليلي الجلوس معها درءًا للمشاكل يُعَدُّ عقوقًا؟ أرشدوني وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فلا يمتنع أن يصبح الإنسانُ سيئ الخُلُقِ أبًا كان أو أمًّا، له أولاد يعاملهم معاملة سيئة، وأشد حالات سوء الخلق تكون مع الله عز وجل بالكفر، ويزيد سوء الخلق بدعوة الأبناء لهذا الكفر، ومجاهدتهم على ترك الإيمان والوقوع في الكفر بالله، ومع هذا قال الله عز وجل في حق هؤلاء الكفار: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وهذا أمر واضح من الله عز وجل للمسلم أن يكون بارًّا بأبويه، محسنًا لهما، حتى ولو أمراه بالكفر وجاهداه عليه، فيجمع بين رفض طاعتهما في المعصية، وبين البر والإحسان معهما.
وهذه درجة كبيرة من الفَهْمِ والإيمان والعمل، تحتاج إلى توفيق من الله، وخاصة أن تصرفات أُمِّكِ ناتجة عن حياة قاسية عاشتها مع أهلها وزوجها على حدِّ قولكِ، فلماذا لا نلتمس لها العذر، ونتجاوز عن أخطائها؟!
قولتِ: عزمتُ على تربية نفسي من جديد، وحملها على الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة، وهذا تفكير جيد وطريق لا غِنى عنه، ولكن يبدو أنكِ في أول الطريق، ولا بأس في هذا، ولا بد أن تستمري، وسوف تكون أول خطوة للنجاح في التربية أن تعرِفي لأمِّكِ حقَّها، فرغم كل إساءتها لكِ، فإن فضلها عليك كبير، ويكفي أنها سبب في نعمة الحياة التي منَّ الله عليكِ بها؛ وقال تعالى في سورة لقمان أيضًا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، فلا يمكن أن تُوَفِيَ أمَّكِ حقَّها مهما فعلتِ معها.
ثم يأتي تساؤلك: "فهل عقوقنا هو نتيجة عقوقها بأمها، كما يقال: البر دَيْنٌ، وأن الله يُعجِّلُ عقوبة العقوق في الدنيا؟".
أقول: فهل سوف يكون عقوق أبنائك عقابًا لكِ على عقوقكِ لأمك إن - لا قدر الله - حدث، وعقوق أبنائهم عقوبة لهم على عقوقهم لكِ؟ وهل هي سلسلة من العقوق ضاربة في تاريخ هذه الأسرة لا تنتهي؟
ليس بالضرورة أن يكون العقوق عقابًا على عقوق، أو أن يُوفَّى الإنسان عقابه في الدنيا، هذه فكرة غير صحيحة، ولا تشغلي نفسكِ بها، المهم أن تنجي أنتِ من عقوبة العقوق في الآخرة، فلا تقعي فيه، بل حاولي أن تكْسِري أسطورة العقوق التي أصابت أسرتكِ تلك.
لا أوافقكِ أن تُقلِّلي الجلوس مع أمِّكِ، بل اجلسي معها ما استطعتِ، ولكن اجعلي جلستكِ معها ذكرًا لله وكلامًا في الدين وحسن الخلق، والآخرة، والإيمان، والعمل الصالح، أو حتى في أمور الحياة العادية التي لا جدالَ فيها ولا خوضَ فيما حرم الله، فإن تكلمت هي فيما يغضب الله أو يؤذيكِ، فقومي عنها لبعض أعمال المنزل، واستغفري لها الله، وادعي لها بالهداية في كل صلاة.
عزيزتي، أنتِ في محنة، فكيف تجعلينها مِنْحَةً؟ نعم، يمكن أن تكون محنتكِ هذه منحةً من الله إن استطعتِ أن تضبطي انفعالاتكِ، أحسني إليها حتى وإن عجز قلبكِ أن يجد لها الحب في جنباته، وأطيعيها في المعروف حتى وأنتِ تعلمين عقوقها مع جَدَّتِكِ، وأن تصبري عليها وعلى إساءتها لكِ ولأسرتكِ، فربما يكون عملكِ هذا طريق نجاحكِ في الدنيا، ونجاتكِ في الآخرة.
- التصنيف:
- المصدر: