الدين حسن الخلق

منذ 2024-08-26

الإسلام لم يتعامل مع الأخلاق على أنها مجرَّد سلوكٍ إنساني، بل جعلها عبادةً يُؤجر العبد على فعلها، والتخلق بها، كما جعلها ميدانًا للتنافس بين المسلمين..

الدين حسن الخلق

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

 

الحمد لله: لا فوز إلا في الالتزام بطاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، ولا حول الا بالانحياز لقوته، ولا سُمو إلا بالإيمان بقدرته، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اعتز بالله فأعزَّه، واستنصر بالله فنصره، وتوكَّل على الله فكفاه، وتواضَع لله فذلَّل له رقابَ الكافرين، المبعوث بالدين القويم، والدستور الحكيم، والصراط المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وخاتَمًا للنبيين.

 

الميزان الدقيق - أيها المسلمون - طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، وصدق التوجه، وحسن الظن، وكرم الأصل، وصفاء النفس، وطيبة القلب، ولِين الجانب، وصلة الرحم، هذه أخلاق المسلم الذي آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بوصية عظيمة فقال: يا أبا هريرة! عليك بحسن الخلق، حسن الخلق هو الميزان الدقيق في المجتمع، يحقق الأمان، ويرفع البنيان، ويريح الابدان، ويُرضي الرحمن؛ قال أبو هريرة رضي اللّه عنه: وما حسن الخلق يا رسول الله؟ قال: تصل مَنْ قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتُعطي من حرمك؛ رواه البيهقي.

 

مكارم الأخلاق، إن مكارم الأخلاق صفة من صفات الأنبياء والصديقين، وسجية من سجيات المؤمنين والصالحين، بها تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات، وتُمنح الرحمات، وقد خصَّ الله تعالي نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجمع له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب، حتى قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

 

وللخلق الحسن أثرٌ كبيرٌ في استحقاق الإنسان للصحبة من عدمها، فلا ينبغي للإنسان أن يُصاحب من ساء خلقه، ومن لا يملك نفسه، لا عند الغضب، ولا عند الشهوة، ولا عند الشهرة!

 

الأصول الأربعة عباد الله، الأخلاق في الإسلام عظيمة الشأن، سامية القدر، عالية المكانة، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها، وغرسها وتنميتها، في أصولهم وفي نفوسهم، وفي معاملاتهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها الدين الحنيف: الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة والمنزلة العالية، في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله.

 

بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفِطر السليمة، والقلوب الرحيمة، والشرائع المستقيمة، فالصدق والوفاء بالعهد، الجود والصبر، الشجاعة وبذل المعروف، أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر، الجبن والبخل، الحسد والحقد، أخلاق سيئة يذم صاحبها ويُساء.

صلاحُ أمرك للأخلاق مرجعُــــــــه   **   فقوِّم النفس بالأخلاق تَستقـــــمِ 

النفسُ من خيرِها في خير عافية   **   والنفسُ من شرها في مرتعٍ وخمِ 

 

أخلاق المتقين- أيها المسلمون - إن المسارعة إلى المغفرة، والدعوة إلى الجنة، نداء القرآن لأصحاب الأخلاق الحسنة والقيم العالية والآداب الرفيعة؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].

 

وهنا نجد أن التقوى تظهر حالك مع ربك، ومدافعة السيئة بالحسنة، تبيِّن حالك مع نفسك، والخلق الحسن يقيس حالك مع غيرك، كيف؟! قال عليه الصلاة والسلام: «اتَّق الله حيثما كنت، وأتْبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلق حسن»؛ (رواه الترمذي).

 

الدفع بالحسنى: والدفع بالحسنى يقلب البعد إلى قرب، ويحول البغض إلى ود، ويبدل العداوة محبة؛ قال سبحانه {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

 

العفو والرحمة عباد الله، إن العفو سجية عظيمة وخلق رفيع، أجره على الله لا على أحدٍ سواه؛ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 40، 41].

 

وكان محمد صلى الله عليه وسلم مصدر الرحمة التي استقاها من الله، يفيض بها على العالم بوجه عام؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

 

وعلى الصحابة بوجه خاص: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

 

والإعراض عن الجاهلين والعفو عنهم أخلاق المصلحين في كل وقت وحين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

 

أعلى درجات الجنات، إن حسن الخلق جواز مرور إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى الله وحسن الخلق؛ رواه الترمذي والحاكم.

 

بل إن صاحب الخلق الحسن يصل إلى أعلى الدرجات: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»؛ (رواه أحمد).

 

إنه من كمال الإيمان: قال عليه الصلاة والسلام: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»؛ (رواه أحمد وأبو داود).

 

الأخلاق تبني الأمم، عباد الله صاحب الخلق الحسن ينفع البلاد والعباد: أحب الناس إلى اللّه أنفعهم، وأحب الأعمال إلى اللّه عز وجل، سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا؛ (رواه الطبراني).

إنما الأمم الأخلاق ما بقِيت   ***   فإن همو ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا 

 

أيها المسلمون، المسلم مأمور بالكلمة الهيِّنة الليِّنة لتكون في ميزان حسناته، قال عليه الصلاة والسلام: والكلمة الطيبة صدقة، متفق عليه، حتى التبسم الذي لا يكلف المسلم شيئًا، له بذلك أجر: وتبسمك في وجه أخيك صدقة؛ رواه الترمذي.

 

خيرا الدنيا والآخرة: إن حسن الخلق يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، والزوج حسن الأخلاق هو الفائز بزوجته في الجنة؛ عن أم سلمة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، مَنْ يكون زوجها؟ قال: يا أم سلمة؛ إنها تُخيَّر فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوِّجنيه، يا أم سلمة ذهب حسنُ الخلق بخير الدنيا والآخرة.

 

كان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «اللهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشقَاقِ، والنفَاقِ، وسُوءِ الْأَخْلَاقِ».

 

حَسن الخلق وسيئه -عباد الله -: حسن الخلق أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى.

 

حسن الخلق أن يكون العبد كثير الصلاح، صدوق اللسان قليل الكلام، وأن يكون كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، برًّا وصولًا، وقورًا، صبورًا، شكورًا، راضيًا، حليمًا، رفيقًا، عفيفًا، شفيقًا، وألا يكون لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا ولا بخيلًا، ولا حسودًا، بشَّاشًا هشاشًا، يحب في اللّه، ويرضى في اللّه، ويغضب في الله، وكل هذه الأخلاق وغيرها أتَّمها المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: إنما بُعِثت لأُتَمم مكارم الأخلاقِ.

 

وأخذ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعًا هذه الأخلاق، واستقوا من هذا المعين، وقد أثبت التاريخ أن انتشار الإسلام في الشرق الأقصى من العالم؛ إندونيسيا، والفلبين، وماليزيا، لم يكن بفصاحة الدعاة، ولا بسيف المجاهدين من المسلمين، بل كان بأخلاق تجار المسلمين.

 

حسن الخلق عبادة تحدد مكانك من نبيك: الإسلام لم يتعامل مع الأخلاق على أنها مجرَّد سلوكٍ إنساني، بل جعلها عبادةً يُؤجر العبد على فعلها، والتخلق بها، كما جعلها ميدانًا للتنافس بين المسلمين، لتحصيل أكبر قدرٍ منها، ولذلك كان القرب منه في الآخرة والبعد تبعًا لحسن الخلق، كيف؟! قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنََّ أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجالس أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم مني في الآخرة، أسوؤكم أخلاقًا».

 

وحُسن الخلق من أثقل الأعمال في ميزان الإنسان يوم القيامة؛ عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي».

 

أقوال الصالحين عباد الله:

أقوال الصالحين في حسن الخلق؛ قال عبد الله بن المبارك أنّه: بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى، وقال ابن حجر رحمه الله: هو انتقاء الفضائل من الأمور، وترك رذائلها.

 

وهذه وصية علقمة العطاردي لابنه قبل موته: يا بني، إذا أردت صُحبة إنسانٍ فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخيرٍ مدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سيئةً سدَّها، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرًا أمرك، وإن تنازعتما في شرٍ آثرك.

 

وكان الفضيل يرى أن من ساء خُلقه ساء دينه، ومن حَسُن خُلُقه حَسُنَ دينه، كما عدَّ الأحنف بن قيس دناءة الخلق، وبذاءة اللسان، شرُّ داءٍ يُصاب به الإنسان، وعبَّر بعض البلغاء عن سيئ الخلق بأنه في عناءٍ من نفسه، كما أن الناس حوله في بلاءٍ منه.

 

عباد الله، من واقع الحياة: ذات يوم سافرت أُلقي خطبة الجمعة في مكان يبعد عن بيتي مسافة طويلة، اركب خلالها ثلاث مواصلات على الأقل، كانت المواصلة الأولى مشروع أربعة عشر راكب، بعدما اكتملت السيارة خرجنا من مجمع السيارات، وسار بنا السائق حتى قطع من الطريق أربعة كيلومترات تقريبًا، وعند جمع الأجرة لم يجد فكة ليعيد الباقي للركاب، قال أحدهم: ممكن تفك من أي بنزينة (مزوِّد وقود) أو سوبر ماركت في الطريق، صاح السائق واشتاط غضبًا، واستدار بالسيارة عائدًا من حيث أتى، مهددًا الناس أنه سيعمل بهم حادثة، أو ينزل بالسيارة في الماء، والنساء تصرخ من الخوف وهو يمشي بسرعة رهيبة، وعلاوة على ذلك يشتم ويسب ويتطاول على الناس وعلى الدين للأسف الشديد!

 

نزل الركاب في الموقف وحصل بعض اللوم من زملائه، وركب الناس سيارة أخرى وخرج السائق الثاني بهم، جمع الناس الأجرة ونفس المشكلة لم يكن معه فكة، إلا أنه بأسلوب راق تحدث مع الناس، وانحاز إلى بنزينة وفك الفلوس، وأعطى الباقي للناس في تواضع جم.

 

في المواصلة الثالثة: ركب الناس وأنا معهم مع سائق ثالث، حل مشكلة الفكة أيضا في سلاسة، ثم نسي أن ينزل أحد الركاب في مكانه، ولما ذكَّره أحدُ الناس، عاد بالسيارة إلى الخلف حتى أوصل الراكب إلى مكانه الذي أراد أن ينزل فيه، معتذرًا له بلطف: هل رضيت؟! رد الراكب: نعم رضيت، أشكرك كثيرًا..

 

الشاهد أن اليوم جمعة، والمفروض أذكار واستغفار وصلاة وتهاني، فهو عيد المسلمين الأسبوعي، لكن يتمايز الناس بحسن الخلق، فالسائق الأول صاحب خلق سيئ، ألفاظ بذيئة، تصرف مشين، وأذى للناس، وتعطيلهم عن أعمالهم.

 

السائق الثاني: تحلى بقدر من الأخلاق، وأدى ما عليه، وحل المشكلة ببساطة، فشكره الناس، وشكر له الله.

 

السائق الثالث: كان رائعًا، مثالًا لصاحب الخلق الرفيع، يتحدث بصوت خفيض، يعتذر بتواضع، يبتسم في وجه الناس، اصطحب حب الناس، ونال دعواتهم.

 

هكذا الناس تتفاوت في التعامل حسب الأخلاق، والعبادات تثمر الأخلاق، وإلا فلا فائدة منها، ولا عائد من ورائها!

 

كان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض، صاحب الخلق العظيم، يتعامل مع الناس بموجب القرآن، ويقضي بينهم بمقتضى الإيمان، وهو القائد القدوة، يقتدي به المسلم في حركاته وسكناته، في سفره ومقامه، في يسره وعسره، في قوته وضعفه، في غناه وفقره، في سلمه وحربه، وعافيته وسقمه، وصدق الله العظيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

  • 10
  • 0
  • 1,548

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً