كراهية الزوجة الثانية لا يعني كراهية الشرع

منذ 2015-07-13

كراهية النفس بطباعها لبعض الأعمال لا يعني أبدًا كراهة التشريع نفسه.

السؤال:

عمري 26 سنة والحمد لله أحب زوجي ويُحبني جدًا وعندنا طفلين، وحياتنا مستقرة وزوجي ميسور الحال ولله الحمد. وفجأة صارحني انه يريد الزواج من زوجةٍ ثانية!

نزل عليَّ الخبر نزول الصاعقة، وحاول أن يُحايلني كثيرًا ولكني اصديتُ تمامًا عنه، وبدأتُ تدريجيًا أكرهه. حاول يقنعني بالشرع وأن هذا من الشرع، ولم أعترض لكن قلت له إن من الشرع أيضًا ان أطلب الطلاق إن كنتُ غير طائقة لمجرِّد فكرة زواجه.

لم يُبالي باعتراضاتي وتزوج بالفعل منذ شهر تقريبًا. ومن ذلك اليوم لم أتكلَّم معه كلمةً واحدة. الدنيا اسودَّت في نظري. كل لحظة أتذكَّر أنه معها الآن دمي يغلىي وأندم على كل شيء.

أنا ما زلتُ مصمِّمة على الطلاق، ووالدي ووالدتي دائمًا ينصحوني ويقولون لي: فكري تاني من أجل الأطفال. من 3 أيام زوجي أرسل لي رسالة طويلة يقول فيها أني بهذه الطريقة ديني في خطر لأني كارهة لشرع الله وربنا يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[1]، وهذا معناه أن عملي كله سيحبط لكراهيتي الشديدة لزواجه وزوجته.

الكلام صدمني وبحثت في التفسير والنت عن معاني الآية الكريمة من سورة محمد ولكن لم أصل إلى شيء! ازدادت حيرتي وتوهاني، والدنيا والله بتلف بي وأحيانًا كثير أدوخ بلا سبب. هل كلامه صحيح؟ وأليس من حقي طلب الطلاق إن كنت لا أتحمَّل الحياة معه بهذه الطريقة. وصديقاتي الآن لا أجرؤ على النظر أو الحديث معهم من إحساسي بالإهانة الشديدة من زوجي الذي تزوج عليَّ وأنا في عِزِّ شبابي. أرجو الرد بسرعة.. خاصةً على الحجة الشرعية التي فجرها زوجي مؤخرًا وزاد بها معاناتي. وجزاكم الله كل خير.

الإجابة:

وقد قامت الأستاذة/ إيمان القدوسي بإجابتها وتوجيهها بإجابةٍ شافيةٍ ووافيةٍ وحكيمة. لكني أردت أن أُعلِّق على الاتهام الذي رماها به زوجها بأنها بكراهيتها لزوجته الجديدة إنما تكره شرع الله! وأنها أصبحت مهدَّدة بأن تحبط أعمالها الصالحة، وذلك لقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.


وأحب أن أُطمئِن الابنة الكريمة إلى أن هذه الآية لا تنطبِق عليها، وأن كراهتها لزواج زوجها عليها لا يعني أبدًا كراهيتها للشرع، وذلك لأن كراهتها لزوجةٍ ثانية تنافسها على زوجها وتزاحمها على قلبه، أمرٌ فطري طبيعي جُبِلَت عليه النفس.

وفرقٌ كبيرٌ بين أن يمتثِل المسلم لأمر الله ويُطيعه، ونفسه فيها كراهة للعمل وبين أن يكره الأمر نفسه والشرع نفسه. وقد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[2]. فالشرع لا يصادم المشاعر الفطرية الطبيعية، وإنما يُوجِّهها لما فيه صالحه ومنفعته في الدنيا والآخرة. والنفس تكره الاستيقاظ للفجر خاصةً في ليالي الصيف القصيرة، النفس لا تهوى هذا، ولكنها تمتثِل لأمر الله وتقوم وتطيع.

فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ومع ذلك فالنفس تكرهه طبعًا لا شرعًا، وإنما كان الجهاد كُرهًا لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرُّض للقتل أو الجِراح الشديدة أو الإعاقة، وفي التعبير بالمصدر وهو قوله: {كُرْهٌ} مبالغة واضحة.

والإسلام يعمل حسابًا للفطرة ولا يُنكِرها لكنه يُبيِّن أن بعض الأوامر ربما تكون شاقةً كريهة المذاق.. ولكن ورائها حكمة.. وتربية. ويُلمِّح إلى أنه كثيرًا ما يكون وراء المكروه خير. ووراء المحبوب شرّ. وفي هذا التلميح نسمات الأمل والرجاء في رحمة الله مع هذه المشقة والألم. وقد رأينا  في قصة موسى والعبد الصالح، قِصصًا وأحوالًا ظاهرها الشرّ وباطنها الخير، سواءً في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله، أو الجدار الذي أقامه.

{وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

والمرأة تحلم بالإنجاب وتتوق لحمل رضيعها، مع أن ذلك يمرُّ بكراهية الحمل والوضع {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ}[3]. والله تعالى يأمرنا بالحلم والعفو والصبر وكظم الغيظ، وكل هذا يشقُّ على النفس وربما تتجرَّع آلامًا كبيرة في سبيل التحلِّي بهذه الأخلاق الرفيعة.

ومن جوامع كَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»[4]. وهو كلام غاية في الوضوح بأن طاعة الله غالبًا ما تأتي في غِمار ما تكرهه النفوس. إن طريق الجنة محفوف بما تكرهه النفوس، ولكن صلاحها وتربيتها وتزكيتها في هذا الذي تكرهه.

فالشاهد هنا أن كراهية النفس بطباعها لبعض الأعمال لا يعني أبدًا كراهة التشريع نفسه. ولابن الجوزي كلام رائع يستحق التأمُّل الطويل.

يقول رحمه الله في كتابه الماتع (صيد الخاطر): "إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي. أما العارف فتقِل عنده المرارة، لقوة حلاوة المعرفة. فإذا ترقَّى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة، كما قال القائل:

عذابه فيك عذب *** وبُعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني *** لما تُحِب أُحب"

ويقول ابن القيم رحمه الله كلامًا نفيسًا يلخص الفهم الصحيح لهذه المسألة في (مدارج السالكين): "وليس من شرط الرضى ألا يُحِس بالألم والمكاره، بل ألا يعترِض على الحكم ولا يتسخَّطه.. ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان.

والصواب: أنه لا تناقض بينهما وأن وجود التألُّم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى كرضى المريض بشرب الدواء الكريه، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحرّ بما يناله من ألم الجوع والظمأ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها".

الابنة الكريمة:

أرجو أن تكون هذه الشبهة التي قذفها زوجكِ في طريقكِ ليقنعكِ بالعافية بزواجه الثاني، أرجو أن تكون قد زالت. 

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1]- [محمد:9].

[2]- [البقرة من الآية:216].

[3]- [الأحقاف من الآية:15].

[4]- (رواه مسلم وغيره).

محمد هشام راغب

كاتب وداعية إسلامي

  • 6
  • 0
  • 18,512

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً