إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي
كانت اللحظات الأولى للإنسان في القرآن هو خروجه من الدار التي عرفها، تلك الدار القريبة من ربه، تلك الجنة التي مكث فيا آدم وزوجه عليهما السلام، إنها بداية الاختيار، وبداية الغربة التي يجد كل إنسان منا وحشتها في صدره، بداية البعد الأول عن الله عز وجل

كانت اللحظات الأولى للإنسان في القرآن هو خروجه من الدار التي عرفها، تلك الدار القريبة من ربه، تلك الجنة التي مكث فيا آدم وزوجه عليهما السلام، فيصف لنا القرآن لحظة الخروج تلك، يقول الله عز وجل {فَأَزلهما الشيطانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيةٍ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُستقر ومتاع إلى حين} [البقرة ٣٦]. فتأمل لفظة "أخرجهما" ولفظة " أهبطوا"، وكان في لفظ "الخروج" البعد عن الدار الحقيقية، ولفظ "الهبوط" نزول إلى دار دنيا! وإنها الدنيا!
إنها بداية الاختيار، وبداية الغربة التي يجد كل إنسان منا وحشتها في صدره، بداية البعد الأول عن الله عز وجل، فما طاق آدم عليه السلام هذا البعد، فكانت رحمة الله عز وجل أسبق، وهو الأعلم سبحانه به، فتجد رحمته عز وجل في بيان سبيل إزالة الوحشة وتقليل هذا الاغتراب أولهما التوبة: يقول الله عز وجل {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الثوابُ الرَّحِيمُ} [البقرة ٣٧] هذه التوبة التي تعيد الإنسان لجوار ربه، وتعيده لمكانه الذي يطمئن إليه.
أما الثانية: اتباع الهدى، فالهدى هو الذي يُزيل الخوف والحزن بل يُحققه تمام التحقق حتى يعود من اهتدى إلى داره الأولى، دار النعيم! يقول الله عز وجل {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنها جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فمن تبعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يحزنون}[البقرة ٣٨].
وعلى هاذان كانت دعوة الأنبياء والرسل، التوبة والرجوع ثم الهداية والاستقامة، وإنهما جناحا شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله" و"لا إله" نترك بها كل شيء، وتخلع بها أنفسنا من كل شيء، أما إلا الله" فهذه الغاية، وهذه الاستقامة، وخير دليل لها هو النبيﷺ.
فيترك العبد مقاما ليرتحل إلى مقام آخر، ينتقل من الظلمات إلى النور، يُهاجر من الضيق إلى السعة كعابر سبيل
وهذه هي الهجرة بعينها، إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي الأصل، وهجرة الجسد - الهجرة الثانية تابعة لها، فهاجر العبد بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعاء الله وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له.
وهذا المعنى كان في أول آية في معنى الهجر في أول التنزيل، في سورة المدثر يقول الله عز وجل لنبيه {والرجز فَاهْجُرُ}، وفي معنى الآية يقول السعدي رحمه الله - "يُحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان، التي عبدت مع الله، فأمره بتركها، والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه"، فهذه التخلية الأولى، صفاء القلب وطهارته.
فالهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه. فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد يلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه. وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
أما الهجرة الثانية: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه التي عرف بها "المهاجرون" وتميزوا بها عن الخلق أجميعن تلك العصبة من المؤمنين، من هاجروا من مكة إلى المدينة مع النبي {للفقراء المهاجرين الذين أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورضوانَا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَائكَ هُمُ الصادقونَ}.
يل لهذه الهجرة أحوال مع أنبياء الله عز وجل فقد هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إلى مهاجر إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكِيمُ}. بل أحوال مع الصحابة رضوان الله عليهم {ومن يُهاجر في سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغمَا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجُ مِنْ بَيْتهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموتُ فقد وقع أجْرُه عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} فقد نزلت الآيات في الصحابي "ضمرة بن جندب " بمكة، قال: "والله إن لي من المال ما يُبلغني المدينة وأبعد منها، وإني لأهتدي أخرجوني " ، وهو مريض حينئذ، فلما جاوز الحرم قبضه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات.
فتأمل الهجرتين، ثم تأمل الآيات التي جمع الله فيها خصال المؤمنين! {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَني لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأَخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا في سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفَرَنَّ عَنْهُمْ سَيْئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْقَادِرُونَ}
فالهجرة الأولى التي هي واجبة على مدى الأنفاس، تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه في قلب العبد، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علمًا، ولا يتحرك بها إرادة.
أما الهجرة الثانية فهي التي يستظهر بها هذا الدين، ويتسع للعبد فيها إعلان شعائر ربه، والتي تكون منطلقا لقيام أمر الله في الأرض!
وبينهما يسير العبد، حتى يعود إلى وطنه الأول، وداره الأولى، فلا هجرة فيها، ولا غربة، ولا وحشة، بل دار القرار أبدا !
__________________________________________________________
المصدر: إنه القرآن ( القناة الرسمية )
- التصنيف: