#من_تفسير_أضواء_البيان {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ ...

#من_تفسير_أضواء_البيان

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ }

، وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات ، ولكنه بيّن في آيات أُخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم ، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل ، في قوله : {وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهنّ لا عدة عليهن أصلاً ، بقوله : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ} .

أما اللواتي لا يحضن ، لكبر أو صغر فقد بيّن أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله : {وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ} .

{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فيه إجمال ؛ لأن القرء يطلق لغة على الحيض ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « دعي الصلاة أيام أقرائك » . ويطلق القرء لغة أيضًا على الطهر ومنه قول الأعشى :

أفي كل يوم أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا

ومعلوم أن القرء الذي يضيع على الغازي من نسائه هو الطهر دون الحيض ، وقد اختلف العلماء في المراد بالقروء في هذه الآية الكريمة ، هل هو الأطهار أو الحيضات ؟

وسبب الخلاف اشتراك القرء بين الطهر والحيض كما ذكرنا ، وممن ذهب إلى أن المراد بالقرء في الآية الطهر ، مالك والشافعي وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمر والفقهاء السبعة ، وأبان بن عثمان ، والزهري وعامّة فقهاء المدينة ، وهو رواية عن أحمد ، وممن قال : بأن القروء الحيضات ، الخلفاء الراشدون الأربعة ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، ومعاذ بن جبل ، وجماعة من التابعين وغيرهم ، وهو الرواية الصحيحة عن أحمد .

واحتجّ كل من الفريقين بكتاب وسنة ، وقد ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب أننا في مثل ذلك نرجح ما يظهر لنا أن : دليله أرجح أما الذين قالوا القروء الحيضات ، فاحتجّوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى : {وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ} ، قالوا : فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدلّ على أن أصل العدة بالحيض ، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها ، واستدلوا أيضًا بقوله : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} .

قالوا : هو الولد ، أو الحيض ، واحتجّوا بحديث « دعي الصلاة أيام أقرائك » ، قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم هو مبين الوحي وقد أطلق القرء على الحيض ،

فدلّ ذلك على أنه المراد في الآية ، واستدلوا بحديث اعتداد الأمة بحيضتين ، وحديث استبرائها بحيضة .

وأما الذين قالوا : القروء الأطهار ، فاحتجّوا بقوله تعالى : {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قالوا : عدتهن المأمور بطلاقهن لها ، الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية ، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم ، في حديث ابن عمر المتفق عليه : « فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر اللَّه » ، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه ، بأن الطهر هو العدة التي أمر اللَّه أن يطلق لها النساء ، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى : {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وهو نصّ من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه في محل النزاع .

قال مقيده عفا اللَّه عنه الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا ، فصل في محل النزاع ؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار ؟ وهذه الآية ، وهذا الحديث ، دلاّ على أنها الأطهار .

ولا يوجد قي كتاب اللَّه ، ولا سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم شىء يقاوم هذا الدليل ، لا من جهة الصحة ، ولا من جهة الصراحة في محل النزاع ؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب اللَّه تعالى .

وقد صرح فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بأن الطهر هو العدة مبينًا أن ذلك هو مراد اللَّه جلّ وعلا ، بقوله : {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : «فتلك العدّة» ، راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق ؛ لأن معنى قوله «فليطلقها طاهرًا» ، أي : في حال كونها طاهرًا ، ثم بيّن أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدّة مصرحًا بأن ذلك هو مراد اللَّه في كتابه العزيز ، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر . وأنث بالإشارة لتأنيث الخبر ، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال العدة غير القروء ، والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء .

وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي ، وإجماع أهل اللسان العربي ، على أن عدة من تعتدّ بالقروء هي نفس القروء لا شىء آخر زائد على ذلك . وقد قال تعالى : {وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ} ، وهي زمن التربص إجماعًا ، وذلك هو المعبّر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ} ، في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول : إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئًا يسمى العدّة ، زائدًا على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة ، كما هو معلوم .

وفي القاموس : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وأيام إحدادها على الزوج ، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شىء زائد عليها ، وفي اللسان : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وعدتها أيضًا أيام إحدادها على بعلها ، وإمساكها عن الزينة شهورًا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها .

فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع ، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر . وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله : {ثَلَاثَةَ قُرُوء} ، لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار ؛ لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة .

وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة ، وأن التاء إنما جىء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث .

يقال فيه : إن اللفظ إذا كان مذكرًا ، ومعناه مؤنثًا لا تلزم التاء في عدده ، بل تجوز فيه مراعاة المعنى ، فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : وكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

فجرد لفظ الثلاث من التاء ؛ نظرًا إلى أن مسمى العدد نساء ،

مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر ، وقول الآخر : وإن كلابًا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر

فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر؛ نظرًا إلى معنى القبيلة ، وكذلك العكس ، كقوله : ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي

فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظًا ؛ نظرًا إلى أن المراد بها أنفس ذكور ، وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير وتلحقه التاء في الأول ولحوقها إذن مطلق احتمال ، ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه ، بخلاف عدد المذكر لفظًا ومعنى ، كالقرء بمعنى الطهر فلحوقها له لازم بلا شك ، واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلاً عنه ولم تدل عليه قرينة كما ترى .

فإن قيل ذكر بعض العلماء : أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلّت عليه قرينة ، أو كان قصد ذلك المعنى كثيرًا ، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين ، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك : ثلاثة بالتاء قل للعشرة في عد ما آحاده مُذكّرة

في الضد جرد إلخ ...

ما نصّه : الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسمًا فبلفظه ، تقول : ثلاثة أشخص ، قاصدًا نسوة ، وثلاث أعين قاصدًا رجال ؛ لأن لفظ شخص مذكر ، ولفظ عين مؤنث هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى ؛ أو يكثر فيه قصد المعنى .

فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى ، فالأول كقوله :

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر.

وكقوله : وإن كلابًا البيت .

والثاني كقوله : ثلاثة أنفس وثلاث ذود .اه منه .

وقال الصبان في « حاشيته » عليه : وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى : {ثَلَاثَةَ قُرُوء} . {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، على أن الأقراء الأطهار لا الحيض ، وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة ؛ لأن الحيض جمع حيضة ؛ فلو أريد الحيض لقيل ثلاث ، ولو أريد النساء لقيل بأربع .

ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ ، ولفظ قرء وشهيد مذكرين ، منه بلفظه .

فالجواب واللَّه تعالى أعلم أن هذا خلاف التحقيق ، والذي يدلّ عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقًا ، وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام ، نقله عنه السيوطي ، بل جزم صاحب « التسهيل » ، وشارحه الدماميني : بأن مراعاة المعنى في واحد المعدود متعينة .

قال الصبان في « حاشيته » ، ما نصه : قوله فبلفظه ظاهره : أن ذلك على سبيل الوجوب ، ويخالفه ما نقله السيوطي عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرًا ، ومعناه مؤنثًا ، أو بالعكس ، فإنه يجوز فيه وجهان اه.

ويخالفه أيضًا ما في « التسهيل ») وشرحه للدماميني . وعبارة « التسهيل » تحذف تاء الثلاثة وأخواتها ، إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازًا .

قال الدماميني : استفيد منه أن الاعتبار في الواحد بالمعنى لا باللفظ ؛ فلهذا يقال ثلاثة طلحات ثم قال في « التسهيل » ، وربما أول مذكر بمؤنث ، ومؤنث بمذكر ، فجىء بالعدد على حسب التأويل ، ومثل الدماميني الأول بنحو ثلاث شخوص ، يريد نسوة وعشر وأبطن يريد قبائل .

والثاني بنحو ثلاثة أنفس ، أي أشخاص وتسعة وقائع ، أي مشاهد ، فتأمل . انتهى منه بلفظه . وما جزم به صاحب « التسهيل » وشارحه ،

من تعين مراعاة المعنى ، يلزم عليه تعين كون القرء في الآية هو الطهر، كما ذكرنا .

وفي « حاشية الصبان » أيضًا ما نصه : قوله جاز مراعاة المعنى في التوضيح أن ذلك ليس قياسيًا ، وهو خلاف ما تقدم عن ابن هشام وغيره ، من أن ما كان لفظه مذكرًا ، ومعناه مؤنثًا ، أو بالعكس ، يجوز فيه وجهان ، أي : ولو لم يكن هناك مرجح للمعنى ، وهو خلاف ما تقدم عن (التسهيل) . وشرحه أن العبرة بالمعنى ، فتأمل . اه منه .

وأما الاستدلال على أنها الحيضات بقوله تعالى : {وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} ، فيقال فيه : إنه ليس في الآية ما يعين أن القروء الحيضات ، لأن الأقراء لا تقال في الأطهار إلا في الأطهار التي يتخللها حيض ، فإن عدم الحيض عدم معه اسم الأطهار ، ولا مانع إذن من ترتيب الاعتداد بالأشهر على عدم الحيض مع كون العدة بالطهر ؛ لأن الطهر المراد يلزمه وجود الحيض وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، فاتفاء الحيض يلزمه انتفاء الأطهار فكأن العدة بالأشهر مرتبة أيضًا على انتفاء الأطهار ، المدلول عله بانتفاء الحيض . وأما الاستدلال بآية : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} ، فهو ظاهر السقوط ؛ لأن كون القروء الأطهار لا يبيح المعتدّة كتم الحيض ؛ لأن العدة بالأطهار لا تمكن إلا بتخلل الحيض لها ؛ فلو كتمت الحيض لكانت كاتمة انقضاء الطهر ، ولو ادعت حيضًا لم يكن ، كانت كاتمة ؛ لعدم انقضاء الطهر كما هو واضح .

وأما الاستدلال بحديث « دعي الصلاة أيام أقرائك » فيقال فيه : إنه لا دليل في الحديث البتة على محل النزاع ؛ لأنه لا يفيد شيئًا زائدًا على أن القرء يطلق على الحيض ، وهذا مما لا نزاع فيه .

أما كونه يدلّ على منع إطلاق القرء في موضع آخر على الطهر فهذا باطل بلا نزاع ، ولا خلاف بين العلماء القائلين : بوقوع الاشتراك في : أن إطلاق المشترك على أحد معنييه في موضع ، لا يفهم منه منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر .

ألا ترى أن لفظ العين مشترك بين الباصرة والجارية مثلاً ، فهل تقول إن إطلاقه تعالى لفظ العين على الباصرة في قوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} ، يمنع إطلاق العين في موضع آخر على الجارية ، كقوله : {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} .

والحق الذي لا شك فيه أن المشترك يطلق على كل واحد من معنييه ، أو معانيه في الحال المناسبة لذلك ، والقرء في حديث : « دعي الصلاة أيام أقرائك » مناسب للحيض دون الطهر ؛ لأن الصلاة إنما تترك في وقت الحيض دون وقت الطهر .

ولو كان إطلاق المشترك على أحد معنييه ، يفيد منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر ، لم يكن في اللغة اشتراك أصلاً ؛ لأنه كل ما أطلقه على أحدهما منع إطلاقه له على الآخر ، فيبطل اسم الاشتراك من أصله مع أنّا قدمنا تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه : « بأن الطهر هو العدة » وكل هذا على تقدير صحة حديث « دعي الصلاة أيام أقرائك » ؛ لأن من العلماء من ضعفه ، ومنهم من صححه .

والظاهر أن بعض طرقه لا يقل عن درجة القبول ، إلا أنه لا دليل فيه لمحل النزاع .

ولو كان فيه لكان مردودًا بما هو أقوى منه وأصرح في محل النزاع ، وهو ما قدمنا . وكذلك اعتداد الأمة بحيضتين على تقرير ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ، لا يعارض ما قدمنا ؛ لأنه أصح منه وأصرح في محل النزاع . واستبراؤها بحيضة مسألة أخرى ؛ لأن الكلام في العدة لا في الاستبراء . ورد بعض العلماء الاستدلال بالآية والحديث الدالين على أنها الأطهار ،

بأن ذلك يلزمه الاعتداد بالطهر الذي وقع فيه الطلاق كما عليه جمهور القائلين : بأن القروء الأطهار فيلزم عليه كون العدة قرءين وكسرًا من الثالث ، وذلك خلاف ما دلّت عليه الآية من أنها ثلاثة قروء كاملة مردود بأن مثل هذا لا تعارض به نصوص الوحي الصريحة ، وغاية ما في الباب إطلاق ثلاثة قروء على اثنين وبعض الثالث . ونظيره قوله : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} ، والمراد شهران وكسر .

وادعاء أن ذلك ممنوع في أسماء العدد يقال فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ذكر إن بقية الطهر الواقع فيه الطلاق عدة ، مبينًا أن ذلك مراد اللَّه في كتابه ، وما ذكره بعض أجلاء العلماء رحمهم اللَّه من أن الآية والحديث المذكورين يدلان على أن الأقراء الحيضات بعيد جدًا من ظاهر اللفظ، كما ترى .

بل لفظ الآية والحديث المذكورين صريح في نقيضه ، هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة واللَّه تعالى أَعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن ، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها .

ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .

وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن ، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك} ؛ لأن الإشارة بقوله : {ذلك}، راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية ب {ثَلَاثَةَ قُرُوء} .

واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة ، في قوله : {إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً} ، ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا ، ولكنه صرح في مواضع أُخر أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها ؛ لتخالعه أو نحو ذلك ، أن رجعتها حرام عليه ، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} .

فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعًا ، كما دلّ عليه مفهوم الشرط المصرّح به في قوله : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} ، وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر ، فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر ، لأبطل رجعته كما ذكرنا ، والعلم عند اللَّه تعالى .

{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، لم يبيّن هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء ، ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالى : {الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ} ، فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة ؛ وذلك لأن الذكورة شرف وكمال والأنوثة نقص خلقي طبيعي ، والخلق كأنه مجمع على ذلك ؛ لأن الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي ، وذلك إنما هو لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة ، بخلاف الذكر فجمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه .

وقد أشار تعالى إلى نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين ، بقوله : {أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ؛ لأن نشأتها في الحلية دليل على نقصها ، المراد جبره ،

والتغطية عليه بالحلي، كما قال الشاعر : وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا

وأما إذا كان الجمال موفرًا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

ولأن عدم إبانتها في الخصام إذا ظلمت دليل على الضعف الخلقي ، كما قال الشاعر : بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

فلم يعتذر عذر البرىء ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب

ولا عبرة بنوادر النساء ؛ لأن النادر لا حكم له .

وأشار بقوله : {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ} ، إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله ، أن يكون قائمًا على الضعيف الناقص خلقة .

ولهذه الحكمة المشار إليها جعل ميراثه مضاعفًا على ميراثها ؛ لأن من يقوم على غيره مترقب للنقص ، ومن يقوم عليه غيره مترقب للزيادة ، وإيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة .

كما أنه أشار إلى حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة بقوله : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ؛ لأن من عرف أن حقله غير مناسب للزراعة لا ينبغي أن يرغم على الازدراع في حقل لا يناسب الزراعة . ويوضح هذا المعنى أن آلة الازدراع بيد الرجل ، فلو أكره على البقاء مع من لا حاجة له فيها حتى ترضى بذلك ، فإنها إن أرادت أن تجامعه لا يقوم ذكره ، ولا ينتشر إليها ، فلم تقدر على تحصيل النسل منه ، الذي هو أعظم الغرض من النكاح بخلاف الرجل ، فإنه يولدها وهي كارهة كما هو ضروري

يتبع..
...المزيد

#تفسير_أضواء_البيان {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي ...

#تفسير_أضواء_البيان
{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاًّيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين .

إحداهما : هي قوله هنا : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ؛ لأن قوله : {فَاتُواْ} أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله : {حَرْثِكُمْ} ، يبيّن أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة ، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد ، كما هو ضروري .

الثانية : قوله تعالى : {فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ لأن المراد بما كتب اللَّه لكم ، الولد ، على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير ، وقد نقله عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحكم ، وعكرمة ، والحسن البصري ، والسدي ، والربيع ، والضحاك بن مزاحم ، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل . فالقبل، إذن هو المأمور بالمباشرة فيه ، بمعنى الجماع فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد ، الذي هو القبل دون غيره ، بدليل قوله : {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، يعني الولد .

ويتّضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى : {أَنَّى شِئْتُمْ} ، يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل ، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب ، أو غير ذلك ، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .

فظهر من هذا أن جابرًا رضي اللَّه عنه يرى أن معنى الآية ، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها .

والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب «طلعة الأنوار» ، بقوله : تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق

وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، ما نصّه : وما استدلّ به المخالف من أن قوله عزّ وجلّ : {أَنَّى شِئْتُمْ} ، شامل للمسالك بحكم عمومها ، فلا حجة فيها ؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديث صحيحة ، حِسان شهيرة ، رواها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا ، بمتون مختلفة ، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ، ذكرها أحمد بن حنبل في «مسنده» ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وغيرهم .

وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه «تحريم المحل المكروه» .

ولشيخنا أبي العباس أيضًا في ذلك جزء سماه « إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار » قلت :

وهذا هو الحقّ المتبع ، والصحيح في المسألة .

ولا ينبغي لمؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصحّ عنه ، وقد حذرنا من زلة العالم . وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا ، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي اللَّه عنه ، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك ، كما ذكر النسائي وقد تقدم .

وأنكر ذلك مالك واستعظمه ، وكذب من نسب ذلك إليه ، وروى الدارمي في «مسنده» ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب . قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر . فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « أيها الناس ، إن اللَّه لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن » ، ومثله عن علي بن طلق ، وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أتى امرأة في دبرها لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة» .

وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن عبد اللَّه بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تلك اللوطية الصغرى » ، يعني إتيان المرأة في دبرها . وروي عن طاوس أنه قال : كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن ، قال ابن المنذر وإذا ثبت الشىء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استغنى به عمّا سواه ، من القرطبي بلفظه . وقال القرطبي أيضًا ما نصه : وقال مالك لابن وهب ، وعلي بن زياد ، لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك ، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل ، فقال : كذبوا عليّ ، كذبوا عليّ ، كذبوا عليّ . ثم قال : ألستم قومًا عربًا ؟ ألم يقل اللَّه تعالى : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ، وهل يكون الحرث إلاّ في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضًا .

ومما يؤيّد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن ، أن اللَّه تعالى حرّم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له ، مبينًا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ} . فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة ، ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة ؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض ، ولا كنجاسة الدبر ؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح ، ومما يؤيّد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب .

قال ابن عبد البر : لم يختلف العلماء في ذلك ، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق . والفقهاء كلهم على خلاف ذلك .

قال القرطبي : وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعًا للوطء، ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج . فإن قيل : قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر ، فالجواب أن العقم لا يرد به ، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبًا للرد .

وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يردّ به ، في تفسير قوله تعالى : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ، فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام . فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر ، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين ، والمتأخرين ، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر ، كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن . قال ابن كثير في تفسير قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ما نصه : قال أبو محمد ، عبد الرحمن بن عبد اللَّه الدارمي في «مسنده» : حدّثنا عبد اللَّه بن صالح ، حدّثنا الليث عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب ، قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدبر ، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ . وكذا رواه ابن وهب ، وقتيبة عن الليث .

وهذا إسناد صحيح ونصّ صريح منه بتحريم ذلك . فكل ما ورد عنه مما يحتمل ، ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم ، منه بلفظه ، وقد علمت أن قوله : {أَنَّى شِئْتُمْ} ، لا دليل فيه للوطء في الدبر ؛ لأنه مرتب بالفاء التعقيبية ، على قوله : {نِسَائِكُمْ * حَرْثٌ لَّكُمْ} ، ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث ، ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن ، وفي الفخذين ، والساقين ، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث ؛ لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعًا . والكلام في الجماع ؛ لأن المراد بالإتيان في قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ، الجماع والفارق موجود ؛ لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها ، والدبر فيه القذر الدائم ، والنجس الملازم .

وقد عرفنا من قوله : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء} ، أن الوطء في محل الأذى لا يجوز .

وقال بعض العلماء : معنى قوله : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، أي من المكان الذي أمركم اللَّه تعالى بتجنبه ؛ لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، والربيع وغيرهم ، وعليه فقوله : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يبينه : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء} الآية ؛ لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل ، وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا ، وهذا القول مبني على أن النهي عن الشىء أمر بضده ؛ لأن ما نهى اللَّه عنه فقد أمر بضده ، ولذا تصح الإحالة في قوله : {أَمَرَكُمُ اللَّهُ} على النهي في قوله : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، والخلاف في النهي عن الشىء هو أمر بضده معروف في الأصول ، وقد أشار له في «مراقي السعود»، بقوله : والنهي فيه غابر الخلاف أو أنه أمر بالائتلاف

وقيل لا قطعًا كما في المختصر وهو لدى السبكي رأي ما انتصر



ومراده بغابر الخلاف : هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشىء ، هل هو عين النهي عن ضده ، أو مستلزم له أو ليس عينه ولا مستلزمًا له ؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضًا في النهي عن الشىء هل هو عين الأمر بضده ؟ أو ضد من أضداده إن تعددت ؟ أو مستلزم لذلك ؟ أو ليس عينه ولا مستلزمًا له ؟ وزاد في النهي قولين :

أحدهما : أنه أمر بالضدّ اتفاقًا .

والثاني: أنه ليس أمرًا به قطعًا ، وعزا الأخير لابن الحاجب في «مختصره»، وأشار إلى أن السبكي في »جمع الجوامع»، ذكر أنه لم يرَ ذلك القول لغير ابن الحاجب .

وقال الزجاج : معنى {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، أي : من الجهات التي يحلّ فيها أن تقرب المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا يحل ، كما إذا كن صائمات ، أو محرمات ، أو معتكفات .

وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، يعني طاهرات غير حيض ، والعلم عند اللَّه تعالى .
...المزيد

معلومات

طالب علم

أكمل القراءة

المواد المحفوظة 1

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً