رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (38)- الاستعمار والتبشير

وبفضل هؤلاء المتبتلين المنقطعين عن زخرف الحياة الجديدة، وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي جمعوها من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذلوها لملوك المسيحية الشمالية، نشأت طبقة الساسة الذين يعدون ما استطاعوا من عدة لرد غائلة الإسلام ثم قهره في عقر دياره، ولتحقيق الأحلام والأشواق التي كانت تخامر قلب كل أوربي، أن يظفر بكنوز الدنيا المدفونة في دار الإسلام وما وراء دار الإسلام، وهم الذي عرفوا فيما بعد باسم رجال (الاستعمار)، وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي زودوا بها رهبان الكنيسة، ثارت حمية الرهبان، ونشات الطائفة التي نذرت نفسها للجهاد في سبيل المسيحية، وللدخول في قلب العالم الإسلامي لكي تحول من تستطيع تحويله عن دينه إلى المللة المسيحية، وأن ينتهي الأمر إلى قهر الإسلام في عقر داره، هكذا ظنوا يومئذ وهذه الطائفة هي التي عرفت فيما بعد باسم رجال (التبشير). 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (37)- المستشرقين

ومن يومئذ نشأت هذه الطبقة من الأوربيين الذي عرفوا فيما بعد باسم (المستشرقين) وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوربية، لأنهم جند المسيحية الشمالية، الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المخفية وراء أكداس من الكتب، مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوربة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لا هم لهم ليلًا ولا نهارًا إلا حيازة كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل، تتوهج أفئدتهم نارًا أعتى من كل ما في قلوب رهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم، وعلى وجوههم سيمياء البراءة واللين والتواضه وسامة طوية البشر.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (36)- السياحة في أرض الإسلام

فكان من الأهداف والوسائل بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما، تخرج لتسيح في أرض الإسلام، وتجمع الكتب شراءً أو سرقة، وتلاقي العلماء، وتخالط العامة من المثقفين والدهماء، وتدون في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونًأ طوالًا. يخرجون أفواجًا تتكاثر على الأيام، ويجوبون أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتمام عملين عظيمين: إمداد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سطوا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها، باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم، وفي تفسير رموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها، وأيضًا إطلاع رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام، وما رأوه عيانًا فيها، وما لاحظوه استبصارًا.

 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (35)- العلم الحي

فالذي يعنيني هنا ما كان عند بدء اليقظة في أوربة. فبالهمة والإخلاص والعقل أيضًا، كان لا بد لهم من أن يزداد عدد الذين يعرفون اللسان العربي ويجدونه زيادة وافرة، لحاجتهم يومئذ أن يعتمدوا اعتمادًا مباشرًا على الاتصال بالعلم الحي عند علماء الإسلام، لكي يتمكنوا من حل الرموز اللغوية الكثيرة المسطرة في الكتب العربية، ولا سيما كتب الرياضة والجبر والكيمياء والطب والفلك وسائر علوم الصناعة التي قل من يعرفها.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (33)- يا لها من فجيعة!

وهذه رعايا الكنيسة أمام أعينهم تتساقط في الإسلام طائعة مختارة! يا لها من فجيعة! ويرتاع مع كل فجر قلب المسيحية ويغلي رهباتها ورعاياهم بغضًا للإسلام، وحماسة وغضبًا للمسيحية، ويرسخ الإصرار في القلوب على دفع غائلة الإسلام، وعلى التماس قهره بكل وسيلة ومن كل سبيل، وتتلتهب أماني الاستيلاء على كنوزه الباهرة التي لا تنفذ، والتي غالي في تصويرها لهم العائدون من الحرب الصليبية الثالثة، وصارت أحلامًا بهيجة يحلم بها كل صغير وكبير، وعالم وجاهل، وراهب ورعية، صارت شهوة عارمة تدب دبيبًا في كل نفس، بل صارت غريزة مستحكمة من غرائز النفس الأوربية. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (34)- لسان العرب

كان كل مدد اليقظة مستجلبًا كله من علوم دار الإسلام، من العلم الحي في علمائه، ومن العلم المسطر في كتبه. والسبيل إلى ذلك في الأمرين جميعًا كان معرفة لسان العرب. ولن أقص عليك التاريخ الطويل، ولكن اعلم أن لسان العرب كان له السيادة المطلقة على العالم، قرونًا قبل ذلك طوالًا، وكانت المسيحية الشمالية مجاورة لهذا السلطان المطلق، ومصارعة لأهله صراعًا طويلة تارة، ومخالطة لهم بالتجارة والرحلة وغيرهما زمنًا طويلًا تارة أخرى، ولذلك كان هذا اللسان العربي معروفًا معرفة جيدة لطوائف من العامة والخاصة في ديار بيزنطة من ناحية، وفي قلب أوربة نفسها لمجاورتها الأندلس. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (32)- سلاح العقل والعلم

وهذه الترك، وهم المسلمون، طلائع عالم إسلامي زاخر هائل مخيف غير معروف لهم ما في جوفه، مسيطر على رقعة متراحبة ممتدة من الأندلس إلى أطراف تحيط بأرض روسيا إلى جوف قارة آسية إلى جوف قارة أفريقية. وهم يعلمون الآن علمًا ليس بالظن أن السلاح، في هذه المرحلة الرابعة، ليس يغني غناءً حاسمًا، فقد وعظتهم المراحل الثلاث الأول، فنحوا أمره جانبًا إلى أن يحين حينه ويصبح قادرًا وحاسمًا. لم يهم، إذا إلا سلاح العقل والعلم والتفوق واليقظة والفهم وحسن التدبير، ثم المكر والدهاء واللين والمداهنة وترك الاستثارة، استثارة عالم ضخم مجهول ما في جوفه، ولا قبل لهم بتدفق أمواجه الزاخرة، والتي كان الترك الظافرون طلائعها الظاهرة لهم عيانًا في قلب أوربة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (31)- بدء اليقظة!

عند أول بدء اليقظة، تحددت أهداف المسيحية الشمالية، وتحددت وسائلها. لم يغب عن أحد منهم قط في سبيل إعداد أنفسهم لحرب صليبية رابعة، لأنهم كانوا يومئذ يعيشون في ظل شبح مخيف متوغل في أرض أوربة المقدسة ببأس شديد وفوة لا تردع، بل هو شبح متجول يطوف أنحاء القارة كلها، لا يطرف فيها جفن حتى يراه ماثلًا في عينه آناء الليل وأطراف النهار، الترك الترك!! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (29)- منزلة الدين الراسخ!

وكذلك رسخت في العظام الحية، لا في النفوس وحدها ولا في العقول، بغضاء سارية مشتعلة للفظ الترك (أي المسلمين)، لا تزداد على الأيام إلا توهجًا وانتشارًا، ونزلت من النفوس منزلة الدين الراسخ في أعماق الفطرة. وهذه البغضاء المشتعلة  النافذة في غور العظام هي التي دفعت أوربة دفعًا إلى طلب المخرج من المأزق الضنك، وهي التي أيقظت الهمم، يقظة لا تعرف الإغماض. وباليقظة المتوهجة دار الصراع في جنبات أوربة بين جميع القوى التي كانت تحكم الجماهير الهمج الهامج. ومن قلب هذا الصراع خرجت طبقة إصلاح خلل المسيحية الشمالية مرة أخرى، وخرج أيضًا صراع اللغات واللهجات المتبانية، طلبًا لاستقرار لغة موحدة لكل إقليم، وإخراج سيطرة اللاتينية العتيقة من طريق الرهبان والعلماء والكتاب، لكي يمكن نشر التعليم على أوسع نطاق بين جماهير الهمج الهامج من رعايا الكنيسة، وتاريخ طويل حافل متنوع وجهاد مرير قاس، في سبيل اليقظة العامة، والتنبه والتجمع لإعداد أمة مسيحية قادرة على دفع رعب الترك عن أرض أوربة المقدسة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (30)- القرون الحديثة

وبغتة، كما كان اقتحام المسلمين قلب أوربة بغتة، تهاوت الحواجز التي كانت تمنع حرجة اليقطة والتنبيه في أعقاب الحروب الصليبية لأني تؤتي ثمارها، وخرجت أوربة من أصفاد القرون الوسطى، ودخلت بعد جهاد طويل مرير في القرون الحديثة كما يسمونها. ومع تقوض هذه الحواجز ظهرت براعيم الثمار الشهية، وبظهورها غضة ناضرة، زادت الحماسة وتعالت الهمم، ومهد الطريق الوعر، ودبت النشوة في جماهير المجاهدين، وتحددت الأهداف والوسائل وتبين الطريق. ومن يومئذ بدأ الميزان يشول، فارتفعت أحدى الكفتين شيئًا ما، وانخفضت الأخرى شيئًا ما. ارتفعت كفة أوربة بهذه اليقظة الهائلة الشاملة التي أحدثتها الهزائم القديمة والحديثة، وانخفضت كفة المسلمين بهذه الغفلة الهائلة الشاملة التي أحدثها الغرور بالنصر القديم وبالنصر الحديث وفتح القسطنطينية. وكذلك شال الميزان، وكانت فرحة محسوسة في جانب، وكانت غفلة لا تحس في جانب. تاريخ طويل مضى وغاب، وتريخ طويل سوف يأتي، ثم لا يعلم إلا الله متى يكون غيابه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (28)- هم الترك!

بيد أن هذه الواقعة الباطشة على عنفها، وعلى سرعة ما تلاها من تدفق كتائب الإسلام منساحة في قلب أوربة، لم تفت في عضد المسيحية الشمالية، بل على العكس، زادها الإحساس بالخزي والعار حماسة وتصميمًا وتحرقًا وحقدًا خالط كل نفس من الخاصة والعامة، وصار هم الترك (أي المسلمين) همًا مؤرقًا للعالم والجاهل والصغير والكبير والذكر والأنثى، وهام الرهبان وغير الرهبان في جنبات أوربة غضابًا يحرضون رعاياهم على قتال الترك بكل لسان قادر على الإثارة والتبشيع. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (27)- وانساحت كتائب الإسلام!

وبغتة وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادي الآخرة سنة 857 هـ، ودخل محمد الفاتح حصن المسيحية الشمالية المنيع الشامخ، مدينة القسطنطينية، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان. ودنت صلاة العصر، وقام أحد العلماء فأذن للصلاة، وصلى المسلمون في كنيسة أيا صوفيا ومن يومئذ حولت فصارت مسجدًا. انتشر الخبر كالبرق في أرجاء أوربة، ومادت الدنيا بالخبر، واهتزت دنيا المسيحية الأوربية هزة لم تعرف مثلها قط، ولم يبق عليها راهب ولا ملك ولا أمير ولا صعلوك إلا انتفض انتفاضة الغضب لدينه. وما هو إلا قليل حتى انطلق محمد الفاتح، وانساحت كتائب الإسلام في قلب أوربة، يا لها من فجيعة!! وكان ما كان.. 

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً