اقرأ وتَأَنَّ وتَأَمَّل في وصية الله عز وجل بالصلاة ...

اقرأ وتَأَنَّ وتَأَمَّل في وصية الله عز وجل بالصلاة
#الصلاة_الصلاة
#إنها_الصلاة
================
أوصى الله عيسى عليه السلام بالصلاة وهو في المهد صبيًا.
لكم أن تتخيلوا وليدًا في مهده يقول: (وأوصاني بالصلاة)
" #إنها_الصلاة "
===================
لما نهى شعيبٌ عليه السلام قومه عن الشرك وعن الفساد الاقتصادي "قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك...."
أرأيت بمَ يُعرف المصلحون؟
وماذا يعظِّمون؟!
" #إنها_الصلاة "
==================
يترك إبراهيمُ عليه السلام أهله في صحراء قاحلة،
ثم يقول:
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة"!
"#إنها_الصلاة "
==============
يأتي موسى عليه السلام لموعدٍ لا تتخيل العقولُ عظمته، فيتلقى أعظمَ أمرين:
"إنني أنا الله لا إله إلا أنا فـاعبدني.. وأقم الصلاة) لذكري"
"#إنها_الصلاة "
===============
ما أجلَّ هذا الوحي!
"وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوَّءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلةً وأقيموا الصلاة"!
"#إنها_الصلاة "
==============
سليمان عليه السلام يضربُ أعناقَ خيله وسوقَها؛ لأنها أشغلته عن صلاة العصر "حتى توارت بالحجاب"!
بالله عليك!
ما حالي وحالك عند فوات الصلاة؟!
"#إنها_الصلاة "
===============
أين جاءت بشرى الولد لزكريا عليه السلام بعد أن بلغ من الكبر عتيّا؟!
"فنادته الملائكة وهو قائمٌ (يصلي) في المحراب"
قائمٌ يصلي!
"#إنها_الصلاة "
===============
يُشغل الكفارُ رسول الله ﷺ عن صلاة العصر؛ فيدعو عليهم دعاءً مرعبًا!
"ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة"!
"#إنها_الصلاة "
===============
كانت اخر ماوصى به نبينا محمد صَل الله عليه وسلم وهو على فراش الموت الصلاة الصلاة
" #إنها_الصلاة "
ما قُرِنت عبادةٌ في القرآن بعبادات متنوعة كالصلاة، فإنها قرينة الزكاة، والصبر، والنسك، والجهاد، وغير ذلك!
#إنها_الصلاة_الصلاة_الصلاة..
...المزيد

التأمل والاعتبار في طلاقة القدرة الإلهية إعداد: الشيخ :السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. ...

التأمل والاعتبار في طلاقة القدرة الإلهية
إعداد:
الشيخ :السيد طه أحمد

الحمد لله رب العالمين .. الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (1){ ]سبأ[... .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. الذي أقرت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، فشهد الجميع بوحدانيته وقدرته فقال تعالي }ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (191){ [آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. كان صمته فكراً ونطقه ذكراً ونظره عبرة وأوصانا إلي التأمل والاعتبار ففيه زيادة الإيمان فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :قال صلى الله عليه وسلم }تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا { (رواه البيهقي ، وفي إسناده نظر)..
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ........
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
لقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلا، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل، فإذا اختل العقل ارتفع التكليف عنه.
وقد أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل، الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، يستخدمه في التفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، بل يتفكر في خلق نفسه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام، وخير هذه الأقسام من وصفهم الله بقوله سبحانه:}ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (191){ [آل عمران].
وشر هذه الأقسام من قال الله فيهم: وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ (179){.[الأعراف] . .
بل إن تعطيل السمع والبصر والفؤاد ينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنها لم تؤت ما أوتى من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرًا أن يكون من حطب جهنم كما أخبر الله عز وجل .
ولقد عاب الله تعالي على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان. وفي ذلك بخطابهم فيقول في شأن آلهتهم: }إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ (23){ ]النجم[
ويقول في هذا السياق نفسه: }وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28){ ]النجم[ .
إن من أراد أن يعرف فكرة صحيحة كاملة عن دقائق جهاز ما، وعن الغاية من صنعه، فلابد أن يأخذها من صانعه نفسه، والله تعالى هو صانع هذا الكون، علوية وسفلية ، بمن فيه وما فيه، وما نبصره وما لا نبصره، وهو وحده القادر على أن يمدنا بالحقائق الصادقة عن هذا الوجود وأسراره وغاياته: }أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14){ ]الملك[
ولذلك كان حديثنا عن }التأمل والاعتبار في طلاقة القدرة الالهية { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ التأمل والاعتبار عبادة لله عز وجل .
2 ـ التأمل والاعتبار في طلاقة القدرة الإلهية .
3 ـ التأمل والاعتبار في ملكوت السماوات والأرض .
4 ـ التأمل والاعتبار في أحوال الأمم السابقة ومصائرهم.
5ـ الخاتمة .
==============
العنصر الأول : التأمل والاعتبار عبادة لله عز وجل :ـ
التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون.
لقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى على الاعتبار، والتدبر، والنظر، والتفكر، قال تعالي }يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219){ ]البقرة[
وقال تعالي}قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(50){ ]الأنعام[
وقال تعالي}أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8){ ]الروم[
والفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: }إنما يخشى الله من عباده العلماءُ(28){ [فاطر].
ولقد أمر الله تعالي العباد بأخذ العبرة والعظة فخاطب أهل البصائر والألباب فأمرهم بالعبرة من الأحداث والسنن الربانية في هذا الكون .. لذلك كان نداء القرآن لأهل الإيمان فاعتبروا !!
ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله
ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، و لا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل.
ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه .
قال أبو سليمان الداراني : " إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولى فيه عبرة"..
ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكر والاعتبار.
وقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كما روت أمنا عائشة رضي الله عنه ، فعن عطاء قال " دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: ياعائشة ذريني أتعبد الليلة لربي قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟
قال: "أفلا أكون عبدا شكورا ، لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190){ ]آل عمران[.
إن التفكر في ملكوت السموات والأرض من شانه أن يهدى الحيارى، ففي كل شئ له آية تدل على أنه سبحانه وتعالى إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة.
تعالوا بنا نتأمل عجيب قدرة الله في خلقه، وكيف يسير الكون بنظام دقيق ربما يكون سببا في زيادة إيماننا .قال تعالى}لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40){ ]يس[
وقال تعالي }صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون(88){ ]النمل[ .
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدان
العنصر الثاني: التأمل والاعتبار في طلاقة قدرة الله عز وجل :
تتجلى طلاقة القدرة الالهية في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسباباً ، ثم قال للأسباب: أنت لست فاعلة بذاتك ، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتُك ألاَّ تفعلي أبطلْتُ عملك ، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به.
تتجلى طلاقة القدرة في أن (يقول للشيء كن فيكون)
لو نظرنا إلى أخبار الأنبياء مع قومهم وما أمدهم الله بمعجزات ،وجدنا أن طلاقة القدرة ظاهرة واضحة ، فمعجزات الأنبياء كلها تأتي بطلاقة القدرة وليس بالأسباب ، فسيدنا نوح عليه السلام عندما دعا ربه أن يهلك الكافرين ، فتحت ينابيع من السماء والأرض ليتم الطوفان ، ولم تفتح هذه الينابيع بالأسباب ،ولكنها فتحت بطلاقة القدرة الإلهية.
ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ،كان من الممكن ألاَّ يُمكّنَ خصوم سيدنا إبراهيم عليه السلام من القبض عليه ، أو يُنزِل مطراً يُطفئ ما أوقدوه من نار ، لكن ليست نكاية القوم في هذا ، فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم ، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا: لو كُنَّا تمكنّا منه لفعلنا كذا وكذا ، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا.
إذن: شاءت إرادة الله أنْ تَكيد هؤلاء ، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتُمكّنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلاً ، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق:{ قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ(69) } [الأنبياء].
وأيضا سيدنا موسى عليه السلام عاش مع طلاقة القدرة طوال عهد نبوته ، نظرا للمعصية المستمرة لبني إسرائيل ، فقد قال الله : } اضرب بعصاك البحر { ، فانفلق ، وظهر قاعه ووقف الماء الذي من خاصيته الاستغراق ، وقف ساكنا بعيدا عن الأرض بقدرة الله سبحانه وتعالى ، وعبر موسى وقومه البحر، وعندما استسقى موسى قومه ، ضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، ولو أن موسى عليه السلام قام بحفر حفرة ليبحث عن الماء ، لقلنا إنه عين واحدة ، ولكن اثنتا عشرة عينا ، ذهبت كل عين بمائها إلى القوم الذين قسمها لله لهم ، ورفع الجبل فوق بني إسرائيل، وضربهم الميت بأجزاء من البقرة بعد ذبحها ( أي ضرب ميت بميت ) وتخرج منها الحياة ، ويبعث القتيل ليدل على قاتله، كل هذا دليل على طلاقة قدرة الله عز وجل .
وكذلك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلاً على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق ، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسباباً ، فمَنْ أخذ بالأسباب يصل إلى المسبِّب، ولكن إياكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب؛ لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب ، وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبِّبات دون أسباب.
وقد تجلَّتْ طلاقة القدرة في قصة بَدْء الخَلْق ، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة ، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يُدير خلقه على كُلِّ أوجه الخَلْق ، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى ، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر.
فالقدرة الإلهية إذن غير مُقيَّدة بالأسباب ، وتظلّ طلاقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ الساعة ، فنرى الرجل والمرأة زوجين ، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبِّب سبحانه ، فهو القائل:{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50) } [الشورى].
ثم تأتي بعد ذلك طلاقة القدرة الإلهية في سيدنا زكريا عليه السلام والسيدة ومريم ..
حينما دعا زكريا ربه عز وجل أن يهبه غلاما : } هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6) يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا (9) ]{ مريم[
هنا أخذت زكريا طلاقة القدرة فاهتز، وسأل الله سبحانه وتعالى كيف يمكن أن يحدث ذلك وهو شيخ كبير وامرأته عاقر أي أن الأسباب إذا طبقناها هنا لا يمكن أن تؤدي إلى مولد طفل ، حينئذ رد الله سبحانه وتعالى عليه : } هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا { ..
أي أن الله سبحانه وتعالى ذكُّر زكريا بطلاقة القدرة فقال له لا تعتقد أن هناك شيئا صعبا عليّ وإذا كان هذا صعبا على فهمك ، فتذكر خلقك } وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا {
فإذا كانت قدرتي أن أوجد من العدم ، أفلا أستطيع أن أًخلق بلا أسباب وعندما دخل زكريا المحراب على مريم وجد عندها رزقا ( أي فاكهة في غير أوانها) ، فسألها : (أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ) أي من أين أتيت بهذه الفاكهة وهذا الطعام ، فقالت : } قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (37) { ] مريم[
إشارة إلى أن طلاقة القدرة لا يستعصي عليها شيء، فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الإسراء والمعراج نجد أنها معجزة كبرى دالة على طلاقة القدرة , فرسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى به من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، حيث صلى بالأنبياء ، وهي طلاقة في القدرة أن يصلي حي بأولئك الذين انتقلوا إلى جوار ربهم منذ مئات السنين ، ثم بعد ذلك انطلقت به طلاقة القدرة ليخترق السماوات السبع ، فتتغير طبيعة الأشياء حتى يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى سدرة المنتهى ..
بل إن الوحي نفسه من طلاقة القدرة أن يلتحم الملك بإنسان ليتم تبليغ القرآن الكريم كل هذه الأشياء في مجموعها ، هي تطبيق حي لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى ..
فالله تعالى لم يذكر لنا طلاقة القدرة في القرآن الكريم ، دون أن يعطينا أمثلة على التطبيق ، متواكبة مع رسله ، تؤيدهم هذه القدرة بالمعجزات التي رواها لنا القرآن الكريم على أن طلاقة القدرة لم تتوافر للرسل وحدهم ، بل هي في كل جزء من الحياة وإذا أردنا أن نتأمل طلاقة القدرة في مظاهر الدنيا .. فلنأخذ قول الله سبحانه وتعالى : } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26){ ]البقرة[ .
إذا تأملنا هذه الآية الكريمة نجد أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلا ببعوضة , والمثل هنا كالأمثلة في القرآن الكريم لا تضرب جزافا ، ولكن لحكمة بالغة ، حين ضرب هذا المثل قال الكفار ماذا أراد الله بهذا مثلا ولم يفهموا شيئا ، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضرب مثلا بدقة الخلق ، فإن خلق البعوضة المتناهية في الصغر بكل الوظائف اللازمة لها في الحياة .. دقة في الخلق تستوجب خالقا قادرا ، فهذه البعوضة الصغيرة الحجم ، قد جعل الله فيها كل أسباب الحياة ، وما فوقها ، أي ما أصغر منها وأدق في الخلق ، خلقه الله ووضع فيه أسباب الحياة ، واستمرار الحياة.
يا مَنْ يرى مدَّ البعوضِ جناحها في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ
ويرى مَناطَ عُروقِها في نحرِها والمُخَّ في تلكَ العِظامِ النُّحَّلِ
أُمنُنْ عَلَيَّ بتوبةٍ تمحو بها ما كان مني في الزمانِ الأوَّلِ.
العنصر الثالث : التأمل والاعتبار في ملكوت السماوات والأرض:ـ
إن الهدف من التأمل في ملكوت السماوات والأرض ليزداد العبد يقينا بالله عز وجل كما قال تعالى عن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام }وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ (75){ ]الأنعام[
فمن آياته عز وجل ،خلق السموات والأرض : ـ
فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام قدرته سبحانه: }ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُۚ بَنَىٰهَا (27) رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا (28){،[النازعات]
وقال تعالى }وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ
(48){ [الذاريات]
وقال تعالى }أَفَلَمۡ يَنظُرُوٓاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوۡقَهُمۡ كَيۡفَ بَنَيۡنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٖ (6) وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ (7){ [ق] .
أخرج أبو داود وغيره عن العباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : }هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ،وكثف – أي سمك – كل سماء مسيرة خمسمائة سنة - وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم{ .
والأرض وما جعل الله تعالى فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى ، فانظر كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله تعالى: }وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ (20){ [ الذاريات] .
ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام ..
وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة قال تعالى :} إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (82){[يس]
ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها. حكى الحافظ ابن كثير – رحمه الله – أنه سُئل أحد الأعراب فقيل له: ما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعرة ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.
ومن آياته: ما بث في السماوات والأرض من دابة:
ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: }أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى{
جاء في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم: }إن البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة{.
وروى أبو داود وغيره بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه قال: }أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة{.
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده
فانظروا .. كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات آلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة فلا تجد شخصين متشابهين من جميع الوجوه كما قال تعالى: }وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ (22){.]الروم[.
يقول ابن كثير رحمه الله: (فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل منهم وبين الآخر). ا.هـ.
ثم انظر ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات التي لا يحصيها إلا الله تعالى!
كم على اليابسة فقط من أصناف هذه الحيوانات؟
وكم في هذه البحار والمحيطات من أصناف الحيوانات؟
وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم، ومنها الضار الذي يعرف به الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته
قال تعالى }تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا (44){ ]الإسراء[ .
وكل دابة من هذه الدواب وكل صنف من هذه الحيوانات خلق لحكمة بالغة فلم يخلق شيء من هذا الكون عبثا قطعا: }وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ (27){ ]ص[
وقد تكفل الله برزق هذه الدواب ويعلم مستقرها ومستودعها:} وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ (6){ ]هود[ .
وقال تعالي }ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ(64){ ]غافر[.
فلولا هذه الجاذبية التي تربطنا بالأرض لطرنا عن ظهرها وانتثرنا انتثارا نحن وبيوتنا.
ومن آياته الرياح :
هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريع بإذن الله وإذا شاء أن يفرقه سريعا أصبحت السماء صحوا وفي ذلك أعظم الدلالة على عظمة خالقها ومصرفها ومدبرها ولذلك فقد أقسم الله سبحانه وتعالى ،وإذا أقسم بشيء من مخلوقاته دل ذلك على عظمة المقسم به ، كما قال سبحانه: }وَٱلذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا (1) فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا (2)]{ الذاريات[ .
ومعنى الذاريات أي الرياح:}فالحاملات وقراً {، أي: السحاب التي تحمل وقرها من الماء. وهذه الرياح وهذا السحاب مسخر بأمر الله تعالى لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشئه سبحانه وتعالى.
فانظر بعين الاعتبار إلي الأرض وهي يابسة ميتة جدباء لا تنبت شيئا ومجرد أن ينزل عليها الماء يحدث لها أمر عجيب ، كما ذكر سبحانه وتعالي }وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7){
]الحج[.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} يابسة قد ماتت أعشابها وتكسرت أشجارها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{ .
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال: أصابت الناس سَنة على عهد النبي صلي الله عليه وسلم (أي شدة وجهد من الجدب وعدم نزول المطر) قال: فبينما النبي صلي الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل فادع الله لنا، فرفع النبي صلي الله عليه وسلم يديه، يقول أنس: وما نرى في السماء قزعة ( أي قطعة سحاب ) يقول: فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلي الله عليه وسلم .
صعد النبي صلي الله عليه وسلم المنبر وما في السماء من قزعة سحاب وما نزل إلا والمطر يتحادر من لحيته!.
فسبحان الله! إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
يقول انس رضي الله عنه : مطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله ! تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع النبي صلي الله عليه وسلم يديه وقال: }اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر{.
يقول أنس رضي الله عنه-: فما يشير–صلي الله عليه وسلم بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي شهرا ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدَّث بالجود:} ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ (48) وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِينَ (49) فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَيۡفَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (50){ ]الروم[.
تأمل عالم البحار : ــ
تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها ، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان ،} إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ (54) ]{ طه[ .
في أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها ، ونهر يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي ، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ، وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف ، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود ، فتبارك الذي } وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا (53) {
]الفرقان[ .
عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة ، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر ، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور ، نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم، قال تعالى }أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ (40)]{ النور[ .
تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف شيئا وجاء بشيء فيه إبداع فقال في دهشة بعد ترجمة الآية : إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء ، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته وأمواجه وشعبه ، إن هذا من عند عليم خبير ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين الله ، نعم لا يملك إلا ذلك ، من واصف الظلمات في قعر البحار سوى الله العليم الباري ، سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان ، لا إله إلا الله كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله ، أإله مع الله ، تعالى الله .
سأل رجل أحد السلف عن الله ، قال له :ألم تركب البحر؟ ، قال : بلى ، قال فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة قال نعم ، قال وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ، قال نعم ، قال فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء ، قال نعم ، قال فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ، قال تعالى }هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ (22) فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (23){ ]يونس[ .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار:ـ
قال تعالى : } وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا (62)]{ الفرقان[
إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلا بلا نهار، أو نهارًا بلا ليل، كيف تكون الحياة؟
قال تعالى : } قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلَّيۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِضِيَآءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ (71) قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِلَيۡلٖ تَسۡكُنُونَ فِيهِۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ (72) وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (73) { ] القصص[.
أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك. }وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (73){ .
العنصر الرابع : التأمل والاعتبار في أحوال الأمم السابقة ومصائرهم:ـ
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِ السابقين عبرة لِأُولِي الْأَلْبَابِ قال تعالى } لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}]يوسف[.
يظهر فيها طلاقة القدرة الالهية في نجاة المؤمنين وهلاك المتكبرين. ويوقن المؤمن يقينا ثابتا لا يتزعزع أن الله تعالي هو صاحب الإرادة الفاعلة والمشيئة المطلقة .
لقد جعل الله في هلاك الكافرين والمكذبين ونجاة المؤمنين عبرة لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد..
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} ]الحشر[.
بعدما حدث للمسلمين في غزوة أحد ، تجرأ اليهود على المسلمين، وبدءوا يكاشفونهم بالغدر والعداوة، ويتصلون بالمشركين والمنافقين ويعملون لصالحهم ضد المسلمين، وفي يوم من الأيام خلا اليهود بعضهم إلى بعض وسوَّل لهم الشيطان أعمالهم، فتآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد بها فيلقيها على رأس محمد فيشدخ بها رأسه؟ فنجاه الله من كيدهم وغدرهم ، وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير يقول لهم: "اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه".
فلم يجد اليهود مناصًا من الخروج، فأقاموا أيامًا يتجهزون للرحيل والخروج من المدينة، غير أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول بعث إليهم أن اثبتوا وتمنَّعوا ولا تخرجوا من دياركم؛ فإنَّ معي ألفي رجل يدخلون معكم حصونكم، يدافعون عنكم ويموتون دونكم. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11)} [الحشر].
وهناك عادت لليهود ثقتهم، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رئيس المنافقين، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له : "إنّا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك".
وظنوا أنهم منعة وقوة ولكن من سنة الله تعالي أن يهزم الباطل من حيث لا يحتسب ولا يخطر علي باله وهم في عز قوتهم .
كان هذا الموقف موقفًا محرجًا بالنسبة للمسلمين، فإنَّ المسلمين لا يريدون أن يشتبكوا مع
خصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم؛ لأنَّ جبهة القتال مشتعلة مع المشركين، فلا
يريدون أن يفتحوا جبهة أخرى مع اليهود؛ ولأنَّ اليهود كانوا على درجة من القوة تجعل
استسلامهم بعيد الاحتمال، والقتال معهم غير مأمون العواقب والنتائج.
ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه جواب حيي بن أخطب كبَّر وكبَّر المسلمون معه، ثم نهض صلى الله عليه وسلم لقتالهم ومناجزتهم، فاستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وسار إليهم يحمل اللواء علي بن أبي طالب، فلما وصل إليهم فرض صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، فالتجأ اليهود إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونًا لهم في ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ(5)} [الحشر].
فلما رأى المنافقون جدية الأمر، خانوا حلفاءهم اليهود، فلم يسوقوا لهم خيرًا ولم يدفعوا عنهم شرًّا، كما قال تعالي{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ]{الحشر[
ولم يطل الحصار طويلاً، وإنما دام ست ليال فقط، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فانهزموا وتهيؤا للاستسلام وإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نحن نخرج عن المدينة"، فوافق صلى الله عليه وسلم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فوافقوا على ذلك.
ولحقدهم وحسدهم قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم، ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع؛ حتى لا يأخذها المسلمون، ثم حملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير، وأسلم منهم رجلان فقط، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وكانت أموالهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. فكانت عبرة لأولي الأبصار .
ولقد ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:ـ
أولهما: عذاب الاستئصال:ـ
وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة
العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ، ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به
كان عادلاً جل وعلا: كما قال تعالي{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍٍ(45)} [فاطر].
ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال …
ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون" [مجموع الفتاوى].
قال تعالي }فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40){ ]العنكبوت[.
الخاتمة :
أحبتي في الله: الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات }لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ{ }وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ{
الكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته سبحانه وتعالى، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: }هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (11) { ]لقمان[ .
وفي النهاية: نوقن أن طلاقة القدرة الإلهية كلها رحمة بالمؤمنين فقد وعدهم الله تعالى بالحياة الطيبة ، فهذه الرحمة هي التي جعلت طفلا كإسماعيل عليه السلام يضرب الأرض بقدمه الصغيرة فيخرج ماء زمزم ، بعد أن هرولت أمه عليها السلام بين الصفا والمروة سبعة أشواط وهي تبحث عن الماء ، تأتي رحمة الله لتجعل الماء يخرج من ضربة بقدم طفل صغير ، فيتشقق الصخر ويخرج منه الماء تلك هي المعجزة الكبرى التي يريدنا الله أن نعيش معها .
فإذا وقفت أمامنا الأسباب فأمامنا طلاقة القدرة الإلهية ، نلجأ إليها ، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : }أمن يجيب المضطر إذا دعاه {.
إذا تخلت عنك الأسباب فلا تيأس ولا تعتقد أن كل شيء قد ضاع ، بل ارفع يديك إلى السماء وقل ( يا رب ) وساعتها تتفتح أبواب السماء ، وتتدخل القدرة الإلهية لتحقق لك ما تريد .
وتذكرك قول الله سبحانه وتعالى } هو عليّ هين { ، فالصعاب مهما بلغت فهي على الله شيء هين .. وهي أمام قدرة الله سبحانه وتعالى لا شيء ..

أسأل الله العظيم أن يأخذ بأيدينا جميعا إليه أخذ الكرام عليه ، وأن ينير بصائرنا بنور المعرفة والإيمان إنه ولي ذلك والقادر عليه.

آمين يا رب العالمين

تمت بتوفيق الله وفضله
...المزيد

﷽ الأمانة كما يصورها القرآن الكريم إعداد: الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين، خلق ...



الأمانة كما يصورها القرآن الكريم
إعداد:
الشيخ السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين، خلق الكون ووضع كل شيء في موضعه بنظام دقيق، واستأمن الإنسان على هذا الكون وحمله الأمانة العظمى بعدما عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحمله الإنسان، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ جعل الأمانة من أخلاقه العظيمة، فهو القائل: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربَّى أتباعه على الصدق والأمانة فربط بين الإيمان والأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)؛ رواه أحمد.
فاللهم صل على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فيا أيها المؤمنون..
لقد أعطتنا الهجرة درسًا عظيمًا في التمسك بالأخلاق العالية في أحلك المواقف ومع أعدى الأعداء، وهي أنَّ المبادئ لا تتجزَّأ، وأنَّ الالتزامَ بها ضرورةٌ لأهل العقيدة، رغمَ كلِّ الظروف، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان حريصًا على أداءِ الأمانات التي كانتْ مودعةً لديه إلى أهلها، وهو القائِل: (أدِّ الأمانةَ لمَن ائتمنَك، ولا تَخُن مَن خانك)، فترَك على بنَ أبي طالِب رضي الله عنه في فِراشه، وهو أمرٌ عجيب، هؤلاءِ الناس استباحوا دمَه، وأرادوا قتْلَه، بل أدْمَوه وآذوه وطردوه، لكنَّه لم يشأْ قتلَهم، ولم يستبِحْ أموالهم، ولو كلَّفه ذلك بالمخاطرةِ بابن عمِّه، وصَدَق الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
لذلك رأينا أن نربي أنفسنا وأولادنا على خلق الأمانة حتى يسعد المجتمع ويسعد معه أفراده جميعا وتنهض الأمة من كبوتها، لذلك كان حديثنا عن (الأمانة كما يصورها القرآن الكريم)، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية، وهي:
1- تعريف الأمانة.
2- مكانة الأمانة في الإسلام.
3- حاجة الأمة إلى الأمانة.
4- مجالات الأمانة في الحياة.
5- أثر الأمانة على الفرد والمجتمع.
6- كيفية اكتساب خلق الأمانة.
العنصر الأول: تعريف الأمانة:
الأمانةُ ضد الخيانة وهي صفة جميلة، وهي وضع كل شيء في موضعه، وهي أداء الحقوق، والمحافظة عليها، فالمسلم يعطي كل ذي حق حقه.
ورأينا في القرآن الكريم مخايل الأمانة على نبي الله موسى عليه السلام، حين سقى لابنتي الشيخ الكبير ورفق بهما، واحترم أنوثتهما وكان معهما شريفًا عفيفًا، قال تعالى: }فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ (24) فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (25) قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ (26)){ القصص.
وهنا يظهر لنا في تعريف الأمانة أنها:
1- عفة الأمين عما ليس له به حق.
2- تأدية الأمين ما يجب من حق لغيره.
3- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق وعدم التفريط بها والتهاون بشأنها.

العنصر الثاني: مكانة الأمانة في الإسلام:
الأمانة خلق جليل من أخلاق الإسلام، وأساس من أسسه، فهي فريضة عظيمة حملها الإنسان، بينما رفضت السموات والأرض والجبال أن يحملنها لعظمها وثقلها، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]
1- الأمانة خلق من أخلاق الله عز وجل، فإنه إذا استودع شيئًا حفظه، وإذا أئتمن على شيء رعاه حق الرعاية؛ حيث يقول ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ يوسف.
2- الأمانة خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.
3- من أخص خصائص المجتمع الإيماني ولقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
فالأمانة هي الصفة المميزة للمجتمع الإسلامي بل هي أخص خصائصه وسبب فلاحه في الدنيا حيث تصان حقوق الناس وتحفظ أموالهم وسبب فلاحه في الآخرة إذ جعل الله رعاية الأمانة وحفظها وأدائها ضمن الصفات الإيمانية التي تثمر الفلاح للمؤمنين والفوز بجنة الفردوس؛ قال تعالى في بداية المؤمنون ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وبعد أن عدد صفاتهم وجعل منها الأمانة: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، قال في النهاية: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 10، 11].
4- الأمانة دليل على إيمان العبد بالله تعالى، والخيانة دليل نفاقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان) البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)؛ حديث صحيح رواه أحمد في مسنده.
5- إنها من أغلى ما يرزقه الله للعبد، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا، كما جاء في
الحديث (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن
الخلق، وعفة مطعم) صحيح الترغيب.
6- سر السعادة في الدنيا والآخرة:
ولما كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش في الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في استعاذته بين الحالين معا إذ قال ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)).
7- تؤدي للبر والفاجر:
قال ميمون بن مهران: (ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم ).
لذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليا في فراشه ليلة الهجرة المباركة لأداء الأمانات ورد الودائع إلى أهلها برغم ما فعلوه معه ومع أصحابه الكرام من اضطهاد وإيذاء.
ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أن قيم الإسلام ثابتة لا تتجزأ ولا تتغير.
8- لا يحملها الرجال أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة، وهي فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، بل إنها تُثقِل كاهل الوجود كله، ومن ثَم فلا ينبغي لإنسان أن يستهين بها، أو يُفْرِط في حقِّها، ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾ [الأحزاب: 72].
9- سبب من أسباب نيل محبة الله عز وجل لمحبة الله قال صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا ائتمن)؛ رواه البيهقي وحسنه الألباني.
10- الأمانة يعلو بها شأن الرجال وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم شأن أبي عبيدة رضي الله عنه، فيقول: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)؛ رواه البخاري.
العنصر الثالث: حاجة الأمة إلى الأمانة:
إن الأمة في أمس الحاجة إلى الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والوفاء؛ لأن الأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها، وتلفت الأنظار لها، ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها، وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق، فإذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح أمن الناس، وحفظت الحقوق، وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، وقلت الرذيلة، وزادت الفضيلة، وقويت شوكة الإسلام، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب، والخيانة، والظلم، والغش، فسد المجتمع واختل الأمن، وضاعت الحقوق، وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع، وضعفت الشريعة في نفوس أهلها، وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)؛ رواه أحمد.


العنصر الرابع: مجالات الأمانة في الحياة:
الأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معانٍ شتَّى مناطها جميعًا شعور المرء بتبعيته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربِّه، فالعوام يقصرون الأمانة في أضيق معانيها وآخرها ترتيبًا وهو حفظ الودائع مع أن حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل، إنها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، حتى إنه عندما يكون أحدهم على أهبة سفر يقول له أخوه استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، وقد أمر الشارع بحفظ الأمانة وأدائها، وذم الخيانة، وحذر منها في نصوص كثيرة؛ منها:
‌قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ {النساء:58}.
ذكر ابن كثير رحمه الله أنها عامة في جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، وهي نوعان: حقوق الله تعالى من صلاة وصيام وغيرهما وحقوق العباد كالودائع وغيرها.
والأمانة مع ثقلها إلا أنها ليست مستحيلة، بل تتوج بها عباد الله الصالحين، حتى وصفهم الله بها فقال تعالى: "﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾"{المؤمنون:8}.
والتفت إلى هذا التناغم اللفظي والمعنوي بين الإيمان والأمانة، في قول الحبيب: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ {الأنفال:27}.
‌وقال صلى الله عليه وسلم في الأمر بردِّ الأمانة: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)؛ أبو داود والترمذي.
ومجالات الأمانة متعددة، وهي:
1- الأمانة على دين الله تعالى:
وتلك أعلى مراتب الأمانة؛ لأن أعز ما يملكه الإنسان وأثمن شيء وأغلاه، دين الله وهو أتم النعم وأسبغها على المسلم: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
والإسلام تمام النعمة وما رضيه الله لنا وهو تاج الرؤوس ووسام الصدور؛ لأنه تسمية الله تعالى لنا: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (78) الحج.
والأمانة على دين الله تتمثل في فهمه ووعيه واستيعابه والالتزام به والدعوة إليه وتسخير جميع الطاقات والامكانات الفردية والجماعية لنشرة في ربوع العالمين.
فمن الأمانة أن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض التي افترضها الله عليه على أتم وجه قاصدًا بها وجه الله تعالى.
2- الأمانة في المسؤولية والقيادة:
من معاني الأمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات ثابت من وجوه كثيرة،
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله، ألا تستعملني؟- معنى الاستعمال هنا أن يجعله عاملًا، واليًا، حاكمًا، موظفا كبيرًا، رجل مسؤولية،- قال: فضرب بيده على منكبي- تحببًا، وترفقًا، وتلطفًا- ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف- أي القيادة تحتاج إلى خصائص- وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)؛ [أخرجه مسلم في الصحيح، وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي ذر].
إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح النفس قد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة.
ألا ترى إلى سيدنا يوسف الصديق إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه أيضا ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].
وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول جلدا لها فحذره منها والأمانة تقتضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها فإذا ملنا إلى غيره بهوي أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنَادِ.
وعن يزيد بن أبي سفيان: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا حتى يدخله جهنم)؛ رواه مسلم.
والأُمَة التي لا أمانة فيها هي الأُمَة التي تعبث فيها الشفاعاتُ بالمصالح المقرَّرة، وتطيش بأقدار الرجال الأكْفَاء؛ لتهملهم وتُقَدم مَنْ دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي يقع آخر الزمان؛
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة! فقال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)؛ رواه البخاري.
والوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو مسؤول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)؛ أخرجاه في الصحيحين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة)؛ رواه مسلم،
ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير، فقالوا: قل: أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: الأمير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم، فإنه أعلم بما يقول، فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها.
وهذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، الولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلاً، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.
3- الأمانة في حفظ الجوارح:
وعلى المسلم أن يعلم أن الجوارح والأعضاء كلها أمانات، يجب عليه أن يحافظ عليها، ولا يستعملها فيما يغضب الله، وأن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك وإلى المواهب التي خصك به، وإلى ما حُبيت من أموال وأولاد، فتدرك أنها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها في قرباته، وأن تستخدمها في مرضاته، فإن امتحنت بنقص شيء منها، فلا يستخفنك الجزع متوهمًا أن ملكك المحض قد سُلِب منك، فالله أولى بك منك، وأولى بما أفاء عليك، وله ما أخذ وله ما أعطى! وإن امتحنت ببقائها، فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد أو تفتتن بها عن طاعة، أو تستقوي بها على معصية؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 27، 28].
4- أمانة المجالس:
ومن معاني الأماني أن تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها ويسرد أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس وذكرهم ما يدور فيه من كلام منسوبًا إلى قائله، أو غير منسوب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة).
وحرمات المجالس تُصان ما دام الذي يجري فيها مضبوطًا بقوانين الأدب وشرائع الدين، وإلا فليس لها حُرمة، وعلى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم؛ ليلحقوا به الأذى- أن يسارع إلى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته؛ قال رسول الله: (المجلس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق).
5- أمانة الكلمة:
يقول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم24-27].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (18){ ق.
ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا من رضوان الله، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم)؛ رواه البخاري، ومسلم.
كم من كلمة أفرحت وأخرى أحزنت، وكم من كلمة انشرح لها الصدر، وأنس بها الفؤاد، وأحس بسببها سعة الدنيا، وأخرى انقبضت لها النفس، واستوحشها القلب، وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت الدنيا على رحبها، وكم من كلمة آست جروحًا، وأخرى نكأت، وأحدثت حروقًا وآلامًا، والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء، دون شعور يتبعها، بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ * الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 1-3].
والمؤمن الحق يشعر بقيمة كلمته؛ حيث يعرف أنها معراج للطهر وسبيل إلى الصلاح، وفي ذلك أجمل عزاء حينما تنازعه نفسه؛ ليحارب أرباب الكلام في كثرته وتفلته، دون حسيب أو رقيب؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنون بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولًا سديدًا؛ أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم؛ أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم ذنوبهم الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه"؛ تفسير ابن كثير.
ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (والكلمة الطيبة صدقة)؛ رواه مسلم.
وإن سلامة الإيمان مرتبطة بنزاهة اللسان؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)؛ رواه البخاري، ومسلم.
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات الناس، فمن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، وفضحه ولو في بيته)؛ رواه البيهقي بلفظ ونحوه.
فعلى المسلم أن ينزه لسانه من كل قبيح، وما أجمل أن يجري على لسانه الذكر والتسبيح والتحميد والاستغفار وكلمة الحق، وما أقبح أن يجري على لسانه كلمة زور أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو استهزاء واستخفاف بالناس، أو لعن أو إفشاء سر أخيه عند الخصومة، وعلى المسلم أن يضبط لسانه عند الكلام أثناء الغضب أو الجدال، فربَّما طلق زوجته أثناء الغضب، فيكون قد أذى نفسه وأسرته ويندم ولات ساعة مندم.
6- أمانة العلاقة الزوجية:
وللعلاقات الزوجية في نظر الإسلام قداسة، فما يضمه البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يُطوى في أستار مسبلة، فلا يطلع عليه أحد مهما قرب، والسفهاء من العامة يُثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور، وهذا وقاحة حرمها الله،
فعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال: (لعل رجلاً يقول: ما فعل بأهله، ولعل امرأة تُخبرها بما فعلت مع زوجها)، فأزَمَّ القوم- سكتوا وجلين- فقلت: أى والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلنَ! قال: فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك شيطان لقِي شيطانة، فغَشِيها والناس ينظرون)،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها).
7- أمانة الودائع:
والودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها، هي من الأمانات
التي نُسأل عنها؟
وقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة عن ابن جريج؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]،
قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاحَ الكعبة، ودخلَ به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، قال ميمون بن مهران: "ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم".
واعتبار الوديعة غنيمة باردة هو ضرب من السرقة الفاجرة؛
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يُؤتي بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله، فيُقال: أدِّ أمانتك! فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به إلى الهاوية وتُمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يُدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنه أنه خارج زلَّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الأبدين، ثم قال: الصلاة أمانة والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع"، قال راوي الحديث: فأتيتُ البراء بن عازب، فقلتُ: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا! قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
وقد أُلْحِق بالودائع الديون؛ لأن المدين بقرض أو سلم أو بيع لأجَلٍ؛ إما أن يكون قد أخذ أموال الناس يريد أداءها، وإما أن يكون قد أخذها يريد إتلافها، وآخذها يريد أداءها فقد أدى الأمانة، وإلا فقد خان الأمانة،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ))؛ (البخاري، ابن ماجه، أحمد)، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ (283) البقرة.
وقد جاء في الحديث الصحيح نموذجًا لمن يؤدي الأمانة ويوفي ما عليه؛ روي البخاري رحمه الله تعالى بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: (إن رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إلى بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).
العنصر الخامس: أثر الأمانة على الفرد والمجتمع:
1- إن الله يحب الأمناء ويحبهم رسول الله، ثم يحبهم الناس لذلك.
2- شيوع الثقة والتعاون بين أفراد المجتمع.
3- وجود الطمأنينة وراحة البال وسهولة التعامل بين الناس.
4- تورث الذكر الجميل بين الناس.
فالأمانة يسعد المجتمع، فتعم المودة والمحبة والإيثار، ونبذ الأنانية وحب الذات، ويتنافس كل فرد في المجتمع في التفاني في إسعاد الجميع، وهذه بعض النماذج العالية التي تبيِّن أثر الأمانة على الفرد والمجتمع؛ قال صلى الله عليه وسلم وهو يحكي لأصحابه رضي الله عنهم: (اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم ابتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض- (أي: الذي باعها): إنما بعتك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام بالجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدَّقا".
وهذا يونس بن عبيد كان من أكابر السلف الصالح، كان يبيع الثياب في محله، وقد رتبها بحسب أسعارها؛ نوع بأربعمائة درهم، ونوع بمائتين، خلف ابن أخيه في الدكان، فجاء رجل، وطلب ثوبًا بأربعمائة، فعرض عليه ثوب المائتين، فاستحسنه، وطلبه، واشتراه ومشى به، ووضعه على يده، فاستقبله يونس، فعرف ثوبه، فسأله: بكم اشتريت هذا الثوب؟ قال: بأربعمائة، قال هذا لا يساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى نرده، قال: يا هذا، هذا يساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيته، فقال يونس: انصرف إلى الدكان؛ لنعيد لك فرق الثمن، فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها، ثم أخذه إلى المحل ورد عليه المائتين، وخاصم ابن أخيه، وقال له، أما استحييت! أما اتقيت الله عز وجل! تربح مثل الثمن، وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذه إلا ورضِي به، قال فهلا رضيتَ له ما ترضاه لنفسك!
وهذا العالم الجليل الإمام أبو حنيفة النعمان، كان تاجر قماش، جاءته امرأة بثوب حرير تبيعه له، فقال: كم ثمنه؟ قالت: مائة، فقال أبو حنيفة، هو خير من مائة، بكم تقولين؟ فزادت: مائة، قال: هو خير من مائتين، فكم تقولين؟ قالت: أربعمائة، قال: هو خير من ذلك، قالت: أتهزأ بي، وظنت أنه يهزأ بها، قال: لا والله، هاتِ رجلًا يقومه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسمائة، وها هو أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى جاءته امرأة ضعيفة فقيرة، وإنها أمانة، بعني هذا الثوب بما يقوم عليك، فقال: خذيه بأربعة دراهم، قالت: لا تسخر مني، وأنا عجوز، قال: إني اشتريت ثوبين، فبعتُ أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، بقي هذا الثوب عليّ بأربعة دراهم، فخذيه بهم.
أيها الإخوة الكرام، لن نصل إلى ما نريد حتى نضبط كل شؤون حياتنا وَفق شرع الله عز وجل.
العنصر السادس: كيفية اكتساب خلق الأمانة:
1- تذكر المسؤولية والموقف أمام الله يوم القيامة، والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم عن الدنايا لا تكون بهذه المثابة، إلا إذا استقرت في وجدان المرء ورست في أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره!
وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله: (إن الأمانة نزلت في جذر قُلُوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة).
والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها، والأمانة ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة، فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة، فما يغني عن المرء ترديد للآيات، ولا دراسة السنن؟
وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أُمناء، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق!
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه لتسرُّب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، فيروى عن الرسول: (ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينامُ الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت- وهو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة- ثم ينام الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل- كالثبور التي تظهر في اليد مثلاً في استخدام الأدوات الخشنة- ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يُقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، وحتى يُقال للرجل:
ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان).
والحديث يصوِّر انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرًا محرجًا، فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرًا لاذعًا، بيد أنها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!
2- التعود والتنشئة، وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر.
3- السعي لحسن الذكر في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله، ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة، ومنها الأمانة.
4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.
5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع الأمانة.
وفي الختام:
أيها المؤمنون، إن الأمانة بهذا المعنى شاملة لكل ما استحفظ عليه العبد من حقوق؛ سواء كانت لله أو لخلقه، وخيانتها من صفات أهل الكفر والنفاق، فهيَّا معًا لنحيي خُلقًا عظيمًا من أخلاق الإسلام، ولنجاهد أنفسنا عليه؛ لننال عظيم الأجر من الله جل وعز، والله الموفق والمستعان.
انتهت بفضل الله وبتوفيقه
...المزيد

التسبيح : هو تنزيه الله عما لا يليق به، وهذا نوع من الذكر الرفيع يشترك فيه البشر والملائكة، بل ...

التسبيح : هو تنزيه الله عما لا يليق به، وهذا نوع من الذكر الرفيع يشترك فيه البشر والملائكة، بل وسائر المخلوقات..
وفيه إثبات الكمال لله تعالى وحده، فهو تنزيه يتضمن التعظيم، ودليل تضمنه التعظيم قول النبي (ﷺ) «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ» [رواه مسلم] والوارد في الركوع تسبيح.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والأمر بتسبيحه يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له؛ فإن التسبيح يقتضي التنزيه والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: والتسبيح ثناء عليه سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه.
...المزيد

قدوات خالدة ---------------- ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻌﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ‏(ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ‏)ﻓﺄﻭﺗﻲ ﺑﺎﻟﺤﻠﻴﺐ ﻓﺸﺮﺑﻪ ﻓﺨﺮﺝ ﺍﻟﺤﻠﻴﺐ ...

قدوات خالدة
----------------
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻌﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ‏(ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ‏)ﻓﺄﻭﺗﻲ ﺑﺎﻟﺤﻠﻴﺐ ﻓﺸﺮﺑﻪ ﻓﺨﺮﺝ ﺍﻟﺤﻠﻴﺐ ﻣﻦ ﺧﺎﺻﺮﺗﻪ ..
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ : ﺍﻭﺻﻲ ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻓﺈﻧﻚ ﻟﻦ ﺗﻌﻴﺶ . .
ﻓﻨﺎﺩﻯ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻪ : ﺍﺋﺘﻨﻲ ﺑﺤﺬﻳﻔﺔ ﺑﻦ ﺍﻟﻴﻤﺎﻥ .
ﻭﺟﺎﺀ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﺎﻩ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ‏( ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ‏)ﺟﺪﻭﻻ ﺑﺄﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﻭﻻ ﻳﻌﺮﻓﻬﻢ ﺇﻻ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭﺣﺬﻳﻔﺔ . ..
ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ ﻭﺍﻟﺪﻣﺎﺀ ﺗﺠﺮﻱ ﻣﻦ ﺧﺎﺻﺮﺗﻪ : ﻳﺎ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﺑﻦ ﺍﻟﻴﻤﺎﻥ ﺍﻧﺎﺷﺪﻙ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻞ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﺳﻤﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ؟ .
ﻓﺴﻜﺖ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻭﺩﻣﻌﺖ ﻋﻴﻨﺎﻩ ﻭﻗﺎﻝ : ﺍﺋﺘﻤﻨﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺳﺮ ﻻﺍﺳﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺃﻗﻮﻟﻪ ﻳﺎ ﻋﻤﺮ !
ﻗﺎﻝ : ﺑﺤﻖ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻚ ﻗﻞ ﻟﻲ ﻫﻞ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﺳﻤﻲ ﺑﻴﻨﻬﻢ؟
ﻓﺒﻜﻰ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻓﻘﺎﻝ : ﺍﻗﻮﻝ ﻟﻚ ﻭﻻ ﺍﻗﻮﻟﻬﺎ ﻟﻐﻴﺮﻙ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺫﻛﺮ ﺍﺳﻤﻚ ﻋﻨﺪﻱ .
ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮ :ﺑﻘﻲ ﻟﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺃﻣﺮ ﻭﺍﺣﺪ .
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ : ﻣﺎ ﻫﻮ ﻳﺎ ﺍﺑﺘﺎﻩ؟
ﻗﺎﻝ :ﺃﻥ ﺍﺩﻓﻦ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ،ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﺍﺫﻫﺐ ﺍﻟﻰ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺃﻡ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻭﻻ ﺗﻘﻞ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺑﻞ ﻗﻞ ﻋﻤﺮ ﻳﺴﺘﺄﺫﻧﻚ ﺍﻧﺘﻲ ﺻﺎﺣﺒﺔ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺇﻥ ﺇﺫﻧﺖ ﺃﻥ ﻳﺪﻓﻦ ﻋﻤﺮ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ ﺻﺎﺣﺒﻴﻪ .
ﻓﻘﺎﻟﺖ : ﻧﻌﻢ ﻗﺪ ﻛﻨﺖ ﺃﻋﺪﺩﺕ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻟﻲ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﺗﺮﻛﻪ ﻟﻌﻤﺮ .
ﻓﻌﺎﺩ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ ﻓﺮﺣﺄ ﻭﻗﺎﻝ : ﻳﺎ ﺍﺑﺘﺎﻩ ﻗﺪ ﺇﺫﻧﺖ ﺛﻢ ﺭﺃﻯ ﺧﺪ ﻋﻤﺮ ﻋﻠﻰﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻓﺠﻠﺲ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ ﻭﻭﺿﻊ ﺧﺪﻩ ﻋﻠﻰ ﻓﺨﺪﻩ ﻓﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﺑﻨﻪ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻪ :ﻟﻢ ﺗﻤﻨﻊ ﺧﺪﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ .
ﻗﺎﻝ : ﻳﺎ ﺍﺑﺘﺎﻩ !
ﻗﺎﻝ :ﺿﻊ ﺧﺪ ﺍﺑﻴﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻟﻴﻤﺮﻍ ﺑﻪ ﻭﺟﻬﻪ ﻓﻮﻳﻞ ﻋﻤﺮ ﺃﻥ ﻟﻢ ﻳﻐﻔﺮ ﻟﻪ ﺭﺑﻪ ﻏﺪﺍ !
ﻭﻣﺎﺕ ﻋﻤﺮ ﻭﺃﻭﺻﻰ ﺍﺑﻨﻪ ﻓﻘﺎﻝ :ﺃﻥ ﺣﻤﻠﺘﻨﻲ ﻭﺻﻠﻴﺖ ﻋﻠﻲ ﻓﻲﻣﺴﺠﺪ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﺄﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺭﺍﻋﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﺈﻥ ﺻﻠﻰ ﻋﻠﻲ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻓﺎﺣﻤﻠﻨﻲ ﺑﺎﺗﺠﺎﻩ ﺑﻴﺖ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ....
ﺛﻢ ﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻓﻘﻞ ﻳﺎ ﺃﻣﺎﻩ ﻭﻟﺪﻙ ﻋﻤﺮ ﻭﻻ ﺗﻘﻞ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻓﻘﺪ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﺳﺘﺤﻴﻴﺖ ﻣﻨﻲ ﻓﺄﺫﻧﺖ ﻟﻲ ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﺄﺫﻥ ﻓﺎﺩﻓﻨﻲ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺑﺮ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ .
ﻓﺤﻤﻠﻪ ﻭﻧﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﺠﺎﺀ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻭﺻﻠﻰ ﻋﻠﻴﻪ .
ﻓﺎﺳﺘﺒﺸﺮ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭﺣﻤﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺖ ﻋﺎﺋﺸﺔ،
ﻓﻘﺎﻝ ﻳﺎ ﺃﻣﻨﺎ ﻭﻟﺪﻙ ﻋﻤﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻫﻞ ﺗﺄﺫﻧﻴﻦ ﻟﻪ .
ﻓﻘﺎﻟﺖ : ﺍﺩﺧﻠﻮﻩ .
ﻓﺪﻓﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ‏(ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ‏) ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺻﺎﺣﺒﻴﻪ .
ﺻﻠﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ ﺍﻟﺒﺮﻳﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﻭﻋﻠﻰ ﺁﻟﻪ ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﻳﻦ
...المزيد

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد إذا عَمِلَ بطاعة الله أحبَّه الله، وإذا أحبَّه الله حبَّبَه ...

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد إذا عَمِلَ بطاعة الله أحبَّه الله، وإذا أحبَّه الله حبَّبَه إلى خَلقِه، وإذا عَمِلَ بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه بَغَّضَه إلى خَلقِه.

من حكم ابن عطاء : ======== مَتى فَتَحَ لَكَ بابَ الفَهْمِ في المَنْعِ عادَ المَنْعُ عَيْنَ ...

من حكم ابن عطاء :
========
مَتى فَتَحَ لَكَ بابَ الفَهْمِ في المَنْعِ عادَ المَنْعُ عَيْنَ العَطاءِ.
اذا أيقنت نفوذ قدرته واحاطة علمه فيك ،تجوهر قلبك بنور الفهم وأدركت روحك أسرار منعه لمراداتك واراداتك ، فكن كما يريد لا كما تريد
وكما يشاء لا كما تشاء ، وأظهر عجزك يقويك وأظهر فقرك يغنيك ...
لا تدبر لك أمرا ** فذوي التدبير هلكى
سلم الامر الينا ** نحن أولى بك منك
...المزيد

من حكم ابن عطاء : ============ إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ في ماذا ...

من حكم ابن عطاء :
============
إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ في ماذا يُقيمَكَ.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) وأهل السعادة الناجون درجات ومراتب :
(فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات)
(وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (*) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (*) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(*) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ...) وعصاة أهل الايمان غير مخلدين .
وميزان معرفة العبد نفسه في أمثال قوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (*) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (*) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (* ) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (*) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (*) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (*) }
فهل انت ممن آمن بقلبه وصدق عمله ايمانُه بجوارحه .
هل أنت ممن انقاد لمن عرفك بربك ودلك عليه وهو رسوله صلى الله عليه وسلم .
فانت ممن سبقت لهم الحسنى فيما يرى عليك من آثار الطاعة .
وان كنت غير ذلك وعلى نقيضه فهذه طريق أهل الشقاء .
وهل أنت ممن يسارع الى الخيرات ويبادر في الاتباع ويستجيب لمن والاه وأحبه .
فان كنت كذلك فأنت من المكرمين . وان كنت ممن يتساهل في المحرمات ويتكاسل في الطاعات فأنت من المهانين المحرومين .
...المزيد

🌸افتتحت سورة النحل بالنهي عن الاستعجال أتى أمر الله فلا تستعجلوه وختمت بالامر بالصبر واصبر وما ...

🌸افتتحت سورة النحل بالنهي عن الاستعجال أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وختمت بالامر بالصبر واصبر وما صبرك إلا بالله
🍁وما بين التروى والصبر يكمن خير لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى فثق بالله ولا تجزع .

☀ كل شيء يولد مع الصباح ... الأقدار ، الأمل ، الطموح ، النجاح ... قصة الأمس انتهت ، وقصة اليوم ...

☀ كل شيء يولد مع الصباح ...
الأقدار ، الأمل ، الطموح ، النجاح ...
قصة الأمس انتهت ، وقصة اليوم بدأت ..

﷽ أدب الإسلام في التعامل مع الجار إعداد : الشيخ / السيد طه أحمد الحمد لله رب العالمين .. ...



أدب الإسلام في التعامل مع الجار
إعداد :
الشيخ / السيد طه أحمد

الحمد لله رب العالمين .. اهتم بالعلاقات الإنسانية وقرنها بعبادته تعالي فقال تعالي {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (35)}[ النساء]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك والحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ربط بين المؤمنين جميعا برباط الإيمان والمحبة فقال تعالي{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (10)} [الحجرات]
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ).. بين لنا أساس التفاضل في العلاقات فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ[ [رواه الترمذي].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
إن ما يميز شريعة الإسلام عن سواها من الشرائع والأديان هو شمولها لكافة مناحي الحياة وعمومها لكافة الخلق إنسهم وجنهم، ذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت لتصحح مسار الحياة الإنسانية وترسم لها الطريق القويم والمنهج الواضح السليم في التعامل وفق تعاليم واضحة مفهومة سهلة التطبيق.
لهذا نهض أصحاب النبي (ﷺ) وسلفنا الصالح بتلك الرسالة مطبقين تعاليمها عمليا فيما بينهم وبين خالقهم وفازوا بسعادة العاجل والآجل، بل إن في التزام أولئك النفر بتطبيق معايير الإسلام وتعاليمه عليهم وعلى غيرهم ما يدعو إلى الاعتبار والانبهار، ومن تلك القواعد التي أرستها الشريعة الإسلامية في التعامل ما بين الناس حقوق الجار.
لذلك كان لزاما علينا لكي نحقق السعادة لأنفسنا ولأمتنا كما سعد أسلافنا أن نتحدث عن أدب الإسلام مع الجار ، وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية :ــ
============
أولاً: تعريف الجار.
ثانيًا: حدّ الجوار.
ثالثًا: مراتب الجيران.
رابعًا: منزلة الجار في الإسلام.
خامسًا: حقوق الجار في الإسلام.
سادسًا: أثر الاهتمام بحقوق الجار على المجتمع المسلم.
سابعًا: نماذج مضيئة من حياة السلف في معاملة الجيران .
ثامنا :ـ الخاتمة .
===========================
العنصر الأول : تعريف الجار:ـ
الجار :ـ هومن جاورك جوارًا شرعيًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوًا، محسنًا أو مسيئًا، نافعًا أو ضارًا، قريبًا أو أجنبيًا، بلديًا أو غريبًا. في المنزل والمسكن أوالحقل .
العنصر الثاني : حد الجوار :ـ
ذهب العلماء إلي أنه أربعون دارًا من كلّ ناحية، وهو قول عائشة رضي الله عنها والحسن والزهري والأوزاعي.
قال الإمام الشوكاني: روى القرطبي أن رجلا أتى النبي (ﷺ) فجعل يشكو جاره، فأمر النبي (ﷺ) أن ينادي على باب المسجد ” ألا إن أربعين دارا جارا ” ألا إنّ أربعين دارًا جارًا، أربعون جارًا من أربع جِهات، وهناك عشرة نحو الأعلى، أو أقلّ من ذلك، هؤلاء كلّهم جيرانك.

العنصر الثالث : مراتب الجيران: ـ
الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك، له حقّ الجوار.
وجار له حقان وهو المسلم، له حقّ الجوار وحق الإسلام.
وجارله ثلاثة حقوق مسلم له رحم، له حق الجوار والإسلام والرحم .
وأخرج البزار في مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: ” الجيران ثلاثة: جار له حق واحد وهو أدنى الجيران، وجار له حقان، جار له ثلاثة حقوق ..”.
العنصر الرابع : منزلة الجار في الإسلام:ـ
1ـ قرن الله تعالى حقّ الجار بعبادته وحده والإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين.
قال تعالي{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)} [ النساء] الجار ذي القربى، والجار الجنب.
2ـ تكرّرت الوصية من جبريل عليه السلام بالجار حتى ظنّ النبي (ﷺ) أنه سيورّثه.
قال (ﷺ): (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)
3ـ جعل النبي (ﷺ) إكرام الجار والإحسان إليه وعدم إيذائه من علامات الإيمان.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } [متفق عليه ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ){اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ،ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب }
4ـ نفي النبي (ﷺ) الإيمان عمّن لا يأمن جاره بوائقه ،وعمن لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه. قال (ﷺ) {وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ}[البخاري]
وعن أنس رضي الله عنه، قال قال رسول الله (ﷺ): {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه ، وهو يعلم به} [رواه البزار]
وهذا الحديث ينفي عن المسلم الإيمان إذا لم يساعد جاره فكيف إذا أوقع فيه الأذى، وإذا قلتَ لا أعلم أقول لك: من لم يتفقَّد شؤون من حوله فليس مؤمناً .
5 ـ ترتيب الخيريّة عند الله على الخيريّة للجار وسبب في رفع منزلته عند الله عز وجل :ـ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) {خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ} [رواه الترمذي صححه الألباني] .
صاحبان، صديقان، شريكان، جاران، خيرُ الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه إذا فقْتَهُ بالإحسان فأنت أفضلُ منه، إذا فقْتَهُ في الانضباط فأنت أفضلُ منه، إذا فقْتَهُ في العفو فأنت خير منه،{ خَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ}
6ـ جعل النبي (ﷺ) حسن الجوار سببًا لعمران الديار وزيادة الأعمار.
قال النبي (ﷺ) {إنه من أعطي حظَّه من الرِّفق، فقد أعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحُسن الخلق وحُسن الجوار يَعمُران الديار، ويزيدان في الأعمار}[صحَّحه الألباني]
7ـ سوء الجوار من القاصمات للظهر :ـ
أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال:{ألا أخبركم بالثلاث الفواقر؟ قيل: وما هن؟
قال: إمام جائر، إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء، إن رأى حسنة غطاها، وإن رأى سيئة أفشاها وامرأة السوء إن شهدتها غاظتك، وإن غبت عنها خانتك } [رواه ابن أبي شيبة ] .
الفاقرة هي عظم الظهر. الفواقر جمع فاقرة، أو فِقْرة عَظْمة الظّهر، أيْ ثلاثة يحطِّمْن عظيمات الظّهر أيْ يقصِمن الظّهر .

8ـ إساءة الجوار من عادات الجاهلية التي بعث الله نبيه لتغييرها:ـ
يتضح هذا من جواب جعفر بن أبي طالب للنجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد، فقال له جعفر: {أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام -فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا} [رواه أحمد].
9 ـ الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب:ـ
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عز وجل: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ» [رواه أحمد وحسنه الألباني]
10ـ أن الجار الصالح من أسباب سعادة العبد، وعكسه من أسباب شقائه:ـ
فعن سلمان قال رسول الله (ﷺ): {أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق} [أخرجه الألباني في الصحيحة]
11ـ يقبل الله عز وجل شهادة جيرانه في حقه بالخير، ويغفر له ما لا يعلمون :ـ
روى أنس رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: {ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين، إلاَّ قال: قد قبِلت فيه عِلمكم فيه، وغفَرت له ما لا تعلمون}[ قال الألباني: حسن لغيره]. .
ويعرف الإنسان نفسه بأنه أحسن إلى الجار أو أساء إليه بتطبيق الميزان النبوي في ذلك،
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله (ﷺ): كيف لي أن أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأت؟ قال النبي (ﷺ):{إذا سمعت جيرانك يقولون أن قد أحسنتَ فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ فقد أسأت}
12ـ تعظيم الخطيئة في حق الجار:ـ
عن الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ يَقُولُ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ قَالُوا : حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (ﷺ) ؛فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) لِأَصْحَابِهِ : لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ !
فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ قَالُوا :حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ (ﷺ) ؛فَهِيَ حَرَامٌ .
قَالَ : لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ }. رواه أحمد وصححه الألباني.
13 ـ عدم مصاحبة المسيئ للجار في الغزو مع النبي (ﷺ):ـ
أخرج الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول اللّه (ﷺ) في غزاة فقال : (لا يصحبنا اليوم من آذى جاره) [ رواه الطبراني]
العنصر الخامس : حقوق الجار في الإسلام:ـ
لقد تعبدنا الله تعالي بالإحسان إلي الجار وأي تقصير في هذا الحق يؤدي إلي غضب الله تعالي وحتي نتمكن من أداء هذه العبادة فيجب أن نتعرف علي حقوق الجار في الإسلام وهي كما يلي :ـ
أولًا: كف الأذى عنه:ــ
وهذا الحق واجب على المسلمين، فلا يجوز لهم بحال إيذاء أحد من الناس ما دام مسالما، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ:{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ}[رواه البخاري]
وعَنْه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: {هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ} [أخرجه أحمد وصححه الألباني]
وأنت حينما تؤذي الجار أنت تُسْقِطُ عباداتك كلّها، وتؤكّد للناس أنّ الدِّين كلامٌ فارغ، وأنّ الدّين رابطةٌ واهيَة، الدِّينُ معاملة، الدِّين تَضْحيَة، الدِّين أمانة .
ومن صور إيذاء الجار :ــ
حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس،أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته ومحارمه، أو إزعاجه بالصراخ والأصوات المنكرة، أو إيذائه في أبنائه.
ثانيا: الإهداء إليه وبذل المعروف :ـ
فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة،
فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ (ﷺ) فَقَالَ:{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ} [رواه البخاريٍ]
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):{يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ}[رواه مسلم]
فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم)
وذُبح لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ:{مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (رواه الترمذي). وسألت عائشة رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ فقالت: إِنَّ لِي جَارَتيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: {إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا} [رواه البخاري]
واعلم أخي المسلم : إن الهدية ليست فقط للجار الفقير المحتاج، بل الهدية أشمل من هذا، فقد أهدي للنبي (ﷺ) مع أنه لو أراد المزيد من الرزق لدعا الله فأعطاه ما شاء من متاع الدنيا، بل كان يهدي للناس ويقبل الهدية.
فهذه هي السنة في العطية للجار، وعدم منع المعروف عنه، وإلا صار خصما له يوم القيامة عند الملك العدل سبحانه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد أتى علينا زمان وما أحد أحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدنيا والدرهم أحبّ إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: {كم من جارمتعلّق بجاره يوم القيامة يقول: ياربّ، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه} [أخرجه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني]
ثالثا: محبّة الخير له كما يحبها العبد لنفسه وعدم حسده:ــ
فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [أخرجه مسلم]
رابعا: مساعدته ماديًا فيما يحتاج إليه :ــ
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: {لا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ للناس لما رأى من تقصيرهم في حقوق جيرانهم: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟!وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ} [رواه مسلم]
ولقد ضرب أصحاب رسول الله (ﷺ) أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي لهم وثناءه عليهم، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه)
خامسا: الحفاظ على عوراته وعدم خيانته في أهله :ــ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: {لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} [رواه مسلم]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: سألت رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَر؟ قَالَ: {أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْت: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [رواه البخاري]
فلقد كان العرب في الجاهلية يعظمون حق الجار، ويحترمون الجوار، ويعتزون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك، وكان منهم من يحفظ عورات جاره ولا ينتهكها.
وقد قال عنترة بن شداد في ذلك شعراً:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها

سادسا: تفقد أحواله، ومواساته عند حاجته:ـ
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال (ﷺ): (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): {أوّل خصمين يوم القيامة جاران}
سابعا: حق الشفعة :ــ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) أَنَّهُ قَالَ :{مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ} [رواه أحمد].
أي لا يَبِعْ حقّه في الشِّرْكة أو حقّه في البيت إذا كان له جارٌ حتى يستأذن جارهُ أو شريكه وهذا لَعَمْري لَمِن أدقّ الحقوق التي بيّنها النبي (ﷺ)
ثامنا: احتمال أذاه:ــ
من ابتلي بجار يؤذيه فعليه بالصبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاصْبِر، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» [رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح]
معنى ذلك أنّ الإنسان يعيشُ بِسُمعته، ويعيشُ بِكَرامته، يعيشُ بِثَناء الناس عليه فحينما بالغ هذا الجار بالإساءة إلى جاره،
فالنبي عليه (ﷺ) أهْدَرَ كرامته، لأن هذا لا كرامة له، ولا غيبة له، فاُذْكر ما يفعلهُ لِيَحذر الناس منه .
يقول الإمام الغزَّالي رحمه الله كما في "الإحياء" واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضًا قد كف أذاه، فليس في ذلك قضاء حقه، ولا يكفي احتمال الأذى، بل لا بد من الرِّفق، وإسداء الخير والمعروف.
يُروى أن رجلاً جاء إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني، ويُضيِّق علي، فقال: اذهب، فإن هو عصى الله فيك، فأطِع الله فيه.
وهناك فضل آخر، وهو أن يغضي عن هَفواته، ويتلقى بالصفح كثيرًا من زَلاَّته وإساءاته، ولا سيما إساءة صدرت عن غير قصد، أو إساءة ندِم عليها وجاء معتذرًا منها. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشِّيم.
لهذا معاشر المسلمين فإننا مأمورون بتحرّي حقوق جيراننا والقيام بها؛ لننال الفضل في الدنيا، وننجو من المؤاخذة في الآخرة.

العنصر السادس : أثر الاهتمام بحقوق الجار على المجتمع المسلم:ـ
لا شك أن لأداء حقوق الجار وحسن الجيرة أثر بالغ في المجتمع وحياة الناس، فهو يزيد التراحم والتعاطف، و سبيل للتآلف والتواد ، به يحصل تبادل المنافع وقضاء المصالح واستقرار الأمن، واطمئنان النفوس، وسلامة الصدور، فتطيب الحياة ويهنأ المرء بالعيش فيها. فلو أحسن كل جار إلى جاره لظللت المجتمعات السعادة ولعاشت كأنها أسرة واحدة فتنصرف الهمم إلى الإصلاح والبناء والسعي نحو الرقى والتقدم..
ويتضح مما سبق البعد الإنساني للدين الإسلامي الذي يحرص على تحقيق روح المودة بين المسلمين بسبل شتى بالترغيب في مرضاة الله عزوجل والترهيب عن سوء العاقبة لمن يتجرأ على عصيان الخالق والإفساد في الأرض وهو مأمور بعمارتها، هذه العمارة التي لا تتصور مع وجود النفور بين الناس عامة وبين الجيران خاصة، فالمسلم إذا صان حقوق جاره وترفق به كسب ثواب الدنيا والآخرة .
العنصر السابع : نماذج مضيئة من حياة السلف في معاملة الجيران :ـ
ما أحوجنا لأن نري القدوة العملية أمامنا في معاملة الجار حتي نتأسي بها في حياتنا وهذه بعض النماذج المضيئة في الإحسان إلي الجار والصبرعليه منها:ـ
جوار الإمام مالك ابن دينار :
يُروى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى كان له جار يهودي، فحول اليهودي مستحمه إلى جدار البيت الذي فيه مالك، وكان الجدار متهدِّمًا، فكانت تدخل منه النجاسة، ومالك ينظف البيت كلَّ يوم، ولم يقل شيئًا، وأقام على ذلك مدة وهو صابر على الأذى، فضاق صدر اليهودي من كثرة صبره على هذه المشقة، فقال له: يا مالك، آذيتك كثيرًا وأنت صابر، ولم تُخبرني، فقال مالك: قال رسول الله (ﷺ) : (ما زال جبريل يوصيني بالجار؛ حتى ظننت أنه سيُورِّثه)، فندِم اليهودي وأسلم.
جوار الإمام عبدالله ابن المبارك :ـ
كان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي؛ فأراد أن يبيعَ داره, فقيل له: بكم تبيع ؟ قال بألفين؛ فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً؛ قال: صدقتم؛ ولكنْ ألفٌ للدار, وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك؛ فأُخبر ابنُ المبارك بذلك, فدعاهُ فأعطاه ثمن داره وقال: لا تبعها .
جوار الإمام أبو حنيفة :ـ
كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دبّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:ـ
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ليوم كريهـةٍ وسـداد ثغـر

فلا يزال يشرب ويردّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، وأبو حنيفة كان يصلّي الليل كلّه، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس، فصلّى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبًا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففُعل، ولم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكلّ من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة، والإسكافي يمشي وراءه، فلمّا نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
جوار أحد الصالحين :ـ
شكا بعضهم كثرة الفأر في داره، فقيل له: لو اقتنيت هرًّا، فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوتَ الهر، فيهرب إلى دور الجيران، فأكون قد أحببت لهم ما لا أحبّ لنفسي.
الخاتمة :ـ
عباد الله : إن الديارَ لا تقاس على الحقيقة بجميلِ بنيانها, وإنما تغلو وترخص بجيرانها، فعلى المسلم إن أراد أن يسكن بيتاً أنْ يجتهدَ وسعه في اختيار جيرانه, فإنَّ بهم صلاحَ السكنى وفسادَها ؛ وقد قيل :اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم لا تصلح الدارُ حتى يصلحَ الجارُ
وإذا ابتُليتَ بجارٍ مؤذٍ فاصبر على ما بُليت به حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإنَّ من حسن الجوار الصبر على أذى الجار، حتى قال الحسن البصري:« ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى, حسن الجوار الصبر على الأذى ».
وقال الحسن البصري أيضا: « إلى جنْبِ كلِّ مؤمنٍ منافقٌ يؤذيه » فلا تقابل الإساءةَ بالإساءة, بل اصبر على ذلك؛ فإن الله ناصرُك .
قال (ﷺ): "واعلم أن النصر مع الصبر "
أيها المسلمون :ــ
إن من أعظمِ التوفيق وأسبابِ السعادة أن يُحسَن المرء إلى جيرانه ويُحسنوا إليه؛ وأن يبذلَ جهده في ذلك، وأن يبسطَ إليهم معروفه ويحفظَ جوارهم غاية الحفظ وبما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإن حفْظَ الجوار من كمال الإيمان؛ والموفق من وفقه الله تعالى .
ومن أجل ذلك فقد قال النبي (ﷺ): « تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام فإنَّ جار البادية يتحول عنك ».
وقال (ﷺ) أيضا (أعوذ بك من يوم السوء ، ومن ليلة السوء ، ومن ساعة السوء ، ومن صاحب السوء ، ومن جار السوء)
وكان يستعيذ بالله من جار السوء ، الذي إن رأى خيراً كتمه ، وإن رأى شراً أذاعه .؛ فليتق اللهَ كل منا بكف أذاه عن جيرانه؛ ؛ وليكن كفُّ الأذى قولاً وفعلاً, ولا يستغلُّ حياءَ بعض جيرانه أو ضعفهم, وليحذرأنْ يسلِّط اللهُ عليه من لا يرحمُه, جزاءً وفاقاً بعمله السيئ .
قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}[الأحزاب ].
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين؛ وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين
...المزيد

﷽ الكسب الحلال وأثره في حياة الفرد والمجتمع إعداد : الشيخ السيد طه أحمد الحمد لله رب ...



الكسب الحلال وأثره في حياة الفرد والمجتمع
إعداد :
الشيخ السيد طه أحمد

الحمد لله رب العالمين .. خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.. فقال تعالى } ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ (2){ ]الملك[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير. شرع للإنسان ما يلبي حاجياته في المعاش ، ويحقق له رغباته النفسية والبشرية ، فأباح له الكسب والانتفاع من الحلال الطيب، فقال تعالى في خطاب موجه للبشرية:}يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168){[البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)... أوصى بالسعي والكسب الطيب الحلال ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :}أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور { ]سلسلة الأحاديث الصحيحة[ .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
فالمال في الإسلام وسيلة لتبادل المنافع بين الناس، وتقويم المجهود المبذول في العمل والجزاء عليه، حيث يتمكن به الإنسان من إشباع رغبات النفس.
وإذا كان الإنسان مولعا بحب المال، وممتحنا به في هذه الحياة الدنيا فهل يتحرى توجيهات الشرع الحكيم في كسبه وإنفاقه؟
أم يكون همه هو جمع المال وتبذيره دون مراعاة الحلال والحرام في كل ذلك؟
فقال تعالى :}الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46){ ]الكهف[
وقال تعالي}وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20){[الفجر]
وقال جل شأنه }وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8){ [العاديات].
وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه، على أنه وسيلة لغايات محمودة، ومقاصد مشروعة، وجعل للحصول عليه ضوابط وقواعد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها، ولا التعدي لحدودها، كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
لذلك كان حديثنا عن موضوع }الكسب الحلال وأثره في حياة الفرد والمجتمع{وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....
1ـ نظرة الإسلام للعمل .
2ـ تكريم القرآن للأعمال .
3ـ ضوابط العمل .
4ـ أثر الكسب الحلال في حياة الفرد .
5ـ أثر الكسب الحلال في حياة المجتمع .
6ـ الخاتمة .
============
العنصر الأول : نظرة الإسلام للعمل :ـ
لقد عمل الشرع الحنيف على القضاء على مظاهر العوز والفقر، وذلك بالحث على السعي لطلب الرزق فدعاهم إلى الضرب في الأرض وقد ظهر ذلك من خلال هذه النقاط التالية ..
1ـ وجوب العمل والسعي:ـ
لقد دعا الإسلام إلى العمل والاحتراف والاشتغال بالعلوم النافعة؛ وإن أطيب مال وأحلَّ كسب ما كان من عمل الإنسان، ولأن قضية العمل بالنسبة للإنسان قضية مستقبل ومصير، اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا بها وجاء لفظ العمل ومشتقاته في آيات كثيرة بلغت (359) آية ، وردت هذه الآيات بأساليب متنوعة ، مرة تأتي بلفظ الأمر الذي يفيد الوجوب فقال تعالى }وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ(105){ ]التوبة،
ومرة بأسلوب الاستثناء فقال تعالي }وَٱلۡعَصۡرِ (1) إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ (3){ ]العصر[
وأخبر النبي (ﷺ) أن خير ما يأكل الإنسان من كسب يده: فقال (ﷺ)«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه » رواه ابن ماجه .
وأن الكسب وسيلة التوفيق بين خيري الدنيا والدين، ولضرورة الكسب اختاره الله تعالى طريق الأنبياء والمرسلين والفائزين الذين شغلهم معاشهم لمعادهم، فاتخذوا من المعاش وسيلة وزاد المعاد، فقد جاء صريحا في القرآن الكريم الأمر بالبحث عن المعاش وتسخيره لنيل مرضاة الخالق سبحانه، فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10){ ]الجمعة[
وقال تعالى:}هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)[ ]الملك[
وقد حث الإسلام على الهجرة، وشجعهم على الغربة، وبين لهم أن أرض الله واسعة، وأن رزق الله غير محدد بمكان ولا محصور في جهة، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً (100)} [النساء]
وقال تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (20)} [المزمل[
وعن عبد الله بن عمرو قال: توفى رجل بالمدينة ممن ولدوا فيها، فصلى عليه رسول الله (ﷺ) وقال: "ليته مات في غير مولِدِه"، فقال رجل: ولِمَ يا رسول الله ؟ قال: "إن الرجلَ إذا مات غريباً قِيسَ له من مولده إلى منقَطَعِ أثرِه في الجنة". رواه الترمذي
ويقول الإمام الشافعي في السفر :


سافر تجـد عوضـاً عمـن تفارقـه --- وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصـب
إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده --- إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب
والأسدُ لولا فراق الأرض ما افترست --- والسهم لولا فراق القوس لم يصـب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة ً --- لملها الناس من عجـم ومـن عـرب
والتبر كالترب ملقـي فـي أماكنـه --- والعود في أرضه نوع من الحطـب
فـإن تغـرب هـذا عـز مطلـبـه --- وإن تغـرب ذلـك عـز كالـذهـب

وقد انطلق المسلمون الأوائلُ على هدى هذه الأحاديث في فجاج الأرض؛ ينشرون الدينَ، ويلتمسون الرزقَ، ويطلبون العلم، ويجاهدون في سبيل الله.
2ـ اقتران العمل بالإيمان :ـ
لقد اقترن العمل بالإيمان في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية من آياته ، ولم يكتف بمجرد العمل ولكنه يطلب عمل "الصالحات" وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كل ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معاً.
والإيمان هو تقديم الأعمال بأمانة وإتقان العمل بجد واجتهاد، والصدق.
قال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ اَوْ اُنْثٰی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیٰوةً طَیِّبَةً وَ لَنَجْزِیَنَّهُمْ اَجْرَهُمْ بِاَحْسَنِ مَا كَانُوْا یَعْمَلُوْنَ (97){ ]النحل[ .
وقال تعالى: }اِنَّ الَّذِینَ اٰمَنُوا وَ عَمِلُوا الصالحات اِنَّا لَا نُضِیعُ اَجْرَ مَنْ اَحْسَنَ عَمَلًا(30){ ]الكهف[.
إن الإيمان بالله واليوم الآخر أعظم دافع للعمل والإنتاج .
3ـ العمل نعمة تستوجب الشكر :ـ
لقد اعتنى الإسلام بالعمل المهني وجعله نعمة تستحق الشكر قال تعالى : }لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ
وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ (35){ ]يس [ .
فالآية تشير أن ما يتغذى عليه الإنسان هو من كسبه وكده سواء كان بزراعة الأرض وهو ما أومأت أليه الآية : " من ثمره " أو بالتجارة المشروعة كما في قوله : " وما عملته أيديهم " وهذه القدرة التي منحها الله تعالى للإنسان والعلم الذي وهبه إياه لاستخراج ما في بطن الأرض من الخيرات والثمرات وإدارة موارد الطبيعة وحسن توظيفها هو نعمة عظيمة تستحق الشكر الجزيل والاعتراف بالجميل .
4 ـ العمل من أنواع الجهاد :ـ
اعتبر الإسلام العمل نوعا من الجهاد ينال به درجة المجاهدين وشرف المرابطين
" مر على النبيِّ (ﷺ)رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ (ﷺ) من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ (ﷺ): إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ. ]الراوي : كعب بن عجرة.. رجاله صحاح[
ولما لا يعد العمل جهادا ؟
وهو الذي يوفر الطعام والشراب والكساء والسلاح والمال للمرابطين في أرض المعركة ولولا العمال الكادحين والصناع المهرة ما قامت لنا قائمة ، وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه " سفيان بن مالك " ساعيا بالبصرة فمكث حينا ثم استأذنه في الجهاد فقال له عمر : أولست في جهاد ؟
5ـ العمل الجاد مكفر للذنوب والآثام :ـ
العمل الجاد مكفر للذنوب ومطهر للآثام فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: }من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له{. ]أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الأوسط[
6ـ ما غرسه المسلم صدقة جارية :ـ
العمل مهما كان حجمه إذا نوى صاحبه إطعام الجائع وكساء العاري وشفاء المرض وإغناء الفقير كان له بذلك صدقة جارية
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): } ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ{.]رواه البخاري[
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي (ﷺ): قال:}من يغرس غرسا، كتب الله له من الأجر بقدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس{ ]رواه الطبراني في المعجم الكبير[
7ـ استمرار العمل والسعي :ـ
فقد حث الإسلام المسلم على أن يكون ديدنه في حياته كلها العمل والعطاء وتعمير الأرض وبناء الحياة حتى يدركه الموت أو الساعة قال (ﷺ) } إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها { رواه الإمام أحمد.
العنصر الثاني : تكريم القرآن الكريم لبعض الصناعات والمهن :ـ
ذكر القرآن الكريم بعض الصناعات والمهن وهذا مما يؤكد على قيمة العمل والعمال ، وهذه الصناعات لا يستغني عنها الناس مثل ...
صناعة الحديد : }وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ (25){ ] الحديد[
وصناعة الأكسية }وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ (80){ ] النحل[
والصناعات الحربية : }وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ (10) أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ
صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ (11){ ] سبأ[
وصناعة الجلود : }وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ (80){ ] النحل[
وصناعة الملابس : }وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ (81){ ] النحل[
وصناعة السفن والمراكب : }فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا(27){
]المؤمنون[
والصناعات السكنية : }وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ (74){ ] الأعراف[ .
كما كان كثير من الأنبياء لهم حرف يرتزقون منها ،أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال : «إن زكريا عليه السلام كان نجارًا» (مسلم) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرّادًا، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم وسلم رعاة» ]فتح الباري[. ويستفاد من الحديث والأثر وغيرهما أن رسل الله جميعاً كانوا يزاولون الأعمال بأيديهم، ويسعون على معاشهم وتحصيل قوتهم وقوت من يعولون .
العنصر الثالث : ضوابط العمل :ـ
1 ـ أن يكون العمل صالحا ومشروعا :ـ
أن لا يكون هذا العمل مما نصت الشريعة على حرمته وبان ضرره وعظم خبثه كزراعة المخدرات والاتجار فيها وتعاطي الربا في المعاملات المالية وغير ذلك ، والمحرمات في ديننا معروفة ومحدودة ودائرة الحلال واسعة تستوعب كل النشاط الإنساني ..
قال تعالي } يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (90){ ]المائدة[
وما دام العمل كذلك وجب البعد عنه وحرم الاشتغال به وحرم استخدام المال الذي يأتي منه قال تعالى }وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (77){ ]القصص[
وقد أمر الله تعالى بوجوب الكسب الحلال فقال تعالى }يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(168){[البقرة]،
ومثلها ما جاء في آية المائدة: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88){ [المائدة].
فكان السلف الصالح يتورعون عن الشبهات ،ولقد حذر السلف الصالح من أكل الحرام قال ابن المبارك: "لأنْ أرُدَّ دِرْهمًا من شُبْهَةٍ؛ أحبّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألفٍ".
قال عبد الله عمر رضي الله عنه:}كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ الوقوع في الحرام{
2ـ ألا يشغله العمل عن آخرته :ــ
العمل ليس هدفا في حد ذاته ؛ وإنما هو وسيلة تغني المسلم وتكفل له حياة كريمة فينبغي أن لا تشغله عن آخرته وتعطله عن ربه وتعوقه عن خدمة دينه بل ترفعه إلى العطاء ورعاية واجباته الدعوية ؛ ولذا جاء في وصف المؤمنين الصادقين :} رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ (37){ ] النور[ .
وقال تعالى :}يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ (9){ ] المنافقون[
فالمؤمنين ليسوا عالة على غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب ، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى ، قال تعالى }وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (77){ ] القصص[
ودخل عبد الله بن عمر رضي الله عنه - السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال : فيهم نزلت : " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .. " ،
وقال مطرف الوراق : " كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة "
3 – القناعة والرضا بما قسم الله عز وجل من رزق :ــ
أن يقنع المسلم بما قسمه الله له ويرضى برزقه وهذا يمنعه من التطلع إلى ما في أيدي الناس ، وسلوك طرق محرمة لزيادة دخله كالرشوة والسرقة والتزلف لذوي الأموال
هي القناعة لا تبغي بها بدلا فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
وقد ذكرها الأبشيهي في كتابه المستطرف في كل فن مستظرف، وعبارته: ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد، وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد: أمسك عليّ بغلتي، فأخذ الرجل لجامها، ومضى وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بها الرجل على إمساكه بغلته؛ فوجد البغلة واقفة بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاما، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي ـ رضي الله عنه: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له. انتهى..
4ـ عدم استغلال العمل أو المنصب في كسب غير مشروع :ــ
يحرم علي العامل أو الموظف أن يأخذ من الجهة الني يعمل بها أكثر من الأجر المقدر له أو الحافز المقرر له . ومن يحاول أخذ شيء سوي ذلك فهو غال وخائن للأمانة قال تعالى } وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (161){ ]آل عمران[
وروي مسلم في صحيحه بسنده عن عدي ابن عميرة الكندي قال سمعت رسول الله (ﷺ) يقول :}من استعملناه منكم علي عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة قال فقام رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله أفيل عني عملك قال ومالك قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم علي عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه{ انتهي .
كما يحرم علي العامل أو الموظف أن يرتشي أو يقبل الهدية ممن يعمل لهم من الناس فأخذ الرشوة إن كانت في مقابل تسهيلات فالحرمة تكون أشد لما فيها من أكل السحت ومخالفة الأمر وإن كانت بلا مقابل فكيف يأخذ ما لا يستحق وكيف يحمل نفسه من الأوزار في الدنيا والأثقال في الآخرة مالا يحتمل .
روي الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال لعن رسول الله(ﷺ) الراشي والمرتشي {
وروي مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عن أبي حميد الساعدي قال استعمل رسول الله (ﷺ) رجلا من الأزد علي صدقات بني سليم يدعي ابن اللتبية فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي فقال رسول الله (ﷺ) فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتي تأتيك هديتك إن كنت صادقا ثم خطبنا فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم علي العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتي تأتيه هديته إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالي يحمله يوم القيامة فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتي رؤي بياض إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني{ .
5ـ بذل الطاقة وإعطاء الجهد أثناء العمل :ــ
فكما أحسن الله إلي الإنسان بالصحة الجيدة والقدرة علي البذل والعطاء يجب علي الانسان
أن يعطي ولا يبخل ويعمل ولا يكسل ويظهر من نفسه القدرة ولا يعجز، قال تعالى: }وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ (77){ ] القصص[.
والقوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):}المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَر الله وما شاء فعل؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان{ ]رواه مسلم[
6ــ الإتقان في العمل :ــ
أن يصير الإتقان في العمل ثقافة عامة في المجتمع وخلقا واقعا وسلوكا حيا تجده متجليا وبارزا على كل كلمة أو قول أو فعل أو مهنة أو شريحة أو مؤسسة عامة أو خاصة ؛ هذا هو غاية الإسلام في تعاليمه وأحكامه ، إيجاد أمة محسنة وهي إذ تتخلق بهذا إنما تتصف بما وصف الله به نفسه القائل :}صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ (88) { ]النمل[.
ولو دققت النظر في هذا الحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ﷺ) قال : {إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَه} [صحيح الجامع] .
لوجدت كلمة " عملا " جاءت مطلقة من غير تحديد لنوع معين من الأعمال يجب الاهتمام به والإحسان فيه دون غيره لتشمل أعمال الدنيا والآخرة ، وهذا ما أشار إليه حديث أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه : عن رسول الله (ﷺ) قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته{ ] رواه مسلم [
وقوله تعالى: }إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ(90) { ] النحل[
العنصر الرابع :أثر الكسب الحلال في حياة الفرد:ـ
الكسب الحلال له فضل كبير في حياة الفرد والمجتمع حيث أن الفرد العامل القادر على الكسب يجني من وراء ذلك ثمار عظيمة منها ..
1ـ حفظ كرامة الإنسان من السؤال والطلب:ـ
فإن العمل الذي يقوم به الإنسان، أو الوظيفة والمهنة التي يلتزم بها ويكسب من ورائها يصون له كرامته، ويقي وجهه من سؤال الناس، ولقد حارب الإسلامُ هذه العادةَ السيئة وبالغ في النهي عن مسألة الناس؛ فالمسلم عزيز النفس كريم الخلق عفيف الطبع، يكره ما يسيئه ويشينه بعد أن أعزه الله بالإسلام، فبدلا من أن يقعد عن العمل ويمد يده للناس سائلا منهم المال فليعمل ليتكسب، فالعمل مهما كان قدره ومهما كان ربحه وعائده فهو يمنع صاحبه من التبذل وسقوط ماء الوجه وضياع هيبته بالسؤال وبذلك ينال العامل توقير المجتمع واحترامه ويحيى عزيزا كريما ويموت جليلا حميدا واليد العليا خير من اليد السفلى .
فروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ): }لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم{.
وروى الإمامُ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله (ﷺ) قال:}لا يفتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتحَ الله عليه بابَ فقر{.
يروى عن" شقيق البلخي" وهو من أهل العبادة والزهد ، أنه ودَّع أستاذه (أو شيخه) إبراهيم بن أدهم لسفره في تجارة عزم عليها.
وهو في الطريق الصحراوي رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر
ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع، فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر
فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام فراخه ، تعجب شقيق .. من هذا المشهد وأثر فيه ،فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله ، فلماذا أذهب إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتما سيرزقني الله وعاد إلى بيته ، وحين وصل زار شيخه فقال له الشيخ :
لماذا عدت يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟
فقص عليه القصة بأنه رأى في طريقه طائرا أعمى وكسيح
وأخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر آخر يحمل حبا وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه.
فقلت طالما ربنا عز وجل رزق الطائر الأعمى الكسيح ..
سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي سيرزقني.
هنا قال له إبراهيم بن ادهم: سبحان الله يا شقيق!..
ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره
ولا تكون أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي (ﷺ) قال:(اليد العليا خير من اليد السفلى{ ] رواه البخاري[
فقبَّل يده شقيق وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق!
وتركه وغدا يسعى كما تسعى الطير التي تغدو خماصاً وتعود بطاناً.
لذلك حذر النبي (ﷺ) من سؤال الناس؛ فعن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه : أنَّ النبي (ﷺ) قال: }لَأَنْ يأخذَ أحدُكم حَبلَه، فيأتيَ بحُزمة الحطب على ظهره، فيبيعَها، فيكُفَّ الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسألَ الناس، أعطَوْه أو منعُوه{ ]رواه البخاري [
وفي هذا يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: }إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني)..
وكان عبد الله بن مسعود يقول : " إني لأكره الرجل فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة "
وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له : كيف أنت ؟ قال : بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري.
ورحم الله الخليفة الراشد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حين قال..
لنقل الصخر من تلك الجبال أخف علي من منن الرجال
يقول الناس كسب فيه عار فقلت العار في ذل السؤال
وهناك حديثٌ معبِّر أتمَّ تعبيرٍ عن أنَّ المسلم يجب أن يعمل، ويصونَ نفسَه من مذلَّة السؤال، فإنَّه ما دام قادرًا على العمل، فلا بُدَّ أن يجد وسيلةً للعمل.
فعن أنس رضي الله عنه أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي (ﷺ) يسأله فقال (ﷺ): (أَمَا في بيتك شيء؟، قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.] نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ[الإناء.] نشربُ فيه من الماء، قال (ﷺ) ائتني بهما ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ﷺ) بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال (ﷺ): مَن يَزيد على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به.
فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ (ﷺ) عودًا بيده، ثم قال له: اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا ، فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله (ﷺ) هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع) ]رواه أبو داود برقم ، واللفظ له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد [،
فكانت معالجته معالجة عمليَّة؛ استخدم فيها (ﷺ) كل الطاقات والإمكانات المتوفِّرة لدى الشخص الفقير، وإن تضاءلت؛ حيث علَّمه رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف يجلب الرزق الحلال من خلال عمل شريف.
2ـ البركة في المال والأولاد والأعمال:ـ
إن اللقمة الحلال تدفع عن الإنسان النقم وتصرف عنه البلاء في ماله وأولاده وأعماله، فيصرف الله عنه البلايا والشرور، وقد كان أحد الصالحين يقول: "كنت أرى شؤم معصيتي في سوء خُلُق دابتي وزوجتي".
بعد كل ذلك نوقن تماماً أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وقد قال (ﷺ): }نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رُوعي أَنَّ نفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ{ ]المعجم الكبير للطبراني[
فإن المال الحرام ماحق لبركة المال؛ كما حدث بذلك حكيم بن حزام رضي الله عنه- أن رسول الله (ﷺ) قال: }البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة، ممحقة للكسب{[رواه البخاري ومسلم].
فالله تعالى ينزع البركة من المال الحرام وينزع البركة في حياة آكله وهذا ما قرره الله تعالى في كتابه و بينه لنا النبي (ﷺ) في سنته قال تعالى } يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (276){ [البقرة].
إنَّ الكسبَ الحرامَ سببٌ لزوالِ النِّعمِ: فمكتسبُ المالِ الحرامِ يُعامَلُ بنقيضِ مقصودِه، فهوَ يُريدُ من الكسبِ الحرامِ زيادةَ مالِه، وكثرةَ عَرَضِه، وما عَلِمَ أنَّ الحرامَ لا يُمكنُ أن يدومَ ولا يقومُ عليه بناءٌ، قال تعالى }لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){ [إبراهيم].
فبركة الذرية نتاج الكسب الحلال قال تعالى }وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ (58){ ]الأعراف[.
فالكسب الحلال ينتج للأمة علماء صالحين ،
كان "المبارك بن واضح" يعمل حارسًا في بستان، وكان يتصدق بثلث أجرته، وكان نعم العامل المؤتمن على عمله، حدث أن جاء صاحب البستان يومًا ومعه ضيف، وقال للمبارك: أريد رمانًا حلوًا، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجده حامضًا، فغضب عليه، وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟
هات حلوًا، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضًا حامضًا، فاشتد غضبه عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا.
فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟
فقال: لا، فقال: وكيف ذلك؟
فقال: لأني ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرفه، فقال: ولِمَ لَمْ تأكل؟
قال: لأنك ما أذنتَ لي بالأكل منه، فعجب من ذلك صاحب البستان، وسأل عن ذلك فوجده حقًّا، فعظُم المبارك في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيرًا، فقال له: يا مبارك، مَن ترى تزوَّج هذه البنت؟
فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدِّين، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك، فتزوجها، فجاءت بعبد الله بن المبارك الذي ملأ الدنيا علما وكان يحج عاما ويجاهد في سبيل الله عاما .
3ـ استجابة الدعاء:ـ
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية عند رسول الله (ﷺ) { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا }.فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال له النبي(ﷺ): «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» .]أخرجه الطبراني[
ولقد حرص سعد على الكسب الحلال حتى يكون مستجاب الدعوة , لذا فقد قيل له : لم تستجاب دعوتك فقال ما رفعت إلي فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت ومن أين خرجت ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه , حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة فذمه وقال لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية , فلما بلغ سعدا ذلك قال : اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره وأدم فقره وأعمي بصره وعرضه للفتن فعمي وافتقر وكبر سنه وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة فإذا قيل له كيف أنت يا أبا سعدة يقول شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد . .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : }يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم{ وقال : } يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك { ]مسلم[
فالكسب الحرام سبب في منع قبول الدعاء واستجابة الرجال ورفع العمل الصالح لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .
4ـ قبول الأعمال الصالحة :ـ
إن الكسب الحلال سبب في قبول الأعمال الصالحة ، وكذلك الكسب الحرام يمنع قبول الأعمال الصالحة ، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال رسول الله (ﷺ) والذي نفس محمد بيده، }إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به{ .]المعجم الأوسط للطبراني[
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " قتل نفر يوم خيبر فقالوا فلان شهيد حتى ذكروا رجلا فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله (ﷺ)}كلا إني رأيته في النار في عباءة أو في بردة غلها , ثم قال لي يا بن الخطاب قم فناد في الناس انه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون فقمت فناديت في الناس{. ]رواه ابن حبان في صحيحه[ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ (ﷺ)، عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً، وَلاَ وَرِقاً، إِلاَّ الْأَمْوَالَ: الثِّيَابَ، وَالْمَتَاعَ. قَالَ: فَأَهْدَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللهِ (ﷺ) غُلاَماً أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ. فَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ)إِلَى وَادِي الْقُرَى. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَهُ، فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئاً لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ): }كَلاَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّذِي أَخَذَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً{
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: }شِرَاكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ]{ متفق عليه[.
قال سفيان الثوري: }من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل أو يرفع له دعاء والله تعالى يقول: }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27){ [المائدة[
وروي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: }إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه{
قال الغزالي: }العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها{.

5ـ الوقاية من النار يوم القيامة:ـ
حيث يقول صلى الله عليه وسلم: }إِنَّهُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ{، ]سنن الترمذي[، والسحت هو ما كان من الحرام.
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال: " لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام ". ]رواه البيهقي في شعب الإيمان[
6ـ العصمة من العقوبات بشتى أنواعها، وصرف البلاء في الدنيا:ـ
قد بين القرآن الكريم أن آكل الحرام مثل آكل الربا يتعرض لحربٍ من الله ورسوله، }فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله وإن تُبتم فَلَكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون) 279){ ] البقرة[
وهذه الحرب شاملة قد تكون آثارها ملموسة مشاهَدة، وقد تكون معنوية كالحرب على الطمأنينة والاستقرار والأمن، فلا يهنأ آكل الحرام بعيش كريم ولا يذوق طعم السكينة والراحة.
7ـ صلاح القلوب :ـ
صلاح القلوب لا يكون إلا بصلاح المطعم و المشرب لذا فالنبي (ﷺ) يوضح لنا أن صلاح الأعضاء بصلاح القلوب و صلاح القلوب بصلاح المطعم و المشرب عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ: }الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ{ ]أخرجه البخاري[ .
قال ابن حجر رحمه الله: «فيه التنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه والإشارة إلى أن لِطيب الكسب أثرًا فيه» [فتح الباري].
وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله: بِمَ تلين القلوب؟ قال: بأكل الحلال»
فالقلب إذا امتلأ بالحرام، انغلق عن المعنويات، وأوصدت نوافذ الهداية فيه، فالابتعاد عن الحق وهجران الإنسان لبارئه واقترافه المعاصي والتعدي على حقوق الناس مقدمة طبيعية تقود إلى ظلمة القلب.
العنصر الخامس : أثر الكسب الحلال في حياة المجتمع:ـ
إن الأمة التي تعمل تقود ولا تقاد ، تسود ولا تساد ، تتكلم فيسمع لها ، تأمر بأمر الله فتطاع ، وتنهى بنهي الله فلا تعصى، تذل لها الأمم وتدين لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم، و يشار إليها بالبنيان، ويتحقق لها النجاح ، والهيبة والمنعة.
وهذه بعض الآثار المترتبة علي نتيجة العمل الجاد ، والكسب الحلال....
1ـ النجاح مرتبط بالعمل :ـ
لا يذهب الظن أو الوهم بأحد، فيحسب أن ارتباط السعادة والفوز بالعمل مقصور على الآخرة وحدها، فإن قوانين الله في الجزاء واحدة، ورب الدنيا والآخرة واحد، فالله تعالى يقول:}إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30){ ]الكهف[،وقال تعالى }فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)]{ الزمر[
وقال تعالى }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8){ ]الزلزلة[
وسنة الله التي أخبرنا القرآن أنها لا تتبدل ولا تتحول لا تسمح لفارغ أو قاعد أو كسول أن يظفر بما يريد، أو يحقق ما يأمل، بل إن سنن الله في الدنيا لا تفرق في الجزاء على العمل بين مؤمن وكافر ... فمن عمل أُجر، ومن قعد حُرم، مهما كان دينه أو اعتقاده.
وبهذا يندفع المؤمن إلى العمل دائماً، حتى لا يصادم سنن الله في الكون فتصدمه؛ فيكون من الهالكين.
2ـ منعة الأمة :ــ
إن الأمة المنتجة قوية ولها منعة ويهابها أعدائها ، والأمة المستهلكة ضعيفة وتكون ألعوبة في أيد أعدائها . لقد زار سيدنا عمر ابن الخطاب بلدة فرأى أكثر الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنفهم أشد التعنيف، فقالوا: لقد سخرهم الله لنا، فقال لهم قبل ألف وأربعمائة وست وثلاثون عاما: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟
لقد أدرك الخليفة العملاق قبل ألف وأربعمائة وست وثلاثون عاما أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف، فإن تقدم الأمة في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها المنعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها .
3ـ يحقق التقدم والريادة والمنعة :
إن العمل يحقق للأمة التقدم والريادة والمنعة من أعدائها المتربصين بها ،والطامعين في ثرواتها وكنوزها ، ولذا كان من مخطط الغرب لنا أن يبقينا شعوبا جاهلة متسولة لكل تقنية تعيش وتقتات على صناعات غيرها يقول أحد القساوسة الفرنسيين : " إن العالم الإسلامي يقعد اليوم على ثروة خيالية من الذهب الأسود والموارد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة ؛ فلنعط هذا العالم ما يشاء ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق السريع وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطرا داهما يتعرض به التراث الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية "
لذا فإن العمل والإنتاج لسد حاجة المجتمع وتقوية بنيته ، وتحقيق تقدمه وريادته في شرعنا فرض تأثم الأمة كلها إذا لم يتحقق لها ذلك ، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " لهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما كأبي حامد الغزالي ، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم : إن هذه الصناعات فرض على الكفاية فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها "
6ـ الخاتمة :
إن الإسلام الحنيف رغَّب في الكد والعمل والتحصيل، وذم البطالة بشتى صورها، وحذر منها لما فيها من الجمود والاتكالية، فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برهم وعطفهم، ويخاف شرَّهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنةً، يكتسب من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه ومجتمعه.
نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ماء وجوهنا وأن يجعلنا من العاملين المخلصين المنتجين إنه ولي ذلك ومولاه .
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً