°كان لسبا جنتان قبل وادي ثم سدر وصحراء وخمط وشيئ قليل ° احمر °سليمان

°كان لسبا جنتان قبل وادي ثم سدر وصحراء وخمط وشيئ قليل
° احمر
°سليمان

🌃رسائل الفجر١٤٤٧/٧/٢٤🌃 لا تجعل حياتك كأنك في حالة طوارئ؛ فتعيش متوترا متوجسا؛ حزينا على ماضي قد ...

🌃رسائل الفجر١٤٤٧/٧/٢٤🌃
لا تجعل حياتك كأنك في حالة طوارئ؛ فتعيش متوترا متوجسا؛ حزينا على ماضي قد فات؛ وخائفا من مستقبل في علم الغيب؛ فخذ عبرة من ماضيك؛ واستعد لتأسيس مستقبل بما تقدر
🔻 🔻 🔻
استمتع بلحظتك؛ وعش حياتك دينا ودنيا؛ ولا تؤجل عمل اليوم إلى غد؛ ولا تجر عمل غد إلى اليوم؛ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
🔻 🔻 🔻
(لعلك باخع نفسك..) (فلعلك باخع نفسك على آثارهم..) ( ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) هدايات قرانية في عدم إهلاك نفسك في أشياء لم تتحقق لك على أنك قد بذلت جهدك؛ لا تيأس واستمر في بذل الأسباب لكن ارض بما قسم الله لك؛ وعش حرا سيد نفسك لا عبدا لأطماعك أو رغباتك أو همك وقلقك.
🔻 🔻 🔻
تذكر أن حاجة من عاش لا تنتهي؛ فامش في دنياك واسع لأخراك واجعل الدعاء سلاحك والتقوى زادك؛ ولا تعجز؛ فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.
https://t.me/azzadden
...المزيد

الدولة الإسلامية - قصة شهيد - أبو محمد الفرقان إن حرب العقائد والأفكار لا تقل أهمية ولا شراسة ...

الدولة الإسلامية - قصة شهيد - أبو محمد الفرقان


إن حرب العقائد والأفكار لا تقل أهمية ولا شراسة عن حروب الحديد والنار التي تتصارع من خلالها الجيوش، فتُسحق فيها الجماجم، وتُسكب الدماء، ويُباد البشر، بل لا مبالغة في القول إن حرب الأفكار هي الأساس الذي تقوم عليه أكثر حروب الحديد والنار.

ولذلك يخصص المشركون جزءا كبيرا من مواردهم المالية والمادية والبشرية لهذه الحرب، لتقوية صفوفهم، وتحشيد أنصارهم، وتغيير عقائد المسلمين، وزرع الوهن والعجز في نفوسهم، ودفعهم إلى الاستسلام والقبول بالتبعية لأعداء الملة والدين.

وفي الوقت نفسه يرابط على هذا الثغر العظيم رجال من أهل التوحيد، يعرفون من أين يُؤتى الإيمان، فيدفعون عن المسلمين الشبهات، ويدركون مقاتل العدو، فيُتبعون الغارة الغارة على عقول أتباعه وقلوبهم، ويوقنون أن النصر من الله تعالى، فيستعينون عليه بطاعته سبحانه، والتوكل عليه حق التوكل.

ومن هؤلاء الدعاة إلى الله، الذائدين عن حياض الإيمان، الذين وطئوا مرارا مواطئ تغيظ الكفار، حتى اعترفوا مرغمين بخبرته في هذا الميدان من الصراع، وشدة بأسه وصبره على هذه الساحة من ساحات النزال؛ الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان، تقبله الله تعالى، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

هو الدكتور وائل الطائي، من الرعيل الأول من المجاهدين في العراق، وتلاميذ مدرسة التوحيد في بغداد التي وضع أسسها الشيخ فائز تقبّله الله، ودفع ثمنا لذلك قتلة في سبيل الله على يد طاغوت البعث الهالك صدام حسين، ومن المؤسسين لقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين آنذاك، ومن القادة الأفاضل لدولة العراق الإسلاميّة، وأحد من أرسى الله بهم دعائم الدولة الإسلامية في الشام، وجدّد بهم معالم الدين وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نشأ يتيما فلم يمنعه ذلك من التفوق على أقرانه، ودرس الطبّ فلم يشغله ذلك عن طلب العلم الشرعي والدعوة إلى دين الله تعالى، فكان ينشط بين زملائه في جامعة بغداد يدعوهم إلى التوحيد، ويوزع عليهم رسائل أئمة الدين من علماء الدعوة النجدية رحمهم الله، ويرتبط بعُصب الموحدين في بغداد وحزامها، ويطلب العلم على يد بعض من عُرفوا به في تلك الفترة.

لم يكد ينهي دراسته للطب وتخصصه في طب الأطفال ويعمل به لسنوات قليلة حتى دهمه وإخوانه الغزو الصليبي الأمريكي لأرض العراق، وسقوط نظام البعث الكافر، وانطلاق الجهاد المبارك في بلاد الرافدين، فكان من العصبة التي تأسست على يديها جماعة (أنصار السنة) في العراق، وذلك بعد وصول من نجا من جماعة (أنصار الإسلام) في كردستان إليهم، فكانوا النواة المؤسسة لهذه الجماعة المقاتلة، والمحرك الفعلي لأغلب مفاصلها.

• مع الأمير الذباح.. أبي مصعب الزرقاوي

فلما أظهر الله -تعالى- دعوة الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله، وأبان للناس صحة منهجه، وأعظم نكايته وإخوانه في الصليبيين، كان خيار الأفاضل من جماعة (أنصار السنة) الانضمام إليه، وعقد البيعة له، حرصا على الجماعة، ونبذا للاختلاف والفرقة، وكان على رأس هؤلاء الأفاضل الشيخ (أبو علي الأنباري) تقبّله الله، الذي فوضه إخوانه بمبايعة الشيخ الزرقاوي بالنيابة عنهم بعد أن وجدوا تسويفا ومماطلة من قيادة (أنصار السنة) في هذا الأمر، وحرصا على الزعامة والإمارة.

وهكذا دخل الشيخ أبو محمد إلى صفوف قاعدة الجهاد، ملازما لأخيه وأميره الشيخ خالد المشهداني (أبو شهد) تقبّله الله، الذي كان أميرا للقسم الإعلامي في التنظيم، فلما زادت الأحمال والتكاليف التي ألقاها الشيخ الزرقاوي على عاتق (أبي شهد)، عهد إلى أبي محمد بإدارة ملف الإعلام بالنيابة عنه، فأبلى في ذلك أحسن البلاء، حتى اعتقل الشيخ المشهداني، فصار أبو محمد أميرا للإعلام في التنظيم وكان يعمل حينها بكنية (أبي سَجَّاد).

وفي تلك الفترة كان الشيخ كثير اللقاء بالشيخ الزرقاوي يناقش معه أمور الإعلام والرسائل التي ينبغي أن تصل إلى كل من المسلمين والصليبيين، فتزيد من تأييد أهل الإسلام للجهاد في العراق، وتدفعهم إلى الهجرة والانضمام إلى المجاهدين، وتوهن من عزائم الصليبيين، وتشككهم في جدوى حربهم المهلكة في العراق، وتدفعهم إلى الانسحاب منه مخذولين مدحورين، وكان -رحمه الله- يبين لإخوانه في تلك المرحلة أن أهم واجبات الإعلام فيها إظهار الغلظة والشدة من المسلمين على الصليبيين، لإعادة الثقة والعزة لدى أهل الإيمان بعد قرون من الذل والخضوع، ولزرع الرعب من المجاهدين في قلوب المشركين عامة، وهذا ما كان بفضل من الله وحده.

ولما استوى الجهاد على سوقه، وقويت شوكة المجاهدين بعد معركة الفلوجة الثانية، وبدأ الشيخ الزرقاوي -تقبّله الله تعالى- يعد العدة لمسك الأرض، وتحقيق التمكين، وإقامة الشريعة والدين، وإعلان الدولة الإسلامية، وعزم أن يسبق ذلك بالخروج على الإعلام بوجهه مطمئنا للموحدين وإغاظة للمشركين.
كان الشيخ أبو محمد على موعد مع الشيخ الزرقاوي ليكون معه في تصوير المشاهد الضرورية للإصدار، فخرج إليه مع عدد من إخوانه أمراء التنظيم، كالشيخ أبي علي الأنباري والشيخ أبي محمد العراقي والشيخ أبي المعتز القرشي تقبّلهم الله جميعا، فقدر الله أن يعثر الصليبيون على المضافة التي كانوا فيها ينتظرون من يقلهم إلى مكان الشيخ الزرقاوي، وذلك إثر عملية إنزال أمريكية على موقع للمجاهدين قريب من المضافة، فالتقطت مكان المضافة عدسات طائرة استطلاع للصليبيين كانت تحوم في الأجواء لحظة اشتباكهم مع المجاهدين، وبعد أن انتهى الاشتباك بمقتل جميع المجاهدين في الموقع المجاور حيث فجَّروا أحزمتهم على القوات المهاجِمة ورفضوا الاستئسار لهم، حاصروا المضافة وفيها الشيخ أبو محمد ومن معه، وهم عزّل من السلاح تقريبا، لكون طريقهم من بغداد إلى مكان الشيخ الزرقاوي ملغما بالعديد من سيطرات الصليبيين، فقدر الله للشيخ أبي محمد أن يؤسر، ويبقى في السجن سنوات، وأن لا يودع أميره الوداع الأخير، فقتل الشيخ الزرقاوي تقبّله الله، وهو في سجنه، أسيرا عند الصليبيين، متنقلا بين سجونهم ومحاجرهم.

• داع إلى الله في سجون الصليبيين

في سجنه، لم يكن الشيخ أبو محمد لينسحب من ثغره ولا أن يترك أفكار أهل الضلال بمختلف أنواعهم أن تلوّث منهج أهل التوحيد أو تفسد عقائدهم، فكان يتصدى لأي انحراف يجده داخل السجن، ويقف في وجه كل من يسعى لإضلال المجاهدين مستغلا الضيق النفسي الذي يشعرون به في محابسهم، من خلال جرهم إلى الإرجاء إن وجد فيهم ضعفا وعجزا، أو دفعهم إلى الغلو إن وجد فيهم غضبا وسفاهة، وما زال جنود الدولة الإسلامية يذكرون موقفه في وجه الغلاة داخل السجن بعد خروج نابتة الخوارج في إحدى المناطق، وتسرب أفكارها الغالية إلى داخل السجن، معتمدين على شبهات باطلة أخذوها من بعض الكتب التي لم يحسنوا قراءتها، وأقوال نقلوها عن بعض علماء السوء لم يفهموها.

ولما وجد الإخوة الذين كانوا يسيِّرون شؤون جنود الدولة الإسلامية داخل السجن عظم فتنة الغلاة وخطرهم فوّضوا الشيخ أبا محمد الفرقان للتصدي لهم، وقد برزت حكمته وحسن سياسته في إدارته لذلك الملف الشائك، فلم يصطدم برؤوس الغلاة، ولم يلق لهم بالا لكيلا يمنحهم قيمة لا يستحقونها أو زعامة لا يملكونها، بل أسس للرد عليهم بسلسلة مبسطة من المحاضرات الشرعية، في باب أحكام الديار، وبات يدرس هذا المنهاج المبسط لمن يثق بهم من الإخوة، ويختبرهم فيه، فمن ضبط المنهاج أجازه بتدريسه لغيره من الإخوة.

وبات هذا المنهاج الذي استنسخ منه المجاهدون مئات النسخ، كتبوها على أوراق ينزعونها من علب العصير الذي يُقدّم لهم مع وجبات الطعام، ويحفظونه عن ظهر قلب؛ ينتقل من غرفة إلى غرفة داخل السجن الواحد، ويتعلمه الإخوة، فيردون على شبهات الغلاة الذين كان معظمهم جاهلا في الدين سطحيا في التفكير، وهكذا منّ الله تعالى على الإخوة داخل السجن بعزل أولئك الغلاة، وحماية المجاهدين من شبهاتهم، في الوقت الذي بدأ فيه جنود الدولة الإسلامية بحصد رؤوسهم في مختلف مناطق العراق لتنطفئ فتنتهم ويزول شرهم، بفضل الله وحده.

كان في سجنه مثالا للولاء والبراء، ونموذجا لإظهار العزة على الكافرين حتى وهو أسير عندهم، فبقي يظهر لهم العداء، ويغلظ لهم في القول، ويقف في وجههم مجادلا عن إخوانه، ولم يلن معهم رغم احتكاكه الإجباري الكبير معهم، فقد ألزمته معرفته باللغة الإنكليزية بالعمل مترجما لإخوانه داخل الأسر، حتى كان مصدر إزعاج للسجّانين، ومصدر تعزيز لنفوس الأسرى والمعتقلين.

• إعادة تأسيس جهاز الإعلام في الدولة الإسلامية

منَّ الله تعالى على الشّيخ بخروجه من سجن الرافضة المشركين، وما هي إلا أيام وقد التقى بإخوانه وعاد للعمل معهم، فقد كانوا يرقبون هذا اليوم منذ سنين، وكانوا ينتظرون أمثاله ليقيم صرح الإعلام من جديد بعد تعاقب الضربات التي تلقاها الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية، من قتل للكوادر، ومداهمة للمكاتب والمقرات، وكثرة تغير المسؤولين عنه، فما يكلف به أحد من المجاهدين حتى يبتليه الله بالأسر، أو يمن عليه بالقتل، في فترة من أصعب الفترات التي مرت بها الدولة الإسلامية عموما، فولاه أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي -تقبّله الله تعالى- وزارة الإعلام في دولة العراق الإسلامية، وظهر في التشكيلة الوزارية الثانية للدولة تحت اسم (الأستاذ أحمد الطائي).

بعد فضل الله وحده، كان في حرصه الكبير على الإجراءات الأمنية، وما عرف عنه من كتمان شديد، وحسن اختيار للغطاء الذي يتحرك به، وكثرة تنقله؛ دور كبير في نجاته من أيدي المرتدين الذين عمموا اسمه وصوره من جديد على سيطراتهم طالبين اعتقاله، وكانت هذه السمات قديمة فيه لم يفارقها منذ أيام جهاده الأولى، فكل من عرفه كان يعرف عنه كرهه الشديد لأي سؤال يخص شخصه أو يكشف معلومات خاصة عنه، وكان يعقد أكثر اجتماعاته مع الإخوة ولقاءاته بهم في أماكن عامة، يغيرها في كل مرة، وأكثر تنقلاته في المدن سيرا على الأقدام
تجنبا للحواجز والسيطرات، وكان غطاؤه الذي يتحرك به كطبيب قريبا جدا من شخصيته ومهنته الأصلية مما ساهم -بفضل الله تعالى- في إبعاد الشبهات عنه، وقلل من متابعة المرتدين له.

وفي هذه الفترة الصعبة كان واجب الشيخ أبي محمد أن يعيد بناء الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية، فيقوي مركزه المتمثل آنذاك بمؤسسة الفرقان، ويعيد الارتباط بالأطراف المتمثلة بمكاتب الولايات، بل ويؤمّن الاتصال من جديد بفروع القاعدة في العالم من أجل الرد على مطاعنهم في الدولة الإسلامية ومنهجها، وتوضيح ما أشكل عليهم من مسائل بهذا الخصوص، وقد تولى هذه المهمة معه الشيخ أبو علي الأنباري تقبّله الله.

ولما كانت الضربات الأمنية السمة الكبرى لتلك المرحلة، ولضعف بنية الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية آنذاك؛ كاد هذا الجهاز أن ينهار تماما بضربة واحدة وخصوصا بعد اكتشاف الروافض وأوليائهم الصليبيين لمقر سري لمؤسسة الفرقان داخل مدينة بغداد، ومداهمتهم للمقر، حيث كانت الملحمة التي استبسل فيها اثنان من المجاهدين هما أبو فيصل العراقي وناصر الجزراوي في التصدي للقوات المهاجمة، والإثخان في المرتدين، حتى قتلا تقبلهما الله تعالى، لتنتهي معهم مؤسسة الفرقان لولا لطف الله، فقد كان البطلان هما نواة هذه المؤسسة المنتجان لإصداراتها، المشرفان -مع بعض من كان حولهم من إخوانهم- على كل نشاطاتها.

ولما وصل الخبر للشيخ أبي محمد سارع بسحب من سلم من الإخوة إلى مدينة الموصل ليبدأ بهم تأسيس العمل الإعلامي من جديد، رغم أن الثقل الأكبر من العمل وقع على عاتقه هو لا على غيره.

• ربيع المجاهدين

ففي تلك الفترة التي قل فيها دخول المهاجرين، وصعب فيها تحصيل الكوادر الإعلامية المدربة، وجد أنه ينبغي تأسيس العمل من جديد، وابتدأ بنفسه، فراح يقرأ عن فنون التصميم والمونتاج والإخراج، ويتعلم من شبكة الإنترنت ما يعينه على ذلك، حتى وجد في نفسه القدرة على العمل، فشرع في العمل على إنتاج سلسلة من الإصدارات لمؤسسة الفرقان، بارك الله فيها، وصارت محط أنظار الناس في مشارق الأرض ومغاربها، فكان (ربيع الأنبار)، وكان (صليل الصوارم) بإصداراته الثلاثة الأولى، والتي كان سرّها خافيا حتى على أقرب الإخوة من الشيخ والعاملين معه، فكان يعطيهم الإصدار قبل نشره ليستشيرهم في أمره ويأخذ ملاحظاتهم عليه، وقد أوهمهم أن فريقا من الإخوة قد أنجزه، وما ذلك إلا من إخلاصه، تقبله الله، نحسبه كذلك، والله حسيبه.

وقد تزامنت فترة إعادة تأسيس إعلام الدولة الإسلامية تلك مع أحداث كثيرة هامة، أهمها خروج القوات الصليبية الأمريكية من العراق مذلولة مدحورة، وعودة الزخم للعمليات العسكرية لجنود الدولة الإسلامية في مختلف ولايات العراق، وكذلك انطلاق المظاهرات في مختلف البلدان، التي سمّاها الإعلام بمظاهرات "الربيع العربي"، التي امتدت أصداؤها إلى داخل العراق، ورغم افتتان أكثر الناس بهذه الأحداث، وتسويق الضالين لها أنها خير من منهج المجاهدين في سبيل الله؛ كان قادة دولة العراق الإسلامية يدركون أن لا جدوى من المظاهرات السلمية، ولا صحة للدعوات الجاهلية حتى لو أفضت إلى إسقاط الطواغيت، ويوقنون أن لا بديل عن الجهاد في سبيل الله لإقامة الدين وتحكيم شريعة رب العالمين، ويعلمون أن أكبر فائدة تقدمها هذه المظاهرات والفوضى المرافقة لها أن تشغل الطواغيت وجنودهم، مما يسهل على المجاهدين توجيه الضربات القاضية لهم، وإقامة الدولة الإسلامية على ركام عروشهم المتهاوية، فكان إصدار (ربيع الأنبار) رسالة واضحة بهذا الخصوص، للتأكيد على أن لا تراجع عن منهج الجهاد، وأن ربيع المسلمين الحقيقي هو بإقامتهم للدين، وسيرهم على سنة خير المرسلين عليه الصلاة والسلام.

أما التأكيد الميداني على هذه الحقائق فتمثل بإرسال المجاهدين من العراق إلى الشام، ليؤسسوا لمشروع الجهاد ضد طاغية الشام بشار، مستفيدين من حالة الفوضى التي ضربت الشام إثر المظاهرات التي لم تتوقف منذ شهور، وباتت تتحول إلى العمل المسلح مع شدة بطش جنود الطاغوت في المناطق التي خرجت تنادي بإسقاط النظام النصيري، كما بدأ مجاهدو دولة العراق الإسلامية يصعدون من عملياتهم في مختلف ولايات العراق ويعظمون النكاية في الروافض والصحوات المرتدين، ويعدون العدة للنزول من الصحراء للسيطرة على المدن.

هذه الأحداث مهدت -بفضل الله وحده- لتحقيق التمكين للدولة الإسلامية، وتجديد الخلافة على منهاج النبوة، ثم الحملة الصليبية الكبرى والأخيرة -بإذن الله تعالى- على الدولة الإسلامية.

وكان للشيخ أبي محمد الفرقان -تقبّله الله- دور كبير في هذه الأحداث الكبرى بعد هجرته إلى الشام، وتوليه مهام جديدة في الدولة الإسلامية، وهذا ما سنكشف عنه -بإذن الله- في الحلقة القادمة من هذه السيرة العطرة، نسأل الله أن يعيننا ويسددنا، والحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 285
الخميس 24 رمضان 1442 هـ
...المزيد

مرئي بعنوان / انتقم مؤسسة الدرع السني.. تقدم الإصدار المرئي: [ انتقم ] فيا عبد الله ...

مرئي بعنوان / انتقم



مؤسسة الدرع السني..
تقدم الإصدار المرئي: [ انتقم ]


فيا عبد الله الموحد المجاهد إن طريقك قد قلَّ فيه السالكون في كل زمان وكثر المتساقطون، فانظر لمن سبقك من إخوانك الذين مضوا شهداء عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، تنعم أرواحهم في جوف طير النعيم والكرامة، حتى تقوم القيامة وهو آمن من الفزع يأكل من ثمار الجنة، فامض ولا تلتفت فإنك متى التفت وسمعت فإن ذلك قد يؤخرك عن مرادك وسيرك إلى غايتك، فلا تصحب من يعيقك عن جهادك المبارك من مخذل أو مرجف، واستعن بالله وكن أُمة وحدك، ولو ذهبت أرضك وازدحمت سماؤك بطائرات عدوك، فإن نصر الله يلوح بعد هذه المحن، ما دام قلبك ملازما للحق وما دمت مقاتلا دونه، فعندما جاء ابن أبي داود إلى الإمام أحمد متشمتاً يقول مقولة أهل النفاق: ألم تر كيف ظهر الباطل على الحق يا أحمد؟ فقال الإمام أحمد، رحمه الله: "إن الباطل لم يظهر على الحق، إن ظهور الباطل على الحق هو انتقال قلوب الناس من الحق إلى الباطل، وقلوبنا بعد لازمة للحق". وما علينا بعد ملازمة الحق والقتال إلا قطف الثمار، فإما الشهادة التي يحبها الله ويرضى بها عنا، أو أن نجوس الديار ونتبر ما علا طواغيت العالم تتبيرا، والله -تعالى- لا يتخلف وعده في نصر دينه وهو -سبحانه- قادر وغالب على أمره ولكن المنافقين لا يعلمون، والحمد لله رب العالمين.



لمشاهدة الإصدار تواصل معنا على منصة التيليجرام:
@WMC11AR
...المزيد

الكتاب: مجلة البيان (238 عددا) المؤلف: تصدر عن المنتدى الإسلامي [ترقيم الكتاب موافق ...

الكتاب: مجلة البيان (238 عددا)
المؤلف: تصدر عن المنتدى الإسلامي
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(رقم الجزء، هو رقم العدد. ورقم الصفحة، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في العدد المطبوع)
تنبيه: الأعداد بعد الـ 200 ترقيمها غير موافق للمطبوع
بطاقة الكتاب || إخفاء التشكيل

تأصيلات دعوية
سلوك الحكمة طريق الانتصار
(2من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال

بعد ذكر أهمية الحكمة وضح الكاتب في الحلقة الماضية مفهومها، ثم أبان
موانعها وأركانها وأسباب اكتسابها.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان جوانب
أخرى للموضوع. ... ... ...
... ... ... ... - البيان-
مواقف الحكمة:
أ - الحكمة في القرآن:
قصّ الله عز وجل علينا في كتابه قصصاً تمثلت فيها جوانب عظيمة من
الحكمة، يظهر بعضها لكل قارئ، ويظهر البعض الآخر بالتأمل العميق، ومن تلك
القصص:
-قصة أصحاب الكهف: وقد تمثلت الحكمة في اهتدائهم إلى دين الله، وترك
تقليد قومهم في الكفر، وفي اعتزالهم لقومهم حين أيقنوا بعدم انتفاعهم بالنصح،
وفي صمودهم على الحق في مواجهة الباطل، وفي عزلتهم الثانية في الكهف وهي
عزلة سرية للتعبد، وفي حنكتهم في قضاء حوائجهم من المدينة.
-قصة سليمان وملكة سبأ: وتظهر الحكمة في عناية سليمان عليه السلام
برعيته، وتفقده لأحوالهم، وعدم تعجّله بالحكم بغياب الهدهد، ولما تيقن غيابه
تهدده بالعقوبة الشديدة إلا إذا أتاه بحجةٍ تبرئه، وتبين سبب غيابه؛ كما تظهر
الحكمة في تثبته من كلام الهدهد، والتأكد من صدقه، ثم في أسلوب رسالته [إنَّهُ
مِن سُلَيْمَانَ وَإنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاًتُونِي مُسْلِمِينَ]
[النمل: 30، 31] ، ثم تبدو حكمة المرأة في تعاملها مع الرسالة، فتستشير قومها، ولا تغتر بكلامهم وقوّتها، بل ترسل بهدية تكشف لها حقيقة عدوها، ولكن حكمة
سليمان أيضاً تمنعه من الاستدراج، فيستخف بتلك الهدية، وتبدو حكمته في إظهار
القوة في وقتها للحاجة إليها، فيرسل إليها الرسالة الثانية المختلفة تماماً عن الأولى:
[أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ
إلَيْهِمْ فَلَنَاًتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ]
[النمل: 36، 37] وتظهر حكمتها ثانية في استجابتها المباشرة لدعوة سليمان، وهو قرار يعجز عنه الرجال بسبب الهوى والتعصب والتقليد.
أما غاية الحكمة: فاعتراف سليمان بفضل ربه عليه، ومجانبته للعُجب
والغرور، فإنه لما تحقق له نعمة إسلامها قال: [هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ ... ] [النمل: 40] ، فما أحوج الدعاة إلى تأمل هذه القصة طويلاً.
- قصة لقمان وابنه: ومن مظاهر حكمته مما حكاه الله في سورة لقمان:
حسن أسلوبه في مخاطبته لابنه: [يا بني] ليبين أن مبعث الموعظة الشفقة، كما
تظهر في جمعه في وعظه بين الأصول والفروع، والأقوال والأفعال والاعتقاد،
والأمر والنهي، كل ذلك في عبارة قصيرة جميلة، بعيدة عن التكلف؛ فيخرج
الداعية من قصته العظيمة بدروس أهمها: حسن الأسلوب واختيار أحسن الكلمات
للوصول إلى قلب المدعوين، والإيجاز والشمول، والتركيز على الأصول من
التوحيد وغيره، مع عدم الإخلال بالفروع، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مهمة عظيمة، يُخشى على صاحبها من المزالق، ولا خلاص منها إلا
بالصبر، والتواضع، والتزام الوسطية في الأمور كلها.
ب - الحكمة النبوية:
أما رسول الله؛ فقد كانت الحكمة تجري على لسانه كالماء الزلال، وأفعاله -
صلى الله عليه وسلم- كلها هي عين الحكمة، ويكفي ذكر إشارات لبعضها، لتنبئ
عن البعض الآخر، ومن ذلك:
1- حكمته في تعامله مع أصحابه، ومراعاته لأحوالهم، وهذا أشهر من أن
يذكر له أمثلة.
2- إجابته للسائلين بإجابات يظهر أنها مختلفة متعارضة أحياناً بينما هي من
اختلاف التنوع، لمراعاة حال السائلين؛ لاختلاف قدراتهم وإمكاناتهم، ولو أن
الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه من فروض الكفايات، ويبتعد عما
لا يستطيع لحققت الأمة اكتفاء ذاتياً في أغلب مجالاتها.
3- موقفه من الشاب الذي جاء يستأذنه بالزنا، فلم يعنفه، بل ناقشه، ثم دعا
له، فانصرف بحال غير التي أتى بها.
4- موقفه يوم الحديبية حين رفض سهيل بن عمرو أن يكتب: (بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) ، وقال للكاتب: اكتب:
(باسمك اللهم، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) ، فلم يقف النبي -صلى الله
عليه وسلم- عند هذه المسألة ما دام في الصلح خير لمصلحة المسلمين، رغم رفض
المسلمين لذلك.
ولا يعني هذا أن يكون التنازل في كل موقف، كما يتوهمه بعض من غلب
على مواقفهم الانهزاميةُ، ويحتجون بصلح الحديبية، بل هناك أمور وقضايا لا
يُقبل التنازل فيها أبداً؛ فقد رفض -صلى الله عليه وسلم- طلب وفد ثقيف أن يترك
لهم اللات شهراً واحداً، وأبو بكر رفض إقرار المرتدين على ترك الزكاة، وقاتلهم
عليها.
5- علاج مشكلة المنافقين: وقد اتسم علاجها بعدة سمات من أبرزها:
- طول صبره عليهم، من الهجرة حتى قبيل وفاته.
- التفصيل في التحذير منهم وتكثيف الحديث في تلك القضية وفق نهج
القرآن، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين وأهل الكتاب.
- الحرص على وحدة الصف، مع عدم السكوت على الباطل، وقد تحقق
الأمران.
- سيره على هدي القرآن في التركيز على الصفات، وعدم ذكر الأفراد،
مما أدى إلى قتل المنافقين معنوياً، دون قتل أحد منهم حسياً.
والدعوة اليوم بأمسّ الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر
الأول، حيث يمكن من خلال ذلك معرفة وسائل كشفهم، ورسم منهج شرعي في
مواجهتهم، وشل فاعليتهم، ثم القضاء عليهم دون إحداث فتنة داخل الصف المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا بالحكمة.
6- كما تتجلى حكمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواقف لا حصر لها، من بداية دعوته في المرحلة السرية والجهرية، وفي تعامله ومواقفه مع صناديد
قريش، وفي خروجه للطائف، وعودته منها، وفي مواقفه بعد هجرته مما اتسم
بالإصلاح والتأسيس: من بناء المسجد، والمؤاخاة، والمعاهدة مع اليهود، وفي
مواقفه في غزواته كلها، وفي المواقف الفردية مع سائر الناس ... ويظهر كل ذلك
لمن تأمل سيرته.
ج - الحكمة في حياة سلف الأمة وخير القرون:
للصحابة رضي الله عنهم حكمة عظيمة، ظهرت في اتباعهم للرسول صلى
الله عليه وسلم، وخلافتهم له، وكذا لتابعيهم وتابعي تابعيهم ومن ذلك:
- موقف أبي بكر رضي الله عنه عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لما
أنكر عمر هذه الوفاة وكذلك بعض الصحابة، واشتد الأمر عليهم، فكان لحكمة أبي
بكر رضي الله عنه أعظم الأثر في تثبيت الناس على الإسلام، وتوضيح الحق لهم
في ذلك.
كما ظهرت حكمته في إنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي صلى الله عليه
وسلم قبل موته، ورغم مخالفة الصحابة للصديق، لشدة الأحوال، امتثالاً لأمر
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالرغم من صغر سن أسامة فقد رفض استبداله
بقائد آخر، وسيّر الجيش كاملاً، فلم يترك منه أحداً، إلا أنه استأذن أسامة في إبقاء
عمر؛ فأذن له.
- حكمة عمر في إظهار إسلامه، مما كف شيئاً من الأذى عن المسلمين،
ومكنهم من الصلاة في المسجد الحرام. كما كان من أعظم مواقفه الحكيمة: تثبيت
الناس على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، حتى اجتمعت كلمة المسلمين عليه.
- ولعثمان رضي الله عنه مواقف حكيمة في إنفاق الأموال الكثيرة، ولا يُنسى
موقفه الحكيم في جمع الأمة على مصحف واحد، حسماً للخلاف.
- ولا تخفى مواقف علي رضي الله عنه في الشجاعة الحكيمة في بدر
والخندق وخيبر وغيرها.
- ولمصعب بن عمير رضي الله عنه حكمة عظيمة في دعوته في المدينة،
كما ظهرت في دعوته لسيدَي الأوس: أسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ رضي الله
عنهما.
- وما أعظم وأحكم موقف الحسن رضي الله عنه لما تنازل عن الخلافة
لمعاوية رضي الله عنه حقناً لدماء المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، وما به علة ولا ذلة
ولا قلة، فتحقق فيه قوله: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين
من المسلمين) [1] .
ولعامة الصحابة مواقف حكيمة أكثر من أن تذكر في مثل هذا المقام.
- وقد نصح سعيدُ بن المسيب الحجاجَ أن يحسن صلاته، وأغلظ له بالقول،
وشدد عليه، فما زال يحسن صلاته، فكانت الحكمة في هذا الموقف استخدام الشدة
مع هذا الشديد.
- وقد تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة فأصلح نفسه أولاً، ثم أهله ثانياً، ثم
أصلح أوضاع بني أمية ورد المظالم ثالثاً، ثم أصلح أوضاع الولاة، ووضع الجزية
عمن أسلم، وأحيا في نفوس الناس خوف الله ومراقبته، وفقّه الناس في دين الله،
وأرسل الدعاة إلى الله لنشر الإسلام ... وكلها مواقف تنطق بالحكمة.
- ومن الحكمة أسلوب رد الإمام مالك على الرجل الذي سأله عن كيفية
الاستواء، فأجابه بجواب كان قاعدة من قواعد أهل السنة، ثم أخرجه من مجلسه
حسماً للبدعة.
- وموقف الإمام أحمد في محنة خلق القرآن، وثباته على كلمة الحق،
وتحمله الأذى في سبيلها خشية انطماس معالم الحق، مما يُسجّل في المواقف
الحكيمة.
مظاهر أسلوب الحكمة:
تتعدد مظاهر الحكمة؛ نظراً لكونها السداد في القول والفعل، ويمكن ذكر
شيء من مظاهرها فيما يتصل بالدعوة في الجوانب التالية [2] ؛ لتكون مرجعاً
للداعية يقيس بها حكمته في دعوته، ويسدد طريقته:
أولاً: في جانب المناهج الدعوية: ومن ذلك:
أ - ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، كتقديم العقائد على غيرها
من العبادات والأخلاق، وتقديم الفروض على النوافل، والمصالح العامة على
الخاصة عند التعارض، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، والتضحية
بالمصلحة الصغرى لكسب مصلحةٍ أكبر منها ... ويدل على هذا: الواقع العملي
للدعوة الإسلامية في عهدها الأول، وأيضاً حديث معاذ عندما أرسله الرسول -
صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وكيف علمه أن يبدأ بالإيمان، ثم الصلاة، ثم
الزكاة [3] .
ب - التدرج في تطبيق الأولويات، ولا سيما في معالجة الأشخاص
والأوضاع العامة، كما كان شأن تنزل القرآن، وكما فعل عمر بن عبد العزيز في
خلافته.
ج - مناسبة المنهج الدعوي للأحوال والأعمار والمستويات، فليس من
الحكمة المساواة بين حالة القوة والضعف، وبين حالة السلام والحرب، ولا بين
حالة عموم البلوى بالشيء وغيرها، ولا بين الرجل والمرأة، والصغير والكبير ...
ولنتأمل كيف ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هدم الكعبة، وجعل لها بابين
خشية الفتنة؛ لقرب عهد الناس بالإسلام [4] .
ثانياً: في جانب الأساليب: ومن الحكمة فيه:
أ - اختيار المنهج المناسب لتطبيقه في الموقف المناسب والحالة المناسبة،
فما يصلح لمعالجة موقف لا يصلح لكل موقف؛ فالأسلوب العاطفي للموقف العاطفي، والحسي للتجريبي، والعقلي للموقف الجدلي ... وهكذا تعامل النبي -صلى الله
عليه وسلم- مع الشاب الذي جاء يستأذن في الزنى، حيث لمس منه ضعفاً، وخيراً، ولولا ذلك لزنى دون استئذان.
ب - اختيار الشكل المناسب من أشكال وأساليب المنهج المختار، فما يقال
في الفرح غير ما يقال في الترح، ومن غلب عليه الخوف استُخدم معه الترغيب،
ومن غلب عليه طول الأمل والاتكال على الرجاء استُخدم معه الترهيب ... ولذا
اختلف أسلوبه - مع الأعرابي الذي جاء سائلاً عن الفرائض فأجابه بها، فلما قال:
هل عليّ غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تَطّوّع) [5] ، اختلف أسلوبه في ذلك عن
أسلوبه مع الصحابة الفقراء الذين أحزنهم سبْق الأغنياء لهم بفعل الخير، فزادهم
من سبل الخير، حيث جاؤوا مستزيدين [6] .
ج - اعتماد التدرج في الاحتساب، وهو: التعريف بالخير والشر، ثم
الوعظ، ثم التعنيف، ثم استخدام اليد، ثم التهديد ثم الضرب.
د - البحث عن الدوافع والأسباب لملاحظتها في أسلوب المعالجة، فمعالجة
الجاهل تختلف عن معالجة العدو، وأسلوب معالجة الضعيف المقصّر غير أسلوب
معالجة المعاند المتعصب. وهذا يقتضي مراعاة أمور منها:
1- حسن الظن بالمسلم، والحذر من العدو.
2- إخفاء التشخيص في نفس الداعية، والتخطيط للمعالجة، دون المواجهة
به.
3- اختيار الأسلوب المناسب للمعالجة.
هـ - مراعاة اختلاف الظروف والأحوال الدعوية الفردية والجماعية.
ثالثاً: في جانب الوسائل الدعوية:
أ - في الوسائل المعنوية، وهي الأخلاق الكريمة. وذلك من خلال:
1- اهتمام الداعية بها، ومجاهدة النفس عليها.
2- اختيار الخُلُق المناسب للموقف المناسب، قال تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
ب - في الوسائل المادية. وذلك من خلال:
1- استعمال الداعية كل وسيلة مباحة متيسرة متوفرة في عصره، أياً كان
مصدرها وصانعها.
2- اجتناب كل وسيلة محرمة أو مكروهة؛ لأن الغاية الحميدة لا تسوّغ كل
وسيلة، فيقتصر على المباح.
3- تصفية الوسائل التي اختلط فيها الحلال بالحرام؛ بتجريدها من الحرام،
كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وسيلة (النذير العريان) حيث قال: (أنا
النذير العريان) [7] معبراً عن خطر الأمر الذي جاء به، ولكنه لم يتجرد من ثيابه
كما يفعل النذير من المشركين.
4- الترخص باستعمال الوسيلة المختلف في حكمها في حالة الضرورة أو
الحاجة الملحة، والتورّع عن استخدامها حال الرخاء.
5- الترقي بالوسيلة الدعوية، لتكون مكافئة للدعوة، ومتفوقة على وسائل
العدو.
أمور يتعاظم فيها مراعاة الحكمة:
هي أمور يتساهل فيها الكثير مع أنها أوْلى من غيرها في التزام الحكمة؛
لأهميتها، ولما يترتب على ترك الحكمة فيها من آثار سلبية، ومن تلك الأمور:
1- معاملة الوالدين والأولاد والزوجة والأهل والأرحام.
2- التعامل مع المجتمع، المشتمل على التناقضات.
3- الموقف من أهل البدع؛ فالناس فيهم بين غالٍ فيهم، يبالغ في إحسان
الظن بهم، وبين جافٍ ينكر حسناتهم.
4- إنكار المنكرات.
5- إشاعة بعض الأخبار والمفاهيم. ولقلة الموفقين للحكمة أمر الله برد هذه
الأخبار المشكلة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته ثم العاملين بسنته،
ليعرفوا حقيقتها، وأهدافها، وكيفية التعامل معها.
6- النقد وبيان الأخطاء: فطائفة همهم تصيّد الأخطاء، وآخرون اعتبروا
النصيحة فضيحة.
وختاماً:
فلا شك في أن حاجة الأمة للحكمة والرأي السديد أشد من حاجتها إلى القوة
الاقتصادية أو العسكرية؛ لأن فَقْدَ الحكمة يضيّع القوة الموجودة، فكيف يجلب قوةً
مفقودة؟ !
وإذا صعب وجود الحكمة في شخص فإن وجودها في أفراد يكمل بعضهم
بعضاً أسهل وأيسر، وهو أمر يحتم التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله.
__________
(1) رواه البخاري، ح/2704.
(2) انظر: المدخل إلى علم الدعوة، محمد أبو الفتح البيانوني، ص 247- 256.
(3) متفق عليه، البخاري، ح/1458.
(4) متفق عليه، البخاري، ح/126.
(5) البخاري، ح/2678.
(6) الحديث الدال على ذلك في مسلم، ح/1006.
(7) رواه البخاري، ح/6482، 7283.

(127/36)


الصفحة السابقة || الصفحة التالية
بداية الكتاب || محرك البحث
...المزيد

الكتاب: مجلة المنار (كاملة 35 مجلدا) المؤلف: مجموعة من المؤلفين، محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: ...

الكتاب: مجلة المنار (كاملة 35 مجلدا)
المؤلف: مجموعة من المؤلفين، محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ) وغيره من كتاب المجلة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(رقم الجزء، هو رقم المجلد. ورقم الصفحة، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في المجلد المطبوع)
بطاقة الكتاب || إخفاء التشكيل

الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
فصل من كتاب مدارج السالكين
بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى

في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [1] : مشهد الحيوانية
وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر -
ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد
الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز
والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول
للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا
الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه
الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر
الهجرتين في طريق السعادتين.
***
فصل
فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم
وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل
الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى
درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم
في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.
(فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها
من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه
وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو
مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه
يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك.
(ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد
في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله
كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله
آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة
ليس هذا موضع ذكرها.
(ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما
وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه.
(ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان
الحال: سبحان من خلقه للفساد.
(ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب
وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر،
والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع
شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه،
فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما
عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا
وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته
عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت
درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ
نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد
التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [2] .
وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام
عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من
ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من
المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما
فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية،
والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [3] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث
نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير.
ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام
الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن
أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو
كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه.
(ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش
وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا.
(ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [4] .
أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها
طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من
طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [5] .
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [6] من شبه نفوسها
بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم
وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة.
***
فصل
المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة
كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة
والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها
كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه
الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر
هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج
عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله
تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [7] كحاجته إلى مصالحه من الطعام
والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم
يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [8] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية
الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [9]
وليس لهم مشهد وراء ذلك.
***
فصل
المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر
وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم،
بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا
قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة
هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر
وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها
وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة
المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله
تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه.
وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه،
حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب
ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن
السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه
السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله
إلا محسنًا؟ ولكن:
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب
وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح
على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام
الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من
التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين
قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرًّا فرقة القدرية
***
فصل
المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة
ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم
دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق
أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه
الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في
ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة
الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق
بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام
به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته
ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب.
والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا
يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان:
(أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم
تاركون الذنوب [10] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض
إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.
(الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة
وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر
عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم،
كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف
هذه الحقائق إلا أرباب البصائر.
***
فصل
المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة
وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم
ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا
يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) .
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة
البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة
تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه
وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى
لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب
آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل
ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة
علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ} (آل عمران: 191) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدًا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه
حق، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلوّ الماء
على رؤوس الجبال، حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أولياءه وأهل معرفته
وتوحيده. فكم في ذلك من آية وعبرة، ودلالة باقية على ممر الدهور؟ وكذلك
إهلاك قوم عاد وثمود. وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم؟
بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات
والعجائب. وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسِّي
قلبه وأمنعه عن [11] الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر. وكذلك فعل سبحانه
فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر. وكذلك إظهاره
سبحانه ما أظهر من جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، بسبب ذنوب قومه
ومعاصيهم، وإلقائهم في النار، حتى صارت تلك آية، وحتى نال إبراهيم ما نال
من كمال الخلة.
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده
بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم. وكذلك اتخاذ الله
تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم
من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو
بعينه وعلمه، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات. إلى غير ذلك من المصالح والحكم
التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله
ويسخطه، وكان ذلك محض الحكمة، لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده
من فوته بتقدير عدم المعصية. فحصول هذا المحبوب العظيم، أحب إليه من فوات
ذلك المبغوض المسخوط، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له؛ لكن حصول هذا
المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه، فوات هذا
المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته تقتضي
حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يعطل هذا الأحب
بتعطيل ذلك المكروه. وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا، كفرضه وجود
المسببات بدون أسبابها، والملزومات بدون لوازمها، مما تمنعه حكمة الله وكمال
قدرته وربوبيته.
ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من
الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى،
من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه،
وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه، وظهور عدله وفضله،
وعزته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبه
ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان. فلو قدر أن آدم لم يأكل من
الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده؛ لم يكن شيء من تلك، ولا ظهر من القوة
إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميز
خبيث الخلق من طيبه، ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب، وعقوبة
وإهانة، ودار سعادة وفضل، ودار شقاوة وعدل.
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع
بينهما في دار واحدة، وابتلاء بعضهم ببعض، من حكمة بالغة، ونعمة سابغة؟
وكم في طيها من حصول محبوب للرب، وحمد لله من أهل سماواته وأرضه،
وخضوع له وتذلل، وتعبد وخشية وافتقار إليه، وانكسار بين يديه؟ أن لا يجعلهم
من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم، وإعراضه عنهم، ومقته
لهم، وما أعد لهم من العذاب. وكل ذلك بمشيئته وإرادته، وتصرفه في مملكته،
فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون، على أشد وجل وأعظم مخافة، وأتم
انكسار. فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت
رؤوسها بين يدي الرب خضوعًا لعظمته، واستكانة لعزته، وخشية من إبعاده
وطرده، وتذللاً لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك منته عليهم،
وإحسانه إليهم، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته.
وكذلك أولياؤه المتقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم،
وخذلانه لهم، ازدادوا له خضوعًا وذلاًّ، وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه
إنابةً، وعليه توكلاً، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا
إليه، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلا مرضاته،
فالفضل بيده أولاً وآخرًا.
وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه. والبصير يطالع ببصيرته ما
وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة، ولا تنالها الصفة. وأما
حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته،
وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية،
وكل مؤمن له من ذلك شِرْبٌ معلوم، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه [12] .
***
فصل
المشهد السادس: مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت
قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء
أن يزيغه أزاغه. فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه
هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس
الفجار فجورها وأشقاها (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) يهدي
من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما
فضل الكريم بممنون [13] وهذا عدله وقضاؤه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .
قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه
توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده. وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، علمًا وحالاً، فيثبت قدم العبد في
توحيده [14] الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن
الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، كل ذلك بيد
الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا
من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وإن أصح القلوب
وأسلمها وأقومها، وأرقها وأصفاها، وأشدها وألينها، من اتخذه وحده إلهًا ومعبودًا،
فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل
ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعًا لها كما ينساق
الجيش تبعًا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها
تبعًا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعًا لرجائه.
فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد
الربوبية، أي باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية [15] فإن أول ما يتعلق القلب [16]
بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا
النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم
ينقضونه بشركهم به في الإلهية.
وفي هذا المشهد يتحقق له مقام (إياك نعبد) قال الله تعالى: {وَلَئِن سَألْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ؛ أي فمن أين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن
عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه [17] وكذلك قوله تعالى:
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (المؤمنون: 85) ؛ فتعلمون أنه إذا كان
وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم،
فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: 86-88) ... الآيات. وهكذا قوله في سورة
النمل: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ *
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ
مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 59-60) ،
إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله وحده، فإن كان
معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون
معه إلهًا آخر؟
ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: (أإله مع الله فعل هذا؟) حتى
يتم الدليل، فلا بد من الجواب بلا. فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون
آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة
بإقراركم وشهادتكم. ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون
المعنى (فعل) فقوله ضعيف لوجهين: (أحدهما) أنهم كانوا يقولون: مع الله إلهة
أخرى، ولا ينكرون ذلك (الثاني) أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم وإقامة
الحجة عليهم إلا بهذا التقدير؛ أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل
فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو إعجاز؟ وهذا كقوله: {أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الرعد: 16) . وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ
مِن دُونِهِ} (لقمان: 11) . وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل:
17) . وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: 20) ، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) ، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين.
والمقصود أن العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب
وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنه لا عاصم من غضبه
وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى
مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق
جميعها بيديه، فلا مستعان للعباد إلا به، ولا متكل إلا عليه [18] كما قال شعيب
خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
***
فصل
المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده
وانتفاعه به. وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك [19] ،
والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل
العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره
بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين
توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو
المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما
منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله. فمتى شهد
العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق كل نفس وكل
لحظة وطرفة عين، وإن إيمانه وتوحيده بيده تعالى [20] لو تخلى عنه طرفة عين
لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وإن الممسك له من يمسك
السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فهجّيرَى قلبه [21] ودأب لسانه: (يا مقلّب
القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك) ودعواه:
(يا حيّ يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت
برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى
أحد من خلقك) ، ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته
وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويُلقي
نفسه بين يديه، طريحًا ببابه، مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً
مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله
قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغض
إليه ما يسخطه ويكرهه إليه. وهذا مجرد فعله، والعبد محل له، قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ
الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ*
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات: 7-8) . فهو سبحانه عليم
بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا
يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. وذكر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ
رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: 7) ، ثم جاء به [22]
بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ} (الحجرات: 7) ؛
يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله
هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه؛ فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي
ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر. فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم
بمصالح عباده منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم [23] لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن
الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن
ذلك ولا تبلغه، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك، ولهلكتم
وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد بكم الرشد
والصلاح، كما أردتم الإيمان، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت
إليكم ضده، لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.
وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثلُ مَلِك أَرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا؛
وكتب معه [24] كتابًا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب، ومجتاحهم ومخرب البلد
ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكبَ وزادًا وعدةً وأدلةً، وقال: ارتحلوا
إليّ مع هؤلاء الأدلة، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه. ثم قال لجماعة من
مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه [25] ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى
فلان كذلك وإلى فلان، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي.
فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون، بل حملوهم حملاً
وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم، وأسر من أسر.
فهل يعد الملك ظالمًا لهؤلاء أم عادلاً فيهم؟ نعم؛ خَصّ أولئك بإحسانه وعنايته
وحرمها من عداهم؛ إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك
فضله يؤتيه من يشاء.
وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان (بأنه) خلق
المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم، وردوا
الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة. وقابلهم القدرية النفاة، ففسروا
التوفيق بالبيان العام، والهدي العام، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة
أسبابها. وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان. فالتوفيق
عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين، إذ الأقدار والتمكين والدلالة والبيان قد
عمّ به الفريقين [26] ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم، والكفار
بخذلان امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلمًا. والتزموا
لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدًّا من
التزامها، فظهر فساد مذهبهم، وتناقض أقوالهم [27] لمن أحاط به علمًا وتصوره
حق تصوره، وعلم أنه من أبطل مذهب (؟) في العالم وأرداه.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم. فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء، وشهدوا انحراف
الطريقين عن الصراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات
وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في
ملكه ما لا يشاء، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن
يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته. ومن قال ذلك فلم يعرف
ربه، ولم يثبت له كمال الربوبية. ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن
يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حِكَم بالغة لأجلها أوجدها، وأسباب بها
سبّبها، وغايات جعلت طرقًا ووسائل إليها. وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة
بالغة. وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر
والحكمة في الحقيقة.
فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم،
فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى، ولا يبطلون ما
معهم من الحق لِمَا قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف أمناء عليهم،
حكام بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم أحد منهم، يكشفون أحوال الطوائف،
ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول [28] وعرف الفرق بينه
وبين غيره ولم يلتبس عليه، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بل ممن
هو على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه، ومعرفة بما عند الناس، والله الموفق.
***
فصل
المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات
وهو من أجلّ المشاهد، وهو أعلى مما قبله وأوسع. والمطلع [29] على هذا
المشهد معرفة تعلق الوجود خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى، والصفات العلى،
وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها. وهذا من أجل
المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه
أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتضٍ وفِعل: إما لازم وإما متعدٍّ، ولذلك
الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك
آثار الأسماء الحسنى وموجباتها. ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها،
وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن
المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته،
وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكمًا ومصالحَ، وأسماؤه حسنى،
ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه. ولهذا ينكر سبحانه على من عطله
عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، ويتنزه عنه [30] وأن
ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وإن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا
عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال
الكتب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91) ، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار
والفجار، والمؤمنين والكفار: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:
21) . فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ
إلا َّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) ، عن هذا الظن
والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثير، ينفي عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته،
إذ ذلك [31] مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك
الإنسان سدًى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه
الحكيم، يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك، واسمه الحي يمنع أن يكون معطلاً من
الفعل بل حقيقة الحياة الفعل، فكل حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقًا قيومًا من
موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعًا ومرئيًّا، واسمه
الخالق يقتضي مخلوقًا. وكذلك الرزاق. واسمه الملك يقتضي مملكةً وتصرفًا
وتدبيرًا وإعطاءً ومنعًا وإحسانًا وعدلاً وثوابًا وعقابًا. واسم البر المحسن المعطي
المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.
إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو [32] فلا بد لهذه الأسماء
من متعلقات، ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بد
لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه [33] إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء
اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع، وهذه
الأسماء كلها حسنى، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب
العفو، ويحب المغفرة ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعمّ فرح
يخطر بالبال. وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه
ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما
يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله
ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن
آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على
الجنايات، هذا [34] مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية
ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته
وحكمته، كما قال المسيح - صلى الله عليه وسلم - {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118) . أي فمغفرتك عن كمال
قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم
بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن
مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات
والأفعال، وغاياتها أيضًا مقتضى حمده ومدده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته،
فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده
بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه
الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس عبودية
المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا يحجبه عبودية اسم
عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير، عن التعبد باسمه الحكيم
الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي من عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه
الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف
والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك. وهذه طريقة
الكمّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) ، والدعاء بها يتناول
دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه
بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه
يحب موجب أسمائه وصفاته. فهو عليم يحب كل عليم، وجوَادٌ يحب كل جواد،
وتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء
وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم
يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له
ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له،
ليترتب عليه المحبوب له المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة
المفضية إلى المحبوب.
فربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سبب
والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه
يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة
إلى ما يحبه ويكرهه. والثالث مكروه يفضي إلى مكروه. والرابع محبوب يفضي
إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من
قضائه وقدره - الذي خلق ما خلق وقضى ما قضى لأجل حصولها - لا تكون إلا
محبوبة للرب مرضية له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له
ومكروه له. فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب
المحبوب له أيضًا، والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل
المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل؛ فاجتماع العدل والفضل أحب
إليه من انفراد أحدهما، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال
القدرة.
فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه. قيل هذا
سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والذي يقدر الذهن وجوده شيء
آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم
بلا علم، بل قد يكون مبغوضًا للرب تعالى لمنافاته حكمته، فإذا حكم الذهن عليه
بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه. فليعط اللبيب هذا
الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، ولو أمسك عن الكلام من
لا يعلم لقل الخلاف. وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كِتاب، أو يستوعبه خطاب،
وإنما أشرنا منه إلى أدنى إشارة تطلع على ما وراءها، والله الموفق [35] .
***
فصل
المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده
وهذا من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة. ولعل سامعه يبادر إلى
إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما ذنوب [36]
العبد ومعاصيه، وهل ذلك إلا منقص للإيمان؟ فإنه بإجماع السلف يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية. فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب
والمعاصي منه ومن غيره، وإلى ترتب آثارها عليها. وترتب هذه الآثار عليها علم
من أعلام النبوة، وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به. فإن
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم
في معاشهم ومعادهم، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرها وبوطنهم في المعاش والمعاد،
وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا [37] وأنه يبغض كيت وكيت،
ويعاقب عليه بكيت وكيت، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد، والزيادة
والنعم في القلوب والأبدان والأموال، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها، وإنه
إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والنهاية
والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) ، وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم
مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) . وقال
تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) ؛ وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر؛ والصحيح أنها في الدنيا
وفي البرزخ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش
وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها
وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك - ما لا يشعر به القلب - لسكرته
وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى
إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته. وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب
شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل
المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر،
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، هذا
في دورهم الثلاث ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما
هو في الدار الآخرة [38] وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الطور: 47) ، وقال تعالى:
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ
الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: 71-72) ، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ، ولكن
يمنع من [39] الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب
وعدم التفكير فيه. والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه،
ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملةً، فلو زال عن ذلك الالتفات لصاح من
شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟ !
وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارًا محبوبة لذيذة طيبة لذاتها فوق
لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلامًا
وآثارًا مكروهةً، وحرازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن
عباس: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً
في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمةً في القلب
ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وهذا يعرفه
صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا
بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) ، وقال لخيار خلقه وأصحاب
نبيه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:
79) ، والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله.
ولهذا قال (ما أصابك) ولم يقل: ما أصبت. فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا
والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب
وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان، والأموال أمر مشهود في العالم،
لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وشهود العبد
هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل،
وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات
وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض
الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتدراكه بالتوبة انتظرت أثره السيئ،
فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: (أشهد أن لا إله إلا الله،
وأشهد أن محمدًا رسول الله) ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق
مني أخبرك إنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما
فعلت شيئًا من ذلك حصل ما قال من المكروه لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرةً فيه،
وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس يرين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئًا من ذلك
ولا يشعر به ألبتة. وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان، وأهوية الذنوب
والمعاصي تعصف فيه، فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة
تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة
وتكفئها، ولا سيّما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح، فهكذا المؤمن
يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب، إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه
في وادٍ آخر.
ومتى انفتح هذا الباب للبعد انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم،
ومجريات الخلق، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس،
وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد
: 33) ، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا َّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ
لاَ إِلَهَ إلا َّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) ، فكل ما تراه في الوجود من
شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى
بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يدِ ظالم فالمُسَلِّط له أعدل العادلين،
كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً
لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5) ... الآية، فالذنوب مثل
السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها …، وإلا قهرت
القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن
الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه
وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه وهو أنه على أهل
بيته وأولاده وزوجته وإخوانه [40] وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى، ووقوعه على
السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى
ضد هذه الحال، ورأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن،
والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه - بعد ضعفه ووهنه - ازداد إيمانًا مع إيمانه،
فتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا
من الذين {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (الزمر: 35) ، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه
صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء
من خلقه، والله أعلم.
***
فصل
المشهد العاشر: مشهد الرحمة
فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية
الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا
الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يعصى، فلا يجد في
قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم
إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه
استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر،
فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا،
مع قيامه بحدود الله، وتبدل دعاؤه عليهم دعاءًا لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره؛
يسأل الله فيه أن يغفر لهم، فما أنفعه له من مشهد، وما أعظم جدواه عليه! والله
أعلم.
***
فصل
فيورثه ذلك (المشهد الحادي عشر)
وهو مشهد العجز والضعف، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه، وأنه
لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها
الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح،
وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر
وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا
يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا
الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة
بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين
لتقاسموها أعضاءً. هكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس
والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، إن تخلى عنه ووكله إلى
نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم.
وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربه، وهذا أحد التأويلات للكلام
المشهور (من عرف نفسه عرف ربه) وليس هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضًا (يا إنسان اعرف نفسك
تعرف ربك) وفيه ثلاث تأويلات:
(أحدها) أن من عرف نفسه بالضعف؛ عرف ربه بالقوة، ومن عرفها
بالعجز؛ عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل؛ عرف ربه بالعز، ومن عرفها
بالجهل؛ عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء
والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه
وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.
(التأويل الثاني) أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من
القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى
به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا مريدًا
عالمًا، يفعل باختياره، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ . فهذا من
أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلمًا أولى أن يكون هو متكلمًا، ومن جعله حيًّا
عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلاً قادرًا، أولى أن يكون كذلك. فالتأويل الأول من باب
الضد وهذا من باب الأولوية.
(والتأويل الثالث) أن هذا من باب النفي. أي كما أنك لا تعرف نفسك التي
هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها، فكيف تعرف
ربك وكيفية صفاته؟ . والمقصود أن في هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف،
فيزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر
شيء وليس بيده شيء؛ إن هو إلا محض الفقر والعجز والضعف.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.
(1) المعنى المراد من لفظ المشهد: هو ما يغلب على اعتقاد الإنسان أو وجدانه وشعوره في معصيته أو معصية غيره، ومثله كل عامل في عمله، ويعبر بعض الناس الآن عن مثل هذا المعنى بالملاحظة. فيقال على عُرفهم: إن العامي الجاهل لا يلاحظ في المعصية إلا إرضاء
شهوته. ولكن الطبيب الجاهل يلاحظ معنى آخر مع قصد الشهوة وهو أن هذا العمل من الوظائف الطبيعية لبعض أعضاء الجسم. وعلى ذلك فقس.
(2) حذفنا من هذا الموضع بحثًا وجيزًا في عقاب من ثبت أنه يؤذي بعينه، وأنه إن قتل بالعين لا يقتل بالسيف؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
(3) أي كبار الناس النافعين ورؤساؤهم. أي تعتبر رؤيتها في المنام بذلك.
(4) أي في إفساد كل ما تصل إليه يده.
(5) وفي نسخة (المغتذي) .
(6) وفي نسخة (أكلها) .
(7) كان الظاهر أي يقال (ضروري) ؛ لأنه خبر قوله فاحتياجه.
(8) كذا.
(9) وفي نسخة التغيرات.
(10) وفي نسخة (تاركو الذنوب) .
(11) وفي نسخة (من) .
(12) بقي من بيان حكمة الله تعالى في تقدير الكفر والمعاصي كلمة ضرورية لا يتم بدونها. وهي معنى ذلك التقدير، وكونه لا دلالة فيه ولا اقتضاء للجبر والإكراه على الفعل. وذلك أنه تعالى خلق الناس مختارين في أفعالهم، يعملونها بإرادتهم، حسب علمهم أو ظنهم بأن فعل كذا أو تركه خير لهم. فكل عمل من أعمالهم حلقة من سلسلة الأسباب والمسببات قبله حلقة الاختيار، وهذا الترتيب هو التقدير، فالقدر جعل المسببات على قدر الأسباب، وانتظام الجميع في سلسلة واحدة , وضده الخلق الأنف الذي هو مذهب القدرية. ومعناها أن الله تعالى يخلق كل شيء يقع في الكون ابتداءً واستئنافًا لا يكون شيء من الحوادث مبنيًّا على تقدير ونظام سابق، تكون فيه الأسباب على قدر المسببات، والنتائج أثرًا لترتيب المقدمات. فكل مخلوق له علم وإرادة واختيار يطيع أو يعصي باختياره الذي هو من قدر الله، ولا يخلق الله كل عمل يصدر منه خلقًا مستأنفًا كما يزعم منكرو القدر العميان. وله في هذا التقدير حِكَم كثيرة أشار المصنف إلى طائفة منها، والله عليم حكيم.
(13) وفي نسخة بزيادة (أي مقطوع) وهو تفسير لممنون.
(14) وفي نسخة (توحيد) بدون هاء.
(15) وبعبارة أخرى توحيد الربوبية، باب يدخل منه إلى توحيد الإلهية.
(16) وفي نسخة (العبد) .
(17) وفي نسخة (وأنه لا خالق سواه) .
(18) أي أن الذي يدرك حقيقة معنى القدر يعلم أن ما آتاه الله تعالى إياه من هدايات الحواس والعقل والوجدان، وما يصل إليه علمه المكتسب بها والضروري الذي هو أقوى منه، كل ذلك لا يكفي لتصريف إرادته واختياره دائمًا فيما هو خير له، فإنه مهما اتسع علمه واختياره يختار لنفسه أحيانًا كثيرة ما هو شر له في دينه ودنياه وعاجل أمهر وآجله، فإذا فقه هذا علم عِلْمَ شهود أنه لا يستغني طرفة عين عن توفيق الله وعنايته.
(19) هذا تفسير باللازم، وأما الملزوم فكون الأسباب المكسوبة وغير المكسوبة موافقة للمصلحة الصحيحة.
(20) وفي النسخة الثانية (وتوحيده ممسك بيد غيره بيده تعالى) .
(21) هجيرى الإنسان (بكسر الهاء وتشديد الجيم المكسورة والقصر) دأبه الذي يلازمه ولا يتركه. ويسميها الناس في بعض البلاد في هذا العصر (لازمة) فالذي يكثر في كلامه من كلمة (مثلاً) يقولون: لازمته مثلاً.
(22) سقط من النسخة الثانية لفظ (به) .
(23) سقط من النسخة الثانية لفظ (لكم) .
(24) وفي نسخة (له) .
(25) وفي نسخة (فاحملوه) .
(26) وفي نسخة (بين الفريقين)
(27) وفي نسخة (قولهم)
(28) وفي نسخة (الرسل) .
(29) المطلع بفتح اللام. وخبره معرفة تعلق الوجود.
(30) وفي نسخة: (بل يتنزه عنه) .
(31) ونسخة (ذاك) .
(32) وفي نسخة بواو العطف في هذه الأسماء الثلاثة الأخيرة. وهنا محل الشاهد.
(33) وفي نسخة (حكمة) .
(34) سقط لفظ (هذا) من النسخة الثانية.
(35) وفي نسخة زيادة (المعين) .
(36) وفي نسخة (من ذنوب) .
(37) وفي نسخة زيادة (فيثيب عليه) .
(38) ما رأيت أحدًا سبقني إلى تقرير هذا المعنى والاستدال عليه بالقرآن مثل المصنف.
(39) وفي نسخة بسقوط (من) .
(40) هذه الآثار التي تترتب على الذنب لا يشهدها كلها إلا المؤمن الذي يعيش بين المؤمنين الصادقين. وأما الجاحدون والمنافقون والفاسقون المصرون، فلا تتغير قلوب بعضهم على بعض لأجل المعصية، ولا يشعرون بهوانهم على أهل بيوتهم، إلا قليلاً وفي بعض المعاصي. دون بعض؛ فالذين اعتادوا شرب الخمر في بيوتهم، وغير بيوتهم يعدونها هم وأهلوهم كشرب
الماء. وللمعاصي آثار أخرى في الأخلاق وفي الصحة لا يغفل عن قبحها وشؤمها إلا من هو أجهل من الأنعام.

(17/113)


الصفحة السابقة || الصفحة التالية
بداية الكتاب || محرك البحث
...المزيد

وفي الحكمة اول رسام وكان شخص واقف ف بحيرة ما يحدث للحكاية

وفي الحكمة
اول رسام وكان شخص واقف ف بحيرة
ما يحدث للحكاية

هذه مراكب وفي الحكمة...مكتوب في الحكمة...ومكتوب في الحكمة...في الحكمَةِ مكتوبٌ...... قَرَأْتُ ...

هذه مراكب

وفي الحكمة...مكتوب في الحكمة...ومكتوب في الحكمة...في الحكمَةِ مكتوبٌ......
قَرَأْتُ فِي الْحِكْمَةِ...وقَرَأْتُ فِي الْحِكْمَةِ...سئل حكيم...وسئل حكيم ...
لبعض الحكماء...ولبعض الحكماء ...
قال حكيم......وقال حكيم ... قيل لحكيم.....وقيل لحكيم ...
بعض الحكماء ...
وبعض الحكماء...
بعض حكماء ...وبعض حكماء ...
لبعض حكماء...ولبعض حكماء
احد الحكماء ..واحد الحكماء...لاحد الحكماء..ولاحد الحكماء
أَنَّ حَكِيمًا .... وأن حكيما...لأَنَّ حَكِيمًا....ولأَنَّ حَكِيمًا
احد حكماء.....واحد حكماء.....لاحد حكماء...ولاحد حكماء
من الحكماء...ومن الحكماء...من حكماء....ومن حكماء
قال الحكيم.... وقال الحكيم....
قال الحكماء ... وقال الحكماء ...قالت الحكماء ... وقالت الحكماء ...
...فقال الحكيم......فَقَالَ حُكَيْمٌ
في الحكمة(بقي)
...المزيد

موقف بحيرة صمت رماد واحتراق سواد دخان اشياء واقف واحد بعد لقاء الست عماليق بخطا

موقف بحيرة

صمت
رماد واحتراق
سواد
دخان
اشياء

واقف واحد بعد لقاء الست عماليق بخطا
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
23 جمادى الآخرة 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً