خطورة التساهل في الديون

منذ 2013-02-17
السؤال:

ما قولكم في إقبال كثيرٍ من الناس على الاستدانة من البنوك الربوية، لشراء السيارات والشقق السكنية وغيرها؟

الإجابة:

التساهل في الديون والإكثار من الاستدانة من القضايا التي وقع فيها كثيرٌ من الناس، مع عدم نظرهم إلى عواقبها السيئة في الدنيا والآخرة، ومن أهم أسباب استشراء هذه الظاهرة وانتشارها؛ تخفيف البنوك الربوية من القيود على الاستدانة، فالبنوك الربوية تعطي قروضاً تبلغ أضعاف راتب الموظف بضمانات سهلة جداً. وكذلك تطويل مدة السداد مع تقليل مبلغ القسط، فصار بعض الناس مربوطاً مع البنوك الربوية لعشر سنوات أو أكثر من ذلك. مع أن البنوك الربوية تفرض الفائدة الربوية بطرق مغرية كما جاء في إعلان أحد البنوك الربوية لتسويق قرض لشراء سيارة "أسعار فائدة منافسة، أسعار تأمين تفضيلية، إمكانية زيادة مبلغ القرض ومدة السداد، بطاقة فيزا مجاناً مدى الحياة" وبعض البنوك الربوية تعطي القرض السكني لمدة لغاية 25 سنة ومبلغ القرض يصل إلى نصف مليون دولار مع تقديم مغريات كثيرة! ولا شك أن للديون خطورة على الإنسان في دنياه وفي آخرته، وأذكر أولاً ما يتعلق بالآخرة، فقد ورد في الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتكفرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبرٍ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: كيف قلت؟ قال: أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتكفرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبرٍ إلا الدَّين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" (رواه مسلم).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُغفر للشهيد كلُّ شيء إلا الدَّين"( رواه مسلم).

وكذلك فإن الديون قد تحبس المسلم من دخول الجنة إذا مات وهو مدين، فعن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: "كنا جلوساً بفناء المسجد حيث تُوضع الجنائز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رافعٌ رأسه إلى السماء، فنظر، ثم طأطأ بصره، ووضع يده على جبهته ثم قال: سبحان الله، سبحان الله، ماذا نزل من التشديد؟ قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نرها خيراً حتى أصبحنا. قال محمد: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما التشديد الذي نزل؟ قال: في الدَّين، والذي نفس محمدٍ بيده لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل، ثم أحيي ثم قتل، وعليه دينٌ، ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينُه" (رواه أحمد والنسائي والحاكم وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/167).

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هاهنا أحدٌ من بني فلان، فلم يجبه أحدٌ، ثم قال هاهنا أحدٌ من بني فلان، فلم يجبه أحدٌ، ثم قال هاهنا أحدٌ من بني فلان، فقام رجلٌ فقال أنا يا رسول الله، فقال ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟ قال إني لم أنوه بكم إلا خيراً إن صاحبكم مأسورٌ بدينه، فلقد رأيته أُدِّيَ عنه حتى ما أحدٌ يطلبه بشيء" (رواه أبو داود والنسائي)

وفي رواية للحاكم "إن صاحبكم حُبس على باب الجنة بدينٍ كان عليه فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله، فقال رجلٌ عليَّ دينه فقضاه" (قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/168).

وفي رواية لأحمد: "إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه" قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.
وكذلك فقد ورد في الحديث أن نفس المؤمن تكون معلقةً بدينه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يقضى عنه" (رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عن الصلاة عمَّن عليه دينٌ حتى يُقضى دينه فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالرجل الميت عليه الدَّين فيسأل: هل ترك لدينه قضاءً؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته" (رواه مسلم).

وعن جابر رضي الله عنه قال: "تـوفي رجـلٌ فغـسّلناه وكفّناه وحنّطناه ثم أتينا به رسول الله يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا نـحوه خطوةً ثم قال: أعليه دينٌ؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله: قد أوفـى الله حـق الـغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله: الآن برَّدت جلدته" (رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/591).

وعن سعد بن الأطول رضي الله عنه "أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله -عيال الميت- قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاك محبوس بدينه فاذهب فاقض عنه فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بينة، قال أعطها فإنها محقة" (رواه ابن ماجة وأحمد والبيهقي وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز).

وعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فارق الروحُ الجسدَ وهو بريءٌ من ثلاثٍ دخل الجنة: الكِبْرُ، والدَّين، والغلول" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 6/664).

وأما في الدنيا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الدَّين كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: "كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلع الدَّين -ثقل الدَّين - وغلبة الرجال" (رواه البخاري).

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يدعو في الصلاة ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائلٌ ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم قال: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف" (رواه البخاري).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء" (رواه النسائي وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 4/55).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "دخل رسول الله ذات يوم المسجد فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له أبو أمامة جالساً فيه فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسول الله، قال: أفلا أعلِّمك كلاماً إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني" (رواه أبو داود).

والواجب على المسلم إذا استدان -ولا يستدين إلا لحاجة ماسة- أن يعزم على سداد الدين عندما يوسر، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله" (رواه البخاري).

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحدٍ يدَّان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أدَّاه الله عنه في الدنيا" (رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح ابن ماجة 2/52).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حـسناته ليـس ثَمَّ ديـنار ولا درهـم" (رواه ابـن مـاجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/53).

وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجلٍ يدين ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً" (رواه ابن ماجة والبيهقي وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52). وغير ذلك من الأحاديث.

وخلاصة الأمر أن التساهل في الديون أمرٌ جِدُّ خطيرٍ على المسلم في دنياه وفي أخراه، وينبغي للمسلم أن لا يستدين إلا إذا ألمت به حاجةٌ ماسة، وعليه أن ينوي سداد الدين في أسرع وقت ممكن، وعلى المسلم أن يحذر من الاستدانة من البنوك الربوية، لأن الربا من كبائر الذنوب، وليعلم المسلم أن الدَّين قد يحول بينه وبين الجنة إن مات مديناً وإن فعل الأعمال الصالحات.

الجمعة, 12 أغسطس 2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 19
  • 4
  • 114,716

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً