كيف أتورع عن معصية الله؟!

منذ 2013-04-14
السؤال:

أنا شابٌّ لا أتورع عن معصية الله، مع العلم أني ملتزم والحمد لله، فما الحل بارك الله فيكم؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فما تشعر به وما تذكره أمرٌ محزنٌ حقًّا لكل مسلمٍ صادقٍ، وبشيءٍ من التأمل مع التدبُّر للنصوص الشرعية؛ يُمكنك أن تصلَ لعلاجٍ ناجعٍ لمشكلتك؛ وهو في ظني يَتَمَثَّل في عدة أمور:
الأول: مُفارقة الأحوال التي اعتدتها في زمن المعصية، والتحوُّل منها كلها، والاشتغال بغيرها، بمعنى: أن المعصية إما أن ترتبط بحالٍ، أو مكانٍ، أو أشخاصٍ، أو غير ذلك؛ فأنت مطالبٌ حتى تثبتَ على التوبة؛ أن تفارق كل ما من شأنه أن يُساعدك على المعصية، أو يذكرك بها، أو يعاونك عليها، وهذا من أسرار مشروعية الهجرة، وتأمل رعاك الله قول أعلم أهل الأرض في زمانه لما قال لقاتل المائة نفس: "مَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوءٍ"؛ قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصابَ بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح، والعلماء، والمتعبدين الورعين، ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته [قاله النووي في شرحه على مسلم (9 / 143)].
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6 / 517): "وفيه: فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية؛ لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك؛ إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك، والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه؛ ولهذا قال له الأخير: "ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء"؛ ففيه إشارةٌ إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحوُّل منها كلها والاشتغال بغيرها"، أراد بذلك استحضار عظمة الله، ومراقبته في حال العبادة ربًّا رقيبًا على كل شيء.

الثاني: استحضار مُراقبة الله تعالى لك في السرِّ والعلانية، وأنه يراك، ولا يخفى عليه شيءٌ مما تفعل؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وهذا هو مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام: "أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكنْ تراه، فإنه يراك" [متفق عليه]، فاستحضار قربه سبحانه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، قال أبو ذر: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أخشى الله كأني أراه"، وعن أبي أمامة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وصى رجلًا فقال له: "استحي مِن الله استحياءك مِن رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك"، وعن معاذٍ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "استحي من الله كما تستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من أهلك"، ويروى عن معاذٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال: "استحي من الله كما تستحيي من رجلٍ ذي هيبة من أهلك"، فإن شق عليك انتقلت إلى المنزلة الأخرى، وهي إيمانك أن الله يراك، ويطلع على سرك وعلانيتك، وباطنك وظاهرك، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمرك، وذلك يورث الاستحياء من نظره سبحانه قال بعضُ الصالحين: "اتقِ الله أن يكونَ أهون الناظرين إليك"، وراجع منزلة المراقبة من كتاب: "مدارج السالكين".

ثالثًا: تيقَّن أن التوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيءٌ من العبادات يمحو جميع الذنوب إلا التوبة؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، هي لمن تاب؛ ولهذا قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}؛ بل توبوا إليه، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، وكذلك عبادة التوبة أفضل أعمال المؤمن؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للغامدية بعدما أقرت بالزِّنا ورجمها: "فوالذي نفسي بيده، لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحب مكسٍ، لغفر له" [رواه مسلم].
ومعنى المكس: الجباية، وغلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبدًا أصاب ذنبًا - وربما قال: أذنب ذنبًا - فقال: ربّ أذنبتُ - وربما قال: أصبتُ - فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت - أو أصبت - آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا، قال: قال: رب أصبت - أو قال: أذنبت - آخر، فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء"؛ ومعناه: ما دام يتوب إلى الله توبة نصوحًا بعد كل ذنبٍ، فإن الله يغفر له، وليس في الحديث إغراءٌ بالمعصية، ولكنه حثٌّ على المبادرة بالتوبة الصادقة؛ فالله سبحانه يعلم أننا غير معصومين من الخطأ؛ ولذلك فتح لنا باب التوبة في كلِّ وقت، حتى تبلغ الروح الحلقوم، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون" [رواه الترمذي، وابن ماجه]، وقال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة، تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ" [رواه الترمذي]، ويجب أن يشغلك الندم على الذنوب الماضية، والإقلاع عن الحاضرة، والعزم على عدم العودة في المستقبل، وعلى قدر صدقك؛ سيوفقك ويعينك الله ويسترك؛ فلا تنفضح، ويقيك من شر الذنب؛ فلا يعاقبك عليه.

رابعًا: جاهِدْ نفسك، وقوِّ إرادتك، وانظر في العواقب، ولتعلمْ أن المعصية سببٌ للشقاء، والضنك، والضيق، والخوف، وأن من تركها لله، عوَّضه الله خيرًا منها، وأعظمها محبة الله، وطمأنينة القلب بذكره، والسعادة الحقة؛ فالله تعالى يمهل ولا يهمل؛ فربما سترك الله؛ لأجل أن تراجع نفسك، وتقلع عن فعلتك؛ فإذا أصررت عليها لا قدر الله ربما كشف أمرك، وهتك سترك.

خامسًا: المحافظة على الصلوات، وإقامتها على الوجه الأكمل؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكَر.

سادسًا: إدمان الذِّكر، والأوراد المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، ونحوها من الأذكار المطلقة والمقيدة، وكذلك أكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ فإنها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تكابد بها الأهوال، وتحمل الأثقال، وينال رفيع الأحوال".

سابعًا: ملازمة الدُّعاء، وتحرِّي أوقات ومواضع الإجابة، ومصاحبة الأخيار، والبُعد عن الأشرار، مع شغل الوقت بما يعود عليك نفعه، ولتبتعد عن الفراغ في دينك، ودنياك.

ثامنًا: تجنُّب المثيرات؛ بالبُعد عن مواطن الفتَن.

تاسعًا: الحذر من تذكُّر الذنب بين الفينة والأخرى؛ فالتفات القلب إلى الذنب، يجعل الإنسان غالبًا يحن إليه؛ فلا بد والحال كذلك من نسيان الذنب، أو تناسيه، وقطع الاسترسال في تفكره.
قال ابن الجوزي في "المدهش" (ص: 161): "يا هذا دبر دينك، كما دبرت دنياك؛ لو علق بثوبك مسمارٌ، رجعت إلى وراء؛ لتخلصه، هذا مسمار الأضرار قد تشبث بقلبك، فلو عدت إلى الندم خطوتين، تخلصتَ".
وقال: "إنك إذا اشتبك ثوبك في مسمارٍ، رجعت إلى الخلف لتخلصه، وهذا مسمار الذنب قد علق في قلبك، أفلا تنزعه؟!.. انزعه، ولا تدعه بقلبك يغدو عليك الشيطان ويروح، اقلع الذنب من قلبك" اهـ.
قال ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (16 / 58): "فإن العبد إنما يعود إلى الذنب؛ لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة، لم يعد إلى الذنب؛ فهذه التوبة النصوح، وهي واجبةٌ بما أمر الله تعالى ولو تاب العبد، ثم عاد إلى الذنب، قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا.
ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يصرَّ، بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرةٍ؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب العبد المفتن التواب"، وفي حديثٍ آخر: "لا صغيرة مع إصرارٍ، ولا كبيرة مع استغفارٍ"، وفي حديثٍ آخر: "ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم مائة مرةٍ" اهـ من مجموع الفتاوى.

عاشراً: احرص على اقتناء كتاب: "تلبيس إبليس" لابن الجوزي، و"إغاثة اللهفان" و"مدارج السالكين" لابن قيم الجوزية، وراجع - لزامًا - "فصل في مشاهد الخلق في المعصية"؛ حيث ذكر ثلاثة عشر مشهدًا، وقال: "وهذا الفصل مِن أجَلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحدٍ، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى: "سفر الهجرتين في طريق السعادتين".
والله أسأل أن يرزقنا جميعًا توبةً نصوحًا، ويثبتنا على صراطه المستقيم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 8
  • 0
  • 51,336

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً