خطورة إدمان المخدرات إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. حرم الإضرار بالنفس فقال ...

خطورة إدمان المخدرات
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. حرم الإضرار بالنفس فقال تعالي }وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29){ ]النساء[ وقال تعالي }وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (195){ ]البقرة [.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... أحل الحلال وحرم الحرام ، وأحل الطيبات ،وحرم الخبائث فقال تعالي }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ... (157){ ]الأعراف[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) نهي عن الإضرار ، فعن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله (ﷺ) قال : }لا ضرر ولا ضرار { ، ]حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما[ .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد... فيا أيها المؤمنون..
لقد كرم الله الإنسان وأعلى شأنه وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة وسما به إلى أكبر درجات التعظيم والتكريم، وقال في شأنه: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) { ]الإسراء[
وقد توج الله الإنسان بأفضل وسائل التفكير والإدراك وأحل له من الطيبات ما يحفظ عليه حياته ،ويجعله صحيحا معافى عزيزاً كريماً ،كما حرم عليه كل خبيث ضار بجسمه أو عقله أو يفقده توازنه أو يحطم شخصيته، وذلك كله حماية للإنسان الكريم على الله ووقاية لبدنه أو عقله ، وما دام العقل هو نعمة الله الكبرى فواجب للإنسان إزاءه أن يحافظ عليه بكل وسيلة مشروعة وأن يُعمِله في إدراك فضائل الأمور وأن يتفكر به في ملكوت السماوات والأرض وفيما يعود عليه بالسعادة والخير ،فإذا فعل ذلك فقد أدى جانبا من شكر الله على هذه النعمة .
ولكن للأسف عندما تنقلب الأوضاع ، و ينحرف العقل عن مساره ، ويأتي الإنسان في حالة من حالات ضعفه أو مع قرناء السوء من حوله فيتعمد أن يغيب عقله أو تخدر حواسه او يعطل إدراكه بأي نوع من أنواع المخدرات والمسكرات فذلك هو الضلال المبين .
وبما إن تعاطي المخدرات تهديد حقيقي للمجتمعات ،وتعتبر من أعقد المشاكل التي تواجه المجتمعات في الوقت الحاضر ، لما لها من تأثير على كافة اشكال النشاط الاجتماعي ، والاقتصادي ، وعلى العنصر البشري من النواحي الصحية ، والعقلية ، والنفسية ، والاجتماعية.
وقد تمس بسلامة امن المجتمع واستقراره من خلال الانحرافات السلوكية الشائنة للمتعاطي ،ومن أخطرها ما يتعلق بالجريمة للارتباط الوثيق بين المتعاطي والجريمة بكافة أنواعها مثل : القتل ، والسرقة ، والاغتصاب، والتهريب ......الخ.
يضاف إلى ذلك الأضرار الكبيرة التي تصيب الاقتصاد والتنمية بسبب ضعف قدرة المجتمع في الإنتاج لانعدام إمكانات العمل أو العمل بمستويات متدنية لدى اؤلئك المتعاطين .
إذن وجب علينا أن نعطي هذا الموضوع أهمية قصوي من خلال مناقشته مناقشة موضوعية من خلال }خطورة إدمان المخدرات { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....
1ـ حقيقة إدمان المخدرات.
2ـ أسباب الإدمان .
3ـ أضرار الإدمان.
4ـ موقف الإسلام من الإدمان .
5ـ علاج الإدمان.
العنصر الأول : حقيقة إدمان المخدرات :
الإدمان: هو حالة تسمم مزمنة ناتجة عن الاستعمال المتكرر للمخدرات ، لذاك علينا أن نتعرف علي حقيقة المخدرات .
تعريف المخدرات :
أُطلق على المخدرات المرفئات ( يعني ما غيب العقل والحواس دون أن يصيب ذلك النشوة والسرور )، أما إذا صحب ذلك نشوة فإنه مسكر .
وهي كلمة قليلة الحروف ، قاتلة المعاني ، لا تصحب معها إلا الدمار ، تسحق في فلكها أحلاماً وآمالاً ، وقلوباً وعقولاً ، ومبادئ وقيماً ، وأفراداً ومجتمعات .
إنها السلاح الخطير بيد فاقدي الضمير، تفتك بالعقول فتعطلها ، وتفتك بالأجساد فتهدّها ، وتفتك بالأموال فتبددها ، وتفتك بالأسر فتشتتها، وتفتك بالمجتمعات فتحطمها .
إنها التيار الجارف ، والبلاء الماحق ، والطريق الذي ليس لـه إلا ثلاث نهايات : الجنون ، أو السجن ، أو الموت
العنصر الثاني : أسباب الإدمان:
إن أسباب انتشار ظاهرة إدمان المخدرات لا يحصيها العد، إذ لكل مجتمع أسباب
خاصة في تفشي هذه الظاهرة، فهي نابعة من ظروف العصر وأسبابه الخاصة.
1- انعدام التربية السليمة في البيت :
إن السبب الأول في انحراف الشباب هو التربية الغير سوية من طرف الوالدين ,فالطفل كالصفحة البيضاء ترسم فيها ما تشاء فإذا كانت تربيته منذ البداية مبنية على أسس ومبادئ الدين الإسلامي فالنتيجة هي إنسان صالح بإذن الله تعالى والإسلام الحنيف يحمل الأبوين ومن يقوم مقامهما مسؤولية انحراف الأبناء.
ومن الأدلة القوية على ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ {ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }. ] البخاري ومسلم[
ولا اقصد في قولي بأن كل اللوم يكون على الوالدين فهناك الأسرة والمدرسة والمجتمع ولكن ما أقصده هو أن الطفل أول ما يفتح عينه يرى أمه وأباه , فإذا وجد الطفل الأب يدخن مثلاُ وهو يعتبر هذا الأب قدوة له فإنه والحال هذا يكون من الصعب إقناعه بعدم التدخين إذ كيف يستطيع الأب أن يمنع ابنه عن شيء هو يفعله ,وكما قيل قديما فاقد الشيء لا يعطيه , والعكس بالعكس فإذا كان الأب صاحب أخلاق عالية , فالنتيجة تكون بإذن الله طفل صالح.
فالواجب على الآباء مراعاة ما استرعاهم الله به ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ }كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ{ ]متفق عليه[.

ويقول القائل :
وينشأ ناشئ الفتيـــــان منا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التـــدين أقربوه
2ـ ضعف الوازع الديني والفراغ الروحي :
ضعف الإيمان وأساس ذلك يأتي من الجهل بالعلم الشرعي ، فمتى وجد الجهل وجد ضعف الإيمان ، لأن الإيمان أساس العلم الشرعي الذي يهدي الفرد لأرشد طريق
فإن موقف الإسلام من تحريم الخمر والمخدرات صريح وواضح فمن المبادئ
الأساسية في الإسلام الابتعاد عن كل ما هو ضار بصحة الإنسان ، وأن تعاطي
المخدرات يؤدي إلى مضار جسيمة ونفسية واجتماعية للمتعاطي فالله تعالى يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ (195){ ]البقرة[
إن الشخص المؤمن والملتزم بشريعة الله لا يمكن أن يقدم على تعاطي هذه المواد التي تسبب خطراً على صحته وعلى أسرته .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله (ﷺ):}كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ{ ] أخرجه البخاري[
- وهذه مسكرة ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها مع أن فيها مفاسد أخرى بغير مفاسد الخمر توجب تحريمها . عن أم سلمة رضي الله عنها :أن رسول الله (ﷺ): } نهى عن كل مسكر ومفتر{.] أخرجه أبو داود وأحمد[
وقيل المفتر الذي يحدث في الجسم فتوراً وتراخياً وضعفاً ، والمعروف أن جميع المخدرات تحدث هذه الأضرار في الجسم إن ضعف الوازع الديني والأخلاقي يجعل الأفراد فريسة للأزمات النفسية، وهي بدورها تكون أحد أسباب التعاطي .
فالوازع الديني ينشىء الفرد على الصدق والإيمان وسلامة التطبيق لأوامر الله تعالى ،ومن تحصن بالدين الإسلامي يمكنه إن يميز بين الحلال والحرام .
وقد أحل الله الحلال لفائدته للفرد والمجتمع، وحرم الحرام لخطورته عليهما، فإذا كانت التربية الدينية راسخة لدى الفرد وقوية في النفس فيكون الحلال بين والحرام بين لدى المسلمين.
فتقوية الإيمان في النفوس تكمن بمعرفة قول الله سبحانه وتعالى }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153){ ]الإنعام [
وقال تعالى }اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45){ ]العنكبوت [
وحرم الإسلام جميع أنواع المسكرات ،سواء كانت خمر أو مخدرات قليلة كانت أم كثيرة لما تسببه من اضرار للفرد والمجتمع وهذا التحريم مستندا في القران الكريم ، والحديث ، والفقه . فقد ورد في كتاب الله العزيز }وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ (157) { ]الأعراف[ .
وجاء التحريم تاما بنص هذه الآية الكريمة لان المخدرات أم الخبائث.
وقال رسول الله (ﷺ): }لا ضرر ولا ضرار { ]متفق عليه[ .
وقد اثبت العلم الأضرار الجسيمة التي تسببها المواد المخدرة ،فهي مفسدة للدين
،والعقل ،والنسل ، والنفس ،والمال.
3 ـ النزاع والشقاق بين الآباء والأمهات :
من الأسباب الأساسية التي تؤدي إلي انحراف الولد احتدام النزاع واستمرار الشقاق
بين الأب والأم في أعظم ساعات الاجتماع واللقاء ، فالولد حين يفتح في البيت عينيه ، ويري ظاهرة الخصومة أمام ناظريه سيترك حتما جو البيت القاتم ويهرب من محيط الأسرة الموبوء ليفتش عن رفاق يقضي معهم جٌل وقته ويصرف في مخالطتهم معظم فراغه ،فهؤلاء إن كانوا قرناء سوء ورفقاء شر فإنه سيدرج معهم علي الانحراف ، ويتدنى بهم إلي أرذل الأخلاق وأقبح العادات ، بل إن انحرافه سيتأكد وإن إجرامه سيتحقق ، ليصبح أداة خطر وبلاء علي البلاد والعباد .
4ـ الفـراغ عند الشباب وخطـورته :
الوقت هو حياة الإنسان ولا بد من استغلاله فيما يعود عليه بالنفع، فكم من أناس يقضون أوقاتهم في غير فائدة تذكر، أو منفعة تسطر!!
ولما كان الفراغ قاتلاً للأوقات، خاصة وقت الشباب الذي هو أغلى شيء؛ كان الاهتمام به أبلغ وأشد , كما هو معلوم فان الإنسان يسأل يوم القيامة عن وقته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ) }لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم{ ] رواه الترمذي[
إن الفراغ في حياة المرء أمره خطير، وشره مستطير، وخاصة عند الشباب.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة لأن الفراغ مفسدة للمرء إن لم يوجه في الخير ،فإنه يسبب مشاكل كثيرة؛ ولذا لا بد أن يملأوا أوقاتهم بما يفيدهم ويفيد أمتهم , وإلا كان وبالا عليهم .
فالفراغ قد يؤدي بصاحبه إلى تناول المخدرات إن لم يستغله فيما ينفعه , إن الفراغ نعمة في حق العبد إذا استعمله فيما يعود عليه بالنفع في دنياه وأخراه، أما إذا لم يغتنمه الشاب تحول من نعمة إلى نقمة، ومن منحة إلى محنة، ويصبح شبحًا مخيفًا يحول الشاب إلى ألعوبة بيد شياطين الجن والإنس .
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ):}نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ{ ] أخرجه البخاري[
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ﴿إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة﴾.
5ـ الرفقة السيئة :
إن الاتصال بقوم منحرفين و مصاحبتهم يؤثر كثيرا على الشباب في عقله و تفكيره
و لذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله (ﷺ) أنه قال }المرء
على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل{ ]أخرجه أبو داود ، والترمذي، وأحمد[
و عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) }مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة{ ]متفق عليه[.
إن الرفقة من الحاجات الاجتماعية لكل إنسان ، لأن الرفقة حاجة نفسية متأصلة في النفس البشرية ، فإذا صلحت الرفقة صلح الإنسان والعكس بالعكس , وعليه وجب على الإنسان أن يختار الرفقة الحسنة التي تعينه في أمور دينه ودنياه.
فالحذر الحذر من رفيق السوء، فإنه يُفسد عليك دينك ودنياك ، يجرّك إلى الرذيلة، ويباعدك من كل فضيلة، حتى يُجرّئك على فعل الموبقات والآثام، والصاحب ساحب، فقد يقودك إلى الفضيحة والخزي والعار، ويوقعك في المحذورات من التدخين وشرب الخمر و المخدرات.
6ـ البيئة المحيطة بالشباب :
كل إنسان يولد على الفطرة التي فطره الله عليها , وإنما ينحرف بسبب ما يجد عليه من حوله , ويتغير بما يجده أمامه , فالنفس البشرية قابلة للخير والشر، وعندها استعداد للاستقامة أو الانحراف والبيئة هي التي تعزز ذلك وتيسره , فللبيئة تأثير خاص على الإنسان، فإن تربى في بيئة تعتز بالفضيلة والأخلاق الحسنة، صار الإنسان كذلك ، وإن عاش في بيئة فيها من الفساد الأخلاقي والفكري، أصبح على حسب ما فيها منه ، فالإنسان يؤثر ويتأثر.
7ـ الإعلام :
إن الإعلام سلاح ذو حدين من الممكن أن يكون نافعًا، ومن الممكن أن يكون عاملاً من عوامل الانحراف، ولكن ما نشاهده اليوم عبر القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت , ابتداء من أفلام الكارتون إلى المسلسلات والأفلام وغيرها من البرامج فيها من نشر الانحراف كالرقص والزنا وشرب المخدرات وجرائم السرقة ، وغير ذلك من الجرائم والسلوكيات التي يشيعها الإعلام وسط الشباب ,فكل هذا ما هو إلا طريق للانحراف الفكري والسلوكي لدى أبناء مجتمعنا.
هذه بعض الأسباب الرئيسية التي تكون سببا في انحراف الشباب , هذا وثمة أسباب أخرى لوقوع الشباب في شبح المخدرات فهذه الأسباب على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ...
العنصر الثالث : أضرار الإدمان
الأضرار الناتجة عن تعاطي المخدرات كثيرة منها:
أ . الأضرار الاجتماعية والخلقية :
1- انهيار المجتمع وضياعه بسبب ضياع اللبنة الأولى للمجتمع وهي ضياع الأسرة .‏
2- الإدمان يدمر القيم الأخلاقية والإنسانية ،فتؤدي بالإنسان إلى تحقير النفس
فيصبح دنيئاً مهاناً لا يغار على محارمه ولا على عرضه وتفسد مزاجه ويسوء خلقه.
3- سوء المعاملة للأسرة والأقارب فيسود التوتر والشقاق وتنتشر الخلافات بين أفرادها .
4- امتداد هذا التأثير إلى خارج نطاق الأسرة حيث الجيران والأصدقاء .‏
5- تفشي الجرائم الأخلاقية والعادات السلبية , فمدمن المخدرات لا يأبه بالانحراف الى بؤرة الرذيلة والزنا ومن صفاته الرئيسية الكذب والكسل والغش والاهمال .‏
6- عدم احترام القانون والمخدرات قد تؤدي بمتعاطيها إلى خرق القوانين المنظمة لحياة المجتمع في سبيل تحقيق رغبات شيطانية.‏
ب . الأضرار الاقتصادية :
1- المخدرات تستنزف الأموال وتؤدي إلى ضياع موارد الأسرة بما يهددها بالفقر والإفلاس.‏
2ـ المخدرات تضر بمصالح الفرد ووطنه لأنها تؤدي إلى الكسل والخمول وقلة الإنتاج .‏
3- الإتجار بالمخدرات طريق للكسب غير المشروع لا يسعى إليه إلا من فقد إنسانيته .‏
4- إن كثرة متعاطي المخدرات يزيد من أعباء الدولة لرعايتها لهم في المستشفيات والمصحات وحراستهم في السجون ومطاردة المهربين ومحاكمتهم .‏
ج . الأضرار الصحية :
1- التأثير على الجهاز التنفسي حيث يصاب المتعاطي بالنزلات الشعبية والرئوية وكذلك بالدرن الرئوي وانتفاخ الرئة وسرطان الشعبي‏.
2- تعاطي المخدرات تزيد من سرعة دقات القلب ويتسبب بالأنيميا الحادة وخفض ضغط الدم كما تؤثر على كريات الدم البيضاء التي تحمي الجسم من الامراض .‏
3- يعاني متعاطي المخدرات من فقدان الشهية وسوء الهضم والشعور بالتخمة خاصة اذا كان التعاطي عن طريق الأكل مما ينتج عنه نوبات إسهال وإمساك كما تحدث القرحة المعدية والمعوية ويصاب الجسم بأنواع من السرطان لتأثيرها على
النسيج الليفي لمختلف أجهزة الهضم .‏
4- تأثير المخدرات على الناحية الجنسية فقد أيدت الدراسات والأبحاث أن متعاطي المخدرات من الرجال تضعف عنده القدرة الجنسية ، وتصيب المرأة بالبرود الجنسي .
5- التأثير على المرأة وجنينها وهناك أدلة قوية على ذلك فالأمهات اللاتي يتعاطين المخدرات يتسببن في توافر الظروف لإعاقة الجنين بدنيا وعقليا .‏
6- الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب والنفسي المزمن وفقدان الذاكرة وقد تبدر من المتعاطي صيحات
ضاحكة او بسمات عريضة ولكنها في الحقيقة حالة غيبوبة ضبابية .‏
7- تؤدي المخدرات إلى الخمول الحركي لدى متعاطيها .‏
8- تدهور في الصحة العامة وذبول للحيوية والنشاط‏.
9ـ ارتعاشات عضلية في الجسم مع إحساس بالسخونة في الرأس والبرودة في الأطراف .
10ـ احمرار في العين مع دوران وطنين في الأذن ، وجفاف والتهاب بالحلق والسعال .
د ـ الأضرار النفسية :
1ـ اضطراب الشخصية ،وسوء السلوك ،الشعور بالأنانية ،وعدم الشعور بالمسؤولية ويبدو وكأنه ذو شخصية ناقصة .
2 ـ فقدان التوازن والإحساس ، دائما شارد العقل والتفكير .
3ـ يعيش حياة سيئة ويشعر بأنه منبوذ من المجتمع والأسرة .
4 ـ إن تعاطي المخدرات يضعف قدرة المتعاطي على الإدراك والسيطرة على الإرادة فيندفع لممارسة كل أنواع الانحراف من قتل وسرقة واغتصاب وفسق ورذيلة وانحراف في السلوك والأخلاق والآداب .
5 ـ ينتاب المتعاطي خوف شديد أو اكتئاب، فاقد الأمل ،لا يشعر بالأمان، تنتابه خيارات ثلاثة وهي السجن أو الجنون أو الموت مما يدفعه للانتحار .
العنصر الرابع : موقف الإسلام من إدمان المخدرات :
إن الدين الإسلامي وضع نظاماً أخلاقيا يسير عليه الأفراد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد جاء في قوله تعالى }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104){ ]آل عمران[.
فالشريعة الإسلامية تحرم كل ضرر يصيب الإنسان في عقلة أو نفسه أو دينه أو
ماله , ولذلك يكون تعاطي هذه المخدرات محرماً للضرر الناشئ عن تعاطيها .
فالمقاصد الخمسة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية هي : حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال , وهي من الضروريات الخمسة التي حرص الإسلام على المحافظة عليها وفي سبيل ذلك حرم الموبقات والمهلكات التي تحلق الضرر بأي من هذه الضروريات وبما أن تناول المخدرات فيه ضرر مبين بهذه الضروريات والمقاصد , فيكون تعاطي المخدرات وإدمانها حرام بلا جدال من وجهة النظر
الإسلامية .
وقد اتخذت الشريعة الإسلامية الخمر كمثال للأفعال التي تؤدي إلى الأضرار بهذه الضروريات الخمسة وحرمته تحريماً قاطعاً لقولة تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91){ ]المائدة[.
فإدمان المخدرات يٌفسِد على الإنسان دينه لأنه يقود الفرد المدمن إلى المعصية وارتكاب ما نهى الله عنه .
وبذلك اعتبر الإسلام تعاطي المخدرات من الكبائر التي حرمها الله تعالى كما في قوله تعالى }وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ(157){ ]الأعراف[ .
وبذلك فإتباع التعاليم الدينية هي خير وسيلة لإبعاد البشر عن الرذائل وما يتبعها معاصي وأمراض جسمانية واجتماعية وروحية فهي لها الفضل الكبير في تنظيم أمور الحياة وبناء العلاقات الإنسانية ومما لاشك فيه أن كل الأديان السماوية حرمت ومنعت الممارسات السيئة واعتبرتها معاصي تستحق العقاب .
بل سعي القران الكريم إلى تزيين الطاعة وبغض المعصية لدي البشر الله فقال تعالي }وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7){ ]الحجرات[ .
العنصر الخامس : علاج الإدمان :
إن الحياة هبة من الله تعالى، وواجبنا هو الحفاظ عليها حيث أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة بقوله تعالى :}وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ (195){ ]البقرة[
والمخدرات التي أصبح تعاطيها متفشيا بين سائر أفراد المجتمع الإسلامي وهي هلاك مؤكد ،حيث أنها تؤثر سلباً على الجسم والعقل، وعن العلاقات بين الأفراد والأسر والمجتمعات، وتعطل من قدرات الشباب على العمل والإبداع والإنتاج وخدمة الأمة .
" وقد استهدفت الشريعة الإسلامية تحقيق سعادة الفرد والمجتمع وتعمير الدنيا ومن ثم جاءت بمبادئ خالدة صالحة لكل زمان ومكان من بينها دفع الضرر ورعاية مصالح الناس في العاجل والآجل وتحريم عوامل الشر والفساد ومن أوليات مقاصد الشريعة حماية الإنسان وحفظ دينه ونفسه وماله وعقله"
لا شيء يعين المرء على تحقيق مآربه إلا بالإيمان فمن تسلح بها نجح ومن سار على الجادة وصل وأن يكون كل قصده هو التقرب إلى الله بترك محرماته ،لذلك لابد من التربية الإيمانية للطفل منذ نعومة أظفاره .
1 ــ زرع الوازع الديني لدى الأطفال في الصغر:
ضرورة تقوية الوازع الديني لدى الأطفال باعتباره خطًا دفاعيًا أوليًا مهمًا يمنع الولد من الانزلاق في الانحراف غالبًا لما لهذه التربية من أثر كبير في تكوين ضميره وإصلاح نفسه وسمو خلقه ...
ومن المعروف تاريخيًّا أن العرب الذين أدركوا الإسلام ، وآمنوا به ودخلوا فيه ،لما تربت ضمائرهم علي مراقبة الله وترسخت نفوسهم علي الخشية منه والاستعانة به ، والاعتماد عليه ، تركوا كل العادات المرذولة التي كانوا عليها في الجاهلية عن طواعية واختيار .ولكي يتضح لنا أثر الإيمان في تغيير العادات المتمكنة، وتربية النفوس على عمل الخير وإن كان شاقاً، وترك الشر وان كان مألوفاً ومعتادا نقيم موازنة بين موقفين في مشكلة واحدة:
موقف من التاريخ الحديث، وموقف من التاريخ القديم، يصوران لنا كيف يصنع وازع الإيمان ما يعجز عنه وازع السلطان.
الموقف الأول: في الولايات المتحدة الأمريكية ...
وقد انتشرت فيها عادة السكر وشرب الخمور انتشاراً أقنع الحكومة بضرر ذلك على الفرد والأسرة والمجتمع، فأصدرت الحكومة قانوناً يمنع الخمر، ثم تبين بعد مدة يسيرة أنها عاجزة تمام العجز عن تنفيذ قانونها، وأن أفراداً وجماعات أخذوا يعيثون في الأرض فساداً بتعاطي الخمور وتدريبها والاتجار بها، والتفنن في صناعتها على استخفاء، واستحضار أخبث أنواعها أكثر من ذي قبل.
ومما ينبغي أن نلتفت إليه أن هذا الحظر لم يكن (أمراً ملكياً) أو منشوراً من إمبراطور مستبد أراد أن يرغم شعبه بسلطان القوة، وقوة السلطان.
كلا ... إنه تشريع جاء عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي دستوري حر، من شأنه أن يشرع لنفسه ما يجلب له النفع، ويدرأ عنه الفساد والضرر وقد شرع هذا القانون بعد أن اقتنع به الرأي العام وتحقق له من الوجهة العلمية والعملية أن الخمر ضارة بالصحة، مفسدة للعقل، محطمة للحضارة.
فحوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي.
وفي عام 1919 أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان "التعديل الثامن عشر"
وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد).
وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية كافة وسائل الدولة وإمكاناتها الضخمة:
1. جند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب.
2. جند الطيران لمراقبة الجو.
3. شغلت أجهزة الحكومة واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام لمحاربة الخمر،
وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.
وأنفقت مليارات باهظة علي ذلك ، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراماً بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة هذه هي نهاية المطاف.
لقد فشل القانون، وعجزت السلطات، وأفلست أجهزة الدولة، في منع الخمر ومحاربة السكيرين، برغم الاقتناع العقلي الذي كان سائداً في الأمة بضرر الخمر، ولكن الاقتناع العقلي شيء وعمل الإرادة شيء آخر.
والموقف الآخر من تاريخنا العربي الإسلامي القديم:
فقد بعث سيدنا محمد رسول الله وللخمر في المجتمع العربي سريان وانتشار. تجري من نفوس أبنائه مجرى الدم، يتمدحون بشربها، ويفتنون في وصفها ووصف مجالسها وندمائها وأقداحها، ويصور شاعرهم مدى تعلقه بها فيقول: فنجد العرب قديما في الجاهلية تعلقت قلوبهم بالخمر قبل الإسلام وتمدحهم بشربها وتفننهم في وصفها.
اسمعوا إلي ما يقول الشاعر في التعلق بها :
إذا مت فادفني إلي جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولم يستطع امرؤ القيس الشاعر المعروف وقد بلغه قتل أبيه أن يدع الكأس من يده، ويفارق مجلس ندمائه بل قال كلمته المشهورة: "اليوم خمر وغداً أمر".
ولم يعرف المجتمع الجاهلي إلا أفراداً معدودين على الأصابع عافوا شرب الخمر مروءة وسجل لهم ذلك التاريخ كمأثرة نادرة، كزيد بن عمرو بن نفيل.
ومما يدل على اهتمامهم بالخمر أنهم وضعوا للتعبير عنها أسماء كثيرة، وكنايات مختلفة، وألقاباً متعددة - المدامة، السلافة، الراح، الصهباء، ابنة العنقود، ابنة الكرم، بنت الحان، بنت الدنان ... إلى آخر الأسماء التي بلغت أكثر من مائة ، كما أن تجارتها عندهم كانت في نماء وازدهار.
ومن أدلة شغفهم بها، وتمكنها من نفوسهم، أن كثيراً من الصحابة بعد أن نزلت الآيتان الأوليان في شأن الخمر: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ۗ (219){ ]البقرة[
وقال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ (43){ ]النساء[
ولم يكن التحريم فيهما صريحاً حاسماً، لم يزالوا يشربون الخمر مادام في النص متسع لهم.
ذلك أن الإسلام تدرج معهم في تحريم الخمر رفقاً بهم وتيسيراً عليهم حتى نزلت
آية المائدة الصريحة القاطعة: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91){ ]المائدة[.
وهنا رأينا العجب ... رأينا الرجل يحطم كأسه، ويسفك ما عنده من خمر في الطريق حتى تفيض طرقات المدينة بما كان عند الناس منها.
وعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به، وذلك قبل التحريم النهائي قال أبو سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال: "إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية يعني آية المائدة السابقة وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع"، قال أبو سعيد: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها -أي صبوها وأسالوها{ ]رواه مسلم[
وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: }إن الخمر حرمت ، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها ، فأهرقها{. ]متفق عليه[ .
وعن أبي موسى الأشعري قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة أي حلالاً إذ قمت حتى آتي رسول الله (ﷺ) فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91){ ]المائدة[.
فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم ، قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا ... انتهينا ربنا{، }رواه الطبري في تفسير آية المائدة{
فهل رأت البشرية مثل هذا انتصاراً على النفس، وسرعة في الاستجابة، وقوة في الانقياد للأمر مهما يكن مخالفاً للعادات، مصادماً للشهوات؟
هكذا الإيمان يصنع العجائب حين يخالط بشاشته القلوب ، وتترسخ جذوره في الضمائر والنفوس .. بل يقوم بدوره الكبير في الإصلاح والتهذيب ، مما تعجز عنه دول وتفشل في تحقيقه أساطيل .
فما أحوج المجتمعات الإنسانية إلي مثل هذا الإيمان ، وإلي مثل هذه التربية الصالحة .
لأن الشاب المتدين الملتزم بدينه ، وبقيم دينه ، وبأخلاق دينه ، هو أبعد الناس أن يقع فريسة لهؤلاء ، لأنه لا يشرب حتي السيجارة فهو يراها حراما ومنكرا ، وأول الآفات هي السيجارة ، من السيجارة يبدأ الفساد ومن خلالها يمكن أن يأخذه دعاة الفساد وتجار الشر إلي الأشياء الأخرى والمنكرات الكبرى .
أما ابن المسجد الذي تربي ونشأ وترعرع في بيوت الله وفي ظل روضة القرآن الكريم يستعصي علي هؤلاء الفسدة المفسدين في الأرض لأن الله حصنه بالإيمان وبالاستقامة علي الإيمان ، فلا يستطيع شياطين الإنس أن يصلوا إليه كما عجز شياطين الجن أن يصلوا إليه فقال تعالي: }إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ َكِيلًا (65) الإسراء .، وقال تعالي (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ )(100) النحل . وقال تعالي (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42){ ]الحجر[ .
2 ـ تفادي الأسباب المؤدية للإدمان .
3 ــ الرحمة مع المدمن في العلاج والشفقة عليه ، والتدرج معه...
وذلك بتتبع الحكمة في إرشاده باللطف واللين والموعظة الحسنة مسترشدًا بقول الله عز وجل ‏{‏ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)}‏ [‏النحل‏‏]‏‏.‏
والبعد كل البعد عن التعصب والشدة لقوله تعالى‏:‏ فيتبع معه الأسلوب غير المباشر لأن مواجهة الشاب بأخطائه مباشرة تزيده إصرارًا وعنادًا وقد كان النبي(ﷺ)
‏(‏وهو قدوتنا إذا رأى من قوم ما يكره قال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا‏)‏ دون
تخصيص، كذلك النصيحة له على انفراد فإنها أدعى للقبول .
يقول الشافعي‏:‏
تعمدني بنصحك في انفرادي ** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ** من التوبيخ لا أرضى استماعــه
ومن الأساليب الناجحة في هداية المنحرفين زيارتهم وتلمس حاجاتهم وتذكيرهم كلما سنحت الفرصة وإلقاء قصص التائبين على أسماعهم فإنها مما تهش له القلوب وتنشرح له الصدور وتتغلغل في نفوس العصاة شيئًا فشيئًا حتى تحرك ضمائرهم وتوقظهم من الغفلة التي رانت على قلوبهم ردحًا من الدهر وماتزال بهم حتى تخشع أفئدتهم للتذكرة والموعظة ثم ما تلبث أن تلين قلوبهم لذكر الله‏:‏‏؟‏
4ــ تطبيق العقوبة علي مرتكبي هذه الجريمة :
إن الإسلام الحنيف وضع العقوبة الزاجرة لكل من يحتسي الخمر وهي مقدرة ما بين ( 40 إلي 80 جلدة) ، وهذا لا يمنع من وضع عقوبة تعزير من حبس وتغريم ومصادرة .
أما بالنسبة للإتجار في المخدرات فتعتبر تجارة موت لأنهم بتاجرون بأعمار الشباب سر نهضة الأمة وعمادها فهؤلاء عقوبتهم الموت لأنهم يتسببون في قتل الشباب .
والقرآن شرع القصاص لمن قتل نفسا بغير نفس فقال تعالي }أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32){ ]المائدة[ .
هؤلاء يريدون أن يكسبوا الثروات علي حساب حياة البشر ، وأن يبنوا قصورا من جماجم الخلق ويزخرفوها بدماء الناس ، هؤلاء العتاة القساة الطواغيت لا علاج لهم ولا عقوبة لهم إلا الموت .
الخاتمة ...
لابد لكل منا أن يقوم بدوره فالكل مسئول ومؤتمن وسيحاسب كل منا مسئوليته ، يقول المولي سبحانه وتعالى :}إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا (58){. ]النساء[.
وقال تعالي}وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)}‏ ]الصافات[.
وقال تعالي }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6){
[التحريم].
أسأل الله العظيم أن يصلح لنا ولكم الذرية، وأن يحفظ أولادنا من كل مكروه وسوء، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
...المزيد

عناية الإسلام بنظافة الظاهر والباطن إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. اعتنى ...

عناية الإسلام بنظافة الظاهر والباطن
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. اعتنى عناية كبيرة بصحة الإنسان , ووضع له القواعد التي تحقق له ذلك ، فاعتبر الطهارة سببا من أسباب محبته تعالى فقال عز وجل}إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222){ ]البقرة[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ..وهب الإنسان نعماً كثيرة وميزه وكرمه علي كثير من مخلوقاته؛ فقال تعالي }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70){ [الإسراء].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) ربط بين الإيمان والطهارة فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):}الطهور شطر الإيمان ..{
]أخرجه مسلم[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
أما بعــــد .. فيا أيها المؤمنون .
إن الله أكمل لنا الدين وأتمّ علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا ،وأكرمنا بشريعة تعالج أمراض القلوب وتقي أمراض الأبدان ،وأنزل علي نبيه ومصطفاه كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قال تعالى فيه :}مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ (38){ ] الأنعام[
والشريعة جاءت بحفظ الكليات الخمس : الدين والنفس والمال والعرض والعقل ، ومن حفظ النفس العناية بصحة الأبدان ، لأن البدن أمانة من الله عندنا وهو مطيتنا في رحلة هذه الحياة ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال (ﷺ) }يا عَبْدَ اللَّهِ، ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهارَ وتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فلا تَفْعَلْ، صُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا{ ] أخرجه البخاري ومسلم[، وما أُعطي عبد أفضل من نعمة العافية ، فنسأل الله دوام العافية في الدين والدنيا والآخرة ، كما نسأله دوام الشكر علي العافية .
فالإسلام دين النظافة والطهارة ، جاء ليبني أمة طاهرة ، طاهرة في عقيدتها وعبادتها وفهمها وسلوكها ، وجاءت الطهارة في نصوص الكتاب والسنة بمعناها الواسع الشامل ليتطهر المسلم ظاهرا وباطنا ، قال تعالى }يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ (4){ ] المدثر [
كما مدح سبحانه أصحاب رسوله (ﷺ) ، فقال سبحانه وتعالى:}فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108){ [التوبة].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ
يُحِبُّ الجَمالَ{ ] رواه مسلم[
لذلك كان حديثنا عن }عناية الإسلام بنظافة الظاهر والباطن{ وذلك من خلال
هذه العناصر الرئيسية التالية :
1ـ مفهوم النظافة في الإسلام.
2ـ النظافة الحسية ومظاهر عناية الإسلام بها .
3ـ النظافة المعنوية.
4ـ أثر النظافة المعنوية على المجتمع.
5ـ بيان عظمة الإسلام الحنيف .
6ـ الخاتمة.
العنصر الأول : مفهوم النظافة في الإسلام:
الإسلام دين النظافة بأوسع معانيها، نظافة العقائد من الشرك والخرافات ، ونظافة الأخلاق من الرذائل والمنكرات ، ونظافة اللسان من الكفر والفحش ، ونظافة القلم من الكذب والفجور ، ونظافة الأجساد والثياب من الأوساخ والقاذورات ، ونظافة المسجد ، ونظافة الطريق والبيوت وسائر جوانب الحياة حتى يكون المجتمع المسلم شامة بين الأمم .
عن خريم فاتك الأسْدي قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}إنكم قادمون على إخوانكم ، فأصلحوا رحالكم ، وأصلحوا لباسكم ، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس ؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش { وفي رواية: }حتى تكونوا كالشامة في الناس { ]رواه الإمام أحمد في المسند ، وهو في سنن أبي داود ،ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي[.
لقد اعتنى الإسلام بالنظافة بمفهومها الواسع؛ فهي جزء من حياة المسلم وطابع لا غنى له عنه، وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها.
والنظافة التي اهتم بها الإسلام على ضربين: نظافة حسية ونظافة معنوية.
العنصر الثاني: النظافة الحسية ومظاهر عناية الإسلام بها:
وهي طهارة الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات، وقد جعل الإسلام هذه المرتبة جزءاً من حياة المسلم، وطابعاً لا غنى له عنه، وعملاً لا ينفك منه في اليوم والليلة، ويتولى الوضوء الشرعي كبر هذه المرتبة، وفيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل أضعاف ما له من الآثار الحسنة على نظافة المسلم ، ومن مظاهر عناية الإسلام بالنظافة الحسية ما يلي..
1ـ الطهارة لإقامة الصلوات الخمس :
ومن عناية الإسلام بالطهارة: أنه جعلها مرتبطة بأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين
وهي الصلاة، فهي شرطٌ لصحتها، ومفتاحها، ومقدمتها.
فقد أمرنا ربنا عز وجل بنظافةِ الظاهرِ، وأخذِ الزينةِ في مواطنَ، ومنها عند إرادةِ
الصلاةِ ،أعظم وأهم لقاء في حياة المسلم (لقائه مع ربه عز وجل)، بقوله تعالى{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ(31)} [الأعراف]
وأمرنا بالوضوء عند إرادةِ الصلاةِ بقوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا(6)} [المائدة]
ورتَّب على ذلك الفضلَ العظيمَ والأجر الكبير، ومن ذلك قولُه (ﷺ) :}إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهَه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتْها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب{ ]رواه مسلم[.
وأيضا جعله النبي (ﷺ) سبباً لمحو الخطايا ورفعة الدرجات، فعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): {من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره }. ]رواه مسلم[
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبيُّ (ﷺ):}أرأيتُم لو أن نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ؛ هل يبقَى من درَنه شيء؟». قالوا: لا يبقَى من درَنه شيءٌ. قال: «فذلك مثَلُ الصلوات الخمسِ، يمحُو اللهُ بهنَّ الخطايا{ ]متفق عليه[.
ومن أضافَ إلى طُهوره كلمةَ التوحيد فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال:}ما منكم من أحدٍ يتوضَّأُ فيسبِغُ الوضوءَ ثمَّ يقولُ أشهدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه وَ أشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه إلَّا فُتِحتْ لَه أبوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ يدخلُ من أيِّها شاءَ ورد بزيادةِ اللَّهمَّ اجعلني من التَّوَّابينَ واجعلني من المتطَهِّرينَ{ ] أخرجه مسلم[
الله أكبر! يا لِسعة فضل الله، وإكثاره طرق الخير لعباده! ولكن أين المحتسبون المتبعون الذين يقومون بهذا العمل إخلاصاً لله، ورغبةً فيما عنده، واتباعاً لسنة المصطفى (ﷺ) في ذلك؟!
2ـ وجوب الغسل والاهتمام بسنن الفطرة :
لقد أوجب الإسلام الحنيف الاغتسال عند حدوث موجباته، كالجنابة، والحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمع والأعياد، والإحرام، وحضور الاجتماعات العامة، ومن ذلك حثه على التطيب، والسواك والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة.
ومن ذلك أيضاً خصال الفطرة التي أخبر عنها المصطفى (ﷺ) ،عن عائشة
رضي الله عنها : أن النبي (ﷺ) قال: {عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء
اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني: الاستنجاء}] أخرجه مسلم[ .
قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
كما حرص ديننا الحنيف في هذا الجانب على ما يتصل بحياة الناس اتصالاً
مباشراً، ومن ذلك: نهي الإسلام عن التبول في المياه الراكدة، والبراز في الطرق والظل وموارد الناس، كما أمر الإسلام بنظافة البيوت والطرق والطعام والشراب، واللباس والمرافق العامة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان.
3ـ نظافة الفم والأسنان :
أمر الإسلام بتنظيف الفم والعناية به، فكان النبي (ﷺ) يستخدم السواك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال:} لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي أوْ علَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مع كُلِّ صَلَاةٍ. {. ]صحيح البخاري[.
4ـ الاعتناء بالنظافة عند تناول الطعام:
أوجب الإسلام الحرص على نظافة الطعام، فعلى الإنسان أن يتخلص من كل الفضلات وآثارها وروائحها، وهذا يُعَد من باب النقاء والتطهير للمسلم. فعن سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده{. ]سنن أبي داود[.والمقصود بالوضوء هنا غسل اليدين قبل الطعام وبعده.
5ـ الاعتناء بصحة الجسم:
حتى العلاج والدواء الذي يتناوله الإنسان هو جزء مما دعا إليه إسلامنا العظيم. فقد قال النبي (ﷺ) آمراً بالتداوي من باب العناية بالصحة: }ما أنزل الله عز وجل داءً إلا أنزل له دواءً{. ]مسند أحمد[.
والتداوي جزء من حفظ المسلم لقوة بدنه القوة المادية }وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ (60){ ]الأنفال[
6ـ الاعتناء بالزينة والتطيّب:
عُني ديننا العظيم عناية كبيرة بزينة الإنسان وجماله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ): }من كان له شعرٌ فليكرمه{.]سنن أبي داود[.
وكان عليه الصلاة والسلام يُعنى بنظافة ثوبه والطيب كذلك، فعن أنس بن مالك
رضي الله عنه ،أن النبي (ﷺ) قال: }حُبِّبَ إلي من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت
قرّة عيني في الصلاة{. ]مسند أحمد[.
7ـ نظافة الثوب:
لقد عُني الإسلام بنظافة الإنسان بشكل عام؛ نظافة ثيابه، فلا بد أن يُعنى المسلم بثيابه ونظافتها وطيبها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : }أتانا رسولُ اللهِ (ﷺ) زائرًا في منزلِنا فرأى رجلًا شَعِثًا قد تفرَّقَ شعرُه فقال أما كان يَجِدُ هذا ما يُسَكِّنُ به شعرَه و رأى رجلًا آخرَ وعليه ثيابٌ وَسِخَةٌ فقال أما كان هذا يجدُ ماءً يغسلُ به ثوبَه.{] أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد[
يحرص النبي (ﷺ) بذلك على ضرورة نظافة الثوب، وأن يكون ثوبنا نظيفاً وأنيقاً بشكل دائم.
و في حديثٍ آخر عن رجل يقال له "أبو الأحوص" قال: أتيت النبي (ﷺ) في ثوبٍ دونْ فقال: "ألك مال؟". فقلت: نعم. قال: "من أي المال؟".
قال قد آتاني الله تعالى من الإبل والغنم والخيل والرقيق. فقال النبي (ﷺ): }فإذا آتاك الله مالاً فليرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته، إن الله تعالى يحب من أحدكم إذا أنعم الله عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه{. ] أخرجه النسائي وأبو داود[
قال تعالى: }وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11){) ]الضحى[
فطالما أن الله سبحانه وتعالى قد آتاك مالاً كثيراً ومتنوعاً ومتعدداً فالبس ثياباً جديدة ونظيفة حتى تُرِيَهُ سبحانه وتعالى أثر نعمته عليك.
والعناية بالثياب أمر ضروري، وهو جزء من شخصية المسلم التي ينبغي على كل مسلم أن يبرزها بصورة لائقة ومحببة، وقد كان النبي (ﷺ) يُعنى هو شخصياً بثيابه ؛ فقد كان له جُبَّة يمانية يلبسها يوم العيدين، ويلبسها يوم الجمعة، ويلبسها إذا استقبل الوفود ، وقد كان له ثياب أخرى يلبسها مع أهله وعياله ، وثياب أخرى يلبسها في الجهاد في سبيل الله تعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب لبس البياض، فقد ورد عنه (ﷺ) نص صريح في فضل لبس الثياب البيضاء وخاصة في الصيف ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ):}البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم {. ]رواهُ أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح[.
وقد ورد عن بعض الحكماء قولهم: "مَن نَظَّفَ ثوبَه قَلَّ همُّه، ومن طاب ريحه زاد عقله".
8ـ نظافة المكان:
ومن أنواع النظافة التي ركّز عليها الإسلام نظافة المسكن؛ فالنفس تنشرح عندما
ترى مكاناً نظيفاً، وتشمئز عندما ترى مكاناً قذراً، وبيتنا الذي نقيم فيه هو بيت للعبادة والطاعة قبل أن يكون بيتاً للنوم والطعام والشراب، فالله سبحانه وتعالى قد طهّر بيته (البيت الحرام) وعهد إلى سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام أن يحرصا على طهارة البيت الحرام، وأن يظل مهيَّأً للراكعين والطائفين والساجدين ، فقال الله سبحانه وتعالى}وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125){ ]البقرة[
فهذا التطهير يشمل التطهير من القذر، ومن مظاهر الشرك والوثنية، فقد طهر الله سبحانه وتعالى البيت الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت حوله، وقد أصبح البيت من فضل الله تعالى نظيفاً وطاهراً من حيث الظاهر والباطن.
9ـ نظافة الطريق :
لقد أعلى النبي (ﷺ) من شأن نظافة الطريق، حتى أنه ذكر لأصحابه رضي الله عنهم أنه رأى رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله (ﷺ) قال:}لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ{ ] رواه مسلم[.
فالله تعالى أعطاه ثوابه عظيماً وأجراً كبيراً.
فما أروع أن يظل الطريق نظيفاً بعيداً عن كل أذى، وعن كل أنواع الأوساخ والأقذار التي تُلقى في الشوارع، لا بد أن نُعنى بنظافة شوارعنا حرصاً على الصحة والمظهر العام، وأن نُذهب الأذى عنها، فقد عدّ النبي (ﷺ) إماطةَ الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ):}الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ{.]متفق عليه[.
وقال النبي (ﷺ) في بيان فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأنها من أفضل أعمال الأمة التي تلقى بها وجه الله سبحانه وتعالى، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال : }عُرِضتْ عليَّ أعمالُ أُمَّتي حسنُها و سيِّئُها فوجدتُ في محاسنِ أعمالِها أنَّ الأذَى يُماطُ عن الطريقِ ، ووجدتُ في مساويءِ أعمالِها النُّخاعةُ في المسجدِ لا تُدفَنُ{ ] مسلم[
العنصر الثالث: النظافة المعنوية (طهارة القلب) :
فإذا كانت طهارةُ الظاهرِ من البدن بهذه المنزلةِ والفضلِ، فطهارةُ القلبِ أولى بذلك ؛ فلا خير في حسنٍ ظاهر، مع فسادٍ باطن، وكم من جميل منظره خبيثٌ مخبره.
لأنَّ مدارَ الأعمالِ والثوابَ والعقابَ، والقبولَ والردَّ عليها، وطهارة القلب ليست بالماء، والثيابِ النظيفةِ كطهارة البدن، إنما بالتخلص من الأوصافِ الذميمةِ، والاتصافِ بالأوصافِ الجميلةِ، ومن ذلك التخلصُ من دغلِ الشرك وغلِّه، فأعمالُ طهارةِ القلبِ كلُّها لله، لا يطلب من المخلوقين مدحًا، ولا تقديرًا وإجلالاً؛ بل هو يستسرُّ في العبادة، يَودُّ لو لم يطلع عليه أحدٌ، ومع ذلك هو خائفٌ وَجِلٌ من أن يكون لأحدٍ نصيبٌ في أعماله، فإذا عَمِل عملاً، سأل نفسه: لماذا هذا العملُ؟ وإن ترك شيئًا، سأل نفسه: لماذا تركتِ هذا العملَ؟ فإنْ أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن مَنع مَنع لله، وإن تقدَّم تقدم لله، وإن تأخر تأخر لله.
فسَلِم من عبودية ما سوى الله، فلا يريد أن يكونَ لغيرِ الله فيه شركٌ بوجه من الوجوه، فقد أخلص عبوديته لله تعالى.
وهو قد طهَّر قلبَه من تحكيم غير رسول الله (ﷺ) فيه، قد عقد قلبَه على الائتمامِ والاقتداءِ به وحدَه (ﷺ) دون غيرِه، في الأقوالِ والأعمالِ، من أقوالِ القلبِ، وهي العقائدُ، وأقوالِ اللسان، وهي الخبرُ عما في القلب، وأعمالِ القلب، وهي الإرادةُ، والمحبةُ، والكراهةُ، وتوابعُها، وأعمالِ الجوارحِ، فيكون الحاكمُ عليه في ذلك كلِّهِ هو ما جاء به الرسول (ﷺ) فلا يتقدم بين يديه بعقيدةٍ، ولا قولٍ، ولا عملٍ، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (1)} [الحجرات].
قد طهَّر قلبَه تجَاه إخوانِه المسلمين، فلا يحسدُهم على نعمةٍ أنعمها اللهُ عليهم؛ بل يفرح بها؛ لأنَّه يعلم أنَّ محبةَ الخير للمسلمين مما افترضه الله عليه، وأنَّه إذا أخلَّ بذلك أخل بالإيمان الواجبِ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه{ ]رواه البخاري ومسلم[.
يعلم أنّ من مقتضيات التقوى حصول صلاح ذات البين وطهارة القلوب وسلامتها، فقال سبحانه: }فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ(1){[الأنفال].
لا يحتقر إخوانه المسلمين؛ لعلمه بعظمِ ذلك عند الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال : }بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم{
]رواه مسلم[.
لا يتطرقُ الكِبرُ إلى قلبِه الطاهر؛ لأنَّه يعلمُ قولَ النبي (ﷺ) الذي رواه بن مسعود
رضي الله عنه }لا يدخل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبر{ ]رواه
مسلم[.
يحمل ما يصدر من إخوانه المسلمين على المحمل الحسن، فهو لا يسيء الظنَّ بهم؛ بل يلتمس العذر لزلاَّتهم وهفواتهم، ممتثلاً أمر ربه عز وجل بقوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (12)} [الحجرات]
يعلمُ أن ما هو فيه من خيرٍ وصلاحٍ واستقامةٍ من نِعمِ الله عليه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ(17)} [الحجرات]
يبدأ إخوانه بالتحية، ولو كان عند الناس أنَّه أعلى منهم قدرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ هذه التحية سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ﷺ): }لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم{ ]رواه مسلم[.
طلْق المحيَّا، يقابل إخوانه بالابتسامة وطلاقة الوجه؛ تعبُّدًا لله، مستحضرًا قولَ النبي (ﷺ):}لا تحقرن مِن المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ{ ]رواه مسلم[. يعلم أنه بحسن خلقه يدرك درجة الصائم القائم.
إذا رأى مَن عليه آثارُ المعاصي تذكَّرَ أنَّ الأعمالَ بالخواتيم، وأنَّ الهدايةَ بيد الله، فخاف على نفسه من سوءِ الخاتمةِ، واستعاذ بالله من الحَورِ بعد الكورِ، وتذكَّرَ نعمةَ اللهِ عليه، فربما كان في وقت من الأوقات أسوأَ حالاً من هذا العاصي {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (94)} [النساء].
فعندما طهَّر قلبَه استقام لسانُه، فلا يتكلم إلا بخير، يَزِنُ كلامَه قبل أن يتكلمَ به؛ لأنَّه يعلمُ أن أقوالَه من أعمالِه، متذكرًا قوله (ﷺ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت{ ]رواه البخاري ومسلم[.
عالمًا أنَّ اللسانَ دليلٌ على صلاحِ القلب أو فسادِه؛ عن أنس رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال:}لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ ،ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ { ]رواه الإمام أحمد بإسناد حسن[.
ولقد امتدح الله أقوامًا ،همهم طهارة قلوبهم وسلامتها من الغل والبغضاء فقال تعالي }وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ (10){ [الحشر].
وأخبر النبي (ﷺ) بأنه أفضل الناس عند الله تعالى ،فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : }كل مخموم القلب ، صدوق اللسان " قالوا : صدوق اللسان نعرفه ، فما مخموم القلب ؟ قال : " هو التقي النقي ، لا إثم فيه ولا بغي ، ولا غل ولا حسد { [ رواه ابن ماجة بإسناد صحيح والبيهقي ] .
وقد جعل جزاء ذلك الجنة!! حيث أخبر سبحانه أنه لا نجاةَ يوم القيامة إلا لمن سلِم
قلبه، وسلامةُ القلب تقتضي طهارتُه من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يقول جل من قائل:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)} [الشعراء]
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) فَقَالَ : }يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ (ﷺ) مِثْلَ ذَلِكَ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ ، قَالَ النَّبِيُّ (ﷺ) مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ (ﷺ) تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ : إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي ، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ ، قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ : إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ لَكَ : ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) ، فَقَالَ : "مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ، قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا ، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ :هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ،وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ { .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ :}تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا { [ رواه مسلم ] .
كما أنه سبحانه أتمَّ النعمة على أهل الجنة بأن نزعَ ما في قلوبهم من الغلّ وجعلهم إخوانًا، ذلك أن الغلَّ يُشقي صاحبه ويتعذَّب به، يقول سبحانه عن أهل الجنة : }وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ(47){[الحجر].
ألا فاعلموا أيها الناس أن ثمن سلامة صدر العبد المؤمن على أخيه المؤمن ؟
جنة غالية ، وهمة عالية.
العنصر الرابع : أثر النظافة المعنوية في حياة المجتمع :
انظروا إلى المجتمع المسلم الأول ، كيف نظفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وزكت أفئدتهم ، وسمت هممهم فكان مجتمع الصفاء والإخاء ، والطهارة والنقاء ، مجتمع تسوده الرحمة والألفة والمحبة ، مجتمع يحب بعضه بعضاً ، ويفدي بعضها بعضاً ، مجتمع ترك الدنيا وزينتها ، وطلب ما عند الله تعالى ، مجتمع يحب لله ، ويبغض لله ، قال الله عنهم : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً (29)} [ الفتح ]
ورؤي أبو دجانة رضي الله عنه في مرض موته مشرق الوجه فسُئِل مالي وجهك متهللا يا أبا دجانة فقال: كنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا.
لم يتذكر موقفه العظيم في يوم أحد حينَ أخذ السيف بحقِّه، فجالد به المشركين، لكنه تذكّر سلامة قلبه وطهارتَه لإخوانه المسلمين.
وحين قال رجلٌ لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأ تفرغنَّ لك، قال له كلمة تنمّ عن حكمة عظيمة: إذا تقَعُ في الشُّغل، فإنّ من أشغَلَ قلبه بالآخرين غِلاً وحسَدًا وقع في الهمّ والبلاء، وأشغل نفسه ووقته بما لا يعنيه وما لا طائلَ له من ورائه.
إن سلفنا الصالحَ قد راعَوا هذا الأمر واهتموا به أشدَّ الاهتمام ..
فهذه بعض القدوات الرائعة من حياة السلف :
الإمام أحمد :
هذا إمام السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذِّب عذابًا شديدًا، لكنه بعد تلك المحنة يصفَح عن كلِّ من أساء إليه إبَّان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حلٍّ، وكل من ذكرني في حلّ، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حلّ (يعني المعتصم أمير المؤمنين ) رأيتُ الله يقول: }وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ (22){ [النور]،وما ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم بسببك ؟
الإمام الشافعي :
وهذا الإمام الشافعي رحمه الله بعدَ أن ناظره يونس الصّدفي، فلما لقيه بعد ذلك أخذ بيده وقال له: "يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟!" وهذا ما حمل الصدفي على القول: "ما رأيت أعقل من الشافعي".
الإمام ابن تيمية :
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقفٌ من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفَا قائلاً: "لا أحبّ أن يُنتَصَر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحدًا أجمع لخصالِ الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشّره بموتِ أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانَه". فأين هذه المواقف عباد الله من قلوب مُلِئت غلاً وبُغضًا؟!
إنك لتجد الرجلين في مجلسٍ واحد وما بينهما أحدٌ، لكن في قلب كلِّ منهما مثل الجبل العظيم من الغلّ والحسد والبغضاء على الآخر، وإنك لتجد الجارين ليس بينهما إلا جدار واحدٌ لا يطيق أحدهم الآخر، فضلاً عما يحصل من السخرية والاستهزاء والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة في المجالس.
العنصر الخامس : بيان عظمة الإسلام الحنيف:
قد عرفنا النظافة التي جاء بها الشرع بمفهومها الواسع، فهي ليست في جانبٍ ضيق يُعنى بالشكل على حساب الجوهر، كما أنها ليست كلماتٍ تُقال ولا أيام تقام، بل هي ملازمة للمسلم لا تنفك عنه بحال، فهذا أكبر دليل علي عظمة هذا الدين الحنيف ، فما أحرى ذلك أن يزيدنا تمسكاً بديننا، ووعياً أعمق في حكمه وأحكامه.
وإن ديناً هذه تعاليمه، ينبغي لأتباعه أن يكونوا حريصين على النظافة بكل أبعادها، ليكونوا أقوى الأمم؛ عقيدةً وإيماناً، وأسلمهم فكراً وعلماً، وأصلحهم قلوباً وأعمالاً، وأصحهم أجساداً وأبداناً، وأحسنهم هيأةً وأشكالاً، ليجمعوا بين صلاح الباطن والظاهر، وحسن المنظر والمخبر، وعند ذاك تحصل لهم القوة المادية والمعنوية، حيث يقوى الإيمان والعلم، ويحسن الخلق والمعاملة، وتصح الأبدان والعقول، فيكون لهم من الشوكة والهيبة والقوة ما يرهب أعداءهم بإذن الله.
وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها، وأثبت الطب الحديث صدق ما جاء به الإسلام ، ولله الفضل والمنة مما يجعل حضارة الإسلام وتقدمه لا توازيها حضارة مدعاة، وتقدمٌ مزعوم .
الخاتمة...
أيها المسلمون : إن الإسلام دين الطهارة والنظافة واللطافة والجمال والكمال، والطهارة أمر وقائي، بل ركن أساسي للابتعاد عن الأمراض السارية والمعدية، فلْنحرِصْ جميعاً على التخلّق بأخلاق الإسلام، وعلى تنظيف بيوتنا من الظاهر والباطن، وعلى تنظيف أبداننا، وثيابنا، ومكان جلوسنا ونومنا، ومكان تناول طعامنا ؛ لأن ذلك من تمام الإيمان والأخلاق.
فالنظافة والتجمل أسس لا بد منها لكل مسلم؛ حتى تنهض هذه الأمة بواجباتها.
فعلى المسلم الاعتناء بالنظافة على قسميها؛ ففيها السعادة الدنيوية والأخروية.
اللهم اجعلنا من ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
...المزيد

المعايشة الإيمانية لاسم الله الجميل إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين ... خلق ...

المعايشة الإيمانية لاسم الله الجميل
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين ... خلق الإنسان وصوره في أحسن صورة فقال تعالي{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} التين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير.. فطر الإنسان علي حب الجمال فأمره أن يكون جميلا وأن يكون شامة وعلامة في الناس وخاصة في مواطن العبادة , فقال تعالى :{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ(31){ الأعراف.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)...بين أن الجمال من أسماء الله الحسني التي يجب أن يتحلى بها المسلم... فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" [رواه مسلم وأبو داود والترمذي]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.........
أما بعد: فيا أيها المؤمنون..
إن العلمَ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول.
قال ابن القيّم رحمه الله: أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته.
ومن أسماء الله الحسني اسم الله الجميل ، فالله تعالي جميل في أسمائه ، جميل في ذاته ، جميل في أفعاله ، جميل في صفاته .
فأسماء الله سبحانَه أحسَنُ الأسماء، وصفاته أكمَلُ الصفاتِ، قال تعالى{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)}[الشورى].
وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها، والعمل وفقها، والدعاء بها.
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ،وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
لذلك كان موضوعنا (المعايشة الإيمانية لاسم الله الجميل) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ معنى اسم الله الجميل.
2ـ مراتب الجمال الرباني.
3ـ مظاهر الجمال الرباني.
4ـ الجمال الحقيقي في الحياة .
5ـ الجمال المزيف وعاقبته.
6ـ آخر محطات الجمال .
==================
العنصر الأول : معني اسم الله الجميل :ـ
الجَمِيلُ فِي اللغَةِ مِنَ الجَمَالِ وهُوَ الحُسنُ فِي الخِلقَةِ وَالخَلقِ، جَمُلَ يَجمُلُ فَهُوَ جَمِيلٌ ،وَتَجمَّلَ تَزيَّنَ، وَجَمَّلَهُ تَجمِيلًا زَيَّنَهُ، وَأَجَمَلَ الصَنِيعَةَ عِندَ فُلاَنٍ يَعِني: أَحسَنَ إِلَيهِ، وَالمُجَامَلَةُ هِيَ المُعَامَلةُ بِالجَمِيلِ، وَالتَّجَمُّلُ تَكَلُّفُ الجَمِيلِ، وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُلُ جَمَالًا فَهُوَ جَمِيلُ وَالمرأَةُ جَمِيلَةٌ"
وقال النبي (ﷺ)"إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ" .
وقِيلَ معني الجميل: أَنَّ كُلَّ أَمرِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَلَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى، وَصِفَاتُ الجَمَالِ وَالكَمَالِ.
وَقِيلَ مَعنَاهُ: جَمِيلُ الأَفعَالِ بِكُم باللُّطفِ والنَّظرِ إليكُم، يُكَلِّفُكُم اليَسِيرَ مِنَ العَمَلِ ويُعِينُ عَلَيهِ، وَيُثِيبُ عَلَيهِ الجَزِيلَ وَيشكُرُ عَلَيهِ".
وجمالُ الله وكماله مطلق ،قال تعالى :{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)}[الرحمن] .
فالله تعالي له الصفات الجلال والكمال سبحانه وتعالي ،قال تعالي{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن] .
قال ابن القيم : ومن أسمائه الحسنى الجميل ومن أحق بالجمال ممن خلق كل جمال في الوجود ؟! إنه الله تعالي الواحد الأحد.
العنصر الثاني: مراتب الجمال الرباني:
جمال الأسماء وجمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال: أسماءه كلها حسنى : قال تعالي { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ (180)} الأعراف.
أسماءه كلها حسنة ، وصفاته كلها صفات كمال ، وأفعاله كلها حكمة .
لذلك لما قال بعض العلماء : " الشريعة عدل كلها ، لأنها منهج الله ، رحمة كلها حكمة كلها ، مصلحة كلها ، وأية قضية خرجت من الحكمة إلى خلافها ، ومن العدل إلى الجور ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، فليست من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل " .
حتى إن علماء العقيدة قالوا : " الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع ، الله عز وجل ذاته جميلة ، وصفاته جميلة ، وأفعاله جميلة ، وأسماءه جميلة .
ويجب أن نؤمن أن جمال الذات لا يدركه أحد في الكون ولا الأنبياء ، لا يعرف الله عز وجل إلا الله تعالي، لكن جمال الصفات تدل على جمال الذات ، وجمال الصفات محجوبة بأفعاله ، فأفعاله الجميلة تدل على جمال صفاته ، وجمال صفاته تدل على جمال ذاته ، وأنت ترى أفعاله ، ترى الربيع ، ترى العصفور ، ترى الوردة ، ترى الزهرة ، ترى طفلا جميل الصورة ، هذه كلها أفعاله .
أحيانا تأكل طعاما طيبا ، مَن أودع في الطعام هذا الطعم ؟
أحيانا يهب نسيم عليل فتنتعش به ، مَن ساق هذا النسيم ؟
أحيانا ترى مرجا أخضر ، مَن أعطاه هذا اللون الجمال ؟
ترى السماء زرقاء ، البحر صافيا ، الجبال خضراء ، الأطفال الذين وهبهم الله مسحة جمال ، وهناك إنسان قد يفتن بابنه من جماله ، هذه كلها أفعاله ، أفعاله تشير إلى صفاته ، وصفاته تشير إلى ذاته .
لذلك قال بعض العارفين : " لا يعرف الله إلا الله " .
نحن مع جمال الأفعال نرى المطر يُنعش الأرض ، نرى النبع ، الماء الزلال ، نرى الفاكهة الجميلة ، منظر الفاكهة جميل جمالا رائعا جداً ،لدرجة أن البعض يزينون بعض الغرف بصور الفاكهة ، البساتين جميلة ، الماء الرقراق جميل ، يجب أن تخترق جمال الكون إلى جمال الخالق سبحانه وتعالي.
وَعن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ (ﷺ) قَالَ: "حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"[رواه البخاري ومسلم].
وقَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عَباسٍ رضي الله عنهما: "حُجِبَ الذَّاتُ بِالصِّفَاتِ وَحُجِبَ الصِّفَاتُ بِالأَفعَالِ، فَمَا ظَنُّكَ بِجَمالٍ حُجِبَ بَأَوصَافِ الكَمَالِ، وَسُتِرَ بِنُعُوتِ العَظَمَةِ وَالجَلَالِ"[رواه مسلم].
وَمِنْ هَذَا المَعنَى يُفهَمُ بَعضُ مَعَانِي جَمَالِ ذَاتِهِ، فَإِنَّ العَبدَ يَتَرَقَّى مِنْ مَعرِفَةِ الأَفْعَالِ إِلَى مَعرِفَةِ الصِّفَاتِ، وَمِنْ مَعرِفَةِ الصِّفَاتِ إِلَى مَعرِفَةِ الذَّاتِ، فَإِذَا شَاهَدَ شَيئًا مِنْ جَمَالِ الأَفْعَالِ استَدَلَّ بِهِ عَلَى جَمَالِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ استَدَلَّ بِجَمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى جَمَالِ الذَّاتِ، وَمِنْ هَهُنَا يَتَبيَّنُ أَنهُ سُبحَانَهُ لَهُ الحَمدُ كُلُّهُ، وله الشكر كله ،وإليه يرجع الأمر كله، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلقِهِ لَا يُحصِي ثَنَاءً عَلَيهِ، بَل هُوَ كَمَا أَثَنَى عَلَى نَفسِهِ.
العنصر الثالث : مظاهر الجمال الرباني :
الجمال في الوجود من آثار صنعه سبحانه وتعالي.. فهيا بنا ننظر إلي بعض مظاهر الجمال الرباني ....
1ـ الجمال في الكون:
كثيرا ما تشهد الآيات القرآنية بروعة وجمال الكون كدلالة على وجود الخالق المصور المبدع ذي القدرة المطلقة والمشيئة النافذة ، حيث أخبر سبحانه وتعالي عن الجمال في السموات والأرض يقول سبحانه وتعالي:{بديعُ السَّمواتِ والأرضِ
(101)} [الأنعام].
ومعنى هذا تأكيد جوانب الإبداع في أنحاء الكون الكبير.
وفي موطن آخر يقدّم القرآن صوراً بديعة من جمال الكون، بُرهاناً على البعث، فيقول تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10)} [ق] .
فنلمح من مظاهر الجمال التي أبرزتها الآيات كلمة: {وزيّناها} ممَّا يجعل الزينة وهي من أبرز
عناصر الجمال عنصراً في بناء الكون، وكذا قوله تعالى:{وما لها من فروج}، والاتساق والتكامل من مظاهر الجمال، وكذا قوله تعالى:{من كل زوج بهيج}،{حبّ الحصيد}،{والنخيل باسقات}، {طلع نضيد}، وهذه العبارات كُلها تصوّر أنماطاً من الجمال لها مغزاها الكبير.
وهذه الصّور الجمالية في الكون العظيم تردّدت في عدّة آيات، منها قوله تعالي :{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)}الصافات.
وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61)} [الفرقان].
وقال تعالي:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21)}[الزمر].
وقال تعالي :{الذي خَلَقَ سَبعَ سَمواتٍ طِباقَاً مَا تَرَى في خَلقِ الرَّحْمَنِ من تَفاوُت فارجِع البَصَرَ هَل تَرَى مِنْ فُطُور(3) ثم ارجِعِ البَصرَ كرَّتين يَنقلِبُ إليكَ البَصُرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير(4) ولقد زيّنا السماء الدُّنيا بمَصابيحَ وجَعلنَاها رُجُومَاً للشياطين(5)}[الملك].
وقال تعالي {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)}[فاطر].
وقال تعالي {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)} [النمل]
2ـ الجمال في خلق الإنسان :ـ
أخبر الله تعالي عن خلق الإنسان، إذ قال تعالى بعد أن وصف مراحل الخلق التي مرّ بها الإنسان: قال تعالي{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[المؤمنون].
وهُناك آيات أُخرى تكشف عن ظواهر الجمال في خلق الإنسان، وهي تتمثّل في التسوية، والتعديل، والتقويم، فيقول تعالى:{يا أيُّهَا الإنسانُ ما غرّك بربِّك الكَريم (6) الذي خلقك فسوَّاك فعدلك (7) في أيّ صورة ما شاء ركّبك(8)} [الانفطار].
وهناك أمثلة عظيمة في الجمال الذي صنعه الله تعالي ألا وهو جمال الأنبياء عليهم السلام....
فَعَن رَبِيعَةَ بنِ أَبِي عَبدِ الرحمَنِ قَالَ: سَمِعتُ أَنسَ بنَ مَالِكٍ يَصِفُ النَّبِيَّ (ﷺ) ، قَالَ: "كَانَ رَبْعَةً مِنَ القَومِ، لَيْسَ بالطَّويلِ وَلَا بالقَصيرِ، أزهَرَ اللَّونِ، لَيسَ بأبيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ، لَيْسَ بِجَعدٍ قَطِطَ، ولا سَبطٍ رَجِل..."[ رواه البخاري].
ومما جاء في وصفه (ﷺ) "أنه كان يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر "
وَقَدْ أُعطِيَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ حَظًّا وَافِرًا: تَنَاسُبَ الأَعْضَاءِ، وَتَنَاسُقَهَا، وَجَمَالَ الوَجْهِ وَاسْتِدَارَتَهُ وَاسْتِنَارَتَهُ، وَحُسْنَ القَوَامِ وَرَبْعَتَهُ، وَلِينَ الكَفِّ وَطِيبَ رَائِحَتِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي وَصْفِهِ.
وَعَن البَرَاءِ بنِ عَازبَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ)أَحسَنَ النَّاسِ وَجهًا، وأَحسنَهُ خَلْقًا، لَيْسَ بالطَّويلِ البائِنِ وَلَا بِالقَصِيرِ"[البخاري ومسلم].
وَعَنهُ: "كَانَ النَّبِيُّ (ﷺ) مَربُوعًا بَعِيدَ مَا بَينَ المَنكِبَينِ، لَهُ شَعَرٌ يَبلُغُ شَحمَةَ أُذنَيهِ، رَأيتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحسَنَ مِنهُ"[البخاري ومسلم].
وَسُئِلَ رضي الله عنه: "أَكَانَ وَجهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثلَ السَّيفِ؟ قَالَ: "لَا، بَلْ مِثلَ القَمرِ"[البخاري ومسلم].
فانظر كيف خلق الباري نبيه المصطفى على هيئة جميلة؛ لأنه حامل الجمال القرآني والهدي الرباني فكيف لا يكون الوعاء جميلا!
وانظر عندما انبهر النسوة في قصة سيدنا يوسف عليه السلام فقطعن أيدهن لشدة انبهارهن بجمال يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) } يوسف.
إن في هذا الجمال البشري النبوي متعة للناس وتأليف لهم فالوسامة تجذب الناس إليهم وتحبب صاحبها إليهم، والحكمة الشرعية في ذلك الحسن إرادة الله لعبده أن خلقه في أحسن تقويم ليشكر ربه ويعبده، فمن هنا يلزم المسلم أن يكون قصده تعبديا فيما أتاه الله من فضل، كاستثمار هذا الجمال الظاهري في الدعوة إلى الله وجذب عباد الله إلى دين الله، وليس إلى الدنيا وزينتها، ولن يحصل للعبد التوفيق إلا بتجميله للباطن الذي هو محل تكليفه الاختياري، أما الأول فقد جمله الباري سبحانه وتعالي ابتداءً منًّا منه وفضلا.
ومن الجمال الإنساني جمال النساء؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:}كنت عند النبي (ﷺ) فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله (ﷺ) أنظرت إليها؟ قال: لا! قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا {
في هذا الحديث دلالة على جواز النظر إلى وجه من يريد المسلم تزوجها؛ لأنه يستدل بالوجه على الجمال؛ لأن في نظر الرجل لزوجته متعة نفسية تفضي للحكمة الشرعية وهي تحقق السكينة والمودة والرحمة، والقصد التعبدي هو إعفاف النفس بتصريف الشهوة في موضع طيب حلال. لذلك روي عن رسول الله (ﷺ) قوله لعمر بن الخطاب: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ."
فالمرأة الصالحة معناه الجميلة ظاهراً وباطناً، وهي خير من الكنز؛ لأنها أنفع له إذا نظر إليها أدخلت عليه الفرح والسرور بجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها، وبطاعتها له، وحفظها لأسرار العشرة وحفظها للمال ورعاية الأولاد.
3ـ الجمال في خلق الحيوان :
ومن مظاهر الجمال الرباني ، الجمال في عالم الحيوان الذي خلقه الله للإنسان على وجه الخدمة والتسخير؛ قال تعالى: وقال تعالي {وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) }[النحل].
لذا أمرنا الله تعالي بالنظر والتدبر في عالم الحيوان فقال تعالي { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} ]الغاشية[.
فهذ هو الجمال الذي أبدعه الله تعالي وصوره ، فقال تعالي :{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}]النمل[ .
4ـ الجمال في التشريع الإسلامي :ـ
يتجلى الجمال الرباني في التشريع الإسلامي في عدم التعارض مع الغرائز البشرية ،وإشباع الجانب النفسي والروحي ، لذلك أقرَّ ما تتطلَّبُه الفطرةُ البشريّة من سرورٍ وفرَح ولعبٍ ومرَح ومزاح ومداعَبَة وأشواقٍ وجمال، كل ذلك محاطٌ بسياجٍ من أدَب الإسلام الرفيع يبلُغ بالمتعةِ كمالَها وبالمرَحِ غايتَه، بَعيدًا عن الخَنا والحرام والظّلمِ والعدوانِ والغِلِّ وإيغار الصّدور وهدم المبادئ والأخلاق.
فهو دين لم يعادي الجمال بل سما به , ورغب فيه مع أنه يؤثر الجمال المعنوي، وجمال الحياة الباقية ، لكنّه يرعى حاجات الإنسان ومطالبه الغالبة في الدُّنيا، بل يغريه بقضائها إغراءاً مُلحّاً في إطار الطيِّب والحلال الذي يزيد الجميل جمالاً؛ فيقول تعالي:{يا بني آدم خُذُوا زِينَتكِم عند كُلِّ مَسجدٍ وكُلُوا واشرَبُوا ولا تُسرفُوا إنّه لا يُحبُّ المُسرفين(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }[الأعراف]
ونجد أن الله تعالي أحل للمسلم التمتع بكل ما هو جميل طالما انتفت المضرة في نفسه وفيمن حوله بلا إسراف ولا مخيلة ، فيقول النبي (ﷺ): {إن الله تعالى جميل يحب الجمال ،و يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، ويبغض البؤس والتباؤس } [رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني في صحيح الجامع].
وقال (ﷺ):{كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة } [رواه أحمد وصححه الألباني].
وكان (ﷺ) يحب المنظر الحسن والوجه الحسن والاسم الحسن ، وكان يقول (ﷺ):{إذا بعثتم إلي رجلا فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم } [رواه البزار وصححه الألباني في صحيح الجامع].
وقال النبي (ﷺ){خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت (أي حسن هيئة) ولا فقه في الدين} [رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع] .
ويندرج تحت هذا الجانب علاقة الرجل والمرأة التي وجدت في الزواج الشرعي فرصة الإشباع المشروع لهذا الجانب الغريزي ، وقد هيأ الشارع لهذه العلاقة كل مقومات التمتع الكامل والطاهر فحث كل من الزوجين خاصة الزوجة على الحرص على أن يكونا في أجمل صورة وأبهى منظر في عين الآخر ،بل جعل من أوجب حقوق الرجل على زوجته أن تتزين له ، وله أن يطالبها بحقه من الزينة منها إن هي أهملت هذا الأمر ،وبتخصيص زينة المرأة لزوجها وحجبها عن عيون الآخرين استطاع الإسلام بتوازن منقطع النظير ملائمة الفطرة السوية وتقيد أسباب الرزيلة فحل بذلك أصعب معادلة حارت فيها البشرية.
العنصر الرابع : الجمال الحقيقي في الحياة :
إن الله تعالي جميل يحب الجمال، و ينبغي أن نتعبده سبحانه وتعالي بالجمال، بجمال القول، وجمال الفعل، وجمال الثياب، والنظافة، والأدب، والأفعال المحمودة ، والجمال المطلق.
1ـ الجمال المحمود:
ما كان لله عز وجل من باب "إن الله جميل يحب الجمال " والإسلام دين يدعوا إلي الجمال فنجد نصوصا كثيرة تحثنا علي النظافة والتجمل في كل شيء ، فعن خريم فاتك الأسْدي قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: ( إنكم قادمون على إخوانكم ، فأصلحوا رحالكم ، وأصلحوا لباسكم ، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس ؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) وفي رواية: ( حتى تكونوا كالشامة في الناس ) [رواه الإمام أحمد في المسند] .
كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمع والأعياد، والإحرام، وحضور الاجتماعات العامة، ومن ذلك حثه على التطيب، والسواك والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة.
ومن ذلك أيضاً خصال الفطرة التي أفصح عنها حديث المصطفى (ﷺ) فعن عائشة رضي الله: أن النبي (ﷺ) قال:}عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني: الاستنجاء{ ]رواه مسلم[ .
قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
فكان عليه الصلاة والسلام له ثياب خاصة يرتديها إذا لقي الوفود.
والجمال المحمود واسع جداً، فهناك جمال الكلام، تجد إنساناً أنيقاً يمزح مزاحاً فاحشاً: جمال الجسم مع قبح النفوس كقـنديل على قبر المـجوس، هو أنيق لكن بذيء.
فلا يجوز للمسلم أن يكون فاحش اللسان؛ لقوله (ﷺ):}إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش{. [رواه مسلم].
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ): }مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ, وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ { .[رواه الترمذي و قَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
2ـ جمال الأخلاق:ـ
إنَّ الجمال الحقيقي والزينة الأساسيَّة هي زينة الدَّاخل وجمال الباطن؛ أيْ: جمال الأخلاق، جمال الروح، جمال النَّفس، فكان النبيُّ (ﷺ) إذا نظر في المرْآة يقول :}اللهُمَّ أحسنتَ خَلْقي فأحسِن خُلُقي{[ أخرجه أحمد]
فكأنه (ﷺ) يُرسل بذلك رسالةً إلى أُمَّته؛ أنَّ العناية بالباطن، ومن ذلك القلب والأخلاق، أمرٌ هو مِن صُلب دينِنا وشرْعِنا، ومقصد هامٌّ من مقاصد الشَّريعة الغرَّاء، وأنَّ مَن يَعتَني بمظْهره الخارجيِّ فقط، ويَدَع الأمراضَ المعنويَّة والنفسيَّة تفعل فعلَها في داخله، هُو إنسان مغفَّل لا يُدرك أين الخير، ولا يَعرف حيثُ مصلحته فيبادرَ إلى تحصيلها.
فإنّ من جماليات الدين الإسلامي غناه بالأخلاق السامية، بل إن الإسلام خلق جميل كالشجرة الباسقة فيها من الثمار الطيبة الشيء الكثير، بل فيها كل ثمر طيب جميل، والأصل واحد وثابت، أولم يكن خلق الرسول الأكرم (ﷺ) القرآن الكريم وهو الأصل المصدري للإسلام!
وذلك أن "التدين إنما هو تمثل قيم الجمال، والتزين بأنوارها في السلوك والوجدان " فلا يصدر عن مسلم قبح في التعبير أو قبح في السلوك.
وهذا يدفعنا إلى تدبّر ما قاله القرآن الكريم في مجال الجمال المعنوي، لقد جاء الجمال المعنوي في القرآن الكريم مقروناً بأنماط شتّى من السلوك البشري، وقد نعجب لبعضها! ما لها وللجمال حتى تقترن به؟!
إنّها من ألوان السلوك غير المستحب، ومن أنواع الحلال البغيض عند الله الذي شرعه ليتيسّر للحياة أسباب الجمال!
لقد اقترن الجمال بالصبر، واقترن بالصفح، واقترن بسراح المرأة من عصمة الزوجية، واقترن بالهجر.
أولا: الصبر الجميل :
إنّ الصبرَ من أعظم الصفات التي تزداد بها النفس جمالاً وكمالاً، والصبر الجميل هو الذي تزداد النفس فيه باليقين والثقة، وتمتلئ بالأمل، ويغمرها بالرجاء في الله، وتكون بمنأى عن الجزع والسخط على القضاء.
قال مجاهد: الصبر الجميل: الذي لا جزع فيه.
وذكر الإمام البخاري رحمه الله تعالي حديث أمنا عائشة رضي الله عنها لما خاض المنافقون في الحديث عنها وسماه القرآن بحديث الإفك حتى ذكر قولها: "والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبو يوسف عليه السلام : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ."
إن جمالية الصبر في اجتهاد العبد المؤمن في تحمل الهموم والأزمات إلى درجة
لا يستشعر معها الناس حاله ممتثلا أمر ربه {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} ]المعارج[.
فيتوجه بعمق مشاعره وهو المكلوم المجروح إلى الله تعالى شاكيا ضارعا مناجيا:{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} ]يوسف[.
إنه توجُّه يشمل مقومات الجمال الثلاث المتعة النفسية والروحية، والتعبد بالدعاء الخالص، لأجل حكم ومنافع منها ما يعلمه العبد ويقصده ومنها ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي.
وجاء الحديث عن الصبر الجميل في موضعين في سورة يوسف.....
الموضع الأول: على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام، وقد جاءه أبناؤه يخبرونه بأنّ يوسف أكله الذئب، وبرهنوا على قولهم بدمٍّ كذب على قميصه، وبرغم الفاجعة الرهيبة على قلب الأب المؤمن واجه الأمر بأناة بالغة، وثقة عظيمة، جعلته يحسّ أنّ الأمر على غير ما صوّر أبناؤه، وتذرّع بالصبر الجميل، يقول تعالى على لسانه:{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18)}[يوسف]
الموضع الثاني: على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام أيضاً، عندما جاءه نبأ احتجاز ابنه الثاني في سجن العزيز بمصر، وبرغم تتابع المحنة، وعمقها في وجدان الشيخ الرسول، لكن ما يزال للصبر الجميل الغلبة على مشاعره، فقال: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}[يوسف].
ثانيا : الصفح الجميل :
يقترن الجمال بالصفح، وهو من أسمى الصفات، إذ هو يعني التغاضي عن إساءات الآخرين.
وقد طلبه الله تبارك وتعالى من نبيّه في مواجهة المُعرضين المُكذّبين من قومه، مُبيّناً له أنّه صاحب رسالة مُهمّتها الهداية، وعقاب الضّالين مرجعه لرب العالمين، والساعة آتية لا ريب فيها، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}[الحجر]
والصَّفحُ في حدِّ ذاتِه جَميل، وعندما يتّصف بالجمال يكون صفحاً لوجه الله، لا يجعله صاحبه حديثاً يُذكر به بين النَّاس ، ويمن به علي من صفح عنه ، والمراد الصفح الجميل الصفح الكامل .
لقد تجاوزَ هذا الجمالُ حتى شمِلَ العقوبةَ والعفوَ والصفحَ، لذا أمرَ اللهُ تعالي من
يعفوَ عنَ الآخرينَ أنْ يكونَ في عفوِهِ وصفحِهِ رونقاً وجمالاً، فلا يعلو صفحُ المسلمِ على ضعفِ أخيهِ، ولا يمسُّ كرامتَهُ، وأنْ يكونَ صفحُكَ عن أخيكَ فيه الحسنُ والجمالُ والكلامُ الطيبُ الذي يشرحُ الصدورَ، ويَسُدُّ الثغرات ، ويكونُ أدعى للتقاربِ والمودةِ والمحبةِ بينَ المسلمينَ.
ثالثا : الهجر الجميل :
ربما يكون الجمال في الصبر والصفح مألوفاً !! لكن ماذا نقول في جمال الهجر، وهو لون من ألوان المقاطعة .
إنّ القرآن بهذا يُعطى بُعداً جديداً للسلوك الإنساني، وأنَّ الجمال مطلوب ومرغوب حتى في السلوك الذي لا يخلو من ألم ومُعاناة.
لقد أساء المشركون إلى الرسول (ﷺ)، وأمره الله تعالي في معاملتهم بالهجر مع الصبر، والهجر قد يتنافى مع مُهمّة الداعية، لكن الهجر الذي أمر الله به نبيّه (ﷺ) هو الهجر الجميل الذي يُشعر المهجور بسوء تصرّفه، وضلال سعيه مع استبقاء البرّ به والودّ له، فقال تعالي : {وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا (10)} [المزمل] .
الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه ، فالله تعالي جميل يحب الجمال، فالمسلم يسعى ليكون جميلا، ولتكن رسالته نشر الجمال في الكون.
رابعا : السراح الجميل :
والسراح يعني الطلاق وهو أيضا لون من المقاطعة والألم النفسي لذلك أمر الله تعالي يأن يكون جميلا ؟!
وسراح المرأة: أن تكون في حلّ من رابطة الزوجية، فهو الطلاق، وهو أبغض الحلال إلى الله، لكنَّه مع وقعه الأليم على النفس عندما يقترن بالجمال نحصل على ثمراته، وننأى عن سوءاته، ويَجْمُل السراح عندما تفارق المرأة بيت الزوجية من غير غبن، أو قهر، أو انتقاص للحقوق، بعيداً عن البغي والعدوان.
وذُكرَ السراحُ الجميل مرَّتين في القرآن الكريم في سورة الأحزاب...
الموضع الأول : في تخيير النبي لزوجاته عندما سألنه التوسعة في النفقة، فقال
ربُّ العالمين لنبيّه (ﷺ) :{يا أيها النبي قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتنّ تُردنَ الحياةَ الدُّنيا وزينتَها فتَعالَين أُمتِعُكن وأسرّحكم سراحاً جميلاً (28)}[الأحزاب]
الموضع الثاني : مطالبة الأزواج الذين يطلّقون الزوجات قبل الدخول، بأن يمتّعوا الزوجات، والمُتعة كسوة ملائمة لمكانة المرأة ومستواها الاجتماعي، ثم السراح الجميل دون بغي على الحقوق، وتعقب بالإساءة، فقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسّوهن فمالكم عليهن
من عدّة تعتدّونها فمتِعوهُن وسرِّحوهُن سَراحَاً جَمِيلاً(49)} [الأحزاب]
فأمرَ اللهُ أنْ يكونَ هذا الفراقُ فيهِ جَمالٌ وإحسانٌ، فتخرجُ هذه المرأةُ من مُطلِّقِها وتفارقُهُ راضيةً، قد أعطاها حقَّهاَ وأرضاهاَ بشيءٍ يذيبُ عنها ألمَ الفراقِ وحسرةَ الطلاقِ فتذكرُهُ ويذكرُها بالخيرِ، وليسَ ذلكَ في الطلاقِ فحسب بلْ في أيِّ فضٍّ لشراكةٍ أو إنهاءٍ لتعامُلٍ ينبغي أنْ يكونَ فيهِ الجمالُ والرونقُ الذي يليقُ بأمةِ الإسلامِ، وينبغي أنْ لا يخرجَ من هذا الجمالِ إلى الخصومةِ والقطيعةِ والمحاكمِ.
وجمالُ الطلاقِ يكادُ يكونُ معدوماً بينناَ، وإن كنَّا لا نُحبِّذُ الطلاقَ أصلاً، لكنْ إذا وقعَ وجبَ أنْ يكتسيَ بثوبِ الحسنِ والجمالِ.
وما نراهُ اليومَ في كثيرٍ منْ حالاتِ الطلاقِ لا يكونُ إلا بالخصومةِ والتقاطُعِ والتدابُرِ والمحاكمِ، فأينَ الجمالُ أيها المسلمونَ في حالاتِ التسريحِ والطلاقِ؟
3ـ جمال الروح :
ليس مِن الحُسْن أن نَسعَى إلى ستْر عورةِ الجسم، ونتركَ عورةَ النَّفس باديةً لكلِّ أحدٍ، واللهُ تَفضَّل علينا بكرمه فقال تعالي{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}[الأعراف].
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا
وَخَيْرُ لِبَاسِ المَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَلا خَيْرَ فِي مَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيَا
كان مِن بينِ الصَّحابة على عهد رسول الله (ﷺ) صحابيٌّ اسمُهُ زاهرُ بن حرام الأشْجعي، وكانت به دمامة رضِي الله عنْه، وكان لِحُبِّه الجَمِّ لرسولِ الله (ﷺ) يَتَفَقَّده ببعضِ طعامِ أهلِ البادية، وكان بدويًّا، وكان النَّبيُّ (ﷺ) يُبادله الهديَّة بالهديَّة، ويمنحُه كلَّ المحبَّة والتَّقدير.
وذات يومٍ رآه رسولُ الله (ﷺ) في سُوق المدينة وهو يَبيع متاعَه، فاحتَضَنَه مِن خَلْفه ولا يُبصِرُه زاهِر، فقال: أرْسِلْني، مَن هذا؟
فالتفَتَ فَعَرَف النَّبيَّ (ﷺ)، فجَعَل لا يألو ما ألصَقَ ظهرَه بصَدْر (ﷺ)حين عَرَفَه،
وجَعَل رسولُ الله (ﷺ) يقول: مَن يَشتَري العبدَ؟
فقال: يا رسول الله، إذًا والله تَجِدُني كاسدًا، فقال رسولُ الله (ﷺ): لكن عندَ الله لستَ بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنتَ غالٍ.[رواه أحمد].
مع دمامته رضِي الله عنه كان ذا قَدْرٍ ومنزلةٍ عند الله تعالى؛ بصفاء سريرته، وطيبة قلبه، وهذه سبيل كلِّ مَن أراد أن يَنال عند ربِّه وعند الناس الحظوةَ، والمنزلة التي ليست لِسِواه.
نموذج غاية في الروعة والجمال:
رجل من أصحاب النبي (ﷺ)، اسمه جُليبيب، رجل فقير معدوم، عليه أسمال بالية، جائع البطن، حافي القدمين، مغمور النسب، لا جاه، ولا مال، ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث، ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، وسادته ذراعه، وفراشه الأرض، هل هناك أقل من هذا؟ وكان في وجهه دمامة، لكنه صاحب ذكر لربه، وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات، ولا في كل الغزوات، ويكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم..
قال له النبي (ﷺ) ذات يوم : يا جُليبيب ألا تتزوج؟ فقال : يا رسول الله ومن يزوجني؟ فقال رسول الله: أنا أزوجك يا جُليبيب ، فالتفت جُليبيب إلى الرسول (ﷺ) فقال: إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله.. فقال الرسول الكريم: غير أنك عند الله لست بكاسد.
جاء في يوم من الأيام رجلٌ من الأنصار، قد توفي زوج ابنته، فجاء إلى النبي (ﷺ) ، يعرضها عليه ليتزوجها، فقال له النبي (ﷺ): نعم، لما قال له نعم والد الفتاة اختل من الفرح، صارت ابنته زوجة رسول الله (ﷺ) ، ولكن لا أتزوجها أنا، فسأله الأب: لمن يا رسول الله! فقال (ﷺ): أزوجها جُليبيباً، تصور إنساناً لا يملك شيئاً، لا يملك بيتاً لا جمالاً، فقال ذلك الرجل: يا رسول الله تزوجها لجُليبيب؟
انتظر حتى أستأمر أمها يريد أن يخرج من الموضوع ثم مضى إلى أمها، وقال لها: إن رسول الله (ﷺ) يخطب إليك ابنتك، قالت: نعم لرسول الله (ﷺ) ، ومن يرد النبي (ﷺ)..
فقال لها: إنه لا يريدها لنفسه، قالت: لمن؟ قال: يريدها لجُليبيب !! قالت: لجُليبيب؟! لا لعَمْرُ الله، لا أزوج جُليبيباً، وقد منعناها فلاناً وفلاناً، فاغتم أبوها لذلك، ثم قام ليأتي النبي (ﷺ)، فصاحت الفتاة من خدرها، وقالت لأبويها: من
خطبني إليكما؟ قال الأب : خطبك رسول الله.. قالت : أفتردان على رسول الله (ﷺ) أمره؟ ادفعاني إلى رسول الله (ﷺ) فإنه لن يضيعني، البنت وافقت علي جُليبيب لا يوجد أدنى منه في المدينة، ثم ذهب إلى النبي الكريم(ﷺ) وقال: يا رسول الله شأنك بها...
فدعا النبي (ﷺ) جُليبيباً ثم زوجه إياها، ورفع النبي (ﷺ) كفيه الشريفتين، وقال: اللهم صب عليهما الخير صباً، ولا تجعل عيشهما كداً، ثم لم يمض على زواجهما عدة أيام حتى خرج النبي (ﷺ) مع أصحابه في غزوة، وخرج معه جُليبيب، فلما انتهى القتال اجتمع الناس، وبدؤوا يتفقدون بعضهم بعضاً، فسألهم النبي (ﷺ)
وقال: هل تفقدون من أحد؟
قالوا: نعم يا رسول الله نفقد فلاناً وفلاناً، ونسوا جليبيباً، ليس له مكانة إطلاقاً، فقال (ﷺ): ولكنني أفقد أخي جُليبيباً.. فقوموا فالتمسوا خبره، فقاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال، وطلبوه مع القتلى، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب، وقد استشهد، قتل سبعة من المشركين وقتلوه ،
وقف النبي (ﷺ) أمام جسده المقطع، ثم قال: أنت مني وأنا منك، لاحظوا أن الإسلام ألغى كل هذه الفوارق، لا يوجد أقل منه، قال: أنت مني وأنا منك، ثم تربع النبي (ﷺ) جالساً بجانب هذا الجسد، ثم حمل هذا الجسد ووضعه على ساعديه، وأمرهم أن يحفروا له قبراً..
قال أنس: فمكثنا والله نحفر القبر وجُليبيب ليس له فراش غير ساعدي النبي (ﷺ) ، فقال أنس: فعدنا إلى المدينة وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب حتى تسابق إليها كبار الصحابة.
العنصر الخامس : الجمال المزيف وعاقبته:ـ
يَشقَى كثيرٌ من النَّاس في قضيَّة الجمال، ويَبذلون وُسْعهم وطاقتَهم في الحصول على أحْدث مقاييس الجمال، وآخرِ صرخات الموضة والأزياء، سواء في الأثاث ،أو اللباس ،أو ديكور البيت ،الرجال والنساء في ذلك سواء.
أيُّ جمال ذلك الَّذي تَبحَثون عنْه وتَنشُدونه؟!
أي زينة تلك التي تَلهَثون وراءها؟! جمال صناعي، وزينة مصطنَعة.
لَيْسَ الجَمَالُ بِمِئْزَرٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا
إِنَّ الجَمَالَ مَعَادِنٌ وَمَنَاقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدَا
لَيْسَ الجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا ♦♦♦ إِنَّ الجَمَالَ جَمَالُ العِلْمِ وَالأَدَبِ
فمن صور الجمال المزيف المذموم عند الله تعالي ورسوله (ﷺ)....
1ـ الاسراف في تجميل الصورة
الله عز وجل ذمّ جمال الصورة، وتمام القامة والخلقة إذا كانت بعيدة عن المنهج الإسلامي، فقال عن المنافقين:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ (4)}[المنافقون]
المبالغة في العناية بجمال الجسم وأناقة الثياب وفخامة المنزل بدون قيم أخلاقية، وبدون تعبد لله عز وجل ،هذا الجمال وحده بدون مضمون مذموم عند الله سبحانه وتعالي ، فعندما تجد امرأة تهتم بمظهرها الخارجي وتخالف شرع الله عز وجل في عدم الالتزام بالزي الإسلامي، وتغيير خلق الله تعالي فهذا لا يزيدها إلا قبحا والعياذ بالله ، لذلك أمر المولي عز وجل المرأة بالحجاب رمز العفة والجمال ، فالحجاب يزيد المؤمنة جمالاً.. ويحمي البشرة من نارٍ تلظى.. ويقيها بإذن الله من
النظرات المسمومة .. ويعطي مفعولاً أكيداً لمن تريد الراحة النفسية.
ولقد حذر النبي (ﷺ) المجتمع من التبرج والسفور والانحلال الذي وقع فيه كثير من نساء اليوم بحجة البحث عن الجمال..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): "صنفان من أهل النار لم أرهما نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لايدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها عباد الله).]مسلم[.
2ـ الإسراف في تجميل المنازل :
قال الله عز وجل{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (73)} [مريم]
أي: منظر بيوتهم، وحدائقهم، وهيئاتهم، ومركباتهم شيء جميل جداً، وهذا الآن في العالم بلغ درجة تفوق حد الخيال.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )[رواه مسلم]
نجد الآن يوجد قصور ثمنها بالمليارات، من يسكنها؟ ربما تجد من يسكنها من يعملون في تجارة المخدرات، أوتجارة الأعضاء ، أو غير ذلك من التجارات المحرمة .
لذلك أمر الله تعالي نبيه (ﷺ) بعدم النظر والالتفات إلي هذه الأشياء الزائفة فقال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (131)}[طه]
فلو وقع نظرك علي بيت جميل، أو مركبة فارهة جداً ،فلا تنس أن تدعو بدعاء
النبي (ﷺ):عن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي (ﷺ) (اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ
الْآخِرَةِ )[متفق عليه]
وكان سيدنا عمر بن عبد العزيز إذا دخل مكان عمله يتلو هذه الآية:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء ].
وأرسل سيدنا عمر كتابًا إلى بعض الولاة، قال فيه: " أما بعد ؛ فقد نُمِيَ إلي أنه قد صار لك هيئة حسنة في مسكنك ومطعمك، ومشربك وملبسك، ومركبك، ليست لعامة المسلمين، فاحذر يا عبد الله أن تكون كالدابة مرت بواد خصب فجعلت همها في السمن، وفي السمن حتفها ".
عاقبة الجمال المزيف
إن العناية الفائقة بالجمال الخارجي ، والترف والزينة له عاقبة وخيمة والعياذ
بالله تعالي ، ولقد توعد الله تعالي صاحبة بالهلاك والتدمير ،لان في باطنهم كفرا واستعلاء ، قال الله عنها: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (24)} [ يونس]
العنصر السادس : آخر محطات الجمال :ـ
في الآخرة يحط الجمال رحاله كأعظم جزاء ينتظر الموحدين ، إنها الجنة التي يتجسد فيها الجمال بأروع حلله بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فهي نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وفاكهة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة في دور عالية بهية سليمة ، ونصوص الكتاب والسنة تتكاثر في وصف هذا الجمال لتشحذ همم العاملين وتوقظ أفئدة الغافلين ، قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}[الإنسان] .
وقال تعالى :{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ (15)} [محمد]
وقال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين ].
ويصفها (ﷺ) بقوله :{ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وملاطها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وتربتها الزعفران ،من يدخلها ينعم ولا ييأس ،ويخلد ولا يموت ،ولا يبلى ثيابهم ،ولا يفنى شبابهم } [رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع].
وقال (ﷺ):{إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا } رواه مسلم .
وأخير.. أيها المؤمنون
ما أحوجنا إلي الجمال بأن نجعله جزءاً أساسياً في حياتنا ،في أخلاقنا ،وأرواحنا ونفوسنا ، وفي بيوتنا وتعاملاتنا ، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجملنا بالتقوي ، وأن يزيننا بالحلم ،وأن يكرمنا بالعافية .
...المزيد

أمانة المسئولية في الإسلام إعداد الشيخ : السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. خلق الكون ...

أمانة المسئولية في الإسلام
إعداد
الشيخ : السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. خلق الكون بأمانة شديدة ووضع كل شيء في موضعه بنظام دقيق واستأمن الإنسان علي هذا الكون وحمله الأمانة العظمي بعدما عرضها علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحمله الإنسان ،فقال تعالي {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. جعل الأمانة من أخلاقه العظيمة فهو القائل {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}[يوسف] .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ).. وضع كل شيء في موضعه المناسب واعتبر ذلك من الأمانات التي يُسأل عليها العبد يوم القيامة والأمانة..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:{بينما النبي (ﷺ) في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله}.[رواه البخاري]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...
أما بعد فيا أيها المؤمنون
إن الأمانة في الإسلام مفهوم واسع شامل يتجاوز المعنى الضيق والمحدود المتعارف بين الناس لكلمة الأمانة.
فالأمانة هي المسئولية بين يدي الله عن كل ما كسبت يد الإنسان وما يتحمله من أعباء ثقال. ولأجل ذلك ورد في القرآن الكريم الأمر بأداء الأمانات في صيغة الجمع وذلك في قوله تعالي{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.[النساء].
ومن الأمانات المسئول عنها [أمانة المسئولية في الإسلام] والحديث عنها من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ مفهوم المسئولية في الإسلام .
2ـ عظم المسئولية في الإسلام .
3ـ الأسس التي تقوم عليها أمانة المسئولية في الإسلام .
4ـ خطورة التفريط في أمانة المسئولية في الإسلام .
5 ـ كيفية اكتساب أمانة المسئولية.
===================
العنصر الأول : مفهوم المسئولية في الإسلام:ـ
المسئولية في الإسلام تعني أن المسلم المكلف مسئول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، أو قدرة على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه، سواء أكانت مسئولية شخصية فردية، أم مسئولية متعددة جماعية ، فإن أَحسن تَحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب.
العنصر الثاني : عظم المسئولية في الإسلام :
لابد أن يعلم كل إنسان أوكله الله أمر من أمور المسلمين أن الله تعالي وضع في عنقه أمانة ومسئولية فهي ليست تشريف ولا وجاهة وإنما مسئولية وتكليف.
بمعنى أن كل من تم توظيفه في عمل عام فهو المعني بهذا الكلام : يقول المولي سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء] .
وقال تعالي {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)}‏ [الصافات].
وقال تعالي{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}[الحجر].
كما يصف جل جلاله المؤمنين فيقول تعالي {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون].
أي أن الوظيفة العامة وديعه في يد شاغلها يُسأل عنها أمام الأمة التي تضعها في يده ويُسأل عنها أمام الله عز وجل.
يؤكد هذا المعنى ويؤيده ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة.
فلقد طلب الصحابي الزاهد الجليل أبو ذو الغفاري رضي الله عنه من الرسول الكريم (ﷺ) أن يقلده إحدى الوظائف ، فعن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها}[رواه مسلم]
وكما ورد في الحديث الشريف فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه أن النبي (ﷺ) قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل يا رسول الله وما إضاعتها قال : إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة }[رواه البخاري].
ولقد حذرنا النبي (ﷺ) من الحرص عليها فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها». [رواه البخاري]
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي (ﷺ) أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي (ﷺ) {إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه}[متفق عليه].
العنصر الثالث : الأسس التي تقوم عليها أمانة المسئولية في الإسلام:ــ
إن أمانة المسئولية في الإسلام تقوم علي أسس ومبادئ لا بد منها وإذا فرط الإنسان فيها يكون خائنا للأمانة وتتمثل تلك المبادئ بالنقاط التالية: ـ
1ـ القوة والأمانة :ـ
يقول الله تعالى "ان خير من استأجرت القوي الأمين" ولذلك لا يجوز في منهج الإسلام أن يتولى الوظائف وخاصة العامة في الدولة إلا القوي الأمين ومرد القوة إلى القدرة على أداء ما يتولاه من عمل وهي تقدر في كل أمر بحسبه فمثلاً:
- القوة في قيادة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بأساليب المعارك وإلى المخادعة لذلك يقول الرسول الكريم (ﷺ) "الحرب خدعة" وكذلك القدرة على القتال والخبرة بمعداته وأدواته وفي هذا يقول الله عز وجل :{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ .... (60)}[الأنفال]
- أما القوة في الحكم فترجع إلى الفقه في الشرائع وأساليب التقاضي والعدل الذي أمر الله به وإلى القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والقدرة على تنفيذ الأحكام على القوي قبل الضعيف.
- أما بخصوص الأمانة فمردها إلى عدم التفريط في شؤون ما ولى عليه القائد ومخافة الله وخشيته والخضوع لشريعته وفي هذا يقول الله عز وجل: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}[المائدة].
ولقد اعتبر الرسول (ﷺ) أن عملية اختيار العاملين وخصوصاً القادة أمانة لا بد من أدائها بالشكل السليم ومن لم يلتزم بذلك فقد خان الله ورسوله وفي هذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}[الأنفال].
2ـ الحفظ والعلم :
ولهذا اختار الله تعالي طالوت عليه السلام لتميزه بصفتي العلم والقوة ، قال تعالي {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة].
فبعلمه وقوته استطاع بفضل الله تعال أن يقود الأمة إلي النجاة والنصر علي الأعداء والقضاء علي المفسدين في الأرض قال تعالي {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ (251)} [البقرة].
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام ،لقد أخبَرَنا القرآن أنَّ يوسف عليه السَّلام أنَّه كان أمينًا على مال العزيز وعِرْضِه، واشتهر بينهم بالعلم والعفة والأمانة والخبرة فرَشَّحه الملك لِيَكون من خاصته المُقرَّبين، قال سبحانه وتعالى في ذلك:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}[يوسف].
أي: ائْتُوني به أجعَلْه خالصًا ليِّنًا، وموضِعَ ثقتي ومشورتي، ولَمَّا كلَّمه ووقَفَ على رَجَاحة عقله وحسن تَصرُّفه، قال له: إنَّك اليوم عندنا ذو مَكَانة سامية، ومَنْزلة رفيعة، وأمانة تامَّة.
ولما سمِع يوسف عليه السَّلام هذا، رشَّح نفسَه للولاية، فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}[يوسف].
لا تتعجَّبْ من طلب يوسف عليه السَّلام للولاية؛ فقد قدَّم مسوِّغات الترشيح: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾.
أنا شديد المُحافَظة على الأموال العامَّة، فلن أُبدِّدها ولن أختَلِسَها، ولا أُعطيها لمن لا يستحِقُّها، ولن أهمل فيها، عليمٌ بشؤون هذه الأموال وبإدارتها، وعليمٌ بالسِّياسة الماليَّة والاقتصادية، وأنا واثقٌ من ذلك، وأعلم أنَّ في هذا صلاحَ الأمة، وخروجها من المِحْنة.
فانظروا أيها المؤمنون ....كيف أنقذ الله على يديه مصر وما حولها من أزمة غذائية طاحنة، ألهم الله يوسف فخطط لها أحسن التخطيط لمدة خمسة عشر عاما، أقام فيها اقتصاد مصر وكان الزراعة أساسه ومحوره على زيادة الإنتاج، وتقليل الاستهلاك، وتنظيم الادخار، وإعادة الاستثمار، حتى نجت مصر من المجاعة، وخرجت من الأزمة معافاة، بل كان لها فضل على ما حولها من البلدان، التي لجأ إليها أهلها يلتمسوا عندها الميرة والمئونة، كما يبدو ذلك في قصة أخوة يوسف الذين ترددوا على مصر مرة بعد مرة، وقالوا له في المرة الأخيرة: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}[يوسف].
3ـ العدل والمساواة:ـ
لو أردنا الحديث عن العدل بالمفهوم الشامل الذي يعامل البشر جميعاً دون النظر إلى ديانتهم أو لونهم أو جنسيتهم فلن نجده إلا في الإسلام من خلال قياداتهم
المتتالية والذي فقدته البشرية مع زوال القيادة الإسلامية.
ولقد أوضح لنا الله عز وجل ذلك من خلال الدستور العظيم القرآن الكريم في قوله تعالى{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء].
ويأمر الله سبحانه وتعالى الحاكم والمحكوم بالالتزام بالعدل ولو كان ذلك على أقرب الناس إليه، فيقول سبحانه وتعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }[النساء].
وكلنا يعلم قول الرسول (ﷺ):{لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ويقول الله تعالى "..... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى" .
ولقد أهتم الإسلام بالقائد العادل وجعله أحب الخلق إلى الله، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):{إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ }[رواه الترمذي] .
وكما نعلم أن القائد العادل مع السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه (ﷺ) {سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ }[متفقٌ عَلَيْهِ]
ومن هذا يتضح لنا مدى أهمية هذا المبدأ والأساس الذي اعتمدت عليه أنه المسئولية في الإسلام والتي بسببه دانت الأرض لقادة الإسلام يوم أن كانوا يحكمون معتمدين على هذا الأساس في التعامل مع الرعية.
4ـ الرفق والرحمة :ـ
من الطبيعي أن الإنسان دائماً بحاجة إلى رعاية وبشاشة سمحة وقلب كبير يعطيه ولا ينتظر الرد ويحمل همومه ويجد الرعاية والاهتمام والعطف، ومن هنا كانت القيادة الإدارية في الإسلام قد تنبهت إلى هذه الأمور فكانت تسهر ولا تنام ويبذل قصارى جهدها في راحة الرعية ومن هنا خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله تعالي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}[آل عمران].
فهكذا كان الرسول (ﷺ) ومن بعده كافة القادة .
فها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما سمع العجوز وابنها وهي تقول لقد كان أبو بكر يحلب لنا شاتنا وقد تولى أمر الخلافة فمن يحلب لنا من بعده؟ وكان على مقربة فسمع كلامهما فأقترب منهما وقال أنا أحلب لكما شاتكما حتى يتوفاني الله.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع بكاء صبية صغار لا يجدون عشاء فهرول إلى بيت المال هو وخادمه وحمل على ظهره الدقيق والسمن وقام بطبخ الطعام لهما. وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يخاطب الرعية ويبصرهم بحقوقهم قبل أن يطلب منهم واجباتهم .
ولقد كان الرسول الكريم (ﷺ) يحث القادة على التفاني في خدمة الرعية وهذا واضح من خلال الحديث الشريف "إن لله عباداً اختصهم الله بقضاء حوائج الناس حببهم إلى الخير وحبب الخير غليهم إنهم الآمنون من عذاب يوم القيامة" .
ويقول (ﷺ) أيضاً "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" [البخاري].
ويطالب الرسول الكريم (ﷺ) من قادته بما لا يحلو من كثرة طلب الرعية (المرؤوسين) حيث قال "حاجة الناس إليكم من نعم الله، فلا تملوا النعم"
ولذلك طالب الإسلام القادة والرؤساء استخدام الكلمة الطيبة مع المرؤوسين لما لها من أثر في نفوس المرؤوسين.
فعن أبي يعلى معقلِ بن يسارٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقولُ :{ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيتةً ، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة}[متفق عليه].
وفي رواية : ( فلم يحُطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) .
وفي رواية لمسلم:{ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول في بيتي هذا : {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفُق به}[رواه مسلم].
5ـ تقديم ذوي الكفاءة:ـ
والكفاءة كما ورد في لســان العرب للعلامة ابن منظور: " كافــأه على الشيء مكافأة وكفاء : جازاه.
والكفء: النظير والمساواة، ومنه :ـ
الكفاءة في النّكاح، وهو أن يكون الزّوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك.
والكفاءة للعمل: القدرة عليه وحسن التصرف فيه.
إن من الأمانات إعطاء القيادة للأصلح وإلى من يستحقها وهو ما يعبر عنه بـ " وضع الرجل المناسب في المكان المناسب".
وكان النبي الكريم (ﷺ) لا يسند الوظائف الإدارية، على اختلاف مستوياتها وتخصصاتها، إلا لمن تثبت قدراتهم الإدارية، وملكاتهم الذهنية وخبراتهم المكتسبة، وصفاتهم الأخلاقية حتى يتسنى لهم النهوض بما يناط بهم من الأعمال.
وكان ينهى عن إسناد هذه المناصب إلى من يشك في قدرتهم من الرجال، ويروي أن رجلا سأله، متى تقوم الساعة فقال له: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة".
كما نهى (ﷺ) عن اتخاذ العواطف والروابط الشخصية، معياراً للاستحقاق في شغل المناصب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: قال رسول الله (ﷺ) :{من استعمل رجلا من عصابة أي اختار رجلا لعمل عام أو شارك في اختياره وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} [الجامع الصغير].
وطلب أبو ذر الغفاري من الرسول (ﷺ) يوما أن يعينه واليا على إحدى الولايات، فوجده الرسول (ﷺ) غير مستوف للشروط الخاصة بهذه الولاية أو أن هناك من هو أحق منه بها فأبى عليه ذلك. وقال له: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"[رواه مسلم].
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معيار الاختيار لشغل المناصب، أو للترقي إلى المناصب الأعلى: "الرجل وقِدَمُه، والرجل وبلاؤه"؛ كما يقول علي رضي الله عنه "قيمة كل امرئ ما يحسن".
ولذلك حذرنا رسول الله (ﷺ) من ذلك حين قال :{من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى عليهم رجلاً وهو يجد منهم من هو أصلح منه فقد خان الله رسوله وجماعة المؤمنين}[رواه الحاكم]. ورُوِي عن أبي بكر أنه قال لواليه يَزِيد بن أبي سفيان، وهو يرسله إلى الشَّام: "يا يَزِيد، إنَّ لك قرابةً عسيتَ أن تؤْثِرَهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك، بعدما قال رسول الله (ﷺ):{من وَلِي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يَقْبَل الله منه صرفًا ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم}[رواه الحاكم].
وقال رسول الله (ﷺ):{من استعمل رجلاً على عصابة جماعة وفيهم مَن هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين}[رواه الحاكم].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين" .
وهنا أراد الرسول (ﷺ) توضيح مدى أهمية الاختيار حسب الكفاءة والجدارة وبين أن هذه الأمانة لا بد من تأديتها وإلا فلن يدخل الجنة.
ولقد كان الرسول (ﷺ) يقوم بعملية اختيار لمن يريد أن يوليه إحدى الوظائف ليتأكد من مدى صلاحيته للعمل ، وهذا واضح عندما أراد أن يولي رسول الله (ﷺ) معاذ بن جبل على اليمن فسأله: بم تقضي؟
فأجاب: بكتاب الله فسأله: فإن لم تجد؟ فأجاب: بسنة رسول الله، فسأله: فإن لم تجد؟
فأجاب: أجتهد برأي ولا آلو فضرب الرسول صدر معاذ وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله}[رواه أبوداود].
ومن بعد الرسول (ﷺ) سار الخلفاء الراشدون على دربه فكانوا لا يولون إلا الاكفأ ومن يرونه الأصلح، ولكن إذا لم تتوافر تلك الصفتين في شخص واحد بمعنى توفرت صفة واحدة ففي هذه الحالة يجب أن يحسم الموقف لما فيه مصلحة ،
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان احدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم انفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي والشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً. وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) أَنَّهُ قَالَ : {إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ }[مسند أحمد بن حنبل].
أما إذا كانت الولاية تتطلب الأمانة فهنا يقدم الأمين عن القوي مثل حفظ الأموال.
وفي هذا توضيح واضح أنه لا بد من اختيار الأصلح للوظيفة حسب ما تتطلبه هذه الوظيفة من مؤهلات معينة.
فعلي سبيل المثال اختيار النبي (ﷺ) لمعاذ رضي الله عنه، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي (ﷺ) من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي (ﷺ) لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.
وأيضاً: لم يختر النبي (ﷺ) مثلاً: خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين, ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي (ﷺ) معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن، كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
وقد قال له الرسول (ﷺ):{يا معاذ! إني أحبك} وهذه الدنيا وأي إنسان كائناً من كان، لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى قول خليل الرحمن وحبيبه ومصطفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ! إني أحبك}.
فهذه الكلمة أكبر وسام، وأعظم شرف، حيث يكفي أن يحبه رسول الله (ﷺ) ، والمرء مع من أحب، وهذه تزكية من النبي (ﷺ) ، وإرساله إلى اليمن تزكية أخرى، ثم أوصاه (ﷺ).
العنصر الرابع : خطورة التفريط في أمانة المسئولية في الإسلام:ـ
إن الشعور بالمسئولية هو طريق النجاح والفلاح ، والارتقاء حيال أية خطوةٍ أو مهمةٍ يقوم بها الانسان في كافة مجالات الحياة .
ومن غير الشعور بالمسئولية تتعطل الأعمال ، وتفشل الخطوات ، ويتراجع العطاء والانتاج .
والمعنى أن المسئولية تنطلق في الدين الإسلامي من منطلقٍ شرعيٍ يقول فيه الحق سبحانه :{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}[المدثر].
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ﷺ) قال:{أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ}[متفق عليه].
، ويقول (ﷺ): " فأعط كل ذي حقٍ حقه " [رواه البخاري].
إن الأُمَّة لا تَحْيَا الحياة الكريمة إلاَّ بأداء الأمانة المحملة بها والمسئولية الملقاة علي عاتقها ولن تسعد إلا بتقديم الكفاءات في كل مجالات الحياة ، فعلى الأمَّة أن تتَّقي الله، وأن تقول القول السديد؛ قال سبحانه وتعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}[الأحزاب].
على ألاَّ يتأثَّر هذا الاختيار بعواملِ الهَوى، أو المُجامَلة؛ لقرابة، أو صداقة، أو عصبيَّة؛ وإذا فعَلْنا ذلك أصلحَ الله أعمالَنا، وغفر لنا ذنوبَنا؛ فالله قد أمر ووعَد:
﴿ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾، هذا هو الأمر، والوعد:{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (71)} [الأحزاب].
وإذا ما انحرَفْنا في أقوالنا ولَم نستَقِم، انحدرَتْ بنا الأُمَّة إلى الهاوية، وانقلبتْ من خير أمَّة أُخْرِجتْ للناس إلى شَرِّ أمة في الأرض.
العنصر الخامس : كيفية اكتساب أمانة المسئولية:
1- تذكر المسئولية والموقف أمام الله يوم القيامة.
والمسئولية التي تدعو إلى رعاية الحقوق ٬ وتعصم عن الدنايا ٬ لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت في وجدان المرء ٬ ورست في أعماقه ٬ وهيمنت على الداني والقاص من مشاعره؟. وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه :عن رسول الله (ﷺ):{إن الأمانة نزلت فى جذر قُلُوب الرجال ٬ ثم نزل القرآن ٬ فعلموا من القرآن وعلموا من السنة}[رواه البخاري ومسلم ].
والعلم بالشريعة لا يغنى عن العمل بها ٬ والمسئولية ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة ٬فما يغنى عن المرء ترديد للآيات ٬ ولا دراسة للسنن ٬ وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أمناء. ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق.
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه ٬ لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين ٬ فيروى عن الرسول(ﷺ): { ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينامُ الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت هو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه ٬ فيظل أثرها مثل أثر المجل كالثبور التي تظهر في اليد مثلا في استخدام الأدوات الخشنة ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون ٬ لا يكاد أحد يؤدى الأمانة ؛ حتى يُقال : إن في بنى فلان رجلا أمينا ٬ وحتى يُقال للرجل : ما أجلده. ما أظرفه. ما أعقله. وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان }[رواه البخاري ومسلم ].
والحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرا محرجا فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة ٬ تمر بها وليست منها ٬ وقد تترك من مرها أثرا لاذعا.
بيد أنها لا تحيى ضميرا مات ٬وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته ٬ غير مكترث بكفر أو إيمان!؟
2- التعود والتنشئة وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر.
3- السعي لحسن الذكر في الدنيا, وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة ومنها الأمانة.
4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.
5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع المسئولية.
...المزيد

حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. أرسل ...

حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. أرسل نبيه محمد (ﷺ) رحمة للعالمين فأنار به القلوب وشرح به الصدور، فقال تعالى } لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ (128){ ] التوبة[.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ..خصنا بخير أنزل ، وأكرمنا بخير نبي أرسل وجعلنا بالإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالى } كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ (110){ ] آل عمران[.

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) تعامل مع أصحابه بأخلاقه العظيمة ، فكان يقضي حوائجهم ، ويتواضع معهم ، ويجيب دعوتهم ، ويزور مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويدعو لهم ولأبنائهم ، ويشفق عليهم ، ويشعر بآلامهم ، وينهاهم عن المبالغة في مدحه .. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي (ﷺ) يقول :}لا تطروني(تبالغوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله { ]البخاري[

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما ...

أما بعد .. فيا أيها المؤمنون

ما زلنا مع جوانب العظمة في حياة الرسول (ﷺ) وهو حاله (ﷺ) مع أصحابه ، فتعالوا بنا نتعرف على هذا الجانب العظيم ليكون لنا نبراسا يضيء لنا الطريق ومنهاجاً نقتدي في حياتنا مع بعضنا البعض ، حتى تستقر حياتنا وتنصلح علاقتنا ببعضنا فهذا الموضوع بعنوان } حال النبي (ﷺ) مع أصحابه{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..

1ـ محبة النبي (ﷺ) لأصحابه ومظاهرها.

2ـ مشاركة النبيّ لأصحابه الآلام والآمال.

3ـ ترسيخ مبدأ الشورى مع أصحابه.

4ـ معرفة النبيّ لقدرات أصحابه ونفسيّاتهم.

5ـ حرصه النبي (ﷺ) على تعليم أصحابه ما ينفعهم وحسن التعامل مع أخطاءهم.

6ـ الخاتمة.

العنصر الأول: محبة النبي (ﷺ) لأصحابه :

لقد كانت محبّة النبيّ (ﷺ) لأصحابه عظيمة، فكان يتعامل معهم بلطف واهتمام شديد ، فكانت البشاشة تملأ وجهه نوراً وسروراً وهو يسأل عن حالهم ويُطيّب

خاطرهم؛ ولقد وصفَه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال: }فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ (59){ [آل عمران] فكانت الألفة بينه وبين أصحابه من أقوى ما تكون، وهو ما جعل كثيرًا من المشركين يتعجَّبون لهذه الرابطة القويَّة التي جمعته بأصحابه، حتى لقد وصف ذلك أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه فقال: }ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا!!{ [السيرة النبوية لابن هشام].

ومن مظاهر محبته (ﷺ) لأصحابه تواضعه (ﷺ) معهم :

عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه في وصفه للنبي (ﷺ) قال: كان النبيُّ (ﷺ) يكثرُ الذكرَ ويقلُّ اللغوَ ويطيلُ الصلاةَ ويقصرُ الخطبةَ ولا يأنفُ أنْ يمشيَ مع الأرملةِ والمسكينِ فيقضي له الحاجةَ.{ ]النسائي[.

وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال :}كان رسول الله (ﷺ) يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم{ ]الحاكم[ .

وعن أنس رضي الله عنه قال : }كان رسول الله (ﷺ) يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم ، ويمسح برؤوسهم ، ويدعو لهم { ]النسائي[.

قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه }ما حَجَبَنِي رَسولُ اللهِ (ﷺ) مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وَجْهِي{.[ صحيح الترمذي] .

قال أنس بن مالك رضي الله عنه ، كان رسول الله (ﷺ) "كان إذا لقيَهُ أحدٌ مِنْ أصحابِهِ فقام معه ، قام معه فلم ينصرِفْ حتى يكونَ الرجُلُ هو الذي ينصرِفُ عنه ، وإذا لقِيَهُ أحدٌ من أصحابِهِ فتناول يَدَهُ ناوَلَهُ إيَّاها فَلَمْ ينزِعْ يَدَهُ منه حتى يكونَ الرَّجُلُ هوَ الذي ينزِعُ يدَهُ منه ، وَإذا لقِيَ أحدًا مِنْ أصحابِهِ فتناول أُذُنَهُ ، ناولَهُ إيَّاها ، ثُمَّ لم ينزِعْها حتى يكونَ الرَّجُلُ هو الذي ينزِعُها عنه".[ صحيح الجامع حسن |أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى]

وكان دائم البِشر، سهل الخُلق، ليّن الجانب، يقول ﷺ: }رحم الله امرئ سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى{، ليس بعيّاب ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، لا يخيّب مؤمله، ترك نفسه من ثلاث: (المراء، ومما لا يعنيه، وذم الناس).

قال أبو هريرة رضي الله عنه كان رسولُ اللهِ (ﷺ) يَجْلِسُ بينَ ظهرَيْ أصحابِه، فيجيءُ الغريبُ، فلا يدري أيُّهم هو، حتى يسألَ{.[ صحيح أبي داود]

ومن مظاهر محبته(ﷺ) لأصحابه انصاف أصحابه من نفسه (ﷺ) ،ومن أجمل القصص ما حدث مع الصحابي الجليل سوادِ بن غَزِيَّةَ الأنصاريِّ يوم بدرٍ، حيث

كان النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام يتفقَّد المُقاتلين ويُسوِّي الصُّفوف، وكان سوادُ مُتقدِّماً خطوةً عن باقي الجُند، ممّا جعل الصَّف غير مستوٍ، فأرجعه النَّبيُّ (ﷺ) إلى الوراء بواسطة سهمٍ بلا نصلٍ كان يحمله ويسوِّي به الصُّفوف، فقال سواد للرَّسول إنّه أوجعه ويريد أن يقتصَّ منه ، ولم تُغضب هذه الشَّكوى رسول الله (ﷺ) ، بل على العكس قَبِل القصاص وكشف عن بطنه وأمر سواداً بأن يأخذ حقّه فيضربه بالسَّهم كما فعل له، وإذا بسوادٍ يُقبِل على النَّبيِّ (ﷺ) ويُقبِّل بطنه الشَّريفة! فعجب النَّبيُّ من فعله وسأله لِم صنع ذلك، فأخبر سوادٌ رضي الله عنه رسول الله (ﷺ) أنّ

وقت الحرب والقتال قد حلَّ، فأراد أن يكون آخر عهدٍ له في هذه الدنيا هو أن يمسَّ جلدُه جلدَه (ﷺ) ، فدعا له رسول الله بالخير{.وقد وردت هذه الحادثة في السنة النبوية بإسنادٍ حسنٍ.

ومن مظاهر محبته لأصحابه مزاحه (ﷺ) مع أصحابه ،فكان النبيّ (ﷺ) بسّاماً يحبّ إدخال الفرح والضحك على قلوب من حوله، ومن ذلك مزاحه (ﷺ) مع زاهر بن حرام رضي الله عنه، فقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصّة هذا الصحابيّ فقال: "كان النَّبِيُّ (ﷺ) يُحِبُّه، وكان دَميمًا، فأَتاهُ النَّبِيُّ (ﷺ) يَومًا، وهو يَبيعُ مَتاعَه، فاحْتَضَنَه مِن خَلفِه، وهو لا يُبصِرُه، فقال: أرسِلْني، مَن هذا؟ فالتَفَتَ، فعَرَفَ النَّبِيَّ (ﷺ) ، فجعَلَ لا يَأْلو ما ألزَقَ ظَهرَه بصَدرِ النَّبِيِّ (ﷺ) حينَ عَرَفَه، وجعَلَ النَّبِيُّ (ﷺ) يَقولُ: مَن يَشْتَري العَبدَ؟ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إذَنْ واللهِ تَجِدُني كاسِدًا. فقال النَّبِيُّ (ﷺ): لكِنْ عِندَ اللهِ لستَ بكاسِدٍ{.[صحيح ابن حجر العسقلاني]

وكان (ﷺ) يمزح معهم، ولا يقول إلا حقًّا.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ﷺ) أنه قال: }إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟!، فقال: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»{ ]رواه أحمد[.

رأى النبي (ﷺ) صهيبًا وهو يأكل تمرًا وبعينه رمد، فقال له النبي (ﷺ) ممازحًا: }أَتَأْكُلُ التَّمْرَ وَبِكَ رَمَدٌ؟!! فقال صهيب: إِنَّمَا آكُلُ عَلَى شِقِّي الصَّحِيحِ لَيْسَ بِهِ رَمَدٌ!! فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ) { (رواه الحاكم)

ومزاحه (ﷺ) مع العجوز التي جاءت تطلب منه الدعاء، فقد ورد عن الحسن البصري أنه قال: }أنَّ امرأةً عجوزًا جاءتْهُ تقولُ لَهُ: يا رسولَ اللهِ، ادع اللهَ لي أنْ يدْخِلَني الجنةَ، فقال لَها: يا أمَّ فلانٍ، إِنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها عجوزٌ، وانزعجَتِ المرأةُ وبكَتْ ظنًّا منها أنها لن تدخلَ الجنةَ، فلما رأى ذلِكَ منها؛ بيَّنَ لها غرضَهُ أنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا، بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ، فتدخلُها شابَّةً بكرًا، وتَلَا عليها قولَ

اللهِ تعالى:} إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ (35) فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا (36)]{ الواقعة[

مزاحه مع أخي أنس بن مالك رضي الله عنه بسؤاله عن الطائر الصغير، فقد جاء عن أنس أنه قال: }كان لي أخٌ صغيرٌ، وكان له نُغَرٌ يَلعَبُ به، فمات، فدخَلَ النَّبيُّ (ﷺ) ذاتَ يَومٍ فرآه حزينًا، فقال: ما شأنُ أبي عُمَيرٍ حزينًا؟ فقالوا: مات نُغَرُه الذي

كان يَلعَبُ به يا رسولَ اللهِ، فقال: يا أبا عُمَيْر، ما فَعَلَ النُّغَيْر؟ أبا عُمَيْر، ما فَعَلَ النُّغَيْر؟{.[البخاري].

ومن مظاهر حبه لأصحابه العدل بينهم ،فكان (ﷺ)عادلا بينهم لا يحابي أحدا بغير

حق .. لما كلمه حِبه أسامة بن زيد في العفو عن المرأة المخزومية التي سرقت ، تلون وجهه (ﷺ) وقال : }أتشفع في حد من حدود الله؟ ، ثم قام فاختطب ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها{ ]البخاري[

وكان (ﷺ) يثني على أصحابه إظهاراً لفضلهم وعلو قدرهم ..فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أمينا ، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح { ]الترمذي[ .

ومن مظاهر محبة النبي (ﷺ) لأصحابه ثقته بهم: لقد بلغت ثقة النبي (ﷺ) مبلغاً عظيماً ،ولولا ذلك لما زجّ بهم إلى معارك ضاريةٍ يكون الأعداء فيها ثلاثةَ أضعافهم ، وتظهر محبّة النبيّ (ﷺ) لأصحابه ومحبّة أصحابه له في كُلّ وقت؛ سلمٍ وحربٍ.

العنصر الثاني : مشاركة النبيّ لأصحابه الآلام والآمال :

إنّ ممّا يعظّم شخصيّة هذا النبيّ الخاتم (ﷺ) هو مشاركته (ﷺ)لأصحابه رضي الله عنهم في كل شيء ولا يميز نفسه عنهم بل كان دائما يُساوي نفسه بأصحابه، بل أحياناً كان يستئثر نفسه دونهم بالوقوع في المشقّة والجهد، فها هو يحمل الحجارة لبناء المسجد وكأنّه فردٌ معهم، لا فرق بينه وبين أحدٍ من المسلمين، وفي يوم الخندق يحفر بيده ويتكلّف بعناءٍ حمل الأحجار على عاتقه الشريف، حيث قال البراء بن عازب

رضي الله عنه: "كانَ النبيُّ (ﷺ) يَنْقُلُ التُّرَابَ يَومَ الخَنْدَقِ، حتَّى أغْمَرَ بَطْنَهُ، أوِ اغْبَرَّ بَطْنُهُ{.] صحيح البخاري[

وما رواه أنس رضي الله عنه قال : خرج رسول الله (ﷺ) إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلما رأى ما بهم من النَصَب والجوع قال :}اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة .. فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا{ ]البخاري[

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله (ﷺ) أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت ، فتلقاهم رسول الله (ﷺ) راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا ،لم تراعوا{ ]البخاري[.

قال ابن حجر : " وقوله : لم تراعوا : هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيساً ، وإظهاراً للرفق بالمخاطَب " ..

وكان يشاركهم الأحزان والآلام ، فعن قرة بن إياس رضي الله عنه: "كان نبي الله (ﷺ)إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه ، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، فهلك (مات) ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي (ﷺ) فقال : مالي لا أرى فلانا؟ ، قالوا : يا رسول الله ، بَنِيهِ الذي رأيته هلك . فلقيه النبي (ﷺ) فسأله عن بَنِيهِ ، فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال «يَا فُلَانُ أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ: أَنْ تُمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ ؟ قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ، قال: فَذَاكَ لَكَ، فقالوا: يا رسول الله أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ قال: بَلْ لِكُلِّكُمْ{ ]النسائي[ .

وقد لاقى النبيّ (ﷺ) أخطر المواقف والصّعاب ولم يدَع المكروه يُصيب أحداً من أصحابه، كما كان يشاركهم بحبٍّ في مأكلهم ومشربهم، وفي حزنهم وفرحهم.

وكان (ﷺ) يشارك أصحابه ما يعانونه من فقر وجوع ، فإذا حلَّ الجوع بهم يكون قد مر قبلهم به ، وإذا أرسل أحد إليه بصدقة ، جعلها في الفقراء من أصحابه ، وإن أُهْدِيت إليه هدية أصاب منها وأشركهم فيها ،وكان معهم أجود بالخير من الريح المرسلة ، كما وصفه بذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .. عن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم : }أنه بينما يسير هو مع رسول الله (ﷺ) ومعه الناس مقفلة من حنين ، فعلقه الناس يسألونه ، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه ، فوقف النبي (ﷺ) فقال : أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا{ ]البخاري[

مقفلة : راجعة من حنين ، السَّمُر : شجر طويل قليل الظل صغير الورق قصير

الشوك ، الرداء: ما يوضع على أعالي البدن من الثياب ، العضاه : نوع من الشجر عظيم له شوك ، النعم : الإبل والشاء ، وقيل الإبل خاصة ..

وكان (ﷺ) يُغدق في العطاء لمن يتألفه ، قال أنس رضي الله عنه :ما سئل رسول الله (ﷺ) على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ،

فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (الفقر)..{ ]البخاري[.

العنصر الثالث: ترسيخ مبدأ الشورى مع أصحابه:

كان النبيّ لا يُبرم أمراً قبل أن يستشير أصحابه، فكثيراً ما كان يقول لهم:}أشيروا عليَّ أيها الناس { ]مسلم[

وقد كان النبي (ﷺ) حريصاً على مشورة أصحابه حتى في الأمور الصغيرة، ومن ذلك ما جاء عن النبيّ (ﷺ) في صحيح البخاري:}أُتِيَ النبيُّ (ﷺ) بثِيابٍ فيها خَمِيصَةٌ سَوْداءُ صَغِيرَةٌ، فقالَ: }مَن تَرَوْنَ أنْ نَكْسُوَ هذِه؟ فَسَكَتَ القَوْمُ، قالَ: ائْتُونِي بأُمِّ خالِدٍ، فَأُتِيَ بها تُحْمَلُ، فأخَذَ الخَمِيصَةَ بيَدِهِ فألْبَسَها، وقالَ: أبْلِي وأَخْلِقِي{.[ البخاري] ] أم خالد أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص[

فقد استشار النبيّ (ﷺ) أصحابه وسألهم لمن يُعطي هذا الثوب.

فمواقفه في استشارة أصحابه في الأمور العسكريّة وغيرها لها الأثر البالغ في مصالح الإسلام والمسلمين، حيث استشار أصحابه في جميع غزواته .

وهذه بعص صور استشارة النبي (ﷺ) لأصحابه رضي الله عنهم ..

ما وقَع يوم بدر عِندما خرَج للقاء القافلة العائدة مِن الشام فأفلتَتْ منه، وعَلم بخروج مُشركي قريش لحرْبه، فاستشار المسلمين الذين كانوا معه، فأشار عليه أبو بكر وعمر والمِقداد رضي الله عنهم ولكنَّ النبيَّ (ﷺ) كان يُريد الأنصارَ بهذه الاستِشارة؛ رغبةً منه في مَعرفة ما في نفوسهم، هل يُحارِبون معه خارج المدينة أم يُحاربون معه داخل المدينة فقط؛ تطبيقًا لما بايَعوه عليه في العقَبة؟ فتبيَّن له بعد أن فَطِنَ سيدُهم سعد بن معاذ مُرادَ النبي (ﷺ) أنهم معه في المدينة وخارجها، وأن روابط الإيمان الراسخ أقوى مِن روابط المعاهدات، وبذلك اتَّضح موقف الأنصار جليًّا للنبيِّ (ﷺ) وللمُهاجِرين الذين كانوا معه يومئذٍ، وكانت هذه الاستشارة للجَميع؛ ولكنَّها أُريد بها الأنصار.

وفي غَزوة الأحزاب، عَلِم النبيُّ (ﷺ) أن قريشًا وحلفاءها وقبائل غطفان قد خرجَتْ صَوب المدينة تُريد غزْوها واستِئصال مَن فيها، فعقد النبي (ﷺ) مَجلِسًا استِشاريًّا شاوَر فيه أصحابه حول خطَّة الدِّفاع التي يَدفعون بها هذه الجيوشَ الجرَّارة، فأشار

سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفْر الخَندق للحَيلولة دون دخول تلك الأحزاب إلى المدينة، فوافَق النبيُّ (ﷺ) على هذا الرأيِ وباشَر تطبيقه.

ومنها ما كان في غزوة تبوك، فعِندما وصَل النبيُّ (ﷺ) إلى تبوكَ وأقام بها عِشرين ليلةً ولم يَلْقَ جيش الروم، استشار مَن معه من المسلمين في التقدُّم شمالاً من تبوك، فأشار عمر بن الخطاب بعدم التقدُّم؛ لإمكان الاصطِدام بحشود الروم وحلفائهم المتفوِّقة على المسلمين بعُدَّتها وعَتادها، وأنَّ دُنوَّ النبي إلى المكان الذي وصَل إليه قد حصَل به المقصود مِن إفزاع الروم، فقَبِل النبيُّ (ﷺ) مشورة عُمر ولم يتجاوزْ تبوك.

والسيرة النبوية المشرفة مليئة بصور رائعة من هذا الأمر.

العنصر الرابع: معرفة النبيّ لقدرات أصحابه ونفسيّاتهم :

كان النبيّ (ﷺ) على بصيرةٍ في معرفة نفسيّات أصحابه وقابليّتهم للأمور، فيعرف ما يحبّونه وما يكرهونه، ويحْرِص على علاجِ ما يواجههم في حياتهم، كُلٌّ بحسب استعداده وطاقتِه، وكثيراً ما تتفاوت إجاباته على أسئلتهم وفق حالهم وحاجتهم، وقد يُحذّر أحدهم من أمرٍ، في حين يقدّم غيره إليه؛ لِما يراه من قدرة واستعداد أحدهم، وضعف الآخر عن أدائه.

وما كان ذلك إلا لأنّه وُلد وكبُر معهم، وعاش في بيئتهم وحياتهم، فأدرك مزاياهم الشخصيّة والنفسيّة، فكان يُكلّف كُلّاً منهم حسب حاله، فحققّوا أسمى غايات البطولة في تلك التكاليف بإتقانٍ وكفاءةٍ فائقةٍ، فقد استمال النبيّ (ﷺ) المؤلفة قلوبهم في حُنَينٍ بالمال؛ إذ كانت المادّيّة تستولي على فكرهم، فلم يتشبّع الإيمان بحلاوته في قلوبهم بعد، ومنع الأنصار من الغنائم في حُنينٍ لعلمه بأنّ الحلاوة الإيمانيّة قد بلغت مبلغاً عظيماً في قلوبهم.

وفي يوم أُحدٍ سأل النبيّ (ﷺ) أصحابه من يأخذ السيف منه، فقام عدّة رجال، واختار نبيّ الله أبا دجانة الأنصاريّ رضي الله عنه ؛ لِما كان يعلمه من قوّته وشجاعته، حتّى فلقَ به هام المشركين، فواجبات الشجاعة يتولّاها من هو أهلٌ لها، ومن الصّحابة من لا يقوى على القتال فيُبقيه النبيّ (ﷺ) في المدينة عند النساء؛ كحسان بن ثابت مثلاً.

وذلك لأنه (ﷺ) لا يُحمّل أحداً فوق طاقته، ويراعي قدرات من حوله؛ لذلك كانت سياسته القيادية الحكيمة أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فكان يبني الرجال في أماكنهم التي يتقنون فيها أدوارهم، والأهمّ من ذلك أنّه كان يُثني عليهم

في مواقعهم بأفضل صفاتهم، ولا يلتفت لِما يعانونه من النقص البشريٍّ.

نجده (ﷺ) يعتذر للصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عندما طلب منه أن يستعمله، بل حذره من خطر ذلك عليه مما عرفه عنه (ﷺ) ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (ﷺ):}يا أبا ذرٍّ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم{ [ رواه مسلم]، وعنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعمِلُني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: }يا أبا ذرٍّ إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلاَّ مَنْ أَخَذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها{ ] رواه مسلم[

رأينا في جيل الصحابة نوابغ وقمم عالية في جميع المجالات وهذه بفضل الله تعالى ثم بفضل تربية النبي (ﷺ) لهم ،وقد وجدنا في الصّحابة الكرام من تفوّق في علمٍ على غيره من إخوانه، فقد كان أقرأهم للقرآن "أبيّ بن كعب"، وأكثرهم علماً بالقضاء "علي بن أبي طالب"، وأعلم خبرة بالمواريث "زيد بن ثابت"، وأعلمهم بالحرام والحلال "معاذ بن جبل"، وأقدرهم على الحفظ "أبو هريرة". وأبرعُهم في المجال العسكري "خالد بن الوليد" وهكذا الكثير..

العنصر الخامس: حرصه النبي (ﷺ) على تعليم أصحابه ما ينفعهم وحسن التعامل مع أخطاءهم:

كان (ﷺ) حريصاً على تعليم أصحابه .. حينما أساء رجل في صلاته فعلمه صفتها ، وسُمِّي حديثه بحديث المسيء صلاته ، وقال (ﷺ): }صلوا كما رأيتموني أصلي{ ]البخاري[ .

وفي حجة الوادع قال (ﷺ):}لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه { ]مسلم[

وقال أبو ذر رضي الله عنه : " تركنا رسول الله (ﷺ) وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما " ..

وكان (ﷺ) لا يرضى لأحد أن يحتقر أو يسب أحدا من أصحابه أو يحتقره، ولو كان صحابيا مثله ..

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النبيِّ (ﷺ) كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ (ﷺ) ، وكانَ النبيُّ (ﷺ) قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ (ﷺ): لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ { ] البخاري[

ولقد اتبع النبي (ﷺ) أسلوباً تربوياًّ عالياً في توجيههم والتعامل مع أخطاءهم وهو

كالآتي...

1ـ أسلوب الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه:

كان صلوات الله وسلامه عليه يقدر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلطف في تصحيح أخطائهم، ويترفَّق في تعليمهم الصواب، ولاشك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حباً للرسالة وصاحبها (ﷺ) ، مثلما فعل مع معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يوم غزوة أوطاس، ولنتركه يحدثنا عن هذه القصة قال: }بينا أنا أصلي مع رسول الله (ﷺ) إذ عطس رجل من القوم، فقلت: "يرحمك الله"، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: "واثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما شأنكم تنظرون إلي؟" فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمِّتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله (ﷺ) فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوا الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"{” [صحيح الجامع].

وجاء أعرابي إلى النبي ﷺ وهو جالس بين أصحابه فقال: يا محمد أعطني من مال

الله الذي أعطاك، فإنكم يا قريش قوم تظلمون، فقام الصحابة يريدون به سوءا

فأمرهم أنْ يدعوه ثم أعطاه فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، ولا أجملت، فأدخله رسول الله ﷺ بيته وزاده حتى أرضاه، فقال: رضيت وجزاك الله خيرًا من أخ عشيرة فاستوقفه رسول الله ﷺ وقال معلّمًا أصحابه: }إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفورًا، فقال لهم صاحب الناقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأعلم بها، فتوجّه إليها فأخذ لها من قتام -طعام- الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو أطعتكم حيث قال ما قال، لدخل النار{.] رواه البزار[

2ـ أسلوب الإرشاد إلى الخطأ بالرفق والملاطفة

وكان(ﷺ) يقابل الخطأ بنوع من الملاطفة والرفق بالمخطئ، كما صنع مع خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه حين أمره (ﷺ) أن يذهب في بعض حاجته، فانشغل عنها باللعب مع الصبيان، قال: }كان رسول الله (ﷺ) من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله (ﷺ)، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله (ﷺ) قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال:( يا أنيس

أذهبت حيث أمرتك) قال: قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا{[صحيح مسلم]

3ـ أسلوب التعريض فيما يذم دون التصريح

كان النبي (ﷺ) يذم الخطأ ويشهر به، ولا يشهر بصاحبه، ولذلك لم يكن (ﷺ) يواجه المخطئين بالخطأ أمام الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى تحطيم شخصية المخطئ وإذلال نفسيته، وهذا أسلوب ذكي يتعلم منه المخطئ دون أن ينظر له الآخرون نظرة ازدراء.

عن أنس بن مالك قال :}إن نفرا من أصحاب النبي (ﷺ) سألوا أزواج النبي (ﷺ) عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: }ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"{ [صحيح ابن حبان]

4ـ أسلوب الإقناع بالخطأ :

ومن منهجه (ﷺ) مع المخطئين أنه كان ينتهج معهم أسلوباً رفيعاً في تقويم

أخطائهم من ذلك: إقناعه (ﷺ) فبينما رسول الله (ﷺ) جالس بين أصحابه إذ جاءه شابّ من الأنصار فقال: يا رسول الله، أتأذن لي في الزنا؟، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابا أتى النبيَّ (ﷺ) فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء){. ]رواه أحمد[ .

فهذا شاب عارم الشهوة، صريح في التعبير عن نزواته دون حياء، فلقيه الرسول (ﷺ) بهذا الرفق الحسن والحوار الهادئ ، فقام ذلك الفتى مقتنعاً بخطئه عازماً على

تركه وعدم الالتفات إليه .

5ـ أسلوب التلميح بالغضب :

من توجيه النبي (ﷺ) وإرشاده للمخطئين أنه أحيانا لا يواجه المخطئ بفعله، وإنما يغضب لذلك فيُعرف في وجهه (ﷺ) ، فقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: كان النبي (ﷺ) }أشد حياء ً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه {[صحيح البخاري] .

وروت عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة [أي وسادة] فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله (ﷺ) قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت : "يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، فماذا أذنبت؟ فقال (ﷺ):"ما بال هذه النمرقة" قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله (ﷺ): "إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" [ متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه].

وقد يبتسم ابتسامة المغضب؛ هذه الابتسامة التي يعاتب فيها أحيانا المخطئ ويوجهه ويقوِّم خطأه مثلما فعل مع كعب بن مالك الذي تخلف عن غزوة تبوك دون عذر ولنترك كعب يحدثنا عن لقائه الأول بالرسول (ﷺ) حين رجوعه من الغزوة قال: "فجئته فلما سلمت عليه تَبسَّم تَبسُّم المغضب ثم قال: ( تعال)، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: }ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك، فقلت: بلى إني

والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله (ﷺ): أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك…{[ صحيح البخاري]

ففي هذه القصة يتجلى الأثر العظيم في تهذيب نفوس المخطئين بهذا الأسلوب الحسن، عاقبه بابتسامة مغضبة من غير صراخ رغم عِظم هذا الموقف، فأين نحن اليوم من هذا الأسلوب النبوي الحكيم.

6ـ أسلوب العتاب والتأنيب :

على أن هذا العتاب يكون عتاباً توجيهياً، على قدر الحاجة من غير إسفافٍ ولا إسراف، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي ذر قال :"سببت رجلاً فعيّـرته بأمه قال له : يا ابن السوداء، فقال رسول الله (ﷺ): }يا أبا ذر، أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية{ ] البخاري[

فقد عالج النبي (ﷺ) خطأ أبي ذر حين عيَّر الرجل بسواده بالتوبيخ والتأنيب ثم

وجهه لما يجب فعله .

وقد عاتب رسول الله (ﷺ) الشاب معاذ بن جبل عندما أطال بقومه الصلاة، حيث جاء رجل يشكو معاذاً إلى الرسول (ﷺ)، فقال (ﷺ): }يا معاذ، أفتّان أنت ؟ …{ [البخاري]

7ـ التذكير وتكرار التخويف:

وذلك ما رواه جندب ابن عبد الله البجلي: "أن رسول الله (ﷺ) بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين وإنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله فقتله فجاء البشير إلى النبي (ﷺ) فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال: (لم قتلته) قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا وسمى له نفرا وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله . قال رسول الله (ﷺ): (أقتلته) قال: نعم قال:(فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) قال: يا رسول الله استغفر لي. قال: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) قال: ( فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله

إذا جاءت يوم القيامة{[ أخرجه مسلم].

8ـ أسلوب العفو والصفح مهما كان الخطأ كبيرا :

يحتاج الإنسان أحيانا إلى مثل هذا الأسلوب مهما كانت درجة الخطأ، وقد كان (ﷺ) يستعمل هذا الأسلوب في الوقت المناسب لإصلاح أخطاء بعض الصحابة.

ومن أروع الأمثلة على ذلك: ما فعله مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما كتب كتابا إلى قريش يُخبرهم بمسير رسول الله (ﷺ) إليهم، ثم أعطاه لامرأة، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش، فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله تعالى أطلع نبيه (ﷺ) بما صنع حاطب، فقضى (ﷺ) على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهُّز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.

فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه حاول أن يكشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ومع ذلك عامله معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل (ﷺ) من ماضي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه سببًا في الصفح عنه، وهو أسلوب تربوي بليغ، وفيه درس تربوي حكيم.

الخاتمة..

لقد استطاع النبي (ﷺ) أن يصنع أعظم جيل عرفته البشرية وذلك بتوفيق الله تعالى،

ثم بحسن إدارته (ﷺ) ، فما أحوجنا إلى التأسي بحضرته الشريفة (ﷺ) حتى نقيم علاقات قوية بيننا وبين بعضنا والله تعالى أمرنا بذلك فقال تعالى } لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا (21){ ] الأحزاب[

نسأل الله تعالى أن يأدبنا بأدب الإسلام ويخلقنا بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يجعلنا من أهل رضوانه وجناته إنه ولي ذلك والقادر عليه .



=========================
...المزيد

الهجرة النبوية والأخذ بالأسباب الشيخ : السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. مدبر الملك والملكوت ...

الهجرة النبوية والأخذ بالأسباب
الشيخ : السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. مدبر الملك والملكوت ،المنفرد بالعزة والجبروت ، صرف أعين ذوي القلوب والألباب عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب ، من توكل عليه كفاه ، ومن اعتمد عليه اجتباه ووقاه ، وجعله من أهل رضاه ، قال تعالى }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3){ ]الطلاق[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. نصر نبيه (ﷺ) وأيده بالمعجزات ودافع عن أوليائه وجعل كلمة الكافرين السفلى وكلمة الله هي العليا فقال تعالي }إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40){ ]التوبة[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) علمنا الأخذ بالأسباب والاعتماد على خالق الأسباب فقال (ﷺ) لصاحبة في الغار }يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا { .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون .
لقد كانت الهجرة المباركة مرحلة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية ،يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ،إذ أن الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، و دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، ولابد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، والإمداد الرباني، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية.
لذلك كان موضوعنا } الهجرة والأخذ بالأسباب{وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية...
1ـ الهجرة من المعالم البارزة للأمة .
2ـ الهجرة وخوارق العادات .
3ـ التخطيط البشري في الهجرة ومراحله .
4ـ التأييد الرباني في الهجرة .
5ـ الخاتمة .
العنصر الأول : الهجرة من المعالم البارزة للأمة :
لأهمية الهجرة المباركة ومكانتها في التاريخ الإسلامي أرَّخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ بارز في تاريخ الدعوة ؛ وذلك لما للهجرة من آثار على انتصار الدعوة ، وظهورها ولأنه بالهجرة وُلِدت دولة الإسلام.
وذكروا في سبب عمل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه التأريخ بالهجرة "أن أبا موسى كتب إلى عمر: أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم : أرِّخ بالمبعث (بعثة النبي (ﷺ)) ،
وبعضهم قال :أرِّخ بالهجرة، فقال عمر رضي الله عنه : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرَّخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر رضي الله عنه : بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه ".
ومما يروى أيضاً :أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه و ومماته (ﷺ) لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه (ﷺ).
لقد كان عمر رضي الله عنه ومن معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم، بل كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمعات ولا ببغاوات، يستوردن فكرهم و ثقافتهم و تاريخهم من غيرهم.
لقد تجلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم، في هذه الموازنة الفذة بين الأحداث، ثم اختيار الهجرة بذاتها لتكون عنواناً ، و رمزاً للتاريخ الإسلامي، إذ أنهم اعتبروا الهجرة بداية وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، لقد كان هذا العمل منهم فهماً عميقاً لرسالتهم، لأن الهجرة كانت عملاً غيَّر الله به وجه التاريخ الإنساني بعد أن مال ميلاً عظيماَ، و دفع به إلى وجهته الصحيحة مستقيماً غير ذي عوج، لقد أذن الله تعالى بهذه الهجرة أن تقوم في المدينة دولة الإسلام، فحمت المؤمنين من عربدة الجاهلية ، وحققت حكم القرآن في واقع الحياة، وجعلت الإسلام حقيقة بارزة ترى و تسمع في الأرض، وأقامت المجتمع الإسلامي نموذجاً متفرداً بين الأمم جميعاً، وغدت قاعدة الإسلام
وداره التي يأوي إليها المعذبون في الأرض، فيجدون الأمن والإيمان،
ويتعلمون الدين و يتزودون بالفضائل والأخلاق، ثم يخرجون إلى أطراف الأرض دعاة وهداة.
العنصر الثاني : الهجرة وخوارق العادات :
قد يسأل سائل لماذا لم تقم الهجرة علي المعجزة الربانية مثلما حدث في رحلتي الإسراء والمعراج، يأتيه البراق ويذهب به إلي المكان الذي يريده ؟
لكي نستطيع الجواب على هذا السؤال، لابد أن نحدد الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج :
الإسراء والمعراج كانت معجزة الهدف منها التسرية والتسلية لقلب النبي (ﷺ) وخاصة بعد الأحداث العظيمة التي حدث في عام الحزن من شدة تعذيب وفقدان زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب .
أما الهجرة المباركة كان من الممكن أن يهاجر النبي (ﷺ) وأصحابه الكرام بكلمة كن ولكن لم يحدث لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام والإبقاء علي الإسلام فتأسيس دولة الإسلام لا يقوم علي المعجزات، ولا خوارق العادات ، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم علي التخطيط ، والأخذ بالأسباب ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا ينصلح الكون إلا بها ولا يقوم الدين إلا بها .
العنصر الثالث : التخطيط البشري في الهجرة ومراحله :
لم تكن الهجرة فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا وإنما كانت إعداداً لأعبائه، ولم تكن خوفاً من الأذى ، و لكن توطيداً لدفعه ، ولم تكن جزعاً من المحنة،
ولكن توطيناً للصبر عليها.
أجل لم تكن فراراً من القدر، ولكنها كانت فراراً إلى القدر، ولم تكن الهجرة فراراً من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، و وضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، و ترتبت عليها، وبذلك كان يوم بدر، وفتح مكة ، وما تبعه، وتطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود والشرك، وإسلام العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وتقويض ممالك الفرس والروم، و وصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.
إذن كيف تم تخطيط النبي (ﷺ) للهجرة المباركة ؟
لقد وضع النبي (ﷺ) الخطوات الأساسية للخطة وهي كما يلي :
الخطوة الأولي : وضوح الرؤية :
وضوح الرؤية لدي النبي (ﷺ) منذ أول يوم في الرسالة أنه مبعوث للعالمين ، وأن التحديات له من أول يوم وأنه سيتحول من بلد إلي بلد وسيكون البلد الجديد مأوي جديد للدعوة وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل لما رجع (ﷺ) من غار حراء وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ﷺ) خبر ما رأى، فقال ورقة: (هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا).
وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم فتهيأ (ﷺ) لتلك المرحلة فربي أصحابه تربية صلبة قوية تربية رجل الدولة فكرا وعقلا وممارسة ، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه }شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدع الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون{.
الخطوة الثانية : تحديد الأهداف من الهجرة :
1ـ إقامة دين الله :
ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله (ﷺ) من أجله ، وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا من أجله فعلي سبيل المثال :
يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه ، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عزَّ وجلَّ، وبرسوله محمد (ﷺ) من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.
3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل:}إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[
4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.
فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض فهي حارسة له حامية لمبادئه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي "الدين والسلطان توأمان الدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وملا حارس له فضائع" .
ولقد قرر علماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم "دار الإسلام" أو دولة الإسلام" التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقا, هذه الدولة ضرورة إسلامية وهي أيضا ضرورة إنسانية دولة توحد الأمة تحت راية واحدة وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى كيان قوي لحمايتها فهذا الكيان هو الدولة التي سعى إليها رسول الله (ﷺ) من أول يوم.
5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له العالمية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله (ﷺ) قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله عز وجل : }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28){ ]سبأ[.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها.
الخطوة الثالثة : الوسائل والأساليب:
رغم ثقة النبي (ﷺ) بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه ، وما أحوجنا إلي أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير علي الله تعالي ، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا علي القدر ، ونتوجع علي عدم نصر الله تعالي لنا ،ونحن المسئولون عن ذلك. لذلك قام النبي (ﷺ) بوضع الوسائل للهجرة المباركة علي النحو التالي :
1ـ التهيئة للهجرة واختيار المكان المناسب :ـ
البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} ] العنكبوت [ .
قال ابن كثير رحمه الله-: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة
الدين… إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، (رحمه الله تعالى)
قال (ﷺ) لأصحابه: }لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه { فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ﷺ) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام).
ولكن كان النبي (ﷺ) يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقراًّ للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة علي الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك ، ولكن ظل النبي (ﷺ) يعرض نفسه علي القبائل والأسواق ، حتي قابل أولئك النفر من يثرب حتي كانت بيعتي العقبة الأولى والثانية، ولقد سجَّل القرآن ذلك، يقول الله تبارك وتعالى:}لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا(18){ ]الفتح[.
وكان من أهداف الرسول (ﷺ) من تلك البيعتين هو تأسيس وطن جديد لاستقبال هذه الدعوة والانطلاق بها ، وحماية الفئة المؤمنة، وتلي ذلك هجرة المسلمين إلى المدينة، كما أرسل رسول الله (ﷺ) سفراء يسبقونه، ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ للتمهيد لاستقباله ومن آمنوا معه.
2ـ التوقيت المناسب للهجرة:
لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه (ﷺ) وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله (ﷺ)، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق.
3ـ اختيار الطريق المناسب:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء.
4- كتمان الأمر :
سياسة كتم الأسرار، حتى لا يعلم المشركين والكفار أي معلومات عن الهجرة،
حتى وأنه قد أخفاها لمرحلة معينة عن صاحبه المخلص الأمين أبو بكر الصديق، وعن الذين سوف يكلفون بمهام خاصة فيها.
تقول كتب السيرة: "لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله (ﷺ): "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله (ﷺ) ليصحبه.."، ولكن لم يُعْلِم رسول الله (ﷺ)أبا بكر بميعاد الهجرة،
والنموذج الثاني من كتمان أسرار الهجرة عندما ذهب النبي (ﷺ) إلى أبي بكر؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: "بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله (ﷺ) متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلاَّ أمر؛ قالت: فجاء رسول الله (ﷺ) فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي (ﷺ) لأبي بكر: "أخرِج مَنْ عِنْدك"، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله (ﷺ): "نعم" ]رواه البخاري[.
ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله (ﷺ) وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء.
5ـ توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات:
إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة، فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات علي هذا النحو:ـ
رفيق الرحلة :
أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول (ﷺ) ويعاونه ويساعده ويشتري راحلتين.
رد الودائع والأمانات والتعمية علي الكفار :
يقوم به علي رضي الله عنه ، ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها.
نقل المعلومات وأخبار العدو:
يقوم به عبد الله بن أبي بكر، فلا يكفي أن يقوم النبي (ﷺ) في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلي المدينة حسب تقديره وظنه فلا بد من التعرف مباشرة علي كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته يحيث تصل أول بأول إليه (ﷺ) فيكون متابعة تنفيذ
الخطة قائما علي خبرة الواقع لا علي الظن يخطئ ويصيب فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي (ﷺ) في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ، وكأنه نائم في مكة ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها.
تأمين الزاد :
تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها وكانت حامل في شهورها الأخيرة وكانت تصعد في الجبل الوعر الشامخ ذو الأحجار الكثيرة .
إخفاء أثر الأقدام :
يقوم به عامر ابن فهيرة ، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام ،ونجحت هذه السياسة في إخفاء محاولة المشركين في العثور على رسول الله (ﷺ) وصحبه .
الاستعانة بالخبراء:
لقد اتبع النبي (ﷺ) سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد استعان رسول الله (ﷺ) بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك.
تقول كتب السيرة: "لقد استأجر رسول الله (ﷺ) وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا.
لقد كان توزيع دقيق للمسئوليات في إطار سياسة رشيدة وخطة محكمة، ولذلك تحققت المقاصد والأهداف بدون ارتباك أو خلل، وهذا ما يجب الاستفادة منه في إدارة شئون حياتنا كلها وفي دعوتنا الإسلامية.
6 ـ التمويه والسرية والكتمان :
حرص النبي (ﷺ) علي كتمان الأمر وأخذ السرية التامة تقول أمنا عائشة رضي الله عنها " بينما نحن جلوس في بيتنا بمكة في حر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله (ﷺ) مقيلا مغطيا رأسه في ساعة لم يأتينا فيها ..)
وقد أوصي النبي (ﷺ) بالاستعانة بالسرية فقال (ﷺ) "استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود "
لقد مَوَّه رسول (ﷺ) خروجه من البيت، ثم غادر هو وأبو بكر من بيت سيدنا
أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي (ﷺ) يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار، وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط ، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة ، وليس علي طريق المدينة حيث احتمالات الرصد ، ولما كان النبي (ﷺ) يعلم أن قريشا ستجد في الطلب ، وإن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا ، فقد سلك الطريق المعاكس تماما وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلي جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله ، وأقام النبي (ﷺ) ثلاثة أيام لأن الخروج إلي أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبدالله ابن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبدالله كل يوم .
العنصر الرابع : التأييد الرباني في الهجرة :
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله (ﷺ) ، فإنه لم يرتكن إليها مطلقا وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي ، عظيم الرجاء في نصره وتأييده ، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالي }وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80){ ]الإسراء[ . ويظهر التأييد الإلهي في أكثر من موقف في الهجرة :
1ـ إخبار جبريل عليه السلام للنبي (ﷺ) بمكيدة قريش لقتله ، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلاً له : " لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ".
وقد قال الله تعالي }وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)}[الأنفال].
وقد فسرها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بما قاله عبد الله بن عباس فيها، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي (ﷺ) ، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي (ﷺ) تلك الليلة وخرج النبي (ﷺ) حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي (ﷺ) فلما
أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا، قال لا
أدري
2ـ خروجه (ﷺ) من بين أيديهم ويضع علي رؤوسهم التراب، فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وهو يتلوا قول الله تعالي }وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9){ ]يس[.
3ـ حماية الله و حفظه لنبيه (ﷺ) في الغار.
عندما خرجوا مغضبين لما رأوا عليا في فراشه (ﷺ) فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال". ساعتها أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول (ﷺ) الصديق رضي الله عنه بمعية الله تعالي لهما ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قلت للنبي (ﷺ) وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .فقال : ما ظنك يا أبا بكرباثنين الله ثالثهما ؟) وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالي }إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[.
ورحم الله القائل :ـ
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ورحم الله أحمد شوقي حين قال ..
فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ
لَولا يَدُ اللهِ بِالجارَينِ ما سَلِما وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ
ويلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول (ﷺ) بكافة الأسباب المتاحة، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ثم يتوكل بعد ذلك على الله ؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فالنبي (ﷺ) خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر، كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذي كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : "لا تحزن إن الله معنا" و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة، و هي بالفعل محكمة، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد.
4 ـ مشهد آخر من مشاهد ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي تجلى واضحاً، في
خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه وهو طامع في المائة ناقة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي (ﷺ) حيا أو ميتا، فحينما اقترب منهما، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فأخبر الرسول بذلك، لندع الصديق يقص علينا طرفاً من خبره ذاك، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم " واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض (صلبة)، فقلت يا رسول الله أُتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله (ﷺ) فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما ههنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا"، وأعطاه النبي (ﷺ) كتاب أمان، ثم تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق من نصرالله له، وقال: يا سراقة ! كيف بك إذا طوقت بسواري كسرى؟ قال كسري ابن هرمز ملك الفرس قال النبي (ﷺ) نعم . يتعجب سراقة من حال النبي صلي الله عليه وسلم وهو المطارد هو وصاحبه يبن الجبال يعد بكنوز كسري ملك الفرس وكأن النبي صلي الله عليه وسلم ينظر نظرة أمل إلي المستقبل الكبير للإسلام الذي يعم الدنيا كلها ، وفعلا تم الفتح للمسلمين في خلافة سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأخذ سراقة سواري كسري من أمير المؤمنين سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
وصدق الله العظيم إذ يقول :} وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48){ ]الطور[
في هذا المعلم من معالم هجرته (ﷺ) ، يقترن المادي بالغيبي، ويتزاوج الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة ودرس للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، أما الركون إلى ما عند الله من أسباب النصرة الغيبية، دون إتعاب النفوس، وإنفاق الأموال في نصرة الدين، فهو من إفرازات التفكير الخوارقي، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمن ولا يغني .
وفي الختام: الأخذ بالأسباب فرض وترك الأسباب معصية ،والاعتماد علي الأسباب شرك .
فاللهم إنا نسألك أن توفقنا للأخذ بالأسباب ولا تكلنا إلي أنفسنا طرفة عين أو أقل
من ذلك فنضل ضلالا بعيداً .
وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
...المزيد

وافعلوا الخير لعلكم تفلحون إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. واهب النعم ...

وافعلوا الخير لعلكم تفلحون
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. واهب النعم والعطيات، أمر عباده بفعل الخيرات، وحثهم على المسارعة إلى الطاعات، فقال تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ (77)الحج .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير، أمر بالمسارعة والمسابقة في فعل الخيرات فقال تعالي (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148)[البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، كان يحب فعل الخيرات وترك المنكرات فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم :(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ) رواه أحمد.
فاللهم صل على سيدنا محمد أفضل الصلوات وسلم وبارك عليه أزكى التحيات الطيبات وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الممات.
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون..
إن أسمى الغايات، وأنبل المقاصد أن يحرص الإنسان على فعل الخير، ويسارع إليه، وبهذا تسمو إنسانيته، ويتشبه بالملائكة، ويتخلق بأخلاق الأنبياء والصديقين... لذلك، فقد أوصى الإسلام الحنيف الإنسان أن يفعل الخير مع الناس، بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم، يقول سبحانه:{ فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كل شيء قدير}البقرة 148.
إن غايات الناس مختلفة، وأهدافهم شتى فمنهم من تتحكم فيه الأنا والشهوات، كالجاه والتجبر والعلو في الأرض بغير حق، أما الإيمان فإنه يجعل وجهة المؤمن، متجهة إلى فعل الخير والمسابقة إليه.. لذلك يجب أن يكون شعار المسلم وغاية المسلم في الحياة ،(وافعلوا الخير لعلكم تفلحون لعلكم تفلحون) الحج .
لذلك كان حديثنا حول هذا الموضوع وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ حكم فعل الخير في الإسلام .
2ـ مجالات فعل الخير .
3ـ أهداف العمل الخيري.
4ـ المسارعة في فعل الخيرات .
5ـ صور مشرقة للتنافس في فعل الخيرات.
6ـ عوائق المسارعة والمنافسة.
7ـ التنافس المذموم .
العنصر الأول : حكم فعل الخير في الإسلام :
• الخير: اسم شامل لكل ما ينتفع به المرء عاجلا أو آجلا، والخير نسبي منه ما يقابل الشر، ومنه ما يقابل خيرا آخر لكونه أفضل منه.
ويعتبر العمل الخيري في الإسلام من أهم الأعمال شأنه شأن باقي الأمور التي يقوم بها المسلم، لأنه عمل يتقرب به المسلم إلى الله وهو جزء من العبادة.
وقد أكثر الله سبحانه وتعالي، من الدعوة إلى الخير، وجعله أحد عناصر الفلاح والفوز، قال تعالي (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) . (الحج)
كما أمر سبحانه وتعالى بالدعوة إلى فعل الخيرات إضافة إلى فعله، فقال سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ).[آل عمران].
ونجد كذلك في القرآن الكريم ربطا بين الصلاة وإطعام المساكين، قال الله تعالى: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) ( المدثر: 42 ـ 44).
ثم قال الحق: أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين .[الماعون]
وروى ابن ماجة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الخير خزائن، ولهذه الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر ، وويل لعبد جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير).
إن الله تعالي يوازن بين مباهج الدنيا ومفاتنها، وبين المثل العليا والاتصاف بالمكارم، ويبين أن الفضائل أبقى أثراً، وأعظم ذخراً، وأجدر باهتمام الإنسان، وخير له في الدنيا والآخرة، لذلك قال سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}الكهف.
وهذه بعض الأدلة القرآنية والنبوية التي تدعوا إلي فعل الخير...
1- فعل الخير عنوان للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة :
فقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. والفطرة السليمة تهتدي إلى الخير وتشعر به، لأن الإنسان مفطور على البر والخير.
2ـ فعل الخير الزاد الحقيقي الذي ينفع الإنسان في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم:
قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
وقال تعالي{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المزمل20].
ولقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع أصحابه فسألهم سؤالاً دون سابق إخبار فقال لهم: "من أصبحَ منكم اليوم صائمًا؟!"، قال أبو بكر الصِّدِّيقُ: أنا، قال: "فمن تَبِع منكم اليوم جنازة؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فَمَنْ أطعم منكم اليومَ مِسْكِينًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجْتَمَعْنَ في رجل إلا دخل الجنة". أخرجه مسلم.
والملاحظْ أنَّ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مستعدًا لذلك السؤال، ولكنه كان معتادًا أن يبادر أيامه الخوالي بالاستكثار من الباقيات الصالحات.
3ـ القليل من فعل الخير مقبول عند الله تعالي :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) وفي رواية طليق. [ مسلم، الترمذي، الدارمي ].
ويقول تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. والمعنى أن أي فعل مهما كان قليلاً، حتى لو كان مثقال ذرة فإن الله يجزيه على عمله، ويرى نتيجة فعله.
واعلموا أنَّ الله تعالى لا يضيعُ عمل عاملٍ من ذكرٍ أو أنثى،قال تعالي ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ (195) {آل عمران.
وجاء أعرابي إلي النبي صلي الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عظني ولا تطل, فتلا عليه هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8] فقال هذا الأعرابي: قد كفيت, فلما قال: قد كفيت, قال عليه الصلاة والسلام: فقه الرجل).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة.
4- فعل الخير من أخص خصائص المجتمع الإيماني :
قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، أي: يقدمون خدمة الآخرين ومصلحتهم العامة على المصلحة الشخصية الخاصة. ويقول تعالي{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9]. يطعمون الطعام للفقراء والمساكين ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من عون ومساعدة، ولا ينتظرون منهم أي مردود، وهذا هو المعنى الصحيح للتطوع.
وكان فعل الخير من ألزم الأشياء اللازمة لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، يوم أن نزل عليه الوحي الالهي ودخل علي زوجه السيدة خديجة ويقول زملوني .. زملوني .. فوصفته صلي الله عليه وسلم بعمله مع المجتمع وحبه الخير للناس وأن ذلك يكون سبب في حفظ الله تعالي له ، فقالت "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
5ـ استسلام لأمر الله تعالي :
يقول الله تعالى:{وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، أمر قرآني أن يقابل الإنسانُ إنعامَ الله عليه (بالمال، أو بالصحة، أو بالوقت،) بالإحسان على الآخرين، وتقديم الخير لهم، سواء بالمال، أو بالمشورة الصادقة، أو بالمواساة. 6ـ يعطي الخيرية لأصحابه :
قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7].
سأل سيدنا موسى عليه السلام يوماً: يارب أنت أرحم الراحمين، فكيف جعلت ناراً ستدخل فيها الناس؟ قال يا موسى: كل عبادي يدخلون الجنة إلا من لا خير فيه).
6ـ يسبب الراحة النفسية :
تقول الدراسات العلمية إن الإكثار من فعل الخيرات يؤثر إيجابياً على الحالة النفسية للإنسان بل وتقي من أمراض القلب....
العنصر الثاني : مجالات فعل الخير:
والخير الذي أشار الله إليه، ينتظم في كل بر، ويشمل كل عمل صالح، فطاعة الله خير والإحسان إلى الناس خير والإخلاص والنية الطيبة خير ، والإحسان إلى الناس خير وبر ذوي القربى خير والقول الجميل خير، ونظافة الجسد خير ، وإماطة الأذى عن الطريق خير،وغراس الأشجار خير، والمحافظة على البيئة من التلوث خير، واحترام الآخر خير، والصدق خير والالتزام بالوعد والعهد خير، وبر الوالدين خير وإغاثة الملهوف خير ،ورعاية الحيوان خير، والرياضة البدنية خير، وكل عمل ينهض بالفرد ويرقى بالمجتمع فهو خير،والدعوة إلي الله تعالي خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرخير ،والعدل خير والسلام العالمي خير، والاستزادة من العلم والحكمة خير، لقول الله سبحانه:{ يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}..... فمجالات العمل الخيري كثيرة ومتعددة ...
العنصر الثالث : أهداف العمل الخيري:
1- إرضاء الله، والحصول علي الأجر والثواب.
2- دعوة الناس إلى الإسلام.
3- فعل الخير بما يضمن للآخرين حق الحياة الكريمة.
4- التنمية ومساعدة الآخرين.
5- نشر قيم التضامن والتسامح والتعاون.
العنصر الرابع :المسارعة في فعل الخير :
إن دعوة الإسلام كانت دائماً إلى فعل الخيرات والمسارعة إليها، حتى تكون رصيداً تسمو بالإنسان، وتصل به إلى أعلى الدرجات... لأن الشمس لا تنتظر أحداً، والزمن يمضي سريعاً، والوقت هو الفرصة الذهبية التي وهبها الله للإنسان، ليعمرها بالخير والصلاح والفلاح.
إن البطء والتثاقل والتروي والـتأني ينبغي أن يكون بعيدًا عن عمل الآخرة؛ لأن عمل الآخرة طريق صحيح، لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، ويحتاج إلى المبادرة قبل الفوات؛ لأن كل يوم يمضي هو من الفوات، وبعد الفوات يكون الندم، والندم لا يغني عن العاقل شيئًا؛ يَقُولُ رَسُولُ الهدى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ". قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ". يعني تاب ورجع.
أخرجه الترمذي.
فالمسارعة والمسابقة والمنافسة لهم بعض السمات الأساسية منها :
1ـ المسارعة والمنافسة والمسابقة مطلب شرعي وأمر إلهي ،ووصية نبوية: قال تعالي (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]
وقال تعالي (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
وقَالَ تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الحديد: 21].
وقال تعالى :(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة148]
وقال تعالى:(وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].
وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، ومن معاني تفسيرها: السابقون في الدنيا إلى فعل الخيرات والمتطوعون في خدمة الإنسان هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات.
قال السَّعْدِي: "فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيا إلى الخيرات فَهُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات، فالسابقون أعلى الْخَلْقِ دَرَجَة".
وقال تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 – 115].
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). رواه الحاكم في المستدرك .
إن المسارعة والمسابقة في السير إلى الله تعالى، لا مجال فيها للروية والتؤدة والأناة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلا فِي عَمَلِ الآخِرَةِ". رواه أبو داود.
وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل".
وقال عمر بن عبد العزيز في حجةٍ حجها عند دفع الناس من عرفةَ: "ليس السابقُ اليومَ من سبقَ به بعيرُه، إنما السابقُ من غُفر له".
2ـ المسارعةُ والمسابقةُ في الخيرِ صفةٌ من صفاتِ المؤمنين الموحدين:
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 57 - 61].
وذكر الله سبب استجابته لدعاء عبده زكريا أنه كان يسارع في الخيرات فقال تعالي : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 89، 90].
وجعل الله لهم ميراث الكتاب فقال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر: 32] ...
3ـ التفاضل في الجنة بحسب السبق والمسارعة :
في الجنةِ تَتَفَاضَلُ الدرجات بَحَسَبِ السَّبْقِ والمسارعةِ: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة: 10 12].
وفي الصحيحين عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".
ومقامات الناس في الآخرة مبنية على مقاماتهم في السير إلى الله تعالى في الدنيا، وإذا كان الناس يتفاوتون في طبقاتهم في الدنيا فإن تفاوتهم سيكون في الآخرة أكبر وأوضح.
قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [الإسراء: 21]، يعني في الدنيا، ثم قال عن الآخرة: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)
4ـ التنافسُ في أعمالِ الخيرِ وصيةٌ نَبَوِيَّة، وسُنَّةٌ مُحمدية :
ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".
وتَأَمَّلْ قَولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم- حَاثَّاً على المُبادَرَةِ، والمُسَارَعة كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ(أي التبكير) لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا".
العنصر الخامس : صور مشرقة للتنافس في فعل الخيرات :
كان الصالحون ممن قبلنا يفقهون عن الله تعالى مراده في كتابه عندما حثَّ على المسارعة في الخيرات، ففهموا أنها مسابقة حقيقية تحتاج إلى تحفز وتشمير، كما يفعل المتسابق في الطريق.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ: "أَلا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ"، قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ". رواه ابن ماجه.
إنه التشميرُ للمسابقةِ الحقيقيةِ والفرارِ إلى اللهِ تعالى، كما قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50، 51].
إنها المسارعة في السير إلى الله تعالى، والتي تكون عاقبتها الرضا من الله تعالى، كما قال سيدنا موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
ولقد سَادَتْ رُوحُ المنافسةِ في الخيراتِ بين المسلمين الأوائل ،وهذه بعض الصور المشرقة :
1ـ لقد كان صلى الله عليه وسلم مثالاً أعلى في المسارعة إلى الخير، فعن أبي سروعة عقبة بن الحارث رضى الله عنه قال: "صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم بالمدينة صلاة العصر، فسلّم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج إليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئًا من تبرٍ (الذهب المكسور) عندنا فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته" [البخاري].
خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تحبسه هذه الأمانة يوم القيامة، فبادر إلى توزيعها، والتصدق بها.
2ـ وهذا أبو الدحداح الأنصاري، لما نزل قول الله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245].
قال للرسول صلى الله عليه وسلم وإنّ الله ليريد منَّا القرض؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال أبو الدحداح: إني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي (أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة) وأم الدحداح فيه وعيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط: يعني: أخرجي من البستان فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية: أن امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج التمر من أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم. تريد بفعلها هذا الأجر كاملاً غير منقوص من الله.
لذلك كانت النتيجة لهذه المسارعة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم "كم من عذقٍ رداح (أي: مثمر وممتلئ) في الجنة لأبي الدحداح" [مسند الإمام أحمد]. 3ـ وأبو طلحة الأنصاري؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه[البخاري ومسلم].
4ـ وهذه صورة مشرقة، ولوحة رائعة يزيّنها مسارعة الصحابة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات. يوم أن عظم الخطب واشتد الأمر علي رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم تبوك الذي سماه الله تعالي يوم العسرة كما قال الله تعالي{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]
لقد فتح الرسول (صلى الله عليه وسلم) باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا.
وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. !! لقد قام فقال: "علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!، فَسُرَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير! ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانيةً (يزايد علي نفسه!)، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!، فسعد به رسول الله صلي الله عليه وسلم سعادة عظيمة.. حتى إنه قال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!".
ولكن، هل سكن عثمان أو اطمأن؟!
انظر إليه.. لقد أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير!! (وفي رواية: تسعمائة بعير، ومائة فرس!!)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقلِّبها متعجبًا!..
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان - سبحان الله - لأنها كل مال أبي بكر الصديق.. حتى إن رسول الله صلي الله عليه وسلم سأله: "وماذا أبقيت لأهلك؟!" قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".
وأتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً..
عبد الرحمن بن عوف أتى بمائتي أوقية من الفضة، وهذا أيضًا كثير!!
بل إن النساء أتت بالحلي.. كان الكل يشارك.. كانت قضية إسلامية تشغل كل فئات الأمة حتى الفقراء الذين لا يملكون إلا قوت يومهم!!جاءوا بالوسق والوسقين من التمر!!، تمر قليل يُجهزون به الجيش الكبير؟!، نعم قليل، لكن هذا كل ما يملكونه، سيطعمون جندياً أياماً.. قد لا يعني هذا في نظر بعض الناس شيئًا.. لكنها تعني بالنسبة لهم الكثير، وتعني أيضا عند الله الكثير والكثير.. حتى إن المنافقين كانوا يسخرون من هذه العطايا البسيطة؛ فأنزل الله دفاعًا عظيمًا في كتابه عن هؤلاء الفقراء المتصدقين.. يقول تعالي: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة التوبة: 79]..
5ـ وهذه صورة مشرقة لأب وابنه : لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الخروج إلى عير قريش، قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد: "إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فآثرني بالخروج، وأقِمْ مع نسائك، فأبى سعد، وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجههي هذا!!، فاستهما (أي اقترعا) فخرج سهمُ سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقتل يومئذ".
6ـ وهذا أبو مسلم الخولاني عندما كان يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه قائلاً: " ﻗﻮﻣﻲ ﻓﻮﺍﻟﻠﻪ ﻷ‌ﺯﺣﻔﻦ ﺑﻚ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺯﺣﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻜﻠﻞ ﻣﻨﻚ ﻻ‌ ﻣﻨﻲ.. ﺃﻳﻈﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻣﺤﻤﺪ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺄﺛﺮﻭﺍ ﺑﻪ ﺩﻭﻧﻨﺎ.. ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻟﻨﺰﺍﺣﻤﻨﻬﻢ ﺇﻟﻴﻪ ﺯﺣﺎﻣﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻤﻮﺍ ﺃﻧﻬﻢ ﺧﻠّﻔﻮﺍ ﻭﺭﺍﺀﻫﻢ ﺭﺟﺎﻻ‌"، فهو يريد المنافسة ويريد أن يزاحم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدار الآخرة، وهنيئًا له بهذه المنافسة الشريفة.
**أثر التنافس في حياتهم :
كان التنافسُ سَبَبٌ لرفعِ الهمةِ، وإثارةِ الْحَمَاسِ، يَكْشِفُ عنْ معادِنِ الناسِ، وعُلُوِّ نُفُوسِهِم، وقُوَّةِ عزائِمِهم كما يُبَيِّنُ مَوَاطِنَ ضَعْفِهِم وقُصُورِهِم، ولا يَسْتَوِي في الناسِ مُبَادِرٌ إلى الخير، ومُتَبَاطِئ، ومُسَابِقٌ في الفَضْلِ، ومُتَثَاقِل؛ قال تعالى:(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10]. والتنافُسُ المحمود يُثرِي الحياة، ويجعلُ المُسلمَ يطمَحُ إلى السمُوِّ بنفسِه والارتِقاء بعلمِه وعملِه للسعيِ إلى الكمال.
واللَّبِيبُ العاقلُ يُسارِعُ ويُبادرُ قَبْلَ العوائِقِ والعَوَارِض، فَنَافِسْ مَا دُمْتَ في فُسْحَةٍ ونَفَسْ، فالصِّحْةُ يَفْجَؤُهَا السَّقَم، والقوةُ يَعْتَرِيهَا الوَهَن، والشبابُ يَعْقِبُهُ الهَرَم.
بَادِرْ بِخَيْرٍ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرَا *** فَلَيْسَ في كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ
العنصر السادس : عوائق المسارعة والمنافسة :
فلابد من التنافس في مبادرة الأعمال الصالحة قبل ظهور العوائق؛ والعوائق كما وردت في الحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟) [أخرجه الترمذي في سننه]
العنصر السابع : التنافس المذموم :
كما أن الصالحين تنافسوا في الخير والفوز به وتسابقوا في الوصول إليه، فإن الطالحين وأهل الهوى والشهوات تنافسوا في المنكرات وتسابقوا في ارتكاب
المحرمات والسقوط في حمأتها، وإليكم بعض صور التنافس المذموم:
1- التنافس على الدنيا :
وهذا ما حَذَّرَ منه الصادقُ المعصومُ صلى الله عليه وسلم وهو التنافسُ على الدُّنيا وزَهْرَتِها على حسابِ الآخرةِ وبَهْجَتِها -كما في الصحيحين أنه قال: "فو الله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
وفي مسلم عن عبد الله بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ".... تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ".
إن التنافس في الدنيا قد أوقع الناس في الشح الذي حملهم على قطع الرحم وعقوق الآباء، والإساءة إلى الجيران، ولم يعد مسلم يعرف لأخيه المسلم حقا بسبب التنافس في الدنيا، ولذلك حذر الإسلام من التنافس في الدنيا لما فيه من المفاسد. ولذلك يقول أحد السلف: "إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".
2- المسارعة بالكفر والإثم والعدوان:
والتنافس في أعمال الإثم سمة أساسية من سمات اليهود ،كما قال تعالى عن اليهود (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[المائدة: 62].
3- التنافس في تضليل المؤمنين والإفساد بينهم:
وهذا تَنَافُسٌ ذَمِيمٌ، وتَسَابُقٌ أَثيمٌ على قَتْلِ العِفَّةِ في بِلادِ المسلمين، ونَشْرِ الرذيلةِ في أوسَاطِ المؤمنين، وتطبيعِ السفورِ والانْحِلال، وفَرْضِ اختلاطِ النساءِ بالرجال، في ميادِين العَمَلِ والتعليم. فنجد كثير من الشباب يتنافس في نشر المخدرات والأفلام الإباحية وسط أقرانه ، والبعض يتنافس في إظهار أحدث أنواع الموضة العالمية ويتفاخر بذلك ، وإن لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
الخاتمة :
عباد الله..في طريقك إلى اللهِ تعالى لن تجدَ لوحاتٍ تطالبُك بتهدئة السرعة، وتحددُ لك السرعةَ القصوى! وتحذِّرك بمراقبة الرادار، بل ستجد مجموعةً من اللوحات في الطريق، مكتوبًا على إحداها: (سَابِقُوا)، وعلى الأخرى (سَارِعُوا)، وعلى الثالثة (اسْتَبِقُوا).
ولذلك يا عبد الله إن استطعت أن تسارعَ وتسابقَ وتبادرَ وتغتنمَ حياتك قبل موتك فافعل، واعلم بأنك ستجدُ أولَ الطريق مزدحمًا، وأما في آخره فلن تجد إلا قِلَّةً مختارةً مصطفاة، فاحرص على أن تكون منهم: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
وقال صلي الله عليه وسلم "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ حَرَّ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ".
والسبيل الأوحد إلي المنافسة :ـ تعظيم أمر النية ،وتعظيم أمر الآخرة وتلك سمة الأنبياء، قال تعالى:(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص:46]. وثمرة ذلك انشغالك بربك وما يرضيه؛ يقول أحد السلف: "من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غدًا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غدًا مشغول بربه".
عباد الله :
بادروا في اغتنام حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها بفعل الخيرات والاكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الانسان وبين العمل كثيرة وغير مأمونة.
يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَادرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعرْض من الدُّنْيَا" [مسلم].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن . اللهم آمين .
انتهت بفضل الله ورحمته
...المزيد

" وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، ...

" وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ". ...المزيد

قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار ...

قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه "

صفحات من التاريخ =========== ﺭﻭﻱ ﻋــﻦ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺒﻜـﻲ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ ﻓﺘﺢ ...

صفحات من التاريخ
===========
ﺭﻭﻱ ﻋــﻦ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺒﻜـﻲ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ ﻓﺘﺢ ﺗُﺴْﺘَﺮْ !!
ﺗُﺴْﺘَﺮْ : ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﺎﺭﺳﻴﺔ ﺣﺼﻴﻨﺔ ﺣﺎﺻﺮﻫﺎ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥَ ﺳﻨﺔ ﻭﻧﺼﻒ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ، ﺛﻢ ﺳﻘﻄﺖ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻱ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ، ﻭﺗﺤﻘﻖ ﻟﻬﻢ ﻓﺘﺤﺎً ﻣﺒﻴﻨﺎً ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺃﺻﻌﺐ ﺍﻟﻔﺘﻮﺡ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﺎﺿﻬﺎ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ ..
ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥَ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﺍﻟﻤﺸﺮﻗﺔ
ﻓﻠﻤـﺎﺫﺍ ﻳﺒــﻜﻲ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﺬﻛﺮ ﻣﻮﻗﻌﺔ ﺗﺴﺘﺮ؟!
ﻟﻘﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺏ ﺣﺼﻦ ﺗﺴﺘﺮ ﻗﺒﻴﻞ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﺑﻘﻠﻴﻞ ﻭﺍﻧﻬﻤﺮﺕ ﺍﻟﺠﻴﻮﺵ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺤﺼﻦ، ﻭﺩﺍﺭ ﻟﻘﺎﺀ ﺭﻫﻴﺐ ﺑﻴﻦ ﺛﻼﺛﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﻣﺴﻠﻢ ﻭﻣﺎﺋﺔ ﻭﺧﻤﺴﻴﻦ
ﺃﻟﻒ ﻓﺎﺭﺱ، ﻭﻛﺎﻥ ﻗﺘﺎﻻً ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻀﺮﺍﻭﺓ ، ﻭ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ ﻟﺤﻈﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺘﺎﻝ ﺗﺤﻤﻞ ﺍﻟﻤﻮﺕ، ﻭ ﺗﺤﻤﻞ ﺍﻟﺨﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﻤﺴﻠﻢ .
ﻣﻮﻗﻒ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﻭﺃﺯﻣﺔ ﻣﻦ ﺃﺧﻄﺮ ﺍﻷﺯﻣﺎﺕ !
ﻭﻟﻜﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﻛﺘﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻨﺼﺮ ﻟﻠﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻭﺍﻧﺘﺼﺮﻭﺍ ﻋﻠﻰ ﻋﺪﻭﻫﻢ ﺍﻧﺘﺼﺎﺭﺍً ﺑﺎﻫﺮﺍً، ﻭﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻧﺘﺼﺎﺭ ﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻣﻦ ﺷﺮﻭﻕ ﺍﻟﺸﻤﺲ !
ﻭﺍﻛﺘﺸﻒ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ ﺃﻥ ﺻــﻼﺓ ﺍﻟﺼّﺒـح ﻗـــﺪ ﺿﺎﻋـــﺖ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ !
ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ ﻓﻲ ﺩﺍﺧﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﻄﺎﺣﻨﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻮﻑ ﻋﻠﻰ ﺭﻗﺎﺑﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﺼﻠّـــﻮﺍ ﺻـــﻼﺓ ﺍﻟﺼّﺒـــﺢ ﻓــﻲ ﻭﻗﺘـــﻬﺎ !
وﻳﺒﻜـــــﻲ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻟﻀﻴﺎﻉ ﺻﻼﺓ ﺍﻟﺼﺒﺢ ﻣﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ !
ﻳﺒﻜـــﻲ ﻭ ﻫﻮ ﻣﻌﺬﻭﺭ ، ﻭﺟﻴﺶ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻣﻌﺬﻭﺭ، ﻭﺟﻴﺶ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻣﺸﻐﻮﻝ ، ﺑﺬﺭﻭﺓ ﺳﻨﺎﻡ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻣﺸﻐﻮﻝ ﺑﺎﻟﺠﻬﺎﺩ ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﺿﺎﻉ ﺷﻲﺀ ﻋﻈﻴﻢ !
ﻳﻘﻮﻝ ﺃﻧﺲ : ﻭ ﻣﺎ ﺗُﺴْﺘَﺮْ ؟ !
ﻟﻘﺪ ﺿﺎﻋﺖ ﻣﻨﻲ ﺻﻼﺓ ﺍﻟﺼﺒﺢ ، ﻣﺎ ﻭﺩﺩﺕ ﺃﻥ ﻟﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺟﻤﻴﻌﺎً ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻼﺓ !
ﻫﻨـﺎ ﻧﻔﻬﻢ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﺘﺼﺮ ﻫﺆﻻﺀ !
ﻣﺎ ﻫﻮ ﻗﺪﺭ ﺻﻼﺓ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗهم ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺿﺤـﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ ﻓﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ..
*ﻫﻞ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻧﺤﻦ ﺃﻥ ﻧﻀﺤّﻲ ﺑﻨﻮﻣﺔ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ .
اللهم أحيي قلوبنا الميتة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
📚ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻻﺑﻦ ﻛﺜﻴﺮ - ﺭﺣﻤﻪ الله تعالى📚
...المزيد

الشباب أمل الأمة وسر نهضتها إعداد الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين ... جعل القوة في ...

الشباب أمل الأمة وسر نهضتها
إعداد
الشيخ السيد طه أحمد

الحمد لله رب العالمين ... جعل القوة في الشباب فقال تعالي }اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54){ ]الروم[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. مدح الشباب في القرآن الكريم فقال تعالي }إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13){ ]الكهف[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم حث على اغتنام فترة الشباب , ؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرِهِ ، فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وعَنْ شَبَابِهِ ، فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ ، مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ { .] سنن الدارمي[
فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن والاه إلي يوم الدين ..
أما بعـد : فيا أيها المؤمنون ....
إن الحديث مع الشباب وعن الشباب وإلى الشباب حبيب إلى النفس ، قريب إلى القلب ، إن الشباب في كلِّ زمان ومكان ،وفي جميع أدوار التاريخ إلى زماننا هذا عماد أُمة الإسلام وسِرُّ نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملُ لوائها ورايتها، وقائدُ مَسيرتها إلى المجد والنصر.
إن الإسلام لَم ترتفع في الإنسانية رايتُه، ولَم يمتدَّ على الأرض سُلطانه، ولَم تَنتشر في العالمين دعوته إلاَّ على يد هذه الطائفة المؤمنة التي تَربَّت في مدرسة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وتخرَّجت في جامعته الشاملة، والحديث عن الشباب يتناول عدة عناصر وهي ....
1ـ حديث القرآن الكريم عن الشباب .
2ـ تعامل النبي صلي الله عليه وسلم مع الشباب .
3ـ دور الشباب في بناء الأمة.
4ـ نماذج مشرقة من شباب الإسلام في بناء الأمة.
5ـ نصائح عملية للشباب .
العنصر الأول : حديث القرآن الكريم عن الشباب
تُعتبر أيام الشباب من أعز الأيام التي تبقى عالقة بذاكرة الإنسان، مهما عاش، لأنه كان فيها طليق الحرية..
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالما إلا شابا، ثم تلا هذه الآية}قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ (60){ ] الأنبياء.[
وقد أخبر الله تعالى به ثم أتى يحيى بن زكريا الحكمة قال تعالى } وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا (12){ ]مريم. [
وقال تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)وقال جل شأنه }إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13){ ]الكهف[
وقال جل من قائل: }وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ (60){ ] الكهف [.
ولقد ضرب القرآن الكريم المثل بالشباب ..
المثال الأول:
المثال الأول هو سيدنا النبي إبراهيم عليه السلام ، فإنه كان يتطلّع إلى الآفاق الواسعة ، ويفتش عن الحقائق الناصعة ، ويملك الشجاعة العالية ، فيتأمل ويفكر في ملكوت السموات والأرض ، حتى دله الله تعالى على الحقيقة ، فآمن بالله وتبرأ من الأصنام ومن كل المشركيـن، فقال الله تعالى في كتابه الكريم }وَكَذلكَ نُري إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَمَاوَاتِ وَالأرضَ وَلِيَكونَ مِنَ المُوقِنِيـنَ (78){]الأنعام[ .
وبهذا يصبح سيدنا إبراهيم عليه السلام القدوة لكل الفتيان والشباب الموحدين الشجعان الرافضين للوثنية والشرك والانحراف والضلال .
المثال الثاني :
والمثال الثاني الذي يضربه القرآن الكريم للفتيان والشباب هو النبي يوسف عليه السلام ، وهو الذي آتاه الله العلم والحكمة عندما بلغ أشده ، وأصبح الفتـى ، القوي ، الصابر ، الصامد أمام عواصف الشهوة ، والإغراء بالجنس ، والاغراء بالمال والجاه ، وأمام ضغوط الاضطهاد ، والقمع ، والمطاردة ، والتهديد بالسجن ، والنفي ، والفتى الثائر ، المكسر لكل القيود ، وأغلال العبودية ، وأغلال الشهوات ، وكذلك أغلال المجتمع الفاسد . قال تعالى} : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ(22 ) وَرَاوَدَتهُ التي هُوَ فِي بَيتِهَا عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوَابَ وَقَالَت هَيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحَسنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظالِمُونَ
(23){ ]يوسف[.
لماذا لم يستجب يوسف لهوى المرأة؟؟ وكان يمكن أن يستجيب وربما عذره الكثيرون، قالوا إنه شاب والشباب شعلة من الجنون، وهو عبد والعبد يفعل ما يستحي منه الأحرار، وهو عزب ليس له زوجة تعفه، وهو غريب عن وطنه، والغريب يفعل ما لا يفعل الإنسان في بلده، وهو .. وهو ..، هناك أكثر من سبب كان يجعل يوسف يستجيب للمرأة ولكنه أبى كما ظهر ذلك. إنه نموذج للشاب الطاهر العفيف .
المثال الثالث :
والمثال الثالث هو سيدنا موسى عليه السلام الذي عاش في أحضان البيت الفرعوني والفرعونية ، وتربى في محيط الطاغوت والجبروت والتـرف ،والجاه والدلال ، فإن فرعون كان قد اتَّخَذَهُ ولداً له .
ولكنه عليه السلام بقي متمسكاً بجذوره الرسالية، ومرتبطاً بأصله الإلهي الرباني ، يتجنب معونة الظالمين ، وينتصر للمظلومين ويدافع عنهم ، ويَمُدُّ يَدَ العَونِ والمساعدة للضعفاء والمحتاجين ، وكان يتحمل الآلام والمعاناة والمطاردة والهجرة من أجل ذلك ، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة .
قال الله عزّ وجل: }وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاستَوَى آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ(14){ ]القصص[ .
المثال الرابع :
والمثال الرابع هم أهل الكهف ، فقال الله تعالى فيهم : }إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَاهُم هُدىً(13) وَرَبَطنَا عَلَى قُلُوبِهِم إِذ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَن نَدعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَد قُلنَا إِذاً شَطَطاً (14){ ]الكهف[ .
إن هذه الصور والأمثلة الواقعية الجميلة والمعبِّرة عن الأبعاد المختلفة تنطلق من مفهوم صحيح للفتوة ، والشباب ، والقوة ، وهو التوحيد في العبودية ، ورفض العبوديات الأخرى ، والسيطرة على الشهوات والرغبات ، ونصرة المظلومين والدفاع عنهم ، ومساعدة الضعفاء والمحتاجين ، والتمرد على الواقع الفاسد ورفضه بشجاعة وتضحية .
وفي المقابل نجد القرآن الكريم يضرب أمثلة أخرى للشباب المنحرف والتائه والمغرور والضال والجاهل ، وأورد ذلك في قصة سيدنا ابن نوح عليه السلام حيث قال تعالى} وَنَادَى نُوحٌ ابنَهُ وَكَانَ فِي مَعزِلٍ يَا بُنَيَّ اركَب مَعَنَا وَلا تَكُن مَعَ الكَافِرِين (42) قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ اليَومَ مِن أَمرِ اللهِ إِلا مَن رَحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ(43) { ]هود[ .
ومثال آخر يتحدث عنه القرآن الكريم، يُعَبر عن حالة الانحراف في الشباب حيث العقوق للوالدين والتمرد على الله تعالى والتوغل في الجهل والغي ، فقال تعالى : }وَالذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخرَجَ وَقَد خَلَت القُرُونُ مِن قَبلِي وَهُمَا يَستَغِيثَانِ اللهَ وَيلَكَ آمِن إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17) ]الأحقاف[.
العنصر الثاني: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الشباب
لقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الثقة ومنحهم المسئولية خلافاً لما يعيشه كثيرٌ من الناس اليوم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد منح زيد بن حارثة وهو شاب وجعفر بن أبي طالب وهو شاب وعبد الله بن رواحة وهو شاب منحهم الثقة، وسلمهم قيادة جيش مؤتة وما أدراك ما مؤتة ! أول معركة بين المسلمين والرومان!
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه رجال من كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وقد كان عمر أسامة آنذاك ثماني عشرة سنة ، ويرسل معاذاً إلى بلاد بعيدة وفي مهمة عظيمة ومسئولية جسيمة يرسل معاذاً إلى اليمن ومعاذ لا يزال بعد في ريعان شبابه ويرسله على قومٍ ليسوا على مذهبه وملته وديانته ويقول له: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:} إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب{ ]صحيح البخاري[
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول فيما رواه الإمام أحمد في مسنده:} كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب ليس لنا نساء) يعني: لم نتزوج بعد، لا نزال فتية، لا نزال في بداية الشباب وفي مستهل حياة الشباب).
لذا أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالشباب فقال صلي الله عليه وسلم } اغتنم خمسا قبل خمس: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك{. ]أخرجه الحاكم في المستدرك[. .
وقال صلي الله عليه وسلم} إن الله ليعجب من الشاب الذي ليست به صبوة]{. أخرجه أحمد [
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلي الله عليه وسلم }من يدخل الجنة ينعم، لا ييأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه{ ]مسلم[
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم}يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرح، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء{ متفق عليه.
العنصر الثالث: دور الشباب في بناء الأمة
لقد كان للشباب المسلم الدور الأعظم في بناء الأمم والشعوب فعلي أكتافهم قامت الحضارات ، وكان لهم أثر كبير في نهضة الأمة الإسلامية على مر العصور واختلاف المجالات، فحُق لهم أن يكونوا نماذج حسنة وقدوة صالحة لشباب الأمة في كل العصور.
1ـ الشباب هم أسبق الأمم إلي قبول الدعوات الإصلاحية :
الشباب قديما وحديثا هم من واجهوا الباطل وكانوا أسرع إلي قبول الحق لأنهم أرق قلوبا وأهدأ نفسا وليس لهم أطماع في الحياة كحال الكبراء والسادة كلما جاءهم رسول كذبوه قال تعالي في شأن المترفون }وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24){ الزخرف .
أما الشباب هم من تصدوا للباطل بإيمان، وثبات كما حدث من سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه ، وكما حدث من أصحاب الكهف مع الملك الظالم.
2ـ أنهم عنوان تقدم الأمة ودعامة نهضتها:
الشباب أغلي ما تمتلك الأمة ، الأمة تمتلك كثير من المقدرات .. مقدرات اقتصادية ، ومقدرات عسكرية ، ومقدرات جغرافية ، ومقدرات إنسانية، وأغلي ما تمتلك الأمة المقدرات الإنسانية وأغلي المقدرات الإنسانية هم الشباب .
و إذا أردت أن تعرف مستقبل أي أمة فلا تسل عن ذهبها ورصيدها المالي، ولكن انظر إلي شبابها واهتماماته ، فإذا رأيته شباباً متديناً فاعلم أنها أمة جليلة الشأن قوية البناء ، وإذا رأيته شباباً هابط الخلق ، منشغلاً بسفاسف الأمور ،
يتساقط على الرذائل فاعلم أنها أمة ضعيفة مفككة ، سرعان ما تنهار أمام عدوها ، فالشباب عنوان الأمة.
كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أُمَّةٍ عِمَادُ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سِرُّ قُوَّتها، وفي كل فكرة حَامِلُ رَايتها : }إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (13){ ]الكهف[
هم الذين حمَلوا راية الدعوة إلى الله، ورَفَعوا لواءَ الجهاد المقدَّس، فحقَّق الله على أيديهم النصر الأكبر ودولة الإسلام الفتيَّة.
لو تصفحنا السيرة النبوية لوجدنا كل من واجهوا جبابرة مكة ، وكسري وقيصر هم الشباب ، السابقون السابقون هم الشباب ، على سبيل المثال لا الحصر..
ـ الزبير ابن العوام رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة كم عمره خمسة عشر عاما.
ـ وطلحة ابن عبيد الله من العشرة المبشرين بالجنة كم عمره ستة عشر عاما ،
ـ سعد ابن أبي وقاص سبعة عشر عاما .
ـ الأرقم ابن أبي الأرقم ستة عشر وهو بني مخزوم يجعل بيته مقراً لرسول الله صلي الله عليه وسلم يعلم فيه المسلمين ويربيهم علي الإسلام لمدة ثلاثة عشر عاماً، رغم أن بني مخزوم كانت تنازع بني هاشم الشرف .
نلاحظ أن الدعامة الأساسية لدين الإسلام علي وجه الأرض هم الشباب. أعمارهم تتراوح من ستة عشر عاماً إلى ثلاثين عاماً.
نعم الواحد منهم صغير السن ولكنه كبير في العقل والهدف وكل شيء.
العنصر الرابع : نماذج مشرقة من شباب الإسلام في بناء الأمة

وإليكم بعض القدوات الشبابية التي قدمت للأمة البطولات الرائعة ..
أحبتنا في الله! نخاطب الشباب لأنهم المعنيون، فعليهم تنعقد الآمال، وبهم نصعد إلى قمم الجبال.
الشباب في ميدان العلم والدعوة
1ـ الإمام الشافعي :
طفل أحب العلم والعلماء، كم بحثت أمه له عن علماء يجلس تحت أرجلهم، فيتربى بتربيتهم، وينهل من معينهم! فشاء الله وقدر أن يتحقق حلم الأم الحنون، فانتهى الأمر بكونه من أعظم فقهاء المسلمين في التاريخ، وإلى أن تقوم الساعة. إنه الإمام الشافعي رحمه الله فقد كان يكتب على الألواح، ويتنقل بين العلماء
بهمة عالية بحثًا عن العلم، وقد حباه الله بإمكانيات هائلة، حتى إنه حفظ الموطأ وهو في العاشرة من عمره، وليس ذلك فحسب بل إنه جلس على كرسي الفتيا وهو في الثانية عشرة من عمره، فانتشر مذهبه وذاع صيته في العالم الإسلامي أجمع، فهو أول من أصَّل علم أصول الفقه.
2ـ الإمام البخاري :
صبي فَقَد بصره في الخامسة من عمره، فظلت أمه تدعو الله أن يرد إليه بصره، ليس ليكون كبقية الصبيان والأطفال، وإنما ليكون عالمًا متعلمًا، فشاء الله وقدر، واستجاب لدعوات أمه، فصار شيخًا للمحدثين في تاريخ الإسلام العظيم، وهو جبل الحفظ ، وإمام وقته ، أمير أهل الحديث الذي لم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث، وفاق تلامذته وشيوخه على السواء، هو الإمام البخاري، صاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم، والذي صنفه في ست عشرة سنة، وجعله حجة فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يكاد يستغني أحد عنه ، لقد كان رحمه الله يحفظ أكثر من مائة ألف حديث، دوّن منها في صحيحه سبعة آلاف فقط، وكان ذا منهج متميز في تخيُّر أحاديثه وقبولها. في أواخر القرن الثاني الهجري في مشرق العالم في نيسابور ، جلس محمد بن إسماعيل البخاري وعمره سبعة عشر عاماً بين يدي أستاذه إسحاق بن راهويه حاول الأستاذ أن يحدث تلامذته عن احتياجات الأمة فقال "والله لو أن واحدا منكم يجمع صحيح السنة في كتاب لانتفع به الناس أيما انتفاع . يقول البخاري فوقعت في نفس هذه المهمة وأقسمت أن أكون هذا الرجل فقعدت في بيتي ونمت ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو جالس على منبره الشريف ويأتيه بعض الذباب فأذهب وأهش الذباب عنه فأقمت من نومي وحكيت الرؤيا لأستاذي فأولها أنى أذب كذب الحديث عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،فبدأت أجمع حديث النبي صلي الله عليه وسلم في كتاب (والبخاري ما كتب حديثا إلا اغتسل وصلى ركعتين. وكانت له تجارة ينفق من ريعها في هذه المهمة من ماله)
3ـ زيد ابن ثابت :
نموذج غاية في الروعة والجمال إنه زيد ابن ثابت ابن الضحاك الأنصاري من بني النجار يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما ، سمع أن جيش المسلمين خارج إلي بدر تحركت في قلبه مشاعر نصرة الإسلام فحمل سيفه وكان أطول منه ، وبعد ذلك خرج لينضم إلي جيش المسلمين وهو ليس بمكلف بعد لكن الرسول الرحيم بأمنه رفض زيد وقال لا زلت صغيرا يا بني. عاد الطفل حزينا إلي بيته يبكي !! لماذا البكاء ؟ لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم منعه من الجهاد ، لكن الأم
المربية العاقلة قالت لا تحزن تستطيع أن تخدم الإسلام بصورة أخري .كانت خدمة الإسلام هي هدفه وطموحه ، قالت له أنت تحسن الكتابة وتحفظ كثيرا من سور القرآن ، تستطيع أن تخدم الإسلام في هذا المجال ، فذهبت به إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأوصاه أن يتعلم اللغة السريانية .
يقول زيد عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله : "أتحسن السريانية ؟" قلت: لا. قال: "فتعلمها فإنه تأتينا كتب". قال فتعلمتها في سبعة عشر يومًا.
قال الأعمش: كانت تأتيه كتب لا يشتهى أن يطلع عليها إلا من يثق به، من هنا أطلق عليه لقب ترجمان الرسول .
ترجمان الرسول صلي الله عليه وسلم كم عمره ثلاثة عشر عاماً !!
وبعد ذلك يُكلف بجمع القرآن في عهد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول شُغِل المسلمون بحروب الردة، وفي معركة اليمامة كان عدد الشهداء من حفظة القرآن كبير، فما أن هدأت نار الفتنة حتى فزع عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبو بكر الصديق راغبًا في أن يجمع القرآن قبل أن يدرك الموت والشهادة بقية القراء والحفاظ...واستخار الخليفة ربه، وشاور صحبه ثم دعا زيد بن ثابت وقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك ، وأمره أن يبدأ بجمع القرآن مستعينا بذوي الخبرة ، ونهض زيد بالمهمة وأبلى بلاء عظيماً فيه، يُقَابِل ويعارض ويتحرى حتى جمع القرآن مرتبا منسقا.
وقال زيد في عظم المسئولية: والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن، كما قال: فكنتُ أتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال.
وأنجز المهمة على أكمل وجه وجمع القرآن في أكثر من مصحف، وجمعه مرة أخري في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنهم جميعا.
4ـ الإمام ابن تيمة :
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، هذا الشيخ كان صغيراً، وكان يحمل ألواحاً كبيرة، تخيل كيف كان يمشي مسافات بعيدة على رجليه! ما عنده دفاتر ولا ألواح خشب يحملها من أجل أن يكتب عليها الدرس، في يوم من الأيام رآه شيخ سمع أن هذا الولد نابغة (تقول له الجملة مباشرة يحفظها)،
جاء إليه هذا الشيخ فقال له: أنت ابن تيمية ؟ قال: نعم. أنا ابن تيمية وكان صبياً صغيراً، قال: أعطني اللوح؟ قال: تفضل، فكتب عليه ثلاثة عشر حديثاً، فقال له: اقرأ، فقرأ عليه، يقول: فأخذت اللوح منه، فقلت: أسمعه عليّ، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً كلها قراءة واحدة.
الشباب في ميدان الإمامة
عمرو ابن سلمة :
عن عمرو بن سلمه رضي الله عنه كما في صحيح البخاري كان عمره ست سنين أو سبع سنين " لما كان عام الفتح سارعت القبائل بإعلان إسلامها بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم فذهب أبوه "من قبيلة جرم " إلي النبي صلي الله عليه وسلم ليعلنوا إسلامهم فأمرهم بالصلاة والزكاة وغيرهما فرجع أبوه من عند النبي صلي الله عليه وسلم واستقبله القوم وفيهم عمرو بن سلمه، فقال أبوه "جئتكم من عند النبي صلي الله عليه وسلم وأمرنا أن نصلى صلاة كذا في وقت كذا وصلاة كذا في وقت كذا فسألناه من يؤمنا فقال أقرؤكم للقرآن فنظروا فلم يجدوا أحدا أكثر حفظا منى لما كنت أتلقى الركبان ( وقبيلة جرم كانت استراحة القبائل التي تقصد النبي صلي الله عليه وسلم تمر عليهم وتعود عليهم ليتزودوا ,كان يسألهم عمرو بن سلمه ماذا نزل على النبي من القرآن فيحفظ منهم ). فقدموني للإمامة وعمري ست أو سبع سنوات وكانت على بردة قصيرة إذا سجدت تقلصت عنى فظهرت عورتي ، فنادت امرأة من خلف الصفوف داروا عنى إست إمامكم .
فاشتروا لي ثوبا عمانيا فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحى بهذا الثوب " ظل إماما للقبيلة أكثر من خمسين سنة.
الشباب في ميدان الجهاد
1ـ صقرين يقتلان فرعون هذه الأمة :
غلامين صغيرين كان لهما في معركة بدر موقف لا ينتهي منه العجب، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما، ونترك الحديث عن هذا الموقف العجيب للصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما في صحيح البخاري قال : بينما أنا في الصف يوم بدر إذ نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت لو أن غيرهما كان بجواري ليحميني فغمزني أحدهما فقال يا عم أتعرف أبا جهل قلت نعم وما حاجتك إليه قال سمعت أنه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لأن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ثم غمزني الآخر، فقال لي مثل مقالة صاحبه ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت هذا صاحبكما فانقضا عليه كالصقرين فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم
انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبراه فقال أيكما قتله قال كل منهما أنا قتلته قال هل مسحتم سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال صلى الله عليه وسلم كلاكما قتله .]البخاري ومسلم[
سبحان الله فرعون هذه الأمة وطاغية زمانه يكون مصرعه على يدي غلامين شابين من شباب الصحابة الكرام !! لماذا؟ حتى تكون الصورة واضحة جلية يتبين من خلالها إلى أي حد وصل مستوى أولئك الشباب الأفذاذ.
2ـ عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه :
أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، أسلم قديماً ، ويقول عنه سعد رضي الله عنه : رأيت أخي عميراً ، قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، يتوارى فقلت : مالك يا أخي ؟
قال : إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني ، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة .
قال سعد : فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فرده ، فبكى فأجازه ، فكان سعد يقول : كنت أعقد حمائل سيفه من صغره ، أي أن قامته قصيرة لذلك يعقد حمائل السيف كي لا يلامس الأرض عندما يمشي عمير رضي الله عنه. وعندما نشبت معركة بدر الكبرى ، استشهد عمير رضي الله عنه ، قتله أحد فرسان قريش وصناديدها ، وهو عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله علي رضي الله عنه يوم الخندق .
وعندما يُسْتَشْهد عمير على يد فارس من قريش يعني ذلك أن عُميراً رضي الله عنه كان في مقدمة الصف يصول ويجول ، حتى اهتم به ذلك الفارس الصنديد فعرج عليه فقتله.
الشباب في ميدان القيادة
1ـ قاهر التتار:
ذلك الطفل الصغير الذي تربى تربية أبناء الأمراء، ولكن ما لبث إلا أن خطفه الأعداء وبِيع بَيع العبيد، يتناقله تجار الرقيق من بلدة إلى أخرى، حتى انتهى به المُقام إلى العيش وسط العبيد، يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون، ولكن الطفل كان ذا طموح جارف، وثقة بربه، وهدف جليل؛ مما قاده ليكون من أعظم القادة في التاريخ الإسلامي ،إنه سيف الدين قطز توفاه الله وهو دون الأربعين، ولكنه استطاع بهمته وتقواه أن يحقق ما عجز عنه الكثيرون، حتى قال عنه العز بن عبد السلام: لو قلت ليس هناك من هو أفضل من قطز من زمان عمر بن عبد العزيز لكنت صادقًا.
إنه سيف الدين قطز الذي قال قولته الشهيرة: (من للإسلام إن لم نكن نحن).
2ـ أصغر فاتح في الإسلام:
هو محمد بن القاسم الثقفي مؤسس أول دولة إسلامية في الهند؛ ولذلك يبقى اسمه شامخًا في سجل الفاتحين الأبطال، أودع الله بين جنبيه نفسًا بعيدة المطامح لخدمة الإسلام، والمسلمين .
بدت عليه أمارات النجابة والشجاعة وحُسن التدبير في الحرب منذ نعومة أظفاره؛ مما جعل الحجاج بن يوسف الثقفي يعينه أميرًا على ثغر السند وهو لم يتجاوز سبعة عشر عامًا، وكان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قُورِن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء، وقد سحر الهنود بعدالته وسماحته، فتعلقوا به تعلقًا شديدًا، وكان يتصف بالتواضع الرفيع، فكان في جيشه من يَكْبُر أباه سنًّا وقدرًا، فلم تجنح نفسه معهم إلى الزهو والمباهاة، ولكنه لم يكن يقطع أمرًا إلا بمشورتهم، بَنَى المساجد في كل مكان يغزوه، وعمل على نشر الثقافة الإسلامية مبسطة ميسرة.
اتجه نحو بلاد السند، فبدأ بفتح مدينة بعد مدينة لمدة سنتين، ثم زحف إلى الديبل، فخندق الجيش بخيوله وأعلامه واستعد لمقاتلة الجيش السندي بقيادة الملك "الراجة داهر" حاكم الإقليم، في معركة مصيرية سنة 92هـ، وكان النصر للحق على الباطل، فقد انتصر المسلمون، وقُتل ملك السند في الميدان، وسقطت العاصمة السندية في أيدي المسلمين، واستمر محمد بن القاسم الثقفي في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند ليطهرها من الوثنية المشركة، فنجح في بسط سلطانه على إقليم السند، وفتح مدينة الديبل في باكستان، وامتدت فتوحاته إلى مُلتان (مُلتان هي مدينة باكستانية تقع في الجزء الجنوبي من محافظة البنجاب، وهي عاصمة منطقة مُلتان).
وانتهت فتوحاته سنة 96هـ عند الملقان، وهي أقصى ما وصل إليه محمد بن القاسم من ناحية الشمال، فرفرف عليها علم الإسلام وخرجت من الظلمات إلى النور، وبذلك قامت أول دولة إسلامية في بلاد السند والبنجاب (باكستان حاليًّا(.
قال حمزة الحنفي فيه:
إن المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسـم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجّة يا قرب ذلك سؤددًا من مولدِ
3ـ عبدالرحمن الناصر : أقوي ملوك أوربا

سيرته مليئة بالمواقف الرائعة ، استلم دولة ضعيفة مترهلة مشتتة تموج بالثورات والفتن يطمع فيها أهل الأرض جميعا ،وليس فيها أمل فيما يبدو للناس أن تقوم من جديد فإذا به بِصَبْرٍ عجيب وثباتٍ وعزيمةٍ وجهدٍ وإخلاصٍ يُعِيد ترتيب الأوراق من جديد في بلاد الأندلس ، يُعيد للعلماء هيبتهم ويُعيد للجيش الإسلامي رهبته ، يوحد الصفوف ، يُطهر البلاد من المشركين والمنافقين، يبني حضارةً عظيمةً جداً في بلاد الأندلس تتفوق في كل المجالات ، حتي أصبحت الأندلس في زمانه أقوي دولة بلا منازع علي وجه الأرض ، وجاء زعماء أوربا جميعا يطلبون وُدَّهُ وليفوزوا برضاه .
عبدالرحمن الناصر أقوي ملوك أوربا في القرون الوسطي ، استلم الحكم عمره 22 سنة فقط .
هذه رسالة عظيمة تؤكد أن الشباب عندهم مؤهلات وطاقات وإمكانات وقدرات عالية , وكأن التاريخ يقول لنا لا تستهينوا بقدرات الشباب ، فالشباب أمل الأمة ، الشباب أساس النهضة لهذه الأمة ، ولنعلم جميعا أن المقومات الحقيقية للشاب الناجح تكمن أساساً في دينه ، في عقله ، في علمه ، وتدريبه ، ولم تكن أبدا في عِرْقٍ أو نسب أ ومال أو عنصر أو جمال صورة .
هذا هو شباب الإسلام .
شبابنا هيا إلى المعـالي هيا اصعدوا شوامخ الجبال
هيا اهتفوا يا معشر الرجال قولوا لكل الناس لا نبالي
أحبتنا في الله!
واقع شبابنا اليوم إذا قارناه بالصدر الأول والسلف الصالح وجدنا ما نخجل لذكره وما نطأطىء الرءوس خجلاً مما نراه، بل لا نستطيع أن نقارن بين أولئك وهؤلاء:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهـم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

بل ربما من العبث أن نقول: إن الرعيل الأول والجيل المتقدم كانوا أفضل من هؤلاء: ألم تر إن السيف ينقص قـدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا .
العنصر الخامس : نصائح للشباب
لا بد أن يعلم الشباب أن الإسلام فيه الخير والعطاء والبناء لهم ، وهم بغير الإسلام تعاسة وبلاء ولا قيمة لهم، فالشباب طاقة يسخرها الله في إصلاح البشرية ، فإليك أخي الشاب هذه النصائح التي يمليها عليك دينك حتي تستطيع أن تقوم بدورك المنوط بك. .
1ـ على الشاب أن يعرف دينه ، ويمتثله في سلوكه وعمله ، ويكون على قناعة تامة به ، ولا يلتفت لأقوال الحاقدين والمشككين ، وليعلم أن دينه أفضل دين ، وأن كل ما سواه فهو زور وباطل ، وعليه أن يُسَخِّر ما أودعه الله من قوة ونشاط في خدمة هذا الدين .
وليكن هذا شعارك دائما ( دينك دينك لحمك دمك)
2ـ على الشاب أن يعلم أن أمته هي خير أمة ، وأن هذه الخيرية ثابتة لها ما دامت متمسكة بدينها ، ويعلم أن أمته بقيت دهراً طويلاً رائدةً للعالم ، وأنه يجب أن تبقى لها هذه الريادة ، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بتعاليم الإسلام. 3- على الشاب أن تكون همته بعد إصلاح نفسه إصلاح الآخرين ، وتعبيد الناس لرب العالمين ، وليحذر أن يكون داعية سوء ، يكون عليه وزر نفسه ، ومن أوزار الآخرين.
4ـ على الشاب أن يكون دائمِ الارتباط بالله تعالى ، من خلال أداء الصلاة في وقتها ، وكثرة الذكر والدعاء ، والاستعانة به في جميع الأمور ، والتوكل عليه ، والمحافظة على الأوراد المشروعة كأذكار الصباح والمساء ، والدخول والخروج ، والركوب ، ونزول المكان ، وغير ذلك .
5ـ على الشاب أن يعلم أن قدوته الحقيقة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليحذر من التقليد الأعمى الذي يُفْقِدُه شخصيته وتَمَيُّزه .
6ـ على الشاب أن يحافظ على رجولته ، ويتجنب كل ما من شأنه أن يُضْعِفْهَا من ميوعة وتكسر ، وتشبه بالنساء ، وغير ذلك .
7ـ على الشاب أن يصبر على مشقة فعل الطاعة ، وترك المعصية ، حتى تستقيم نفسه على ذلك وتَسْتَلِذ به ، وكُنْ من أهل الخير حتى يُصْبح الخيرُ عادة لك فلا تريد بأعمالك إلا وجه الله، وابتعد عن الشر فلا تدخله إلى قلبك ولا تشرح له صدرك لأنه لا يكون إلا بلجاجة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وقد قال صلى الله عليه وسلم } الخيرُ عادةٌ والشَّرُّ لَجاجةٌ ومن يردِ اللَّهُ بهِ خيرًا يفقِّههُ في الدِّينِ]{ أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وابن حبان [.
8ـ على الشاب إذا أراد أن يُرَوِّح عن نفسه أن يلتزم بالحلال ، ويتجنب الحرام ، فإن في الحلال غنية عن غيره ، وإن عاقبة الحرام وخيمة ، وليكن من دعائه }اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، واغنني بفضلك عمن سواك {. ]رواه الترمذي قال حديث حسن[.
9ـ على الشباب أن يكونوا على حذرٍ من الأفكار الهدامة حتى ولو كان ظاهرها الصلاح والإصلاح ،فلا يقبلوا فكرة إلا بعد عرضها على المتخصصين من أهل العلم الثقات حتى لا يقعوا فريسة في أيدي دعاة الباطل.
وأخيرا ... أيها الشباب عليكم أن تعلموا أن أهمية مرحلة الشباب تكمن في السؤال عنها مرتين يوم القيامة؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرِهِ ، فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وعَنْ شَبَابِهِ ، فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ ، مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ { .] سنن الدارمي[
فليعمل الشباب وليجتهدوا، وليشحذوا هممهم؛ فنهضة الأمة لن تقوم إلا على أكتافهم.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ شبابنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يعصمهم من الخطأ والزلل وأن يهديهم إلي طريق الهدي والرشاد إنه ولي ذلك ومولاه .
...المزيد

نعمة الأمن في الإسلام الحمد لله رب العالمين .. من علينا بنعمة الأمن في القرآن الكريم فقال تعالي ...

نعمة الأمن في الإسلام
الحمد لله رب العالمين .. من علينا بنعمة الأمن في القرآن الكريم فقال تعالي }فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4){ ]قريش[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … جعل الأمن مقرونًا بالإيمان ..فقال تعالي }الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82){ الأنعام .
وأشهد أن محمداً رسول الله صلي الله عليه وسلم … الهادي البشير, المبعوث رحمة للعالمين , والذي ما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه وأمرهم بإتباعه ،وما ترك من شر إلا وحذر الأمة منه ونهاهم عن اقترافه ….أشار إلى أن الدنيا تجتمع للعبد في ثلاثة أشياء …منها نعمة الأمن، فإن حاز هذه الثلاث فقد حاز الدنيا بما فيها، فقال صلى الله عليه وسلم}من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها{ ]حسنه الألباني في صحيح الجامع [.
فاللهم صل علي سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ..
أما بعد : فيا أيها المؤمنـون .
إن نعمة الأمن لا تعادلها نعمة بعد نعمة الإسلام، فلا أمان لأحد إلا بالإسلام، ولا راحة لأحد إلا بطاعة الرحمن، ولا ذهاب للخوف والحزن إلا بالتمسك بطاعة الكريم المنان.
ولقد أراد أعداء الإسلام منذ زمن بعيد زعزعة أمن المسلمين في كل مجالات حياتهم ، زعزعة أمنهم الفكري، والعقائدي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وأمنهم الحياتي ، ولأنهم يعلمون أن الإنسان المسلم لا يستطيع أن يحقق غايته المنشودة إلا في ظل جو من الأمن والطمأنينة ، فقاموا بنشر الثقافات الغربية والدعوات الهدامة لكي يفرقوا كلمة المسلمين والقضاء علي هويتهم ونهب ثرواتهم وخيراتهم، ولابد أن نعلم أننا لا نستطيع أن نقوم بدورنا نحو الدين والوطن إذا فقدنا نعمة الأمن والاستقرار ، لذلك كان موضوعنا ]نعمة الأمن في اٌلإسلام[ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …
1ـ مفهوم الأمن.
2ـ استقرار الأوطان ضرورة شرعية ووطنية .
3ـ نظرة الإسلام الشمولية للأمن.
4ـ أسباب تحقق الأمن.
5ـ أثر تحقق الأمن علي المجتمع
العنصر الأول : مفهوم الأمن

الأمن: ضد الخوف . والأَمَنَةُ ، بالتحريك: الأمن , ومنه قوله تعالى }أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ (154){ ]آل عمران[. واستأمن إليه , أي دخل في أمانه . وقوله تعالى }وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3){ ]التين[.
والأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، وهي نعمة لا تقدر بكنوز الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم}من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها{ ]ابن ماجة وحسنه الألباني[.
ومنه قوله تعالى }وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) { قريش.
ومنه الإيمان والأمانة , وضده الخوف .
ومن أسمائه الحسنى المؤمن في قوله تعالى }هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23){ الحشر.
ومعناه أنه هو المعطي الأمان لعباده المؤمنين حين يؤمنهم من العذاب في الدنيا والآخرة . وقد منح الله سبحانه وتعالى هذا الاسم لعباده الذين صدّقوا به وبرسله وكتبه فسماهم (المؤمنين ).
والأمن مشتق من الإيمان والأمانة، وهما مترابطان، قال الله تعالى: }الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون(82) { ]الأنعام[.

العنصر الثاني : استقرار الأوطان ضرورة شرعية ووطنية

فإن نعمة الأمن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ومطلب ضروري من ضروريات الإنسان، ولذلك كان من مقاصد الشرائع السماوية المحافظة على الضروريات الخمس وهي:
حفظ النفس، والدين، والعقل، والعرض، والمال.
فإذا حُفِظ للإنسان هذه الضروريات فقد حصل على أسمى هدف، وأعظم غاية يرجوها الإنسان في هذه الحياة الدنيا وهو الأمن بجميع صوره، ومن فضل الله سبحانه أن هيأ لنا حفظ أمننا، وجعل ذلك مرهونًا ومرتبطًا بالإيمان، وجعل بينهما ارتباطًا قويًا وتلازمًا ضروريًا فلا أمن بدون تطبيق الإسلام، ولا يتحقق تمام الإسلام وكماله، والعمل بشعائره، وإقامة حدوده إلا بالأمن، ولا تقوم مصالح العباد إلا بالأمن، ومن أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص، بل إن من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة ، فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله}وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها{ ]رواه البخاري ومسلم[.
فالأمن هو روح الحياة وقلبها النابض ولذلك دعا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما شَيَّد بيت الله الحرام أن يكون آمنا، قال الله تعالى }رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ(126)]{ البقرة[.
فقدم طلب الأمن على طلب الرزق لأن الأمن ضرورة ،ولا يتلذذ الناس بالرزق
مع وجود الخوف بل لا يحصل الرزق مع وجود الخوف .
وقد استجاب الله دعاءه فقال الله تعالى}فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4){ (قريش)..
فالأمن ضرورة لكل مجتمع لأن به تتم المصالح ، وتستقيم الحياة، وتستتم.
وبفقده تضيع الحقوق وتضيع المصالح ويحصل القلق والخوف ، وتحصل الفوضى ويتسلط الظلمة على الناس ،ويحصل السلب والنهب ،وتسفك الدماء ،وتنتهك الأعراض فلا يأمن الإنسان على نفسه وهو في بيته ولا يأمن على أهله وحرمته ،ولا يأمن على ماله ،ولا يأمن وهو في الشارع ،ولا يأمن وهو في المسجد ولا يأمن وهو في مكتبه ،ولا يأمن في أي مكان إذا زالت نعمة الأمن عن المجتمع ، إلى غير ذلك من مظاهر فقد الأمن للمجتمع.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات وقائية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
وبضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار خبث الشيطان، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعاده بكل صراط، يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه؛ فيبين حذقه وإغواؤه، محققاً توعده بقوله كما قال الله تعالى} لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ (17){ [الأعراف].
فمن البديهيات التي لا يختلف عليها العقلاء أنه لا يمكن أن تقوم حياة إنسانية كريمة إلا في ظلال أمنٍ وافرٍ، يطمئن الإنسان معه على نفسه وأسرته ومعاشه، ويتمكَّن في ظله من توظيف ملكاته وإطلاق قدراته للبناء والإبداع .
ولأهميته قرن سيدنا إبراهيم الدعاء بتحقيق الأمن مع الدعاء بنفي الشرك وتحقيق التوحيد فقال تعالى }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35){ ]إبراهيم[.
وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأمن، فقال صلى الله عليه وسلم: }الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ{ ]الترمذي وصححه[.
والأمن أهم سبب في الازدهار الاقتصادي قال تعالى}وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57){ ]القصص[.
وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}(67) [العنكبوت].
ويقول جلَّ وعلا {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(26)} [الأنفال].
ويحكي القرآن الكريم عن دولة سبأ أن الأمنُ كان أحدَ أسباب الازدهار الاقتصادي فقال تعالي }وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18){ ]سبأ[.
وقد دلَّت سائر أحداث التاريخ البعيد والقريب على أن الحضارة لا تزدهر، وأن الأمم لا ترتقي ولا تتقدم إلا في ظلال الاستقرار الذي ينشأ عن استتباب الأمن للأفراد وللجماعات وللأمم.

العنصر الثالث : نظرة الإسلام الشمولية للأمن

إن مفهوم الأمن مفهوم واسع , وليس مقتصراً على مفهوم حماية المجتمع من السرقة أو النهب أو القتل ونحوه , بل الأمن مفهوم أعم من ذلك كله , وأول وأعظم مفهوم للأمن ، الأمن الفكري :
الأمن الفكري :
وهو الحفاظ على العقيدة السليمة الصحيحة الخالية من الزيغ والشبهات والتحريفات , والتي تؤدي إلى ارتباط المسلم بربه ارتباطا وثيقا , هذا هو أول الواجبات الأمنية التي يتحقق بها الوازع الديني المانع من كل الممارسات الخاطئة في تطبيق الشريعة الإسلامية وتعاليمها .
إن الأمن على العقول لا يقل خطراً عن أمن الأرواح والممتلكات , فكما أن للأموال والممتلكات لصوصا ينتهزون الفرص لسرقتها ، فللعقول لصوصا محترفين خبثاء مخططين , يتربصون بالمسلمين الفرص لسرقة عقول شبابهم وبناتهم , ومن ثم دفعهم إلى وجهة التغريب والبعد عن دينهم وتراثهم وحضارتهم. فالأمن الفكري أصلٌ تقوم عليه مرتكزات حياة المجتمع ومسيرته , فيجب على الأمة أن لا تنزلق في انحدارات التغريب والتبعية لدعوات هدامة باطلة .
يلاحظ صيانة الإسلام للأمن الفكري داخل المجتمع المسلم عن طريق توحيد مصدر التلقي في العقائد والعبادات والقضايا الكبرى في حياة المسلمين، لا نعتمد في ثقافتنا علي ما يأتي إلينا من الخارج وعندنا المصدر الأساسي وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة .
نجد أن النبي صلي الله عليه وسلم غضب على سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، وما أدراكم ما عمر بن الخطاب ؟ عندما رآه يقرأ في قطعة من التوراة قال: }أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي{. فهل يجوز لنا إذن أن نأذن لأبنائنا وبناتنا، أن يتابعوا الشبكة العنكبوتية الانترنت في قراءة كتب السحر وكتب الكهانة، وكتب الإلحاد والزندقة والفساد والانحلال ؟ وأن يتبعوا الكاتب الفلاني والأديب الفلاني ويُسلموا عقولهم لهم ؟
والله تعالي يقول }وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116){[ الأنعام].
فلا يجوز لنا أن نترك أبنائنا فريسة لهذه الدعوات الهدامة ،الفاسدة المفسدة.
الأمن الاجتماعي :
لقد عظم الاسلام أمر الأمن الاجتماعي، ودعا الى المحافظة عليه بين الناس جميعا افرادا وجماعات، فعلى مستوى الفرد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون الجار سببا في فزع جاره وتخويفه، بل ازداد الأمر تحذيرا عندما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لا يجد جاره الأمن في جواره، فعن ابن شريح رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم }والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه{ ]البخاري[. ويعيش المسلم بالأمن الاجتماعي في عفو وصفح وتسامح وإحسان مع الآخرين، قال تعالى }خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ (199){ ]الأعراف[. الأمن الاقتصادي :
الأمن الاقتصادي المتمثِّل في عدالة توزيع الثروة حتي لا يكون هناك غني متخم بالشبع وفقير مدقع لا يجد ما يسد به رمقه ، وما يستر به جسده فقال تعالي } كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ(7) ]{الحشر[.
الأمن السياسي :
المتمثل في تحقيق العدالة السياسية ، وبه يحظى الجميع (المسلم وغير المسلم) بالأمن، فيتعامل معه المسلمون بالبر والقسط مادام لا يقاتلهم ولا يؤذيهم، قال تعالى}لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8){ ]الممتحنة[.
وهذه القصة خير شاهد علي ما نقول :اليهودي الذي سرق درع سيدنا عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وهو خليفة، ولما رأى سيدنا عليّ الدرع عند اليهودي قال: هذا درعي ، فقال اليهودي: بل هو درعي!!
فاحتكما إلي القاضي شريح ،فمَثُلَ الخليفة مع اليهودي أمام قاضي المسلمين، وقفا في ساحة القضاء أمام شريح رحمه الله رحمة واسعة- ولما دخل عليّ مع اليهودي أمام شريح فنادي شريح على عليّ قائلاً: يا أبا الحسن، فغضب عليّ فظن شريح سوءً قال: ما الذي أغضبك؟
فقال عليّ: يا شريح أما وقد كنيتني أي ناديت عليَّ بكنيتي- وقلت يا أبا الحسن، فلقد كان من واجبك أن تُكَنِّيَ اليهودي هو الآخر.
ما هذا الخلق؟! وما هذا الدين العظيم؟!
وَمَثُلَ عليٌّ واليهودي أمام شريح، فنظر شريح إلى عليّ وقال: يا عليّ ما قضيتك؟ قال: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب، فنظر شريح إلى اليهودي فقال: ما تقول في كلام عليّ؟
فقال اليهودي: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب!!
فنظر شريح إلى عليّ وقال: هل عندك بَيِّنة؟
قال: لا، وكان شريح رائعًا بقدر ما كان أمير المؤمنين عظيمًا، وقضى شريح بالدرع لليهودي، وأخذ اليهودي الدرع وخرج ومضى غير قليل.
ثم عاد مرة أخرى ليقف أمام عليّ وأمام القاضي وهو يقول: ما هذا الدين وما أروعه؟!
أمير المؤمنين يقف أمامي خصمًا أمام قاضي من قضاة المسلمين، ويحكم القاضي بالدرع لي، والله ليست هذه أخلاق بشر، إنما هي أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فَسَعِدَ عليّ، وقال اليهودي: يا أمير المؤمنين الدرع درعك، فقد سقطت منك فأخذتها، فنظر عليّ مبتسمًا وقال: أما وقد شرح الله صدرك للإسلام فالدرع مني هدية لك.
هذا الأمن والأمان لمن؟!
لأبناء يهود تحت ظلال الإسلام الوارفة.
نجد أن أنواع الأمن مرتبطة بعضها ببعض ، فلا أمنَ اجتماعيًّا من غير أمن اقتصادي وأمن سياسي، والعكس بالعكس، فالأمن الاقتصادي المتمثِّل في عدالة توزيع الثروة، والأمن السياسي المتمثل في تحقيق العدالة السياسية لا يتمَّان بغير توافق اجتماعي.. وهكذا.
فلا رأي لخائف، ولا عقل لمستعبَد مُكرَه؛ لأنه حين يشيع الاستبداد، فإنه يقضي على القدرات العقلية للأمة، ويفلُّ إرادتها وعزمها، وحتى لو فكرت فالخائف إذا فكَّر يكون تفكيره مرتعشًا، ورأيه مشوشًا، كما يؤدي الاستبداد إلى اهتزاز العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فضلاً عن إعطاء الفرصة للمتملِّقين والمداهنين في التسلق والسيطرة على جل أجهزة الدولة.

العنصر الرابع :أسباب تحقق الأمن

في ظلال الأمن تُعَمَّر المساجدُ وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض والأموال، وتُؤمَّن السبل، وتُطَبَّق شريعة الله، وتُنشَر الدعوة إلى الخير.
في رحاب الأمن يسود الاطمئنان، ويعمُّ الخير والرخاء، وتستقيم حياة بني الإنسان، ويَسُود العلم وتستمرُّ عجلة التنمية، ويزدهر الإنتاج، ولو انفرط عقد الأمن ساعةً لرأيت كيف تعمُّ الفوضى، وتتعطَّل المصالح، ويكثر الهرج، ويحكم اللصوص وقطَّاع الطرق، وتأمَّل فيمَن حولك من البلاد ستجد الواقع ناطقًا وعلى هذه الحقيقة شاهدًا.
إن أمرًا هذا شأنه، ونعمةً هذا أثرها، لجديرةٌ بأن نبذل في سبيلها كلَّ غالٍ ونفيس، وأن تُستثمَرَ الطاقات وتُسخَّرَ الجهودُ والإمكانات في سبيل الحِفَاظ عليها وتعزيزها، ومن هنا لا بُدَّ أن ندرك أن نعمة الأمن لا تُوجَد إلا بوجود مقوِّماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها، فمن أسباب تحقق الأمن ...
1ـ توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته والعمل الصالح :
قال تعالى}وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55){ ]النور[ .
والشرك أعظم الظلم؛ قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)} [لقمان]، وهو من أسباب مَحْقِ البركات واندثار الخيرات، ولقد زين الشيطان لكثير من المشركين أنهم بدخولهم في الإسلام سيتعرضون لفقد أمنهم، وستتحول حياتهم إلى غربة وعذاب فقال تعالي }وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا(57){ ]القصص[.
فبين لهم سبحانه ما هم فيه من أمن شامل للطمأنينة وزوال الخوف مع أمن غذائي متكامل }أَوَ لَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (57){ ] القصص[
ولله در القائل :
إِذَا الإِيمَانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَانٌ وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا.

وإذا تخلَّى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم، أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن وادلهمَّ ظلام الخوف والقلق، وهذه هي سنَّة الله التي لا تتخلَّف في خلقه؛ قال تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)} [النحل].
ولقد بين تعالى ان كفر نعمة الأمن كان سببا من أسباب إهلاك من جحد النعمة. وكان من نعم الله تعالى على مملكة سبأ كونهم آمنين، فالأمن في ليلهم كنهارهم ينتقلون لقضاء مصالحهم في أمن واطمئنان قال تعالي}وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18){ ]سبأ[.
بل لم يكن الحديث عن فتح مكة حديثا عن الفتح وحده، بل الفتح حال كونهم آمنين، إذ أن الفتح من دون أمن لا خير يُرْجى منه، قال الله سبحانه وتعالى}لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا (27){ ]الفتح[.
فالأمن التامُّ هو في توحيد الله وطاعته، ولزوم شكره وذكره وحسن عبادته؛ قال سبحانه وتعالي{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب (28)} [الرعد].
2ـ الاستقامة :
وحتى نحافظ على الأمن في البلاد؛ فلا بُدَّ من تربية الأمَّة على طاعة الله تعالى والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته؛ ذلكم أن النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي تردعها عن الجرائم والموبقات؛ لأن رقابة الله والوازع الإيماني في قلب المؤمن يَقِظٌ لا يغادره في جميع الأحوال.
والاستقامة سبب للأمن في الدنيا و الآخرة قال تعالى }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(13){ ]الاحقاف[.فالاستقامة تُحًقق لصاحبها الأمن في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم: "فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة
ومن خرج عنها أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أماناً".
ولقد كانت الاستقامة هي الأمان للذرية بعد الموت فقال تعالي {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(9)} [النساء].
3ـ التمسك بالكتاب والسنة :
نحافظ على الأمن بالتمسُّك بالكتابِ والسنَّة، والعناية بفريضة العلم والبحث العلمي؛ فالعلم عصمةٌ من الفتن، والتعليم الشرعيُّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان.
قال ابن القيِّم رحمه الله في (إعلام الموقعين): "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلَّة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرُّ والفساد".
4ـ إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ علي يد المعتدين:
إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ صِمام أمان يمنع الشرور والآفات عن المجتمعات، وبه يحصل العز والتمكين؛ قال تعالي:{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)} [الحج].
ولقد قرر الإسلام حفظ النفس من مقاصد الشريعة الغراء ،والاعتداء عليها اعتداءً علي البشرية جمعاء ، فحَرَّم الاعتداء عليها ،بل جعل عقوبة من يزهقها النار في الآخرة تكريمًا وصيانة لهذه النفس المسلمة، قال تعالى}مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) 32){ [المائدة].
وقال جل من قائل :}وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93){ [النساء].
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ }لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ{ ]رواه الترمذي ،وصححه الألباني[
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : }أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى{ ]رواه البخاري ومسلم[ .
يتبين لنا أن الإسلام حرم كافة أشكال التخويف للمسلم، بدءًا من تحريم تخويفه وتهديده بالقتل، وانتهاءً بتحريم ترويعه ولو على سبيل الهزل والمداعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: }لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا{ ]أبو داود[.
ولقد أراد الإسلام من ذلك كله تحقيق الحياة الآمنة المستقرة الهادئة لأتباعه أفرادًا ومجتمعات، والتي لا يعكرها سلوك العابثين والمنحرفين والمجرمين، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى الحدود والتعزيرات الزاجرة لكل من يحاول العبث والإخلال بأمن المجتمع المسلم، وجعل سبحانه وتعالى عقوبة المفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين عقوبةً شديدة لِمَا يسببونه من ترويع للآمنين وإخافة للمسلمين والمستأمنين ونشر للفساد في الأرض، قال جل وعلا: }إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) [المائدة[
5ـ الحرية والعدل مفتاح الأمن :
إن غياب العدل والحريات هو الذي يفتح أبواب الفساد والفوضى على مصاريعه، وأنه لم تحلّ أي إشكالات في الماضي، ولن تحلَّ في الحاضر والمستقبل إلا إذا ساد العدل والحرية، فإذا ساد الظلم وشاع الطغيان فالأمة على موعدٍ قريبٍ مع الهلاك والسقوط، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: }كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟{ ]ابن ماجه وابن حبان[.
أي أن الأمة التي لا مجال فيها لأخذ الحق للضعيف من القوي، فلا مجالَ لها بين الأمم، ولا بد أن تذلَّ وتخزى ، ويظن البعض أن هيبة الدولة لا تحفظ إلا بالقهر والشدة علي الناس وهذا مفهوم خاطئ ، فإن العدل والحرية هما ما يحفظان هيبة الدولة .
يقول الإمام التابعي الجليل عامر الشعبي رحمه الله: }كانت دِرَّةُ عمر رضى الله عنه أهيب من سيف الحجاج{، "أي عصاه الصغيرة التي كان يؤدب بها المخالفين "، حققت من الهيبة وحفظ النظام ما لم يحققه سيف الحجاج الباطش الذي حصد رؤوسا كثيرة، وسفك دماء طوائف شتى من العلماء والفضلاء والعامة؛ إذ كان من منهج عمر رضي الله عنه ألا يقهر الناس أو يتجبر عليهم، بل يقول لكبار موظفيه وولاته الذين يبعثهم على البلاد المختلفة: }أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلَا تُجَمِّرُوهُمْ- أي لا تحبسوهم في الرباط والثغور عن العودة لأهليهم- فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ{ ]رواه أحمد[.
ويقول لهم: }أدِرُّوا على المسلمين حقوقهم{، وبهذا انتظمت أمور الدولة، وملأت هيبتها القلوب.
أما سيف الحجاج فكان له أكبر الأثر في حصول الثورات على الدولة الأموية التي استخدمته، وكان من نتائج ذلك سقوط الدولة بعد سنوات قليلة.
وهذا الخليفة الكريم العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان واليًا على المدينة، وقد ساس أهلها سياسة حسنة، وجاء الحجاج بن يوسف الثقفي وكان واليًا على العراق، فسأل أهل المدينة عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبةً له.
قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا، قال: فكيف أدبه فيكم (يعني: تأديبه للرعية وعقابه للمخطئين) قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة، قال الحجاج: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه؟!
هذا أمر من السماء!. وكتب إليه اثنان من ولاته: نرى أن الناس لا يصلحهم إلا السيف! فكتب عمر رضي الله عنه إليهما: }خبيثين من الخبث، ورديئين من الرديء ، أتعرضان لي بدماء المسلمين؟ والله لَدَمُكُما أهون عليَّ من دماء المسلمين" .
وكتب إليه والي حمص: إن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: }إذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طريقها من الظلم؛ فإنه عمارتها….. والسلام{.
وكتب لأحد ولاته: }خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله{.
ولهذا كانت المدة اليسيرة التي تأمَّر فيها عمر رضي الله عنه سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام؛ كفيلةً بأن ترفع لواء الأمة، وأن تُعيد لها نهضتها من جديد ، ومتى تحقِّق العدل دامَ الأمن بإذن الله تعالى.
6ـ تهيئة المحاضن التربوية للشباب والناشئة ،وإحياء دور العلماء والمربين :
لكي نُرْسِي دعائم الأمن ونُرَسِّخ قواعده بعيداً عن الفتن واستخدام العنف نحو المجتمع ، لابد من تهيئة المحاضِن التربوية للشباب والناشئة، ودعم كلِّ المؤسَّسات العاملة في تربية الناشئة التي تعمل وَفْقَ الكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمة ، والتي تقوم بمعالجة أسباب انحراف الأبناء، بسبب ما تعيشه بعض البيوت من فقر، أو نزاعات وشقاق، وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشرُّد للأولاد.
وإحياء دور العلماء والمربين في احتواء الشباب ومعالجة الأحداث وتقريب
وجهات النظر وتهدئة الانفعالات، وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب؛ لترشيد حماسهم، وتوجيه انفعالهم، وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمَّة، لا في هدمها. إن أمن الوطن لا يتحقَّق إلا بوجود الأمن الفكري بحماية الأجيال الناشئة، وشباب الأمة، وتحصين أفكارهم من التيارات والدعوات المشبوهة التي تُسمِّم العقول، وتحرف السلوك؛ من دعوات التغريب، والإلحاد ودعايات الفساد والإفساد والإباحية ، والشذوذ ، وغيرها.

العنصر الخامس : أثر تحقق الأمن علي المجتمع

بِتَحقق الأمن يحقق الإنتماء والولاء للوطن والشعور بالمسئولية والإيمان بالنظام والقانون ، مما يدفع الشخص إلى الإيجابية، والمشاركة الفاعلة، والإبداع في عملية التنمية، وبذل أقصى الجهد، وتقديم أنْفَس التضحيات لحماية الدولة التي يعيش فيها.
وهذا الشعور إذا تحقَّق للأفراد والهيئات داخل دولة ما؛ كفيل بالحفاظ على السيادة الوطنية، وتحقيق التقدم العلمي والاقتصادي، وتمكين التفوق العسكري، وحريٌّ بأن يدفع الأمة إلى موقع الصدارة، ويحقق لها كل الآمال في النهضة والتقدم. فأصبح لزاما علي الجميع المسارعة إلى الإسهام في تحقيق الأمن والرفاهية للمجتمع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراك الجميع في المسئولية، فقال صلى الله عليه وسلم: }كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ{ ]متفق عليه[.
الخاتمة :
هذا هو الاسلام دين السلام، السلام الذي يتحقق به الأمن، فيعيش العبد آمنا في حياته، يؤدي ما افترضه الله عليه حتى ينقضي وقته في الدنيا، فينتقل من أمن في دنياه الى أمن في آخرته كما قال تعالي }وهم من فزع يومئذ آمنون (89){ ]النمل[.
فالمسلم ينشر الأمن في الدنيا، ويعمل على ترسيخه، ويجتهد للحفاظ عليه، حتى يلقى الله تعالى وتقول له الملائكة كما قال تعالي}ادخلوها بسلام آمنين(46){ ]الحجر[ . فاللهم آمنا في أوطاننا، واصرف عنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً