وحي السماء

خلال ربع قرن من الزمان أو أقل تبدلت الأرض غير الأرض، وأشرقت الأرض بوحى السماء، وأقيمت حضارة على منهاج النبوة، وإذا بأبناء البوادى حفاة وعراة الأمس يعلمون أبناء روما وأثينا والمدائن حقوق الإنسان ومعالم الحضارة الحقة ومعانى العدل والرحمة.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (23)- إصلاح الخلل

ومضى نحو قرن ونصف من الحملات الصليبية، وأصبح الأمر أشد حرجًا، وصار بينا أن الحرب الصليبية توشك أن تؤوب بالإخفاق مرة أخرى. فانبعث منهم رجال يطلبون العلم والمعرفة في أرض الإسلام ما استطاعوا، في المشرق وفي الأندلس، وظهر رجال من طبقة "روجر بيكن" الإنجليزي، ممن شاموا العرب والعربية، وجاهدوا في التعلم جهاد المستميت بصبر ودأب، ليزيحوا عن أنفسهم وأهليهم غوائل الجهل. وهب رجال من الرهبان ذوي الحمية أحسوا بالخلل الواقع في الحياة المسيحية التي لم تحم رعاياهم من التساقط السهل في الإسلام على طول قرون، هبوا   لإصلاح هذا الخلل. فكان من أكبرهم رجل ذكي متوقد، جاهد جهادًا عظيمًا في سبيل دينه، أراد أن يزيل جهالة الرهبان والملوك، ويمكن لهم حجة مقنعة تحول بينهم وبين هذا الانبهار بالإسلام وثقافته وحضارته. ذلك الرجل هو "توما الإكويني" الإيطالي الكاثوليكي، وبذكائه وحميته وإخلاصه، استطاع أن يفهمه ويظفر به من كتاب الإسلام وعلمائه وفلاسفته ومتكلميه، كابن رشد وابن سينا وغيرهم، مريدًا بكل ذلك إصلاح الخلل الواقع في الحياة المسيحية. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (51)- حماية عقل الأوربي المثقف

وبين لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلًا للمثقف الأوربي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التى يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب. وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالم لهذا العالم العربي الإسلامي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه وعلى مد يده، معلومات وافرة يثق بها ويطمئن إليها ويجادل عليها، دون أن تضعف له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافحة عنها أو يتلجلج، أيا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (52)- والاستشراق لا يذم!

والاستشراق لا يذم لأنه فعل كل ذلك، لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه، أما الذي هو حقيق بالذم والمعابة، فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلًا، والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا، ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا من البدائه المسلمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا من الشمس الساطعة!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (50)- مستنقع القرون الوسطى

وكذلك نجح الاستشراق في تحقيق هدفه كل النجاح، واستطاع أن يدرج الإسلام وشرائعه وثقافته وحضارته في مستنقع القرون الوسطى الذي طمرته النهضة الحديثة ووطئه عصر الإحياء والتنوير بأقدامه وطأة المتثاقل. وبذلك عصم العقل الأوربي المثقف من أن يزل زلة، فيرى في دين الإسلام أو في ثقافته وحضارته، ما يوجب انبهاره كما انبهر أسلاف له من قبل تساقطوا في الإسلام وثقافته وحضارته طواعية، ثم صاروا مع الأسف، من بناة مجده على مدى اثنى عشر قرنًا على الأقل. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (49)- أنه الصورة الوثيقة المأمونة (3)

بثوا تلك الصورة في كل كتبهم بمهارة وحذق وخبث معرق، وبأسلوب يقنع القارئ الأوربي المثقف الآن كل الإقناع، وتنحط في نظرة حضارة الإسلام وثقافته انحاط القرون الوسطى، ويزداد بذلك زهوًا بأن أسلافه من اليونان والآريين كانوا هم ركائز هذه الحضارة المزيفة الملفقة دينًا ولغةً وعلمًا وثقافةً وأدبًا وشعرًا، ويزداد بذلك الأوربي، أيا كان، غطرسة وتعاليًا وجبريةً، ولا يرى في الدنيا شيئًا له قيمة، إلا وهو مستمد من أسلافه اليونان الآريين والهمج الهامج!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (48)- أنه الصورة الوثيقة المأمونة (2)

كان جوهر هذه الصورة، المبثوث تحت المباحث كلها، هو أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قوم بداة جهال لا علم لهم كان، جياع في صحراء مجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادعى أنه نبي مرسل، ولفق لهم دينًا من اليهودية والنصرانية، فصدقوه بجهلهم واتبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافة وحضارة جلها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفرس والهند واليونان وغيرهم، حتى لغتهم كلها مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرامية والفارسية والحبشية. ثم كان من تصاريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب، الموالي، وأن هؤلاء هم الذين جعلوا لهذه الحضارة الإسلامية كلها معنى! هذا هو جوهر الصورة التي بثها المستشرقون في كل كتبهم عن دين الإسلام، وعن علوم أهل الإسلام وفنونهم وآثارهم وحضارتهم، وأن هذه الحضارة إنما هى إحدى حضارات القرون الوسطى المظلمة التى كان العالم يومئذ غارقًا فيها -يعنون عالمهم هم- يجري عليها حكم قرونهم الوسطى! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (47)- الصورة الوثيقة المأمونة (1)

وبديهي أن يكون المستشرقون، كما عرفت صفتهم، هم أسبق الناس إلى معرفة هذه الحاجة الملحة التي تضمن للزحف الأكبر على دار الإسلام أن يسير على هدى لا يختل ولا يضل، ويعصم أكبر قدر ممكن من أشتات الزاحفين، حين يدخل دار الإسلام ليطول مقامهم بها، ويجري بينهم وبين من يخالطهم ما يجري بين الناس من التفاوض وتجاذب الأحاديث، يعصمه أن ينبهر بما يرى أو يسمع، أو أن تضعف حميته، أو تلين قناته، أو يتردد ويتلجلج. لا بد إذن من أساس يرتكز عليه تفكيره، ومن صورة سابقة شاملة ثابتة ينبثق بها ويطمئن إليها، ويثق أيضًا بصدقها وأمانتها، حتى يتمكن من أن يرفض أكثر ما يرى وما يسمع، إذا هو خالف ما يعتقد أنه الصورة الوثيقة المأمونة التى سوغه إياها دارس عارف بأحوال هؤلاء الناس. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (46)- بصفتين لابد منهما

والمستشرقون المتبتلون، بلا شك عندهم، هم أهل خبرة بكل ما في دار الإسلام قديمًا، وما هو كائن فيها حديثًا، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفي أحوال المسلمين من عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم، إلى علم وثيق شأن دولهم وأقاليمهم وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من الأرض. فكل دارس منهم مأمون عند كل أوربي، مأمون على ما يقوله، مصدق فيما يقوله، في أمور لا سبيل لأحد منهم إلى معرفتها، لأنها تتعلق بأقوام لسانهم غير لسانهم، ولا يقوم بها إلا دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب، متصف بصفتين لابد منهما حتى يكون مصدقًا: الصفة الأولى: أن في قلبه كل الحمية التى أثارها الصراع ين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام الممتنعة على الاختراق على مدى عشرة قرون على الأقل، الصفة الثانية: أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوربين وعامتهم، وملوكهم وسوقتهم، من الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (45)- التفوق الحاسم

ينبغي أن يكون بينًا لك أن أوربة عند استواء يقظتها، أدركت إدراكًا واضحًا أن الذي بلغته قد تضمن لها التفوق الحاسم، وأنها مقبلة على زحف شامل يخترق قلب دار الإسلام، لا بقعقعة السلاح، بل بوسائل أخر أمضى من وقع السلاح، أدرك ذلك ساستها ورهبانها وعامة جماهيرها المثقفة. وهذا الزحف الصامت المصمم الخفي الوطء، سوف يضم ألوفًا مؤلفة من أشتات الناس، والنية أن تتكون من هؤلاء الأشتات جاليات كبيرة تقيم في دار الإسلام، تعاشر المسلمين فتطول عشرتهم أو تقصر، ولكل امريء منهم اتجاه أو هوى أو أسلوب أو فهم. فأمر مخوف أن يخالطوا عالمًا له دين وحضارة باقية الآثار، كان له الغلبة والتفوق والسيادة من قبل قرونًا طوالًا، كما جربوا وعلموا، أمر مخوف أن يخالطوه دون أن يكون لهذا العالم عند أكثرهم صورة مستقرة في أنفسهم تحميهم، فصار حتمًا أن يكون في متناول هؤلاء صورة للإسلام وحضارته مكتوبة بدقة ومهارة ومقنعة، يصورها لهم خبير ثقة مأمون عندهم. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (44)- دوائر المعارف الإسلامية

وما هو إلا قليل حتى كان تحت يد الاستشراق آلاف مؤلفة من مخطوطات من كتب دار الإسلام نفيسة منتقاة، مشتراه أو مسروقة، موزعة مفرقة في جميع أرجاء أوربة وأديرتها ومكتباتها وجامعاتها. ولما كانت هذه المخطوطات التي يعكف نفر منهم على دراستها متفرقة في البلاد، حبيسة تحت يد عدد قليل جدًا، قد يكون رجلًا واحدًا في قرية أو دير، عمدوا إلى نشر بعضها مطبوعة. ولكي تكون الفائدة أكثر تمامًا والجهد أكثر جدوى، أنشأوا أيضًا مجلات بكل لسان من ألسنتهم، ينشر فيها كل مستشرق نتائج بحثه ودراسته، لتكون عونًا لكل دارس مستشرق وغير مستشرق، وهي مجلات الدراسات الإسلامية أو الشرقية. بل سمت همتهم فبدأوا في صناعة جماهر الإسلام التي يسمونها (دوائر المعارف الإسلامية)، وكذلك أصبح الاستشراق في أوربة كلها هيئة واحدة، لها هدف واحد، ونظام واحد، وفهم واحد، وأسلوب واحد، ونظر مشترك واحد، إلى حضارة دار الإسلام قديمها وحديثها. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (43)- حضارة جديدة!

وصارت أوربة عالمًا مخيفًا مرهوب الجانب، وتزداد كل يوم ثقافة وعلمًا، وفهمًا ويقظة، وتجربة وخبرة في كل خير وشر، وتزداد أيضًا نفاقًا وخبثًا ومكرًا وغدرًا بالآمنين حيث كانوا في أرجاء عالم كانت تحجبه عنهم دار الإسلام قرونًا طويلًا. أما دار الإسلام فعلى الأيام وهنت قوة طليعته المسلمة الناشبة في قلب أوربة، وصارت دارًا محصورة في الجنوب، بعد أن كانت حاصرة للمسيحية في الشمال. وكذلك بدأت حضارة عتيقة تتضعضع قواها وترث حبالها، وقامت في الأرض حضارة جديدة، غذيت بالدم المسفوح، ومزجت ثقافتها بالمكر والغدر والدهاء والخبث، توزها نار أحقاد مكتمة، ثم صارت لهيبًا يؤج أجًا! حضارة سوف تطبق وجه الأرض، وهي بذلك كله حضارة إنسانية عالمية، أليس كذلك؟ ويزيدها إنسانية وعالمية أنها جاءت مبشرة بدين جديد، عقيدته مبنية على البغضاء والحقد والجشع والغدر وسفك الدماء!

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً