متى يجوز للإنسان مدح نفسه؟
ما حُكم مدح النَفس في الإسلام؟ يعني هل إذا سُئل الإنسان عن نفسه مَثلاً ما أفضل صفاتك، وأجاب: لا أتكبر، وأحب للغير ما أحبه لنفسي، وهكذا، هل هذا يدخل في باب مدح النفس؟ وما تفسير هذه الآية ضمن موضوع مدح النفس: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]؟
الحمد لله
أولاً: قال الله عز وجل: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وفي هذا نهي عن تزكية النفس وإطرائها والإخبار عنها بطهارتها وبعدها عن الذنوب والآثام لغير حاجة إلى ذلك، إلا مجرد حب المدح والثناء.
قال الطبري رحمه الله: "يقول جل ثناؤه: لا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي". انتهى من "تفسير الطبري" (22/540).
وقال الشوكاني رحمه الله: "أَيْ: لَا تَمْدَحُوهَا وَلَا تُبَرِّئُوهَا عَنِ الْآثَامِ وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ تَرْكَ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ" انتهى من "فتح القدير" (5/ 136).
وقال ابن عقيل رحمه الله: "نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ الْمُورِثِ عُجْبًا وَتِيهًا وَمَرَحًا". انتهى من "الآداب الشرعية " (3/ 464).
ثانياً: الأصل في ذكر محاسن النفس، ومدحها بذلك: المنع، وأقل أحواله الكراهة، لكن في موضع الحاجة والمصلحة الشرعية: يرخص في مثل ذلك، بقدر ما تقتضيه الحاجة.
قال النووي رحمه الله: "اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان: مذموم، ومحبوب.
فالمذمومُ: أن يذكرَه للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتميّز على الأقران، وشبه ذلك.
والمحبوبُ: أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف، أو ناهياً عن منكر، أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة، أو معلماً، أو مؤدباً، أو واعظاً، أو مذكِّراً، أو مُصلحاً بين اثنين، أو يَدفعُ عن نفسه شرّا، أو نحو ذلك، فيذكر محاسنَه، ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به، أو نحو ذلك.
وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري) ، « » (سنن الترمذي)، « » (أخرجه ابن حبان في صحيحه)، « » (صحيح الجامع)، « » (صحيح ابن حبان)، وأشباهه كثيرة.
وقال يوسف صلى الله عليه وسلم: {اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وقال شعيب صلى الله عليه وسلم: {سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27].
وقال عثمان رضي الله عنه حين حُصر ما رويناه في صحيح البخاري أنه قال: "ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » فجهّزتها؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » فحفرتها؟
فصدّقوه بما قال.
وروينا في صحيحيهما عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: لا يُحسن يصلي!.
فقال سعد: "والله إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله تعالى".
وروينا في صحيح مسلم عن عليّ رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ، إنه لعهدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ: أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ، ولا يبغضني إلا منافق".
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا". انتهى مختصرا من "الأذكار" (ص: 278-279).
وقال ابن مفلح رحمه الله:
"قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ مَدَحَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ التَّوَاضُعُ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَا مَدْحُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ بَغْيٍ وَتَكَبُّرٍ، وَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ الْوُصُولَ إلَى حَقٍّ يُقِيمُهُ، وَعَدْلٍ يُحْيِيه، وَجَوْرٍ يُبْطِلُهُ: كَانَ ذَلِكَ جَمِيلًا جَائِزًا.
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاَللَّهِ مَا آيَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْتُهُ.
فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَتَعْرِيفِ الْمُسْتَفِيدِ مَا عِنْدَ الْمُفِيدِ". انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إلَيْهِ.
وَفِي تَرْجَمَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "سَلُونِي فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَقَدْتُمُونِي لَتَفْقِدُنَّ رَجُلًا عَظِيمًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبَكَتْ ابْنَتُهُ: يَا بُنَيَّةُ لَا تَبْكِي، أَتَخَافِينَ أَنْ يُعَذِّبَنِي اللَّهُ وَقَدْ خَتَمْت فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ؟
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أيضاً: نَظَرْت إلَى أَقْرَأِ النَّاسِ فَلَزِمْته عَاصِمًا، ثُمَّ نَظَرْت إلَى أَفْقَهِ النَّاسِ فَلَزِمْته مُغِيرَةً، فَأَيْنَ تَجِدُ مِثْلِي؟". انتهى مختصرا من "الآداب الشرعية" (3/ 464-465).
وعلى ذلك:
فالأصل في مثل هذا السؤال ألا يجاب، بل ألا يسأل أيضاً، ومن سُئل عن مثله، رد العلم بتقوى القلوب، إلى علام الغيوب.
لكن إن كانت هناك مصلحة شرعية راجحة، دعت إلى ذلك، مع أمن الفتنة له ولغيره بمثل ذلك المديح: جاز له منه، بقدر ما تحصل به الحاجة.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (36/380):
"ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُزْكِيَهَا.
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ: وَمَدْحُكَ نَفْسَكَ أَقْبَحُ مِنْ مَدْحِكَ غَيْرِكَ، فَإِنَّ غَلَطَ الإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنَّ حُبَّكَ الشَّيْءَ يَعْمِي وَيَصُمُّ، وَلا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَرَى عُيُوبَ غَيْرِهِ وَلا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْذِرُ بِهِ نَفْسَهُ بِمَا لا يَعْذِرُ بِهِ غَيْرَهُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49].
وَلا يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِلا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا إِلَى قَوْمٍ فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ، أَوْ لِيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوِلايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، لِيَقُومَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَأْمَنُونَ التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى بأمثالهم" انتهى.
وينظر للاستزادة "إخفاء العمل الصالح، والفرح بثناء الناس على صاحبه؟".
والله تعالى أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: