لا يصح أن يكون رأسُ مالِ الشركة ديناً
لي دينٌ على شخصٍ واتفقت معه على إنشاء شركة للتجارة بالمواد الغذائية، ونعمل فيها سوياً، ولكل واحدٍ منا نصفُ رأس المال، فدفع حصته من رأس المال، واتفقنا على أن تكون حصتي ما في ذمته من الدَّين، فهل تصح هذه الشركة، أفيدونا؟
الشركة المذكورة في السؤال هي إحدى شركات العقد في الفقه الإسلامي وهي: عقدٌ بين المتشاركين في رأس المال والربح، والشركة مشروعةٌ بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص:24].
وقال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12].
وروي في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبَه، فإذا خان أحدُهما صاحبَه خرجت من بينهما" (رواه أبو داود والحاكم وصححه، وضعفه الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/471).
وعن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري" (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/111 وصححه الحاكم). وورد في الحديث: "أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما كانا شريكين، فاشتريا فضةً بنقدٍ ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن ما كان بنقدٍ فأجيزوه، وما كان بنسيئةٍ فردُّوه" (رواه أحمد، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وهو عند البخاري متصل الإسناد بغير هذا السياق، التلخيص الحبير 3/471).
وقال الكمال بن الهمام الحنفي بعد أن ذكر حديث: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه" قال: ولا شك أن كون الشركة مشروعةً أظهرُ ثبوتُها مما به ثبوتها من هذا الحديث ونحوه، إذ التوارث والتعامل بها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جرا، متصلٌ لا يُحتاج فيه إلى إثبات حديث بعينه، فلهذا لم يزد المصنف -أي صاحب الهداية- على ادعاء تقريره صلى الله عليه وسلم عليها (فتح القدير 5/3).
وقد أجمع العلماء على مشروعية الشركة بشكلٍ عامٍ، فقد كان الناس وما زالوا يتعاملون بها في كل زمانٍ ومكانٍ، وفقهاء الأمصار شهودٌ، فلا يرتفع صوتٌ بنكيرٍ. (الموسوعة الفقهية الكويتية 27/33).
وما اتفق عليه الشريكان من المشاركة في رأس المال والعمل يسمى شركة العنان عند الفقهاء، وهي أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما على نسبةٍ شائعةٍ حسب ما يتفقان. ولا يشترط تساوي رأس مال الشركاء، وقد وضع لها الفقهاء أركاناً وشروطاً لضبطها، ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك، ولكن أذكرُ ما يتعلق برأس مال الشركة من شروط:
فأولها: أن يكون رأسُ مال الشركة معلوماً غير مجهولٍ.
وثانيها: أن يكون رأسُ مال الشركة حاضراً، فلا يجوز أن يكون بمالٍ غائبٍ أو دينٍ، لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة.
وثالثها: أن تكون حصةُ كل شريكٍ من الربح معلومةً، أما إذا كانت مجهولةً فيكون عقد الشركة فاسداً.
ورابعها: أن يكون مقدارُ الربح للشركاء جزءً شائعاً كالنصف أو الثلث أو الربع مثلاً، فإن كان مقدارُ الربح معيناً كمئة دينار مثلاً كان عقد الشركة فاسداً.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: فصل: لا يجوز أن يكون رأس المال مجهولاً ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولاً ولا جزافاً، لأنه لا بد من الرجوع به عند المفاصلة ولا يمكن مع الجهل والجزاف، ولا يجوز بمالٍ غائبٍ ولا دينٍ، لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة (المغني 5/126).
وقال البهوتي الحنبلي: ولها أي شركة العنان شروط منها: أن يكون المالان المعقود عليهما معلومين، فلا تصح على مجهولين للغرر، فإن اشتركا في مالٍ مختلطٍ بينهما شائعاً كما ورثاه، أو اتهباه ولم يعلما كميته صح عقد الشركة، إن علما قدر مالِ كل منهما فيه من نصفٍ أو ربعٍ ونحوه ، لانتفاء الغرر بذلك. و منها أي شروط الشركة حضور المالين كمضاربة لتقرير العمل وتحقيق الشركة، فلا تصح الشركة على مالٍ غائبٍ ولا على مالٍ في الذمة، لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة، لكن إذا أحضراه وتفرقا ووجد منهما ما يدل على الشركة فيه انعقدت حينئذ (كشاف القناع عن متن الإقناع 11/269).
وينبغي التنبيه إلى قضيةٍ مهمة ألا وهي الخسارة إذا حصلت، فتكون على حسب حصة كل شريكٍ من رأس مال الشركة، فإذا كانت حصص الشركاء متساوية، فتوزع الخسارة عليهم بالتساوي، وإذا كانت حصصهم في رأس المال متفاوتة، فكل شريكٍ يتحمل من الخسارة بمقدار حصته من رأس المال.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: مسألة: قال والوضيعة على قدر المال يعني الخسران في الشركة على كل واحدٍ منهما بقدر ماله، فإن كان مالهما متساوياً في القدر فالخسران بينهما نصفين، وإن كان أثلاثاً فالوضيعة أثلاثاً، لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وغيرهما (المغني 5/147).
إذا تقرر هذا فإن الاتفاق الذي تمَّ بين الشريكين كما ورد في السؤال، من حيث كون حصة أحد الشريكين ديناً في ذمة الشريك الآخر، يجعل الشركة باطلة، لأن من شروط رأس مال الشركة كما سبق أن لا يكون ديناً، كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولاً ولا جزافاً لأنه لا بد من الرجوع به عند المفاصلة، ولا يمكن مع الجهل والجزاف، ولا يجوز بمال غائب ولا دينٍ لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة (المغني5/126).
وهذا مذهب جماهير الفقهاء، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 26/48. وهو ما قرره القانون المدني الأردني لسنة 1976 أيضاً حيث ورد في المادة (585) ما يتعلق برأس مال الشركة:
1- يشترط أن يكون رأس مال الشركة من النقود أو ما في حكمها مما يجري به التعامل، وإذا لم يكن من النقود فيجب أن يتم تقدير قيمته. 2
- ويجوز أن تكون حصص الشركاء متساوية أو متفاوتة ولا يجوز أن يكون الدين في ذمة الغير أو حصة فيه رأس مال للشركة.
وورد في المادة رقم (1341) من مجلة الأحكام العدلية: يشترط أن يكون رأس مال الشركة عيناً ولا يكون ديناً، أي لا يكون المطلوب من ذمم الناس رأس مال للشركة. مثلاً ليس لاثنين أن يتخذا دينهما الذي في ذمة آخر رأس مالٍ للشركة فيعقدا عليه الشركة، وإذا كان رأس مال أحدهما عيناً والآخر ديناً فلا تصح الشركة أيضاً. وقال علي حيدر شارح المجلة: يشترط أن يكون رأس مال الشركة عيناً أو غير دينٍ وأن لا يكون مالاً غائباً، فلذلك لا يكون الدين أي المطلوب من ذمم الناس رأس مال لشركة المفاوضة أو العنان، لأنه لا يمكن بالدين شراء المال وبيعه والربح من ذلك، أي لا يمكن إجراء مقتضى الشركة، لأن الدين لا يملك لغير من عليه الدين، فلا يمكن أن يشتري مالاً من عمرو مقابل الدين المطلوب من زيد مثلاً. مثلاً ليس لاثنين أن يتخذا دينهما الذي في ذمة آخر رأس مال للشركة فيعقدا عليه الشركة. وإذا كان رأس مال أحدهما عيناً والآخر ديناً فلا تصح الشركة أيضاً (درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3/354-355).
وورد في المعيار الشرعي رقم (12) الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية المتعلق بالشركة ( المشاركة) والشركات الحديثة: 3/1/2/4 لا يجوز أن تكون الديون -الذمم على الغير- وحدها حصة في رأس مال الشركة إلا في الحالات التى تكون فيها الديون تابعة لغيرها مما يصح جعله رأس مال للشركة، مثل تقديم مصنع رأس مال للشركة بما له وما عليه (المعايير الشرعية ص 163).
وورد في ملحق مستند الأحكام الشرعية للمعيار السابق في بيان مستند عدم جواز أن تكون الديون وحدها حصةً في رأس المال: أنه لا يتحقق به القدرة على التصرف في ممارسة نشاط الشركة، ولأنه قد يؤدي إلى الربا إذا كان الشريك هو المدين. أما إذا كانت الديون تابعة فمستند جواز ذلك مبدأ التبعية حسب القاعدة ( التابعُ تابعٌ ولا يفرد بالحكم) و(يفتقر في التابع ما لا يفتقر في المتبوع) (المعايير الشرعية ص 176).
وخلاصة الأمر أن شركة العنان مشروعة، ويشترط في رأس مالها أن لا يكون ديناً في الذمة، فلا تصح الشركة إذا كانت حصة أحد الشريكين ديناً في ذمة الشريك الآخر، وهذا ما قرره الفقهاء قديماً وحديثاً، وأخذت به مجلة الأحكام العدلية المطبقة في بلادنا حالياً، وأخذ به القانون المدني الأردني، وهو ما قرره المعيار الشرعي الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية المتعلق بالشركات.
تاريخ الفتوى: 12-10-2012.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: