مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار
الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.
فإن الأخلاق جمال الظاهر وإن كان الإنسان مبتذلا، وهي ثروة من لا ثروة له وجاه من لا جاه له، فصاحب الخلق في الدنيا موقّرٌ محبوبٌ، وفي الآخرة مُقرّبٌ محمود، والأخلاق الفاضلة مما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [البيهقي]، والأخلاق حُلة الداعية وصاحب الرسالة فعامة الناس تقيس الدعوة بخلق صاحبها وتعامله، وههنا طرق لبعض الأخلاق السامية التي تعتبر جاه الأكارم الميامين وسيما الأفاضل الطاهرين، ويأتي في مقدمتها خلق الإيثار، وما أدراكم ما الإيثار؟
الإيثار "فضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه" [تهذيب الأخلاق لابن مسكويه]
والإيثَار "أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهو النِّهاية في الأخوة" [التعريفات للجرجاني]
فالإيثار هو أكمل أنواع الجود، وهو خلق لا يستطيعه إلا من كمل له الخلق الحسن، فإن بلوغ النفس إلى درجة تستغني فيها عن محبوباتها وملذاتها فتجود بها للغير، يتطلب فصولا من المجاهدة تتساقط خلالها الأنفس الضعيفة، قال ابن العربي رحمه الله: "الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدنيويّة رغبة في الحظوظ الدينيّة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقّة" [أحكام القرآن]
والحض على هذه الخصلة أكده القرآن في مواطن كثيرة، منها قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
قال شيخ المفسرين الإمام الطَّبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} مِن قبل المهاجرين، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم" [التفسير]
وقال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" [التفسير]
ويقول ابن تيمية: "وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤْثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة" [منهاج السنة]
وقال الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]، قال الطبري: "لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم" [التفسير]
أما في السنة، فما جاء شيء في الترغيب بالإيثار أبلغ من تجسّده بالعمل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما ربّاهم عليه وكان لهم قدوة صلوات الله وسلامه عليه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أراد أن يغزو فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار إنَّ مِن إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمَّ أحدكم إليه الرَّجلين أو الثَّلاثة، فما لأحدنا مِن ظهرٍ يحمله إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ). (يعني: أحدهم)." فضممْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ أحدهم مِن جملي" [رواه أبو داود]. فانظر أخي لمعاني الإيثار في الجهاد رغم شدة حالهم وقلة مراكبهم يتعاقبون ركوب الجمال حتى لا يمشي المسافة كلها شخص على رجليه من طول الطريق، ثم تذكر أخي القاعد كيف جهادهم بالأمس وكيف جهاد اليوم؟ أي مشقة تلك التي كانوا يجدونها؟ ومع ذلك جاهد القوم وصبروا وآثر بعضهم بعضا.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ (قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان) [البخاري]
قال ابن بطَّال: "فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في فعله". [شرح الصحيح]
وأما ما جاء في قصة أحد تلاميذ المدرسة النبوية وهو أبو طلحة الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما حيث جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه ليضيف هذا الرجل فما كان عندهم إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله)، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلّا قوت صبياني، قال: فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه، فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح، غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: (قد عجب اللّه من صنيعكما بضيفكما اللّيلة) [رواه مسلم] والمراد بالعجب من الله تعالى أي: رضاه سبحانه بذلك الفعل. قال النووي في شرحه: "وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا، وحظوظ النفوس، وأما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها؛ لأن الحق فيها لله تعالى. والله أعلم".
ومن ذلك أيضًا قول أم المؤمنين عائشة وفعلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين أرسل إليها يستأذن في أن يدفن بجوار صاحبيه (النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) فقالت: "كنت أريده (أي موضع الدفن) لنفسي، فَلأوثِرَنَّهُ اليوم على نفسي". ودُفنت هي بالبقيع رضي الله عنها.
وقد قسّم ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) الإيثار وجعله على ثلاث درجات:
"الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا -أي: إلى الله-، ولا يفسد عليك وقتًا، يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين.
الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن، وإيثار رضا اللّه عزّ وجلّ على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء.
الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة. ا.هـ مختصرا
فتأمل أخا الإسلام إن كان هذا حال من آثر غيره ببعض محابِّ نفسه قد جاء مدحه بالقرآن والسنة فكيف بالذي جاد بنفسه إيثارا منه لتكون كلمة الله هي العليا؟، فآثر على نفسه الأمان ليأمن المسلمون، وفارق الأهل والخلان كي يدافع وينافح عن شريعة الرحمن، وتحمّل في سبيل ذلك الجوع والعطش والجراح وتصبّر بطون السجون، كله إيثارا لخدمة دين رب العالمين، فذا أمر قلّ مَن يستطيعه في هذا الزمان.
فإن هؤلاء يكابدون عناء شديدا على أنفسهم فأردفهم الله عونا منه فهان كل شيء بأعينهم، وكلما قوي جهاد العبد لنفسه هداه الله السبيل وأرشده الطريق القويم، {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
والمتصدق يجاهد النفس والهوى والشيطان ليُخرج صدقته، فما ظنك بالمجاهد كم سيجاهد غير هؤلاء الأعداء الثلاثة ليُوفّق للجهاد؟ فهناك علماء السوء والمخذلين والمثبطين والطاعنين، ومع ذلك لم تثنه عن الجود بنفسه؛ لِما قذف الله في قلبه من النور، فمضى راكبا جواد الموت لا يلفت وجهه، فلقد جادت نفسه راضية تريد جوار الرحمن، هناك هناك حيث الجنة ونعيمها وأعلاه النظر لوجه الله الكريم، فهي دار من أنفق لوجه الله ما أحب، {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ ...المزيد
أبو معاوية / عبد الرحمن
التدوينات
منذ 21 دقيقة
مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى ...
مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار
الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.
فإن ...المزيد
الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.
فإن ...المزيد
أبو معاوية / عبد الرحمن
التدوينات
منذ حوالي ساعة
معركةُ التوحيد في كابل دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، ...
معركةُ التوحيد في كابل
دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، وراسما خارطة النور لمرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة، بينما عاد الجيش الأمريكي ليحدّث ...المزيد
دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، وراسما خارطة النور لمرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة، بينما عاد الجيش الأمريكي ليحدّث ...المزيد
أبو معاوية / عبد الرحمن
التدوينات
منذ حوالي ساعة
مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين ...
مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين عباده من المردة الشياطين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه ...المزيد
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين عباده من المردة الشياطين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه ...المزيد
ثم برز ضوء لصاحب كهف من اصل ملوك ارض
ثم برز ضوء لصاحب كهف من اصل ملوك ارض
ثم نكس عل رأسه. اءنك لانت ضالم مماري وانتصر. يوسف -ماء. والبلد والافراح. و مفرقعات ...
ثم نكس عل رأسه. اءنك لانت ضالم مماري
وانتصر. يوسف -ماء. والبلد
والافراح. و مفرقعات
وانتصر. يوسف -ماء. والبلد
والافراح. و مفرقعات
كلام لين. ينجي من ممارات وشتاءم للمرة الالف والموضوع مزعج انا .......بدأت ...
كلام لين. ينجي من ممارات وشتاءم
للمرة الالف والموضوع مزعج
انا .......بدأت ......خلق
قال برام. انضر خالد وبعض تقنيات في وقت مناسب. ولا سلطة6. علينا. ولم نكن44. يوما. وسعودية
للمرة الالف والموضوع مزعج
انا .......بدأت ......خلق
قال برام. انضر خالد وبعض تقنيات في وقت مناسب. ولا سلطة6. علينا. ولم نكن44. يوما. وسعودية
شمة. ولم. انزاحت
شمة. ولم. انزاحت
شك يذهب للغرفة باقين ......فيه........ ابدا
شك يذهب للغرفة
باقين ......فيه........ ابدا
ناس يومءذن سعيدة ف. الو. اشعارات قليلة
ناس يومءذن سعيدة ف. الو. اشعارات قليلة
هل1 ولا1 قتلك حديث غاشية
هل1 ولا1
قتلك
حديث
غاشية
قتلك
حديث
غاشية
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00
يتبقى على
18
جمادى الآخرة
1447
| الفجر 00:00 | الظهر 00:00 | العصر 00:00 | المغرب 00:00 | العشاء 00:00 |