هل جهنم وعاء أم بناء؟ إذا كانت جهنمُ بناءً خطياً أو رأسياً كالسجون والمعتقلات؛ فحينئذٍ قد يستقيم ...

هل جهنم وعاء أم بناء؟

إذا كانت جهنمُ بناءً خطياً أو رأسياً كالسجون والمعتقلات؛ فحينئذٍ قد يستقيم في الأذهان أن يكون لها سبعةُ أبواب. لكن أن يصبح لكل مجرمٍ جزء من الباب [لها سبعة أبواب؛ لكل باب منهم جزء مقسوم] فهذا يتطلب في التصور أن تكون هذه الأبواب عظيمةَ العرض، ومِنْ ثَمّ يُصبح البناء عملاقاً؛ ولا مستحيل على الله.

أمّا لو تصورناها وعاءً أقرب للكرة فإن الأبوابَ حينئذ يمكن تصورها دائريةً علوية وجانبية، وبالتالي يمكن لها أن تسع عدداً أكبر من المجرمين. فوجود فوهة أو ثغر علوي واحد أو أكثر لها يُصادق الأخبارَ التي تصف إلقاءَ المجرمين بها [ألقيا في جهنم]؛ فالإلقاء هو الرمي والدفع بقوة من علٍ. ولعلّ ما قد يُؤيد فرضيتنا هذه أحاديثُ وصفها أنها ذات أزمّة -جمع زمام والزمام هو ما يُربط به الشيء ويُشد- وتجرها الملائكة، كذا انتصاب الصراط والجسر فوقها ومرور الناس على ظهرها، وأيضا قصة قعر جهنم وسقوط الحجر في واديها والإيقاد عليها، وتنفّسها، وزفرتها، ووضع الرب الجليل قدمه فيها؛ كل هذا يجعلها مثل الوعاء أو القدر الذي يغلي ويفور.

والملء في العادة لا يكون إلا للإناء والحوض؛ فكما يُقال ملأ بطنه أو امتلأت معدته وهما ذواتا الجوف فكذا يستقيم الأمر لوعاء النار [يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد].
والوعاء هو الإناء يُجمعُ الشيءُ فيه، وهو الحاويةُ يُحفظُ الشيء فيها ويُحمل بواسطتها. فالتنور والبركان والكانون كلها أوعية ذات جوف ومحيط.
والوعاء والقدر والإناء قد يكون لكل منهم غطاء؛ فكون النار وعاءً يستلزم أن تكون ذات جُدر عالية منحنية، وذات سقف يحفظ عليها حرارتها ولهيبها ودخانها. ولعلها صارت مؤصدةً ومغلقة بوجود أعمدة فيها تمتد من أدناها لأعلاها وبين أقصى طرفيها كلأوتار المشدودة داخل دولاب أو ساقية.

وكما أن للنار سبعة أبواب فإن لها سبعة دركات أو طبقات. ولعل هذا التماثل في العدد هو الذي دفع بعض المفسرين إلى القول بأن المقصود بالأبواب الطبقات. لكن تصورنا الوعائي للنار لا يَمنع من وجود طبقات داخلية بعضها فوق بعض.

هل هذا التصور لحقيقة النار علمٌ يُفيد أم لغو يُغوي ويضل؟
جاء الخبر موقوفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تفكروا في كل شيء ، ولا تفكروا في ذات الله] ومرسلا: [تفكروا في خلقه ولا تفكروا في الخالق ، لا تقدرون قدره]
والنار خلق من خلق الله؛ والتفكر فيها وفي جنة الخلد كلاهما مشروع.
التفكر في ماهية النار وكيفيتها يبعث على تصديق الأخبار الواردة عنها بعد الجمع بينها كلها لبناء صورة واضحة وكاملة. كذلك فإن إدراك خلق ذلك البناء يدفع بالمرء إلى الخضوع لعظمة الخالق الذي أبدع مخلوق النار العظيم.
وكما أن الجنة وُصف عرضها كعرض السماء والأرض ولم يوصف لنا طولها مما يدل على اتساعها ولربما تمددها اللانهائي كتمدد الكون المعاين [وإنا لموسعون]؛ فالنار وصفت لنا كما أبنّا من قبل كذلك. فما بين تصور سعة الجنة وتمددها اللانهائي وبين تصور وعائية النار وانغلاقها وضيقها؛ يستعيذ المرء من الثانية ويفر من استوجابها، ويرجو الأولى ويحفد في استحقاق ولوجها.

https://raqshwanaqsh.blogspot.com/2025/08/blog-post_10.html
...المزيد

"الميلاد" معجزة ودين! لماذا تحتفون بمولد النبي والقرآن لم يحتفل به؟! مالكم تمجّدون يوم ميلاده؛ ...

"الميلاد" معجزة ودين!

لماذا تحتفون بمولد النبي والقرآن لم يحتفل به؟! مالكم تمجّدون يوم ميلاده؛ وليس في حادثة الولادة أي معجزة ولا كرامة؟

لعل الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تدفعنا إلى الإبحار في بحر العلم والمناظرة، والاصطياد من درر ولآليء الشيخ الأزهري أحمد علي المليجي الكتبي في رسالته العجيبة "إعلام البعيد والقريب بعجز من ظن أنه رد على السؤال العجيب". ولعل الله يمن علينا بفتوحات من الياقوت نضمنها وسط زبرجده وعقيانه وفريده..

☆ هل ولادة عيسى عليه السلام تشرف على ولادة محمد صلى الله عليه وسلم؟

》اعلم أن معجزةَ ولادة عيسى إنما هي دليل على طلاقة قدرة وعظمة المُتحدِي وهو الله، لا المُتحدَى به وهو عيسى عليه السلام. فعيسى ذَكرٌ كأي طفلٍ له ذات الخلقة، ومراحل العمر والنمو، والحاجيات، لم يُميّز بخصيصة نحو الطيران أوالغوص في الماء أوالانتقال عبر الزمان؛ وإنما أعطاه الله بعضَ الصفات الخارجية الزائدة وهي المعجزات كما غيره من الأنبياء.

》عيسى تساوى مع جميع البشر في "سببية" الإيجاد؛ فلم يكن واجبَ الوجود -معاذ الله- ولم يُوجد بلا مثال سابق ولا من غير موجد.
فعيسى عليه السلام ليس متفردا بين البشر بمعجزة الميلاد:
- عيسى خُلق بكلمة الله بواسطة الملَك بلا أب؛ حملته أمه ووضعته وأرضعته كالملايين.
- آدم خَلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه بلا أب ولا أم ولا مراحل نمو؛ فكان الأجدر أن تكون ولادته هي الأرقى عن ولادة عيسى عليه السلام.
- حواء معجزةٌ أيضا في ميلادها؛ خلقها الربُ من رجل ليس أبيها، وبلا أم، وخلقها أنثى مكتملة الأركان.
- يحيى هو كلمة من الله خلقه الله في رحم أم عاقر من أب تجاوز في العمر على نقيض مريم العذراء الصغيرة البكر.
- إسحاق أيضا خلقه عجيب.
ونفْخُ الروح في مريم يُشارك عيسى فيه كل المواليد الذين يَنفخ الملَك في صورهم في الأرحام ليهبهم الحياة بعد العدم.

》محمد كانت معجزته في "صدق البشارة" به وتحققها؛ آدم علم به صلى الله عليه وسلم كما رجح بعض المفسرين، وابراهيم سأل الرب أن يحقق دعوته بإرسال النبي إلى قوم اسماعيل، وعيسى بشّر بني اسرائ/يل به تصريحا وتوصيفا، وما من نبي إلا وأخبر به. وهكذا تتابع عبور تلك النطفة الطاهرة من طاهر إلى طاهر ومن سيد إلى سيد حتى انبثق نوره من رحم الشريفة المشرفة آمنة.
حقا كانت المعجزة في تحقق النبوءة وإمضاء البشارة وثبوتها.

☆ لماذا ذكر القرآن خبر معجزة ولادة عيسى، ولم يذكر نبأ ولادة محمد؟ أليس هذا اعترافا بشرف عيسى على محمد؟

لمّا أحاطتِ الاتهاماتُ وسوءُ الظن بولادة عيسى عليه السلام، وقُذفت أمه بالزن/ا -حاشاها- كان لزاماً ذِكر حقيقة مولده في القرآن لتبرأتها، وتكذيب اليه_ود، وتقرير الحق في عقيدة المسلمين؛ كيف لا وهو الكتاب الخاتم المهيمن؟! أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت ولادته طاهرةٌ مُبرّأة لم تَشبها أيُ شائبة، ولم يطعن في شرف ولادته أيٌ من الشانئين على مر العصور. فانظر يا هداك الله أيهما ولادته دون أخيه في القدر؛ وكلاهما ذا شرف وقدر.
[لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا]

☆ هل ولادته صلى الله عليه وسلم كانت شريفة ومعجزة؟

تفكّر وتدبر ثم لتكن إجابتك:
● النسب معلوم: كان معلوم النسب من جهة أبيه وجهة أمه.
● طُهرّ متأصل: أجداده كلهم كانوا أطهاراً لم يتغلغل ما بينهم سفل من السفاح.
● الحسب شريف: قومه من جهة أبيه وجهة أمه من أوجه وأشرف وأعز القبائل.
(وهنا نكتة لا أحسب أن مسلما يُجيز لنفسه طرحها ألا وهي أن عيسى عليه السلام لربما ألصقوا به النسب للإله لأنهم افتقدوا نسبه البشري الذي حاز النبي صلى الله عليه وسلم أعظمه؛ فلعل الإنجيل لم يحمل سلسلة نسب مريم عليها السلام)
● السماء تصطفي: نذْر جده لولادته، وتشريفه بين العرب بموقفه من غزو الكعبة.
● الترقب انفراد: ترقب أمه وجده وقومه لولادة "الابن الحفيد"، وترقب بني اسرائ/يل لظهور "نبي خاتم"، وترقب الملأ الأعلى والمخلوقات لذلك؛ كل ذلك فيه من الشرف ما لا يدانيه. السيدة مريم العذراء فاجأت قومها بوليدها؛ فانتفت في حالتها عاطفة الشوق واللهفة والشغف والإلتياع. أما محمد فكان الجميع على اشتياق وانتظار.
● الحال أبلغ المقال: عيسى عليه السلام نطق في المهد ليبرأ أمه عليها السلام، ويحاج قومه على قدرة الله، ويبارك قومه بشخصه الكريم. محمد صلى الله عليه وسلم بورك قومه بوجوده الكريم أول ميلاده، ثم انطلق في البلاغ والبيان والإفصاح عن الله بالقرآن بعد اكتمال العقل والرشاد.
فمن عمّر للثلاث والستين وُهب نطقا بعد الاربعين ليُخلد ذلك المنطوق معجزة باقية أبد الآبدين، أما من غُيب في الثلاث والثلاثين فقد وُهب النطق برهةَ زمنٍ في المهد، ثم خبت معجزته ولم يُكتب بقاء لها بعد حين.

والآن خبّرني: أعلمتَ إعجازا فوق هذا الإعجاز؟!

☆ هل تجاهل القرآن نبأ ولادته صلى الله عليه وسلم؟

》الحقيقة لا؛ فالقرآن قال في حقه صلى الله عليه وسلم "قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ" ولدت مثلكم وبينكم ولم أفضلكم في هذه النقطة في شيء فأنا بشر، كما كان عيسى أخي أيضا بشريا يأكل الطعام بلوازمه ويمشي في الأسواق بلوازمه.
》 تأكيده على احتفاء الأنبياء ببزوغ نجمه صلى الله عليه وسلم [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] [إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ]

نعم لقد كان ميلاده صلى الله عليه وسلم هو تكريم "للبشرية" و"الإنسان". طلاقة قدرة الله في إيجاد إنسان بشري كامل الخلقة والصفات في هيئة محمد هي معجزة المعجزات.

محمد..
♡ بَشري يحي القلوب وينير الأبصار ويشفي الصدور..
♡ بَشري يدنيه الرب منه، ويكلمه ويناجيه..
♡ بَشري يقطع الفيافي في ليلة، ويخترق كبد السماء..
♡ بشري تكلمه الجمادات والحيوانات، وتنبع من بين يديه الأمواه..
♡ بَشري انشق له القمر وهوت له الأحجار..
♡ بَشري يمسح على قدم المكسور فتجبر، وينفث على الموجوع فيسكن..
♡ بَشري يتحنث ويتزوج، يجوع ويتصدق، يغضب ويغفر، يُنجب ولا يُورث، يُفزّع ولا يجبن، يبكي ولا يجزع، يتألم ولا يتزعزع، يحكم ولا يتجبر، يُملَّك ولا يتملك..
♡ بَشري خلق الله على يديه بشرا صِحابا مقربين، ثم أذن الله لمحمد أن ينفخ فيهم روح القرآن فاستحالوا ملائكيين مطهرين؛ ومن ثم خُلقت أمة عظيمة من العدم والنقيض..
♡ بَشري استنكفت أمته عن أن تصوره في رسم أو تجسيد أو نحت تعظيما وتوقيرا، وركنت إلى إذاعة صفاته وشمائله وأخلاقه وتعاليمه اتباعا وتمجيدا..

"معجزة" الميلاد هي بحق..في ميلاد النبي "المعجز." العدنان المبين؛ "فالحادث" دوما وبلا ريب يسمو ويشرف على "الحدث" المستبين.
https://raqshwanaqsh.blogspot.com/2025/09/blog-post.html
...المزيد

لماذا لا نرى الله؟! لماذا لا نرى الله؟! تساؤلٌ أزليٌ فلسفيٌ لكنه منطقي ومشروع. وكثيرا ما يطرأُ ...

لماذا لا نرى الله؟!

لماذا لا نرى الله؟! تساؤلٌ أزليٌ فلسفيٌ لكنه منطقي ومشروع. وكثيرا ما يطرأُ في مخيلة الموحدين بحثاً عن الحكمة والغائية، كما تتقاذفه ألسنُ الملحدين استشكالاً على المؤمنين وتعجيزاً لهم: "لو كان حقاً موجوداً لكان بالعينين مُشاهداً منظوراً!". وتكونُ الإجابة للفريقين في الأغلب الأعم أن الحكمةَ الرئيسة وراء ذلك هو إنجاح اختبارِ الخالق للمخلوقين. فالعلةُ من وراء ذلك في رأيهم أن جلاء الله لخلقه سيُقوّض الغايةَ من هذا الاختبار الدنيوي. فبغيبته سيتمايز الصالحُ الذي يتبع المنهاج حبا وخوفاً؛ عن الطالح الذي يتنكب الطريق إعراضا واستكبارا.

وهكذا يبدو وكأن الفائدةَ من احتجاب الرب عن خلقه هو حصولُ المصلحة والمنفعة من جناب الرب سبحانه؛ وحاشاه. حيث يُثبت أمام خلقه أن منهم موالين عن رغبةٍ، ومُعادين عن قصد، ولذا حُق النعيمُ للأولين، وامتُنع عن الآخرين.

لكنّي أحسب أنّ هناك حٍكما أخرى تحمل الكثير من المنافع والمصالح للجنس البشري -غير إمضاء الثواب والعقاب- سنحاول تسليط الأضواء عليها:

☆ احتجب ليُجلّي جلالَ العقل:

إنّ احتجابَ اللهِ، وغَيبتِه عن خلقِه لهو أعظمُ دليلٍ على تعظيمِ هذا العقلِ ورِفعته. فالربُ الذي ميّزَ الإنسيّ عن الحيوانِ البهيمي بعقله أراد أن يُعلي من شأنِ هذه الآلةِ، ويكرّمها؛ فاحتجبَ بذاته ليُطلقَ العنانَ لهذه الآلةِ في البحثِ، والسبرِ، والاستقراءِ،
والتنقيب.
إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا. قضى بذلك ليُفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح؛ فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.

☆ احتجب ليطلق العنان للحرية:

إنّ احتجابَ اللهِ عن خلقهِ هو تشريفٌ، وإعلاءٌ، وتزكيةٌ، لقِيمِ الحريةِ والعقل معاً في هذا الإنسان. إنه رفعةٌ للجنسِ البشري كلهِ حين أَذِنَ بإطلاقِ العنان للإرادةِ، والمشيئةِ الإنسانية. فالرقابةُ اللصيقةُ من السيّد لعبده، ومن الوالدِ لولدِه تحولُ بينه وبين حريةِ الاختيار في الفعلِ والترك، وتميتُ فيه غريزةَ الاكتشافِ، والاختيار؛ فيصبحُ حينها مخلوقاً نَمطيّاً متواكلاً جِبليّاً كالسوائمِ تنتظر من سيِّدها ضربةَ سوطٍ، أو صيحةَ حَيعلَة.

إنّ جٓبلةَ الملائكةِ على الطاعةِ وعدمِ المعصيةِ ليس سببها الوحيد أصلُ الخِلقةِ وما رُكِّب فيها؛ لا بل إن السببَ الرئيسَ وراءَ ذلك لهو معاينتُها لعظمةِ الرب ومكانته. فهذه الكائناتُ العلويةُ التي تخدم في سلطان الملك وتبصره وتكلمه عيانا استحال في طبعها أن تنحرفَ قيد أُنملةٍ أو شبراً بعدما عاينت من العظمةِ، والرحمةِ، والفيوضاتِ، والعلم كما استشعرت بقربها معاني العلو والجبروتِ، والبطش. إن العاملينَ في بلاطِ الملِك الملاصقين له لهم أشدُ النّاس وأحرصِهم على خدمتِه وإرضائة.

وانظر إلى الشيطانَ الذي في أصله صنفٌ من الملائكة المقربين لمّا سولت له نفسه التمردَ عل الرب بعد اطلاعه عليه وقربه منه؛ أتراه كيف تمكن بعد طرده من جوار ربه بانتهاج سلوك التحريش والتضليل؟! لقد آثر الماكر أن يتوارى عن الملأ الأعلى ليستسيغ لنفسه محادّة الرب الجليل. فلو بقي بجوار الملك لما استطاع الإغواء والإيذاء خجلاً فاتخذَ لنفسه عرشاً بعيداً عن جوار ربه. وهكذا صار خنّاساً لمّا احتجب ربُه عنه، فَسهُلَت له وفي حقه المعصيةُ، والغواية.
إنّ غيابَ الملِك عن مجالسِ أتباعه، وحضرتِهم لهو تمكينٌ وتأكيدٌ على حريةِ اختياراتهم، وفهومهم وإن كان يدركُ بالحقيقة كلَّ ما يدورُ في بلاطِ قصرة بواسطة عيونه وشرطته.

إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا ليفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح. فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.

☆ احتجابٌ غير كلي:

إن الربَّ اللطيفَ الحكيمَ العليمَ لم يكن احتجابُه أبدياً ولا مطلقاً، وبالكلية. بل احتجب فقط عن الأنظارِ، ثمّ ترك في كونه دلائلَ ، وآياتٍ وآلاءٍ تُشير إليه، وتُرشد عليه. احتجبَ وتركَ نواميسَه، وقوانينَه تعملُ بثباتٍ، وديمومةٍ، وهو يُهيمن عليها، ويدبرها. احتجب الربُ عن عباده لكنه ترك في نفوسِهم غريزةً تُشعرهم في كلّ لحظةٍ أنهم مراقبون، ومقهورون فمنهم من يَزَعه داعي الرقابةِ الذاتية "الضمير"، ومنهم من يزعه إيمانٌ ودين. ثمّ إنه لمّا احتجب عنهم بعثَ لهم من جنسهم مبشرين، ومنذرين، ثم نزع عن هؤلاءِ المبشّرين، والمنذرين سلطةَ قهرِ العباد، أو مؤاخذةِ المتنكبين بالجزاءِ، والقصاص وما ذاك إلّا لِيؤكدَ لهم حريّةَ اختيارهم، ومسؤوليتهم. ثم أعلم العباد وواعدهم باللقاء يوماً ما ليكشف لهم الحُجُب ليتمكن الموالون والطائعون له من معاينته جهاراً، وجعل ذلك منتهى أمانيهم وغايةَ نعيمِهم.

☆ ماذا لو كان حاضرا مشاهدا جهرة؟!:

وانظر أعزّكَ اللهُ إلى الفارقِ بين الحيوانِ المُستأنَس، والمُستوحش. فالأولُ متبلدُ السلوكِ ينتظرُ ما يُلقيه إليه مالكه من طعامٍ مقنّن ليأكله؛ ثم هو لا يَصدر يَمنةً، ولا يَسرةً إلا عن أمرِ صاحبه الذي يقهره بالإحاطة به وينزع عنه كل الخصوصية، والإرادة والحرية. ثمّ هَب أنه فُتح له بابُ السياج فهرب، أو عمَد صاحبُه إلى تسريحه؛ فتجده حينها هائماً على وجه لا يُحسِنُ عِراكاً، ولا اقتناصاً ولا تدبيرا. أما الحيوانُ الوحشي المستوحَش فلا يحيى إلا حراً طليقاً يرتحلُ من أرضٍ لأخرى. يبتني لنفسه ما يناسبُه مِن وكرٍ، أو كهفٍ أو عُش؛ ويبتكر أساليبَه الخاصةَ في الدفاعِ والعيش. يسرحُ، ويمرحُ، ويُخادنُ، ويعادى من يهوى دون وصايةٍ من قَيّمٍ يرمُقهُ، أو يرقُبُه.



وانظر إلى حالِ بني إسرائيلَ مع أنبيائهم فإنهم لمّا أدركوا قربَ موسى من الله، واستشعروا قربَهم همْ منه بِقُربه هو منه بمزيّة مناجاته، واختصاصه بالكلام؛ تواكلوا، وتكاسلوا، وكادوا يتركون العمل. فها هُم يقولون لموسى "لنْ نَصبرَ على طعامٍ واحد"، "فادعُ لنا ربك"… إنهم يتقاعسون عن طلبِ الرزق، والبحث عن الطيبات والثمار بأنفسهم طالما أن الوصولَ إلى مآربهم سهلٌ بلا عناء، ومادامت مفاتيحُ العطاء من خلال موسى معهم. ثمّ هم بعد ذلك يتدللون في طلبهِم لأن مكاشفةَ الرب أقربُ إليهم من جميعِ الأنام. إذاّ فليكنْ [ادع لنا ربك] [يُخرج لنا ...من بَقلها وقِثائها وفومِها وعدَسها وبَصلها] إنه طمعٌ في تنوعِ المأكولات، واشتراطٌ لأصنافٍ لعينها؛ وما كلُّ هذا إلا لأنّ اللهَ [حاضرٌ] معهم غيرُ غائب عنهم. ولمّا طلبَ منهم أن يُقاتلوا أعدائَهم تثاقلوا، وآثروا الدَعَة والسلامة فما كان منهم إلا أنهم أجابوا نبيّهم بكلّ وقاحةٍ: [اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون]. فمعاينتهم لله في معاينة موسى له دفعتهم إلى اليقين أنّ النصرَ حليفُ "الله" لذا فليذهب هو وموسى للقتال، ولنرقدْ نحن هنا تحت ظِلال الشجر. كذلك انظر إلى حالِ بني إسرائيل مع نبيهم عيسى؛ لمّا اشتهوا أكلَ طعامٍ على مائدةٍ وهم جلوسٌ بلا تعبٍ ولا نصبٍ في اصطيادِ طيرٍ، أو جمعِ ثمار وما دفعهم لذلك إلا ليقينهم من تداني الرب منهم فما بالُكم إن عاينوه صبحَ مساء؟! فوالله ما قاموا حينها لحظةً ولا انتبهوا.
حتى إنّ بني إسرائيل لمّا قُتل لهم قتيلٌ، وحارَوا قليلاً في معرفة القاتل استسهلوا اللجوء الفوريَ إلى الله عِوضاً عن بذلِ الجهدِ في الإستقصاءِ، والتحري، والتنقيب. فاللهُ قريبٌ كالمشاهَد فَليَفصل لنا في أقضيتنا، ولِنَركنْ نحن إلى الراحة. ولأنّ اللهَ يعلمُ جِبِلَّتهم في التفلتِ عن الطاعة، وجُرأتِهم في عصيان الأوامر فما كان منه سبحانه إلا أن أشقاهم بالبحث عن بقرةٍ مخصوصة، واستخدامِها كأداةٍ لكشف المستور.

[ولمّا وقعَ عليهم الرجزُ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنّا الرجزَ لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني اسرائيل"

وانظر كذلك إلى الشعوبِ المقهورةِ مثلَ شعبِ الصين. فإنّ أعين الحكومة ترقُبه طوال الأربع والعشرين في الشوارعِ، والمعاملِ، والمصانعِ، والمتنزهات، وفي كل مكان بملايين الأعين الاصطناعية، والكاميرات المثبّتة في كل مكان. فلا تجد هذا الشعبَ إلا شعباً نَمطيّاً لا يُقدّم إلا ما يريدُه السادةُ ولا يملك لأفراده حريةَ معتقدٍ، ولا تَملّكٍ، ولا اختيارِ زعامة.

☆ احتجب ليرتقي بالروح:

الضميرُ هو قوةٌ دافعةٌ ذاتية تتولد داخل الإنسان تُثير فيه الإقدام على الخيرات، وتحجزه عن الشرور والآفات. وهذا الضمير الذي تصاحبه حالاتٌ نفسية تتأرجح بين الرضا والسعادة، وبين الخوف والمذلة لم يكن لينمو لو كان الرب حاضراً بذاته بين مخلوقاته. فاستتار الرب عن عباده هو الذي استحدث في الإنسان وازعَ الضمير الذي تميز به عن سائر الكائنات. إن ذلك الإحساس اللاذع الذي قد يشعر به الملحدُ إذا قارف جريمة، ويقض مضجع المؤمن إذا وقع في خطيئة لم يكن ليتحكم في اختيارات الإنسان إن لم يكن الإنسان محطم القيود. غاب الرب غيبته الصغرى عن عباده -إن صح التعبير- ليشبّ الضمير فيهم، ومن ثَمّ ترتقي الأرواح فيسمو بني الإنسان.

ومن آثار استتار الله عن خلقه على العروج بالروح نشأةُ الفلسفة وانتهاضتها. لقد سمح غياب الله عن خلقه في بعث الفكر الإنساني واستنفاره للبحث عن إجابات عن أسئلة الوجود، والنفس، والكونيات، والأخلاق، والسياسة، والجمال، والمعرفة. فالفلسفة والفنون ومجالاتها هو نتاج مباشر لاختيار الرب الحكيم بالاستتار عن مخلوقاته في الدنيا ليستنفدوا الطاقة والوسع في البحث عن الحكم واقتناص دررها.

☆ احتجب لتسمو الروح والعقل معا:

إنّ استتارَ اللهِ الموقّت عن خلقه يضمنُ لهم تمامَ الاستقلالية.
وانظر إلى حال العمال في المصنع والمُراقبُ من خلف زجاج غرفة المراقبة يرقبهم لحظة بلحظة؛ كيف أنهم يعملون في وجوم وامتعاض كالسجين المكره. ثم إذا أشاح وجهه عنهم لحظة أو غاب عن الغرفة ساعة انخرط الجميع في القهقهة والحديث وشؤونهم الخاصة.
كذلك يبرز في سلوك الأب مع ابنه أهميةُ التواري. فالأب الذي يريد لابنه أن يشب عن الطوق يترك معيته الملاصقة لولده عن قصد واختيار. يسمح له أن يعبر الشارع منفردا دون مصاحبته، ويأذن له في الذهاب إلى مسجد أو دار صديق أو قريب دون مرافقته. وهكذا تنمو استقلالية الولد وتسمو شخصيته وينجو من التبعية والاعتمادية والآلية.

☆ تخيل معي هذا المشهد:
انقشعت سحب السماء، وبرز الرب سبحانه لجميع خلقه؛ أنبأني كيف يكون في تخيلك حال الجنس البشري لحظتها؟! أزعم أن الصورة لا تخلو من مشهدين اثنين والذين قد يتداخلا أو ينفكا:
كل البشر قائم ساجد راكع لا ينفك من عبادة حتى يدلف لأخرى. يمجد الرب المشاهد كما تفعل ملائكته. إنهم كالأذرع الآلية التي تحلب الأبقار وتعبيء الألبان في مصنع "المراعي". متوالية دؤوب تستجيب للأمر دون كلل أو إباء.
والمشهد الثاني إن أذن لهم الرب في الراحة فلن تُبصر أحدهم إلا مستلقياً على جنبه أو قفاه؛ يطلب من ربه..أطعمني..اسقني..أعطني لا رغبة لديه ولا وازع للاجتهاد ولا للاكتداح ولا للاختراع!

حقاً..إن احتجاب الله الرب العلي في عليائه عن خلقة هو نعمةٌ جليلة، وعطيةٌ مُفخمة مهيبة لهذا المخلوق الاستثنائي الإنسان. إنه لم تكن لتظهر كرامةُ هذا الإنسان إلا بتكريم الله له باحتجابه عنه ذلك الاحتجاب الذي فتح للإنسان آفاق الحرية، والفكر، والابتكار، والحضارة، والعمارة، والفن، وإحياء العلم وتقديسه.

إن حتجاب الله عن هذا العالم هو ضرورةٌ لديمومة هذا العالم الأرضي على هذا النسق المعجز الباهر. وهو حجة لخلود الإنسان الأبدي بالذكر في العالم المشاهد تفوقا بجنسه الاستثنائي على سائر مخلوقات الكون، وفي عالم الغيب بالنعيم أو العذاب استحقاقا لجناية عقله وحريته في اختيار التفلت أو التكليف. إن احتجابه عز وجل هو دليل الوجود على الوجود.
https://raqshwanaqsh.blogspot.com/2025/09/blog-post_11.html
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً