الأوضاع في مصر بعد هلاك فرعون
عانت مصر فترة من الانفلات السياسي، إذ أن الوجهاء والساسة والزعماء خرجوا تعاطفاً مع فرعون وجنوده فلاقوا ما لاقوه من غرق وموت، كما عانت مصر من الانفلات الأمني؛ فقد سحب فرعون كل الجنود تقريباً في هذه المعركة، وقد هلكوا معه غرقاً.
لذا صار أمر الناس في مصر إلى فوضى واضطراب، إلى أن هدأت الأمور واستقرت الأوضاع مرة أخرى.
نسيم الحرية
ومن ضيق دنيا فرعون التي جعلها سجناً ومقبرة لشعبه، انتقل بنو إسرائيل إلى سعة الدنيا ونعيمها واستنشقوا نسيم الحرية ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ الأعراف:137
ووقف موسى – وإلى جواره هارون – خطيباً في بني إسرائيل، يذكرهم بمنن الله عليهم التي تستوجب منهم مزيد من الشكر والطاعة لله عز وجل :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ إبراهيم: 7
لكن – للأسف - ما كاد بنو إسرائيل يخلصون من يد فرعون وتفارقهم مشاعر الخوف والفزع التي كانت مسيطرة عليهم- حتى تنبّهت فيهم غريزة المكر واللؤم - ، وتحرك فيهم داء الخديعة والعناد؛ فبدأت بوادر التمرد في الظهور، فقد اعتبر بنو إسرائيل ما حصلوا عليه من حرية بعد هلاك فرعون إنما هو حق مكتسب، وليس محض منة من الله تعالى على يد نبيه موسى عليه السلام، فعاندوا أوامره وعصوا تشريعاته ..
لينبت باطل جديد على ساحة الحياة، بعد هلاك الباطل الأكبر، ولتستمر قصص صراع الحق مع الباطل دون توقف إلى قيام الساعة ..
- فما الذي حدث عندما رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم؟ ومن هم هؤلاء القوم؟!
- من هو السامري وما قصة حياته من البداية ؟ وكيف أقنعهم بعبادة عجل صنعه أمامهم بيده ؟!
- وما الجريمة الشنيعة الفظيعة التي فعلها بنو إسرائيل حتى تكون طريقة توبتهم منها أن يقتلوا أنفسهم ؟!
- ولماذا صُعق الوفد المرافق لسيدنا موسى عند جبل الطور ؟
- وما حكاية بقرة بني إسرائيل؟ وما سر تسمية أطول سورة في القرآن باسمها ؟
- ما حكاية القوم الجبارين الذين خاف منهم بنو إسرائيل وهم على مشارف فلسطين ؟
- وما حكاية العابد الزاهد بلعام بن باعوراء الذي انتكس فوصفه الله بالكلب ؟!!
- أين التقى موسى بالخضر، وما سر غموض شخصيته ؟
- من الذي آلت إليه قيادة بني إسرائيل بعد موت موسى وهارون ؟!
كل هذا وأكثر سنتطرق إليه في جزء آخر – بمشيئة الله تعالى – من قصة كفاح نبي الله موسى مع بني إسرائيل .. فانتظرونا ..
« رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ».
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
كتبه راجياً مجاورة الأنبياء والمصلحين
محمد نجاتي سليمان
مصر – البحيرة - دمنهور
تم الانتهاء من الصياغة النهائية لهذا العمل فجر يوم الخميس
22 شوال 1437 هــ ، 28 يوليو 2016م.
وصية ..
أرجو منك أيها القارئ العزيز- من باب إثراء هذا العمل ومشاركتي في الثواب - إذا وجدت خطأً أو عيباً، أو إسهاباً لا طائل من ورائه، أن تنصحني بمحوه أو تعديله، فقد اعتبرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب مكتوبة بقلم رصاص احتراماً لممحاة نقدك؛ فالنقد منك يبني ولايهدم، كما أنه شهادة ناطقة على أن الكمال لله وحده، وأن العصمة لأنبيائه ورسله، وليكن بيننا تعارف، وتواصل مستمر عبر التواصل الهاتفي على رقم : 01091500080(002) أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي(1)
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان بالجميل ..
إلى روح الأديب الشهيد سيد قطب صاحب تفسير "في ظلال القرآن".
وإلى روح المفكر الراحل عبد الكريم يونس الخطيب صاحب "التفسير القرآني للقرآن".
فلقد استفدت من تفسيرهما للقصة استفادة كبرى، فاقتبست من تفسيرهما اقتباسات عديدة وزعت في كل صفحات الكتاب تقريباً، حتى بات من الصعب علىّ حصرها فاقتضى التنويه.
كذلك أشكر الكاتب الأستاذ/ أحمد مراد الذي ساعدتني روايته "أرض الإله" على معايشة أحداث القصة وتخيلها، وقد اقتبست منها بالنص أو بالمعنى بعض المشاهد الدرامية والتخيليلة في بعض المواقف داخل الكتاب، فاقتضى التنويه. ...المزيد
مساعدة
الإبلاغ عن المادة
تعديل تدوينة
الأوضاع في مصر بعد هلاك فرعون عانت مصر فترة من الانفلات السياسي، إذ أن الوجهاء والساسة والزعماء ...
الأوضاع في مصر بعد هلاك فرعون
عانت مصر فترة من الانفلات السياسي، إذ أن الوجهاء والساسة والزعماء خرجوا تعاطفاً مع فرعون وجنوده فلاقوا ما لاقوه من غرق وموت، كما عانت مصر من الانفلات الأمني؛ فقد سحب ...المزيد
عانت مصر فترة من الانفلات السياسي، إذ أن الوجهاء والساسة والزعماء خرجوا تعاطفاً مع فرعون وجنوده فلاقوا ما لاقوه من غرق وموت، كما عانت مصر من الانفلات الأمني؛ فقد سحب ...المزيد
فرعون والغباء وصلت عربة فرعون أمام البحر المشقوق، فرفعت الخيل قوائمها في خوف وفزع من هول ...
فرعون والغباء
وصلت عربة فرعون أمام البحر المشقوق، فرفعت الخيل قوائمها في خوف وفزع من هول المشهد.
وهنا أخذ الكبر والغرور بفرعون مأخذاً، وتناسى أن موسى رسول مؤيد بالمعجزات من ربه، فلو أنه توقف قليلاً وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن بالله الذي دعاه موسى للإيمان به؛ فليس هناك قوة بشرية قادرة على أن تشق البحر هكذا بين الأمواج المتلاطمة.
ولكن الطغاة عندما تأخذهم سكرة الغرور يقتلون أنفسهم بأنفسهم، لا سيما لو اجتمع مع الطغيان الكبر، فهي والله قاصمة الظهر؛ فالطغاة يسرعون إلى حتوفهم رغم أنوفهم؛ لأن المتكبر لا يزال يُحرم التوفيق إلى أن يهوي في وادي الخذلان السحيق.
لذا مضى فرعون متجاهلاً هذه المعجزة ورغب أن يركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شيء، إلا الانتقام ممن آمنوا بموسى؛ فنادى فرعون في الذين استخفهم فأطاعوه وعلى باطله اتبعوه قائلاً: انظروا .. انظروا كيف انحسر البحر لي، طوعاً لأمري وانصياعاً لإرادتي، حتى أُدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي ..
قال هذه الكلمات ثم قفز فوق عربته، ضرب الخيل فصهلت وتحركت، فكانت فرط الضرب عليها تكاد تطير، فتقوّىَ جيشه بقوته، واطمأنوا لنصرته، ثم اندفعوا خلفه مسرعين، ونزل آخرهم وخاض مع من خاضوا لُجة البحر ..
ولما رأى فرعون موسى عليه السلام واقفاً على الشاطئ، رفع قوسه وسدد سهمه نحو صدره، فاصطدمت عجلة عربته بصخرة قاسية فانقلبت به، فاصطدمت العربات المندفعة خلفه بعضها ببعض، زحف فرعون حتى خرج من تحت عربته، فارتجت الأرض وارتفع صوت هدير المياه ..
حينها أمر الله - الجبار المنتقم - مياه البحر التي تماسكت إجلالاً لأمره، أن تنهار فوق رؤوسهم أجمعين، أتباعاً ومتبوعين ..
فاختلط صريخ الجند بصوت تكسير العربات، بصهيل الخيل الذي يحاول أن يقاوم الغرق ..
الأنفاس الأخيرة
ثم سلط الله الضوء على فرعون وحده .. ها هو ذا تنهار فوق رأسه مياه البحر بعلو الجبال الشامخات، وطل عليه شبح الموت؛ ها هو يصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة !! فالموت يحيط به، والغرق يدركه، ولا يستطيع مقاومة الأمواج إلا بيده، الضعيفة وجسده النحيل.
فلما أيقن أنه هالك لا محالة، خطرت له خاطرة – وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة - رأى فيها نجاته من هذا الموت المحقق .. إن بني إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطئ النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم- هكذا فكّر وقدّر في لحظات الغرق - فتخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هي عنه في هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال!
﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ يونس:90.
فسبحان من أسقط عن فرعون كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة، فلقد تضاءل وتصاغر واستخذى؛ فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل بل يزيد في استسلام قائلاً:«وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» !!
وكذلك حال فرعون كل عصر مع الإصلاح .. حتّى إذا أدركه المدّ الإصلاحيّ، وثورة استرجاع الحقوق الباسلة قال: آمنت أنّكم بشر، وأنّ لكم حقوقاً ضيعتها عليكم، وأنّ هناك شيئاً اسمه الإصلاح وأنا اليوم من المصلحين !!
فلم يتقبل الله إيمان فرعون، لأنه آمن إيمان المضطرين المجبرين(1)، ورد على طلبه مستنكراً فقال سبحانه وتعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ يونس:91.
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار؟
آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار؟
إن في ذلك لعبرة
غاص فرعون - الذي علا في الأرض – إلى أعماق البحر، وهو يعالج سكرات الموت وكرباته ..
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال:52.
وحين عاد البحر لحالته، وهدأ الموج .. طفت على الماء العربات العسكرية المحطمة، والخيول الغارقة، وجنود جثثهم لحمُها متهتك، وبطونهم منتفخة، مبسوطة أذرعهم وعلى وجوههم سواد قاتم من شدة ما عاينوه من عذاب أعده الله لهم، رغم أنهم لم يكونوا سوى أتباعاً ينفذون أوامر الظالمين والفاسدين، ولكنهم لا يقلون عن سادتهم سوءاً ولا ذماً, فإنما انتشر الظلم في الأرض من خلالهم, وإنما مورس القهر والبغي على الناس بقوتهم و أيديهم.
أليسوا هم من ذبَّحوا الأطفال الرُضّع؟ أليسوا هم من روّعوا النساء؟ أليسوا هم من اقتادوا السحرة وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ؟ أليسوا هم من عذبوا الماشطة وحرّقوا أطفالها أمامها ؟ أليسوا هم من طاردوا المصلحين أمثال "مؤمن آل فرعون" في الجبال ؟ أليسوا هم من سجنوا المعارضين لفرعون وأذاقوهم سوء العذاب ؟ أليسوا هم من خرجوا مع فرعون لقتل نبي من الأنبياء ؟!.
فمن هو فرعون لولا جنده وأتباعه ؟!.
﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ﴾ النمل:85.
أما فرعون فقد قذفت جثته موجة غاضبة فألقت به على رمال الشاطئ !
ها هو الذي ملأ الأرض بغياً وعدواناً، وقال: « سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ »، ها هو الذي قال يوماً « يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي »، ها هو الذي بلغ به الكبر والغرور أن يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى»؛ لقد صار في لحظات جثة هامدة، وكوماً من لحم، تزكم الأنوف ريحه!، أين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه؟ وأين جبروته؟!
لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شيء كان بين يديه! ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ﴾ يونس:92، فليتعظ فراعنة الأمصار، وليتعظ كل ظالم جبار!
ها هي جثّته ملقاة على رمال الشاطئ، عافت حيتان البحر وحيوانات البر أن تأكلها، فقد وعد الله فرعون حين رد عليه إيمانه أن جسده لن يبلى، ليكون عبرة إلى يوم القيامة لكل ظالم وفاسد وطاغية(2)، يحكم بغير ما أنزل الله، ويحارب شريعة الله وأوليائه،﴿ فَاليوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ يونس:92.
فيا فراعنة كل عصر ..
أأنتم أعظم ملكًا وأوسع دولة وأشد بطشًا ورهبةً ؟ أمَّن قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ النازعات: 24؟! والآخر الذي قال: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ البقرة: 258.
ألم تعتبروا من مصيرهما ومصير أمثالهما ؟!
يا من حاربتَم الله ورسوله، وأبطلتَم شرْعَه وأمْرَه، وسجنتم أولياءه ﴿ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ يونس: 59 ؟!!.
غدًا تُوقفون بين يدَي الْمَلك الحقِّ الجبَّار، فماذا تقولون؟ هل عندكم حُجَّة أو معذرة؟
انتبهوا وتحسسوا خطواتكم، فمصير فرعون موسى ولعنته تلحق بكل من يسير على (دأبه) إلى يوم القيامة، لذا خلّد الله قصة فرعون في القرآن لتدق في آذانكم جرس إنذار ..
﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ النازعات:19. ...المزيد
وصلت عربة فرعون أمام البحر المشقوق، فرفعت الخيل قوائمها في خوف وفزع من هول المشهد.
وهنا أخذ الكبر والغرور بفرعون مأخذاً، وتناسى أن موسى رسول مؤيد بالمعجزات من ربه، فلو أنه توقف قليلاً وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن بالله الذي دعاه موسى للإيمان به؛ فليس هناك قوة بشرية قادرة على أن تشق البحر هكذا بين الأمواج المتلاطمة.
ولكن الطغاة عندما تأخذهم سكرة الغرور يقتلون أنفسهم بأنفسهم، لا سيما لو اجتمع مع الطغيان الكبر، فهي والله قاصمة الظهر؛ فالطغاة يسرعون إلى حتوفهم رغم أنوفهم؛ لأن المتكبر لا يزال يُحرم التوفيق إلى أن يهوي في وادي الخذلان السحيق.
لذا مضى فرعون متجاهلاً هذه المعجزة ورغب أن يركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شيء، إلا الانتقام ممن آمنوا بموسى؛ فنادى فرعون في الذين استخفهم فأطاعوه وعلى باطله اتبعوه قائلاً: انظروا .. انظروا كيف انحسر البحر لي، طوعاً لأمري وانصياعاً لإرادتي، حتى أُدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي ..
قال هذه الكلمات ثم قفز فوق عربته، ضرب الخيل فصهلت وتحركت، فكانت فرط الضرب عليها تكاد تطير، فتقوّىَ جيشه بقوته، واطمأنوا لنصرته، ثم اندفعوا خلفه مسرعين، ونزل آخرهم وخاض مع من خاضوا لُجة البحر ..
ولما رأى فرعون موسى عليه السلام واقفاً على الشاطئ، رفع قوسه وسدد سهمه نحو صدره، فاصطدمت عجلة عربته بصخرة قاسية فانقلبت به، فاصطدمت العربات المندفعة خلفه بعضها ببعض، زحف فرعون حتى خرج من تحت عربته، فارتجت الأرض وارتفع صوت هدير المياه ..
حينها أمر الله - الجبار المنتقم - مياه البحر التي تماسكت إجلالاً لأمره، أن تنهار فوق رؤوسهم أجمعين، أتباعاً ومتبوعين ..
فاختلط صريخ الجند بصوت تكسير العربات، بصهيل الخيل الذي يحاول أن يقاوم الغرق ..
الأنفاس الأخيرة
ثم سلط الله الضوء على فرعون وحده .. ها هو ذا تنهار فوق رأسه مياه البحر بعلو الجبال الشامخات، وطل عليه شبح الموت؛ ها هو يصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة !! فالموت يحيط به، والغرق يدركه، ولا يستطيع مقاومة الأمواج إلا بيده، الضعيفة وجسده النحيل.
فلما أيقن أنه هالك لا محالة، خطرت له خاطرة – وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة - رأى فيها نجاته من هذا الموت المحقق .. إن بني إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطئ النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم- هكذا فكّر وقدّر في لحظات الغرق - فتخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هي عنه في هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال!
﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ يونس:90.
فسبحان من أسقط عن فرعون كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة، فلقد تضاءل وتصاغر واستخذى؛ فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل بل يزيد في استسلام قائلاً:«وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» !!
وكذلك حال فرعون كل عصر مع الإصلاح .. حتّى إذا أدركه المدّ الإصلاحيّ، وثورة استرجاع الحقوق الباسلة قال: آمنت أنّكم بشر، وأنّ لكم حقوقاً ضيعتها عليكم، وأنّ هناك شيئاً اسمه الإصلاح وأنا اليوم من المصلحين !!
فلم يتقبل الله إيمان فرعون، لأنه آمن إيمان المضطرين المجبرين(1)، ورد على طلبه مستنكراً فقال سبحانه وتعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ يونس:91.
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار؟
آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار؟
إن في ذلك لعبرة
غاص فرعون - الذي علا في الأرض – إلى أعماق البحر، وهو يعالج سكرات الموت وكرباته ..
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال:52.
وحين عاد البحر لحالته، وهدأ الموج .. طفت على الماء العربات العسكرية المحطمة، والخيول الغارقة، وجنود جثثهم لحمُها متهتك، وبطونهم منتفخة، مبسوطة أذرعهم وعلى وجوههم سواد قاتم من شدة ما عاينوه من عذاب أعده الله لهم، رغم أنهم لم يكونوا سوى أتباعاً ينفذون أوامر الظالمين والفاسدين، ولكنهم لا يقلون عن سادتهم سوءاً ولا ذماً, فإنما انتشر الظلم في الأرض من خلالهم, وإنما مورس القهر والبغي على الناس بقوتهم و أيديهم.
أليسوا هم من ذبَّحوا الأطفال الرُضّع؟ أليسوا هم من روّعوا النساء؟ أليسوا هم من اقتادوا السحرة وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ؟ أليسوا هم من عذبوا الماشطة وحرّقوا أطفالها أمامها ؟ أليسوا هم من طاردوا المصلحين أمثال "مؤمن آل فرعون" في الجبال ؟ أليسوا هم من سجنوا المعارضين لفرعون وأذاقوهم سوء العذاب ؟ أليسوا هم من خرجوا مع فرعون لقتل نبي من الأنبياء ؟!.
فمن هو فرعون لولا جنده وأتباعه ؟!.
﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ﴾ النمل:85.
أما فرعون فقد قذفت جثته موجة غاضبة فألقت به على رمال الشاطئ !
ها هو الذي ملأ الأرض بغياً وعدواناً، وقال: « سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ »، ها هو الذي قال يوماً « يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي »، ها هو الذي بلغ به الكبر والغرور أن يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى»؛ لقد صار في لحظات جثة هامدة، وكوماً من لحم، تزكم الأنوف ريحه!، أين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه؟ وأين جبروته؟!
لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شيء كان بين يديه! ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ﴾ يونس:92، فليتعظ فراعنة الأمصار، وليتعظ كل ظالم جبار!
ها هي جثّته ملقاة على رمال الشاطئ، عافت حيتان البحر وحيوانات البر أن تأكلها، فقد وعد الله فرعون حين رد عليه إيمانه أن جسده لن يبلى، ليكون عبرة إلى يوم القيامة لكل ظالم وفاسد وطاغية(2)، يحكم بغير ما أنزل الله، ويحارب شريعة الله وأوليائه،﴿ فَاليوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ يونس:92.
فيا فراعنة كل عصر ..
أأنتم أعظم ملكًا وأوسع دولة وأشد بطشًا ورهبةً ؟ أمَّن قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ النازعات: 24؟! والآخر الذي قال: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ البقرة: 258.
ألم تعتبروا من مصيرهما ومصير أمثالهما ؟!
يا من حاربتَم الله ورسوله، وأبطلتَم شرْعَه وأمْرَه، وسجنتم أولياءه ﴿ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ يونس: 59 ؟!!.
غدًا تُوقفون بين يدَي الْمَلك الحقِّ الجبَّار، فماذا تقولون؟ هل عندكم حُجَّة أو معذرة؟
انتبهوا وتحسسوا خطواتكم، فمصير فرعون موسى ولعنته تلحق بكل من يسير على (دأبه) إلى يوم القيامة، لذا خلّد الله قصة فرعون في القرآن لتدق في آذانكم جرس إنذار ..
﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ النازعات:19. ...المزيد
خطبة فرعون الأخيرة تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ...
خطبة فرعون الأخيرة
تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ثم ارتدى خوذته واعتلى عربته الحربية ليكون على رأس الجيش فيشد من أزرهم، ويبث فيهم الحماسة.
وقبل التحرك بالجيش انتفخت عروق الكبرياء في رقبته، فوقف خطيباً في الجيش يقول:
لقد طفح الكيل من هؤلاء الشرذمة الرعاع، وأُقسم أن أغمد خنجري هذا في بطن كبيرهم المجنون، ولن أعود إلى قصري قبل أبقر بطون كل من خرجوا معه دون إذني، ولأُتِدن لهم في الأرض وأحرِقنَّهم أحياء، ليعرفوا من هو ربهم الأعلى.
ثم رفع من روح جنوده المعنوية فقال مهوناً من شأن بني إسرائيل وعددهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ فإياكم أن تخافوا منهم، فنحن أكثر منهم عدداً وعتاداً(1).
ثم ختم خطبته الحماسية طالباً منهم الحكمة والتروي والحذر أثناء ملاحقتهم لهم فقال: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾.
ثم انطلق بعربته الحربية مسرعاً وخلفه الجيش مدججاً بالسلاح نحو الجهة التي رصدوا تحرك بني إسرائيل نحوها ..
أما موسى ومن معه فقد سهل الله عليهم طريق سفرهم، فساروا يدفعهم الخوف، ويعصمهم الإيمان، حتى قطعوا رقعة اليابسة المصرية، وأشرقت عليهم شمس يوم عاشوراء(1) وقد وصلوا للنقطة المحددة لنبي الله موسى عند خليج السويس من البحر الأحمر (بحر القلزوم).
وإذا بهم أمام بحر لجي يقف أمامهم سداً منيعاً دون غايتهم، وحائلاً دون أمنيتهم، فساورهم القلق، واستولى عليهم الجزع، كان هذا حين أقبل عليهم فتى متأخر عنهم، كأن يمشي في مؤخرة الركب ليلتقط لهم ما يقع منهم أثناء سيرهم ويرصد لهم من يتبعهم من بعيد ..
شق الفتى صفوفهم التي وقفوا فيها متذمرين بعدما رأوا أنفسهم قد ضلوا الطريق، ونادى بأنفاس متهدجة: يا نبي الله .. يا نبي الله !
إن فرعون وهامان يقودان جنودهما في جيش جراراً، ويجِّدون في السير منذ ليالٍ للحاق بنا، وهاهو غبار قدوم جيشهم يتراءى من بعيد ..
فتناقل بني إسرائيل الخبر المشئوم فيما بينهم في لحظات، فازدادت خفقات قلوبهم، ودارت أعينهم من الخوف، وعلت الهمهمات، حتى رفع كبير العشيرة صوته قائلاً:
- هذا ما حذرتكم منه، لن يهدأ بال فرعون حتى يحاصركم فيذبحكم ويلقي بأجسادكم في البحر.
فصرخ فيه موسى:
- خسئت والله، بل سيُنجينا الله ولن يضيعنا.
ارتفع صوت من بعيد ..
- إذا فقل لنا كيف سينجينا ربك والبحر أمامنا وفرعون خلفنا ؟ هل ستطير بنا إلى السماء أم ستمشي بنا فوق أمواج البحر؟
صمت الكل، حتى علا صوت آخر ..
أرى أن نسلم أنفسنا إلى فرعون، ونبدي الندم بين يديه، لعله يعفو عنا ويسمح لنا بالعودة إلى منازلنا مرة أخرى.
ازداد غضب نبي الله موسى، وهمَّ أن يضرب اليائسين بعصاه، ثم قال:
من كان منكم لا يؤمن بقدرة الله، فليعد إلى الخرائب ليعيش فيها ذليلاً مهاناً، وليقبل أن تُقتل أبناؤه وتُستحيى زوجته أو بناته لخدمة فراش آل فرعون.
أمسك هارون بعضد أخيه موسى وهمس في أذنه:
اهدأ يا أخي ودعنا نفكر فيما نحن فيه.
هدأ موسى ووقف ينظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، ثم نظر إلى هارون وقال له: هاهنا أمرتُ .. ها هنا أمرتُ !
وتراءى الجمعان
فلما تراءى الجمعان عن قرب .. سمع موسى من حاشيته المقربة كلاماً فيه عتب ولوم، كما أن فيه استنجاد ويأس، من قلوب بلغت مما ترى الحناجر وتظن بالله الظنونا !
"يا كليم الله .. أين تدبيرك؟ هاهم أولاء قد داهمونا من ورائنا، والبحر من أمامنا، وليس لنا من الموت محيص ولا مفر ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ الشعراء:61، فما الحيلة ؟!!، وأين طريق النجاة، هل الله ضيعنا وسيجعلنا لقمة سائغة في فم عدونا ؟!
فصاح فيهم موسى عليه السلام بكلمات فيها ردع وزجر، خرجت منه بتلقائية وعفوية، فهو وإن كان لا يدري كيف سينجو بمن معه؛ لكنه على يقين في نصر الله لهم وقدرته على إهلاك عدوه ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الشعراء:62.
معيَ من هو أقوى من كل قوي، معيَ من هو أعظم من كل عظيم، معيَ الله القادر القوي المانع، معيَ الباسط القابض، معيَ الذي من توكل عليه كفاه، ومن احتمى بحماه حماه، معيَ من لاذ بجنابه نجاه، إنه الله.. إنه الله.. إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ.
فَسَرت في نفوس القوم سارية من أمل – ولكنه - لا يلبث أن يمد شعاعه، حتى تطفئه عواصف اليأس والقنوط، مع اقتراب جيش فرعون ..
قال موسى كلمته ثم سكت وسكن، سكون من لم يعد يعبأ أو يخاف، سكون من فوض أمره لمن بيده تغيير الأمور، سكن ولسان حاله يقول:
" لا الأمرُ أمري ولا التدبيرُ تدبيري ...... ولا الشؤون التي تَجري بتقديري
... لي خالقٌ رازقٌ ماشاء يفعل بي .......... ..أحاطَ بي علمه قبل تصويري".
وعلا الموقف صمت رهيب، وبدأت عيون القوم ترقُب اقتراب عربات فرعون وجنوده وهي تهرس الأرض هرساً من فرط سرعتها، وترقُب موسى الذي وقف منتظراً وحي السماء.
وهنا أدركتهم عناية الله .. ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ الشعراء:63.
سمع موسى الصوت، فانصاع دون تردد، وخاض مياه البحر المالحة، ورفع عصاه عالياً، وهوى بها على رأس موجة تقترب من الشاطئ ..
فانفلق الماء بين قدميه في هدير صمَّ الآذان ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ الشعراء:63.
لقد تباعد الماء كأن سكيناً خفية شقته شقاً، وجعلت بين جانبي مياهه المرتفعة كالجبال في طولها، والمتماسكة كالصخور في متانتها طريقاً يبساً، تنكشف للذي يمر فيه ما كان يحويه البحر من قواقع وأحجار، ويرى بين جانبي المياه ما تحويه من أسماك وحيتان ..!
﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ طه:77.
خرست الأصوات اليائسة من فرج الله، وذهلت العقول التي شككت في بديع قدرته، يرمقون الماء الذي بلغ ارتفاع جبل، بأعناق ملتوية وأعين مندهشة، لقد بدا فرعون بجيشه وأسلحته وعرباته الحربية أقل رهبة في نفوسهم ..
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ
صرخ موسى بأعلى صوته .. هيا اعبروا خلفي ..
انحدر بنو إسرائيل مسرعين داخل هذا الطريق المشقوق بين جانبي البحر، يكبرون الله ويحمدونه على هذه المعجزة العظيمة حتى جاوزوه إلى الشاطئ الآخر تحت رعاية وعناية الله، فالبحر الذي لا يُعبر إلا بالسفن عبره القوم مشياً على الأقدام بعد أن صار طريقاً يبساً!
فلما جاوزوه وخرج منه آخرهم، استشرفوا بعيونهم فأبصروا فرعون يتقدم العربات الحربية، تشد يمينه لجام ثلاثة أحصنة هوجاء تجر عربته بسرعة جنونية، كما سمعوا صوت دقات طبول يضربها جيشه ترويعاً لهم وتخويفاً، فعاد إليهم القلق والاضطراب، وتملكهم الخوف والإشفاق ..
حينئذٍ همّ موسى أن يضرب بعصاه البحر ليلتئم كما انفلق فيحول بينهم وبين فرعون، ولم يكد عزم موسى يختلج في فؤاده حتى أوحى الله إليه أن اترك البحر ساكناً على حالته، فلا تضربه بعصاك لئلا يتغير منه شيء فقد مضت أقدار الله أنهم لن يرجعوا إلى ديارهم سالمين ..
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ الدخان:24. ...المزيد
تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ثم ارتدى خوذته واعتلى عربته الحربية ليكون على رأس الجيش فيشد من أزرهم، ويبث فيهم الحماسة.
وقبل التحرك بالجيش انتفخت عروق الكبرياء في رقبته، فوقف خطيباً في الجيش يقول:
لقد طفح الكيل من هؤلاء الشرذمة الرعاع، وأُقسم أن أغمد خنجري هذا في بطن كبيرهم المجنون، ولن أعود إلى قصري قبل أبقر بطون كل من خرجوا معه دون إذني، ولأُتِدن لهم في الأرض وأحرِقنَّهم أحياء، ليعرفوا من هو ربهم الأعلى.
ثم رفع من روح جنوده المعنوية فقال مهوناً من شأن بني إسرائيل وعددهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ فإياكم أن تخافوا منهم، فنحن أكثر منهم عدداً وعتاداً(1).
ثم ختم خطبته الحماسية طالباً منهم الحكمة والتروي والحذر أثناء ملاحقتهم لهم فقال: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾.
ثم انطلق بعربته الحربية مسرعاً وخلفه الجيش مدججاً بالسلاح نحو الجهة التي رصدوا تحرك بني إسرائيل نحوها ..
أما موسى ومن معه فقد سهل الله عليهم طريق سفرهم، فساروا يدفعهم الخوف، ويعصمهم الإيمان، حتى قطعوا رقعة اليابسة المصرية، وأشرقت عليهم شمس يوم عاشوراء(1) وقد وصلوا للنقطة المحددة لنبي الله موسى عند خليج السويس من البحر الأحمر (بحر القلزوم).
وإذا بهم أمام بحر لجي يقف أمامهم سداً منيعاً دون غايتهم، وحائلاً دون أمنيتهم، فساورهم القلق، واستولى عليهم الجزع، كان هذا حين أقبل عليهم فتى متأخر عنهم، كأن يمشي في مؤخرة الركب ليلتقط لهم ما يقع منهم أثناء سيرهم ويرصد لهم من يتبعهم من بعيد ..
شق الفتى صفوفهم التي وقفوا فيها متذمرين بعدما رأوا أنفسهم قد ضلوا الطريق، ونادى بأنفاس متهدجة: يا نبي الله .. يا نبي الله !
إن فرعون وهامان يقودان جنودهما في جيش جراراً، ويجِّدون في السير منذ ليالٍ للحاق بنا، وهاهو غبار قدوم جيشهم يتراءى من بعيد ..
فتناقل بني إسرائيل الخبر المشئوم فيما بينهم في لحظات، فازدادت خفقات قلوبهم، ودارت أعينهم من الخوف، وعلت الهمهمات، حتى رفع كبير العشيرة صوته قائلاً:
- هذا ما حذرتكم منه، لن يهدأ بال فرعون حتى يحاصركم فيذبحكم ويلقي بأجسادكم في البحر.
فصرخ فيه موسى:
- خسئت والله، بل سيُنجينا الله ولن يضيعنا.
ارتفع صوت من بعيد ..
- إذا فقل لنا كيف سينجينا ربك والبحر أمامنا وفرعون خلفنا ؟ هل ستطير بنا إلى السماء أم ستمشي بنا فوق أمواج البحر؟
صمت الكل، حتى علا صوت آخر ..
أرى أن نسلم أنفسنا إلى فرعون، ونبدي الندم بين يديه، لعله يعفو عنا ويسمح لنا بالعودة إلى منازلنا مرة أخرى.
ازداد غضب نبي الله موسى، وهمَّ أن يضرب اليائسين بعصاه، ثم قال:
من كان منكم لا يؤمن بقدرة الله، فليعد إلى الخرائب ليعيش فيها ذليلاً مهاناً، وليقبل أن تُقتل أبناؤه وتُستحيى زوجته أو بناته لخدمة فراش آل فرعون.
أمسك هارون بعضد أخيه موسى وهمس في أذنه:
اهدأ يا أخي ودعنا نفكر فيما نحن فيه.
هدأ موسى ووقف ينظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، ثم نظر إلى هارون وقال له: هاهنا أمرتُ .. ها هنا أمرتُ !
وتراءى الجمعان
فلما تراءى الجمعان عن قرب .. سمع موسى من حاشيته المقربة كلاماً فيه عتب ولوم، كما أن فيه استنجاد ويأس، من قلوب بلغت مما ترى الحناجر وتظن بالله الظنونا !
"يا كليم الله .. أين تدبيرك؟ هاهم أولاء قد داهمونا من ورائنا، والبحر من أمامنا، وليس لنا من الموت محيص ولا مفر ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ الشعراء:61، فما الحيلة ؟!!، وأين طريق النجاة، هل الله ضيعنا وسيجعلنا لقمة سائغة في فم عدونا ؟!
فصاح فيهم موسى عليه السلام بكلمات فيها ردع وزجر، خرجت منه بتلقائية وعفوية، فهو وإن كان لا يدري كيف سينجو بمن معه؛ لكنه على يقين في نصر الله لهم وقدرته على إهلاك عدوه ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الشعراء:62.
معيَ من هو أقوى من كل قوي، معيَ من هو أعظم من كل عظيم، معيَ الله القادر القوي المانع، معيَ الباسط القابض، معيَ الذي من توكل عليه كفاه، ومن احتمى بحماه حماه، معيَ من لاذ بجنابه نجاه، إنه الله.. إنه الله.. إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ.
فَسَرت في نفوس القوم سارية من أمل – ولكنه - لا يلبث أن يمد شعاعه، حتى تطفئه عواصف اليأس والقنوط، مع اقتراب جيش فرعون ..
قال موسى كلمته ثم سكت وسكن، سكون من لم يعد يعبأ أو يخاف، سكون من فوض أمره لمن بيده تغيير الأمور، سكن ولسان حاله يقول:
" لا الأمرُ أمري ولا التدبيرُ تدبيري ...... ولا الشؤون التي تَجري بتقديري
... لي خالقٌ رازقٌ ماشاء يفعل بي .......... ..أحاطَ بي علمه قبل تصويري".
وعلا الموقف صمت رهيب، وبدأت عيون القوم ترقُب اقتراب عربات فرعون وجنوده وهي تهرس الأرض هرساً من فرط سرعتها، وترقُب موسى الذي وقف منتظراً وحي السماء.
وهنا أدركتهم عناية الله .. ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ الشعراء:63.
سمع موسى الصوت، فانصاع دون تردد، وخاض مياه البحر المالحة، ورفع عصاه عالياً، وهوى بها على رأس موجة تقترب من الشاطئ ..
فانفلق الماء بين قدميه في هدير صمَّ الآذان ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ الشعراء:63.
لقد تباعد الماء كأن سكيناً خفية شقته شقاً، وجعلت بين جانبي مياهه المرتفعة كالجبال في طولها، والمتماسكة كالصخور في متانتها طريقاً يبساً، تنكشف للذي يمر فيه ما كان يحويه البحر من قواقع وأحجار، ويرى بين جانبي المياه ما تحويه من أسماك وحيتان ..!
﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ طه:77.
خرست الأصوات اليائسة من فرج الله، وذهلت العقول التي شككت في بديع قدرته، يرمقون الماء الذي بلغ ارتفاع جبل، بأعناق ملتوية وأعين مندهشة، لقد بدا فرعون بجيشه وأسلحته وعرباته الحربية أقل رهبة في نفوسهم ..
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ
صرخ موسى بأعلى صوته .. هيا اعبروا خلفي ..
انحدر بنو إسرائيل مسرعين داخل هذا الطريق المشقوق بين جانبي البحر، يكبرون الله ويحمدونه على هذه المعجزة العظيمة حتى جاوزوه إلى الشاطئ الآخر تحت رعاية وعناية الله، فالبحر الذي لا يُعبر إلا بالسفن عبره القوم مشياً على الأقدام بعد أن صار طريقاً يبساً!
فلما جاوزوه وخرج منه آخرهم، استشرفوا بعيونهم فأبصروا فرعون يتقدم العربات الحربية، تشد يمينه لجام ثلاثة أحصنة هوجاء تجر عربته بسرعة جنونية، كما سمعوا صوت دقات طبول يضربها جيشه ترويعاً لهم وتخويفاً، فعاد إليهم القلق والاضطراب، وتملكهم الخوف والإشفاق ..
حينئذٍ همّ موسى أن يضرب بعصاه البحر ليلتئم كما انفلق فيحول بينهم وبين فرعون، ولم يكد عزم موسى يختلج في فؤاده حتى أوحى الله إليه أن اترك البحر ساكناً على حالته، فلا تضربه بعصاك لئلا يتغير منه شيء فقد مضت أقدار الله أنهم لن يرجعوا إلى ديارهم سالمين ..
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ الدخان:24. ...المزيد
التعبئة الروحية والنظامية لبني إسرائيل أوحى الله إلى موسى وأخيه هارون أن يجمعا بني إسرائيل الذين ...
التعبئة الروحية والنظامية لبني إسرائيل
أوحى الله إلى موسى وأخيه هارون أن يجمعا بني إسرائيل الذين تبعثروا في أماكن عده، ويتبوآ (1) لهم بيوتاً متقاربة ومتقابلة، وذلك لفرزهم وتنظيمهم ونسج رابطة أخوة قوية بين أفرادهم، استعداداً للرحيل من مصر في الوقت الذي يختاره الله لهم ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ يونس:87
ثم كلفهم بتطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، وإقامة الصلاة فيها إذ لم يعد بوسعهم الصلاة جهراً كما كان، فاضطروا إلى الصلاة خلسة في بيوتهم وتحولت صلاتهم بدعائهم إلى أسلحة يوجهونها ضد فرعون، فالله يستجيب دعوة المظلومين ولو بعد حين، كما أوصاهم بالاستبشار بقرب نصر الله ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يونس:87
وإلى جانب هذه التعبئة الروحية كانت هناك تعبئة نظامية؛ فقد أمّر موسى عليه السلام واحداً على كل اثني عشر رجلاً هو بمثابة المسئول التنظيمي والتربوي لهم، ليكون موسى على رأس الهرم التنظيمي ثم يليه هارون عليه السلام نائباً ومساعداً، وتحتهما اثنا عشر رجلاً من الأتباع المقربين؛ كل واحد منهم مسئول مسئولية خاصة عن اثني عشر رجلاً، وهكذا إلى آخر الهرم التنظيمي.
وتلك التعبئة النظامية إلى جانب ما كان من تعبئة روحية، ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات، وقد يستهين قوم بمثل هذه التعبئة الروحية والفكرية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد جندي خائر العقيدة لا تساوي شيئاً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي أمر الله موس وهارون بتنفيذها ليست خاصة ببني إسرائيل فقط، بل هي تجربة إيمانية عامة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع، وقد عمت الفتنة وتجبر الظلمة، وفسد الناس- كما كان الحال على عهد فرعون - وهنا يرشدهم الله إلى اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن ذلك- لتتجمع هذه العُصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
الإنذار السابع (الوباء القاتل).
والآن هذه هي الزيارة الأخيرة إلى قصر فرعون، فهذا هو الإنذار السابع والأخير – كما علِم موسى من ربه – والإنذار هذه المرة مرضٌ معدٍ شديدُ الخطورة، ينتشر كوباء في مصر يلاحق كل من عصى الله وكذّب رسوله، إنه الطاعون -الرِّجْزُ(1)- أو سمه إن شئت بالوباء القاتل.
فالطاعون يسبب ألماً شديداً وحمى وورماً في الغدد اللمفاوية، ويسبب هذا المرض بقعاً حمراء على الجلد ثم تتحول إلى بقع سوداء مخيفة، ويشعر مريض الطاعون بالصداع والبرد في الأطراف، وتسارع في ضربات القلب، ثم يحدث نزيف تحت الجلد، ثم يبدأ الجهاز العصبي بالانهيار، وتبدأ بعد ذلك الاضطرابات العصبية الغريبة والتي يتمايل منها المريض وكأنه يرقص رقصة الموت! وخلال عدة أيام يكون الجلد قد اسودّ وفارق المريض الحياة(2).
وهذا الذي كان؛ فقد حصد الطاعون أرواحاً كثيرة قدرت بعشرات الآلاف(3)، وعجز الطب المصري - رغم تفوقه آنذاك - عن محاصرة المرض أو علاجه، وانتشر المرض بين عموم المصريين المؤيدين لفرعون، وبات كل مريض منهم يتمنى الموت من شدة الآلام ولا يجده، وأصبح كل صحيح يخاف على نفسه من العدوى، وأصيب المصريون بحالة ذعر وخوف من هذا المرض القاتل.
لم يتماسك فرعون ونظامه هذه المرة خشية أن يصابوا بهذا المرض، فأرسلوا إلى موسى عليه السلام يستنجدون به، ويطلبون منه أن يدعو الله برفع هذا البلاء العظيم عنهم، فلقد أصبح نظام فرعون بعد هذه المحن المتتابعة كنبتة هزيلة، تعصف بها الريح فيما تعصف به من نبات وأعشاب(1)! إنهم يلوذون بموسى عدوّهم، يطلبون منه أن يمد إليهم يده ليدفع عنهم هذا البلاء الذي نزل بهم مقابل أن يؤمنوا له ويرسلوا معه بني إسرائيل كما طلب منهم من قبل!
﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الأعراف:134
وبالرغم من كل ما عاناه موسى منهم على مدار السنوات الماضية، إلا أنه قبل بنفس المؤمن المتسامحة– متناسياً الماضي– ورفع يده لله يدعو لهم؛ بأن يرفع عنهم هذا البلاء العظيم.
فاستجاب الله الدعاء، وأمر هذا "الميكروب البسيط" - الذي أحدث كل هذه الضجة- بالانسحاب من أرض مصر، ويستجيب الجندي لربه، فما أمسى مريض إلا وقد شفاه الله.
نقض العهد والميثاق
انتشر بين جموع الشعب أن فرعون ومن حوله وعدوا موسى وهارون أنهم سيؤمنون لهم بإلههم، وأن فرعون سيلغي قانون السخرة الذي استُعِبد به بنو إسرائيل، وسيسمح لهم بالخروج من مصر إلى حيث شاءوا مع موسى وهارون ..
وسادت حالة من الترقب بين جموع الشعب وهم ينتظرون صدور هذه القرارات المصيرية التي كانت سبباً في رفع البلاء عنهم، ولكن فرعون نكث وعوده التي جعلها حيلة لاستجماع قواه، والتقاط أنفاسه !!
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ الأعراف:135
وقد كان في كلماتهم من البداية ما يفضح هذا الغدر الذي أخفته صدورهم(2)، ولكنّ المؤمنين أمروا ألا ينقبوا عما أخفته صدورهم، وأن يسلموا بظواهر أقوالهم وأفعالهم.
خطاب فرعون للأمة
خرج فرعون على الشعب المصري بخطابه المنتظر، ولكنه كان خطاباً عاطفياً أراد منه أن يستجدي رضاهم، ويجمعهم حوله مرة أخرى، فهو الضمانة الوحيدة لاستقرار البلاد وأمنها ورخائها ..
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ الزخرف:53.
بدأ فرعون خطابه بنبرة عاطفية حزينة تناسب الظروف الأليمة التي مرت بها البلاد ..
«يَا قَوْمِ» يا أهلي ويا أحبابي !!
بداية عاطفية تنفذ إلى قلوب المصريين البسطاء، فتقلبها رأساً على عقب، وتحولها كلها إلى صفه، فمنذ متى وفرعون المتكبر المغرور ينادي شعبه بنداء التقريب والحب «يَا قَوْمِ»(1)!.
ولكنه دهاء منه لاستمالة قلوب بدأت تميل إلى غيره ..
ثم يستمر محاولاً التوغل في قلوبهم والتحكم فيها بذكر أمجاده وإنجازاته منذ أن حكم مصر، فيقول: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ».
ولأن الشعب المصري – كعادته – ينسى أو يتناسى الذكريات المؤلمة في حياته، من قتل وتعذيب وتشريد واستضعاف، سينطلي عليه هذا اللون من الخطاب، ففرعون بالفعل يستحق بجدارة لقب بطل الحرب والسلام(2)! ثم تطرق في خطابه بصيغة التعريض لموضوع موسى ودينه الجديد فقال: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ فموسى لا يصلح أن يكون بديلاً لحكم بلد في حجم مصر، فهو من أصل دنيء مهين، وازداد في السخرية منه فاتهمه أنه لا يجيد الكلام.
وأما فيما يخص ما أشيع أنه سيتبعه ويؤمن بإلهه، فقد أوضح فرعون أنه سيكون أول أتباعه لو أن معه أي دليل يشير إلى صدقه، وتساءل بكل سخرية - راضياً بحكمهم – لو كان هذا الإنسان رسولاً من عند الله حقّا كما يدعي؛ أيضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان؟! ﴿ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ﴾ ؟ فإن لم يكن أهلاً لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند الله ؟
فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأي وجه يكون له مقام بيننا ومكانة فينا، وبأي وجه يُقارن بيني وبينه ويضعه أحدكم معي في كفة ميزان واحدة ؟.
ردود فعل الشارع المصري على الخطاب العاطفي
التهبت أكف الحاشية بالتصفيق والإشادة بما حواه الخطاب، وأفرد القطاع الإعلامي أوقاتاً كثيرة لتحليل نقاط الخطاب وأهم ما جاء فيه، ولم يغب عن بعضهم تحليل "لغة الجسد" للزعيم الكبير ذي الحكمة والقوة والنظر الثاقب.
فتلقى الشعب منهم هذا الخطاب السطحي الساذج، بالتسليم والطاعة، وانهمرت دموعهم عند سماعهم قوله "ياقوم"، ومدحوا حكمته التي تغنى بها إعلامه عندما تساءل عن الأسورة التي لم يأت بها موسى كدليل على نبوته! ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ﴾.
ولم يقم من بين جموع المتلقين عاقل يسفه هذا المنطق السفيه الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل !! فأسورة من ذهب مهما ازداد بريقها، وغلا ثمنها لا تُصدق بها رسالة رسول ؟!
ثم هل أسورة من ذهب تكون أكثر دلالة على نبوة موسى من كل الآيات والنذر التي جاءهم بها منذ بعثته؟!
اللقاء الأخير
أمر الله موسى أن يذهب بصحبة هارون إلى قصر فرعون بعدما نكث وعده، ونقض شرطه، لينذره بقرب هلاكه، واقتراب أجله، وزوال ملكه.
فذهبا إلى القصر الفرعوني، وانتظرا حتى خرج عليهما فرعون ..
فسأل موسى: ما الذي جعلك تنقض عهدك؟ ألم تعاهدني أنك ستؤمن بالله وستُخرج معي بني إسرائيل بعدما رأيت معجزات الله ؟
فرد عليه فرعون متطاولاً وضحكاته تملأ أركان قصره فقال:
- مخبول العقل أنت يا موسى؟! نعم .. أنا على يقين أنك مسحور !، كيف تظن يا كالح البشرة أنني سأؤمن بك وأرسل معك عبيدي من بني إسرائيل؟! ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾، ثم كيف تظن أنني قد أؤمن بإلهك الذي يُبيد شعبي بالجفاف ونقص الثمرات ويُغرقه بالمطر؟! ذلك ليس بإله ! إنه شيطان يفسد مصر، ويذهب بخيراتها.
... ثم نزل فرعون من على العرش قائلاً:
- اثبتا لي أن إلهكما موجود، ليظهر لنا الآن بجسده في القاعة، أو ليتحدث إليّ الآن كي أسمعه، أم أنه خجول لا يستطيع الكلام ؟!
نظر موسى لهارون الذي أجاب:
- ربنا قادر على كل شيء و ...
فقاطعه فرعون بضحكاته المستفزة ثم قال:
لِمَ لا يقتلني إذن ؟
فأجابه موسى بحدة تناسب هذا الموقف المتأزم قائلاً: إنه سبحانه وتعالى لا يُسأل عن حكمته في بقائك، ولكل أجل معاد.
فقال له فرعون:
تلك إجابة العاجزين.
فقال له موسى: اترك بني إسرائيل تغادر أرض مصر كما وعدتني، وإلا فانتظر الهلاك.
فقال له فرعون: لم أعرف التهديد يوماً ولم ينل مني وعيد، واعلم أن الدبابير التي تغادر عشها تقتل، وما جئت به من سحر لن يرهبنا.
فرد عليه موسى: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ﴾ - المعجزات والإنذارات التي رأيتها(1)- ﴿ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقد جاءتكم هذه المعجزات والإنذارات ﴿بَصَائِرَ﴾ واضحة الرؤية؛ لتقيم لديكم علماً محققاً، ويقيناً راسخاً بأنها من عند الله، ولكن الكبر والتعالي صرفكم عن الإيمان بالله ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ الإسراء:102، فيقيني أنك ستكون خلال الأيام القادمة مغلوباً مدمراً بقوة الله التي رأيت خوارقها وآثارها، وأنكرتها ورفضت أن تستسلم لها.
ثم تركه وانصرف! ..
فبدأ فرعون من وراء الكواليس يدبر لحرب إبادة جماعية(2)؛ يستأصل بها كل أنصار موسى، فقد خطط لمحاصرة خرائب وأكواخ بني إسرائيل وحرقها بمن فيها، حتى لا يكون لهم وجود على أرض مصر ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ الإسراء:103، وهكذا يفكر الطغاة دوماً إذا عجزوا أمام الحق الذي جاء على لسان معارضيهم.
الاستعداد للخروج
وعلى الجانب الآخر فإن موسى وهارون - عليهما السلام – قد أعدا العدة وجهزا بني إسرائيل، وهيئوهم على أن ينطلقوا سراً في خفاء الليل وصمته، بعدما جاء الوحي من الله يقول: ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴾ الدخان:23.
وأثناء خروجهم من أرض مصر نفذوا وصية يوسف عليه السلام التي أوصى بها أجدادهم قبل موته، وهي أن ينبشوا قبره ويحملوا تابوته معهم إذا أرادوا الخروج من مصر(1).
وقد ساعد تجمع بيوتهم - إضافة إلى البناء التنظيمي الذي أشرنا إليه من قبل - في خروجهم سوياً في توقيت واحد، حاملين ما خف من أمتعتهم مع أطفالهم، متجهين نحو شرق البلاد.
ولكن سرعان ما فاح خبر خروجهم، حتى وصل إلى فرعون فهاج وماج؛ وأصدر قراراً ملكياً بإعلان الحرب على موسى وكل من هرب معه خارج البلاد.
ثم أرسل رسله على وجه السرعة بهذا القرار إلى قادة أفرع جيشه في كل مدائن مصر؛ وأمرهم بصفته القائد الأعلى بضرورة تعبئة الوحدات العسكرية تعبئة عامة، وإعلان النفير والتحرك الفوري نحو العاصمة، لينطلقوا منها جميعاً خلف بني إسرائيل؛ فيفسد عليهم تدبيرهم، ولكنه كان لا يعلم حينها أنه ينفذ تدبير صاحب التدبير !
﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ الشعراء:53.
وبالفعل تجمع بين يديه أكبر جيش يستطيع به أن يبيد أضعاف أضعاف أنصار موسى، ولا يٌبقيِ منهم أحداً. ...المزيد
أوحى الله إلى موسى وأخيه هارون أن يجمعا بني إسرائيل الذين تبعثروا في أماكن عده، ويتبوآ (1) لهم بيوتاً متقاربة ومتقابلة، وذلك لفرزهم وتنظيمهم ونسج رابطة أخوة قوية بين أفرادهم، استعداداً للرحيل من مصر في الوقت الذي يختاره الله لهم ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ يونس:87
ثم كلفهم بتطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، وإقامة الصلاة فيها إذ لم يعد بوسعهم الصلاة جهراً كما كان، فاضطروا إلى الصلاة خلسة في بيوتهم وتحولت صلاتهم بدعائهم إلى أسلحة يوجهونها ضد فرعون، فالله يستجيب دعوة المظلومين ولو بعد حين، كما أوصاهم بالاستبشار بقرب نصر الله ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يونس:87
وإلى جانب هذه التعبئة الروحية كانت هناك تعبئة نظامية؛ فقد أمّر موسى عليه السلام واحداً على كل اثني عشر رجلاً هو بمثابة المسئول التنظيمي والتربوي لهم، ليكون موسى على رأس الهرم التنظيمي ثم يليه هارون عليه السلام نائباً ومساعداً، وتحتهما اثنا عشر رجلاً من الأتباع المقربين؛ كل واحد منهم مسئول مسئولية خاصة عن اثني عشر رجلاً، وهكذا إلى آخر الهرم التنظيمي.
وتلك التعبئة النظامية إلى جانب ما كان من تعبئة روحية، ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات، وقد يستهين قوم بمثل هذه التعبئة الروحية والفكرية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد جندي خائر العقيدة لا تساوي شيئاً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي أمر الله موس وهارون بتنفيذها ليست خاصة ببني إسرائيل فقط، بل هي تجربة إيمانية عامة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع، وقد عمت الفتنة وتجبر الظلمة، وفسد الناس- كما كان الحال على عهد فرعون - وهنا يرشدهم الله إلى اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن ذلك- لتتجمع هذه العُصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
الإنذار السابع (الوباء القاتل).
والآن هذه هي الزيارة الأخيرة إلى قصر فرعون، فهذا هو الإنذار السابع والأخير – كما علِم موسى من ربه – والإنذار هذه المرة مرضٌ معدٍ شديدُ الخطورة، ينتشر كوباء في مصر يلاحق كل من عصى الله وكذّب رسوله، إنه الطاعون -الرِّجْزُ(1)- أو سمه إن شئت بالوباء القاتل.
فالطاعون يسبب ألماً شديداً وحمى وورماً في الغدد اللمفاوية، ويسبب هذا المرض بقعاً حمراء على الجلد ثم تتحول إلى بقع سوداء مخيفة، ويشعر مريض الطاعون بالصداع والبرد في الأطراف، وتسارع في ضربات القلب، ثم يحدث نزيف تحت الجلد، ثم يبدأ الجهاز العصبي بالانهيار، وتبدأ بعد ذلك الاضطرابات العصبية الغريبة والتي يتمايل منها المريض وكأنه يرقص رقصة الموت! وخلال عدة أيام يكون الجلد قد اسودّ وفارق المريض الحياة(2).
وهذا الذي كان؛ فقد حصد الطاعون أرواحاً كثيرة قدرت بعشرات الآلاف(3)، وعجز الطب المصري - رغم تفوقه آنذاك - عن محاصرة المرض أو علاجه، وانتشر المرض بين عموم المصريين المؤيدين لفرعون، وبات كل مريض منهم يتمنى الموت من شدة الآلام ولا يجده، وأصبح كل صحيح يخاف على نفسه من العدوى، وأصيب المصريون بحالة ذعر وخوف من هذا المرض القاتل.
لم يتماسك فرعون ونظامه هذه المرة خشية أن يصابوا بهذا المرض، فأرسلوا إلى موسى عليه السلام يستنجدون به، ويطلبون منه أن يدعو الله برفع هذا البلاء العظيم عنهم، فلقد أصبح نظام فرعون بعد هذه المحن المتتابعة كنبتة هزيلة، تعصف بها الريح فيما تعصف به من نبات وأعشاب(1)! إنهم يلوذون بموسى عدوّهم، يطلبون منه أن يمد إليهم يده ليدفع عنهم هذا البلاء الذي نزل بهم مقابل أن يؤمنوا له ويرسلوا معه بني إسرائيل كما طلب منهم من قبل!
﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الأعراف:134
وبالرغم من كل ما عاناه موسى منهم على مدار السنوات الماضية، إلا أنه قبل بنفس المؤمن المتسامحة– متناسياً الماضي– ورفع يده لله يدعو لهم؛ بأن يرفع عنهم هذا البلاء العظيم.
فاستجاب الله الدعاء، وأمر هذا "الميكروب البسيط" - الذي أحدث كل هذه الضجة- بالانسحاب من أرض مصر، ويستجيب الجندي لربه، فما أمسى مريض إلا وقد شفاه الله.
نقض العهد والميثاق
انتشر بين جموع الشعب أن فرعون ومن حوله وعدوا موسى وهارون أنهم سيؤمنون لهم بإلههم، وأن فرعون سيلغي قانون السخرة الذي استُعِبد به بنو إسرائيل، وسيسمح لهم بالخروج من مصر إلى حيث شاءوا مع موسى وهارون ..
وسادت حالة من الترقب بين جموع الشعب وهم ينتظرون صدور هذه القرارات المصيرية التي كانت سبباً في رفع البلاء عنهم، ولكن فرعون نكث وعوده التي جعلها حيلة لاستجماع قواه، والتقاط أنفاسه !!
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ الأعراف:135
وقد كان في كلماتهم من البداية ما يفضح هذا الغدر الذي أخفته صدورهم(2)، ولكنّ المؤمنين أمروا ألا ينقبوا عما أخفته صدورهم، وأن يسلموا بظواهر أقوالهم وأفعالهم.
خطاب فرعون للأمة
خرج فرعون على الشعب المصري بخطابه المنتظر، ولكنه كان خطاباً عاطفياً أراد منه أن يستجدي رضاهم، ويجمعهم حوله مرة أخرى، فهو الضمانة الوحيدة لاستقرار البلاد وأمنها ورخائها ..
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ الزخرف:53.
بدأ فرعون خطابه بنبرة عاطفية حزينة تناسب الظروف الأليمة التي مرت بها البلاد ..
«يَا قَوْمِ» يا أهلي ويا أحبابي !!
بداية عاطفية تنفذ إلى قلوب المصريين البسطاء، فتقلبها رأساً على عقب، وتحولها كلها إلى صفه، فمنذ متى وفرعون المتكبر المغرور ينادي شعبه بنداء التقريب والحب «يَا قَوْمِ»(1)!.
ولكنه دهاء منه لاستمالة قلوب بدأت تميل إلى غيره ..
ثم يستمر محاولاً التوغل في قلوبهم والتحكم فيها بذكر أمجاده وإنجازاته منذ أن حكم مصر، فيقول: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ».
ولأن الشعب المصري – كعادته – ينسى أو يتناسى الذكريات المؤلمة في حياته، من قتل وتعذيب وتشريد واستضعاف، سينطلي عليه هذا اللون من الخطاب، ففرعون بالفعل يستحق بجدارة لقب بطل الحرب والسلام(2)! ثم تطرق في خطابه بصيغة التعريض لموضوع موسى ودينه الجديد فقال: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ فموسى لا يصلح أن يكون بديلاً لحكم بلد في حجم مصر، فهو من أصل دنيء مهين، وازداد في السخرية منه فاتهمه أنه لا يجيد الكلام.
وأما فيما يخص ما أشيع أنه سيتبعه ويؤمن بإلهه، فقد أوضح فرعون أنه سيكون أول أتباعه لو أن معه أي دليل يشير إلى صدقه، وتساءل بكل سخرية - راضياً بحكمهم – لو كان هذا الإنسان رسولاً من عند الله حقّا كما يدعي؛ أيضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان؟! ﴿ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ﴾ ؟ فإن لم يكن أهلاً لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند الله ؟
فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأي وجه يكون له مقام بيننا ومكانة فينا، وبأي وجه يُقارن بيني وبينه ويضعه أحدكم معي في كفة ميزان واحدة ؟.
ردود فعل الشارع المصري على الخطاب العاطفي
التهبت أكف الحاشية بالتصفيق والإشادة بما حواه الخطاب، وأفرد القطاع الإعلامي أوقاتاً كثيرة لتحليل نقاط الخطاب وأهم ما جاء فيه، ولم يغب عن بعضهم تحليل "لغة الجسد" للزعيم الكبير ذي الحكمة والقوة والنظر الثاقب.
فتلقى الشعب منهم هذا الخطاب السطحي الساذج، بالتسليم والطاعة، وانهمرت دموعهم عند سماعهم قوله "ياقوم"، ومدحوا حكمته التي تغنى بها إعلامه عندما تساءل عن الأسورة التي لم يأت بها موسى كدليل على نبوته! ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ﴾.
ولم يقم من بين جموع المتلقين عاقل يسفه هذا المنطق السفيه الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل !! فأسورة من ذهب مهما ازداد بريقها، وغلا ثمنها لا تُصدق بها رسالة رسول ؟!
ثم هل أسورة من ذهب تكون أكثر دلالة على نبوة موسى من كل الآيات والنذر التي جاءهم بها منذ بعثته؟!
اللقاء الأخير
أمر الله موسى أن يذهب بصحبة هارون إلى قصر فرعون بعدما نكث وعده، ونقض شرطه، لينذره بقرب هلاكه، واقتراب أجله، وزوال ملكه.
فذهبا إلى القصر الفرعوني، وانتظرا حتى خرج عليهما فرعون ..
فسأل موسى: ما الذي جعلك تنقض عهدك؟ ألم تعاهدني أنك ستؤمن بالله وستُخرج معي بني إسرائيل بعدما رأيت معجزات الله ؟
فرد عليه فرعون متطاولاً وضحكاته تملأ أركان قصره فقال:
- مخبول العقل أنت يا موسى؟! نعم .. أنا على يقين أنك مسحور !، كيف تظن يا كالح البشرة أنني سأؤمن بك وأرسل معك عبيدي من بني إسرائيل؟! ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾، ثم كيف تظن أنني قد أؤمن بإلهك الذي يُبيد شعبي بالجفاف ونقص الثمرات ويُغرقه بالمطر؟! ذلك ليس بإله ! إنه شيطان يفسد مصر، ويذهب بخيراتها.
... ثم نزل فرعون من على العرش قائلاً:
- اثبتا لي أن إلهكما موجود، ليظهر لنا الآن بجسده في القاعة، أو ليتحدث إليّ الآن كي أسمعه، أم أنه خجول لا يستطيع الكلام ؟!
نظر موسى لهارون الذي أجاب:
- ربنا قادر على كل شيء و ...
فقاطعه فرعون بضحكاته المستفزة ثم قال:
لِمَ لا يقتلني إذن ؟
فأجابه موسى بحدة تناسب هذا الموقف المتأزم قائلاً: إنه سبحانه وتعالى لا يُسأل عن حكمته في بقائك، ولكل أجل معاد.
فقال له فرعون:
تلك إجابة العاجزين.
فقال له موسى: اترك بني إسرائيل تغادر أرض مصر كما وعدتني، وإلا فانتظر الهلاك.
فقال له فرعون: لم أعرف التهديد يوماً ولم ينل مني وعيد، واعلم أن الدبابير التي تغادر عشها تقتل، وما جئت به من سحر لن يرهبنا.
فرد عليه موسى: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ﴾ - المعجزات والإنذارات التي رأيتها(1)- ﴿ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقد جاءتكم هذه المعجزات والإنذارات ﴿بَصَائِرَ﴾ واضحة الرؤية؛ لتقيم لديكم علماً محققاً، ويقيناً راسخاً بأنها من عند الله، ولكن الكبر والتعالي صرفكم عن الإيمان بالله ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ الإسراء:102، فيقيني أنك ستكون خلال الأيام القادمة مغلوباً مدمراً بقوة الله التي رأيت خوارقها وآثارها، وأنكرتها ورفضت أن تستسلم لها.
ثم تركه وانصرف! ..
فبدأ فرعون من وراء الكواليس يدبر لحرب إبادة جماعية(2)؛ يستأصل بها كل أنصار موسى، فقد خطط لمحاصرة خرائب وأكواخ بني إسرائيل وحرقها بمن فيها، حتى لا يكون لهم وجود على أرض مصر ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ الإسراء:103، وهكذا يفكر الطغاة دوماً إذا عجزوا أمام الحق الذي جاء على لسان معارضيهم.
الاستعداد للخروج
وعلى الجانب الآخر فإن موسى وهارون - عليهما السلام – قد أعدا العدة وجهزا بني إسرائيل، وهيئوهم على أن ينطلقوا سراً في خفاء الليل وصمته، بعدما جاء الوحي من الله يقول: ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴾ الدخان:23.
وأثناء خروجهم من أرض مصر نفذوا وصية يوسف عليه السلام التي أوصى بها أجدادهم قبل موته، وهي أن ينبشوا قبره ويحملوا تابوته معهم إذا أرادوا الخروج من مصر(1).
وقد ساعد تجمع بيوتهم - إضافة إلى البناء التنظيمي الذي أشرنا إليه من قبل - في خروجهم سوياً في توقيت واحد، حاملين ما خف من أمتعتهم مع أطفالهم، متجهين نحو شرق البلاد.
ولكن سرعان ما فاح خبر خروجهم، حتى وصل إلى فرعون فهاج وماج؛ وأصدر قراراً ملكياً بإعلان الحرب على موسى وكل من هرب معه خارج البلاد.
ثم أرسل رسله على وجه السرعة بهذا القرار إلى قادة أفرع جيشه في كل مدائن مصر؛ وأمرهم بصفته القائد الأعلى بضرورة تعبئة الوحدات العسكرية تعبئة عامة، وإعلان النفير والتحرك الفوري نحو العاصمة، لينطلقوا منها جميعاً خلف بني إسرائيل؛ فيفسد عليهم تدبيرهم، ولكنه كان لا يعلم حينها أنه ينفذ تدبير صاحب التدبير !
﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ الشعراء:53.
وبالفعل تجمع بين يديه أكبر جيش يستطيع به أن يبيد أضعاف أضعاف أنصار موسى، ولا يٌبقيِ منهم أحداً. ...المزيد
الإنذارات السبعة .. إمهال الله "إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ...
الإنذارات السبعة .. إمهال الله
"إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ليراجع الناس حساباتهم ويصلحوا أعمالهم من قريب دون تماد في البغي والعدوان والمخالفة والعصيان، فإذا استبد العناد بالقوم، وظهر منهم التعنت والتحدي لرسالات الأنبياء، ولم يبق أمل في إصلاحهم وتحقق اليأس منهم، فإن الله ينزل بهم العقاب الصارم أو الاستئصال جزاء بما كسبوا، وردعا لأمثالهم. (1)
ولقد قرر موسى عليه السلام- بوحي من الله - أن يذهب بصحبة أخيه هارون إلى قصر فرعون، ليطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، خاصة بعدما أقيمت الحجة عليه أكثر من مرة، ومعه هذه المرة إنذار وتهديد من الله إن لم يستجب لمطلبه.
فإذا لم يكن في الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلاً على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذي سلطان- فقد دقت الآن طبول حرب جديدة [حرب خفية]سيسلّط الله فيها على فرعون وملئه ألواناً من البلاء، ومرسلات من النقم، لعلهم يستكينوا ويخضعوا، فتلين قلوبهم وتستنير بصيرتهم فيؤمنوا بالله وحده ﴿ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الزخرف:48، وكان عدد هذه النذر وتلك الآيات تسعة ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101، - سبق وأخرج منهم اليد والعصا - والآن سيأتي بواحدة تلو الأخرى.
وقد كانت هذه النذر واضحة بينة ﴿ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101 تحمل بين طياتها لكل متأمل ومدقق شارة تحذير من الله، ودليل صدق على أن موسى نبي مرسل من عند الله، كما كانت هذه الإنذارات منفصلات عن بعضهن في الزمن والأثر ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ الأعراف:133 حتى يكون في الانفصال الزمني فرصة للمراجعة والرجوع إلى الله(2)، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملاً لهم جميعاً، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.
فقد كان أول هذه النذر أعوام الجدب (السّنون) التي أدت لنقص حاد في السلع الغذائية، ثم سقطت عليهم أمطار غزيرة انقلبت إلى طوفان أغرق أرضهم وديارهم ومخازنهم، ثم غزت محاصيلهم أسراب الجراد فأكلتها، ثم ظهرت بعض الآفات والحشرات (الْقُمَّلَ) التي نشرت بينهم الأمراض، وقتلت المواشي والأغنام، ثم انتشرت الضفادع فملأت الشوارع ودخلت البيوت فأفسدت حياتهم وأرقت نومهم، ثم تحولت المياه إلى دماء، ثم وقع الرجز فانتشر مرض (الطاعون) فقتل منهم الآلاف ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ القمر:42، وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه، فتعالوا بنا نشاهد الذي حدث بالتفصيل.
الإنذار الأول:( القحط، ونقص للثمرات ).
ذهب موسى وبصحبته هارون إلى قصر فرعون ليعرض عليه من جديد أن يخرج معه بني إسرائيل بسلام من أرض مصر، وهدده إن لم يخرج معه بني إسرائيل فإن أرض مصر الخصبة المثمرة ستتحول إلى أرض جدباء لا زرع فيها بسبب الجفاف الذي سيضرب الله به أراضيهم.
أخذ فرعون كلام موسى على محمل الهزل وعدم التصديق، وأمر الحرس بطردهما خارج القصر.
وبعد انتهاء المهلة التي حددها موسى عليه السلام، فوجئ الملأ من قوم فرعون بانحسار الماء في الأنهار والآبار، حتى كاد قاع النيل يَظهر، وخرج منه السمك يتلوى فوق الطمي! وعم القحط أرض مصر، بسبب ندرة الأمطار، والنقصان الشديد لمنسوب ماء النيل.
فتدهور اقتصاد مصر الذي يعتمد في الأساس على المحاصيل الزراعية، وهذه ضربة – في أولها - لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة واضحاً، إذ كثيراً ما كان يفعل النيل شيئاً من هذا معهم، وقد عرفت مصر سبع سنين عجافاً في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين، ولكن لمّا طال الوقت ولم ينزل المطر بدءوا يشعرون أن هذه رسالة إنذار من الله، وأن عليهم أن يلجئوا لموسى كما لجئوا من قبل إلى يوسف ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الأعراف:130، ولكنهم تمادوا في عتوهم وضلالهم وتجاهلوا الإنذار الأول(1).
التناول الإعلامي للإنذارات الربانية
وكان رد أذرع فرعون الإعلامية على هذا الإنذار الرباني، هو تجاهله تماماً ورفض ربط هذه الأحداث بما حدث للمصريين في عهد يوسف عليه السلام، بحجة أن مصر الهكسوس ليست كمصر الفرعون، ويوسف ليس كموسى! ؛ وما يحدث ليس إلا كارثة من كوارث الطبيعة سرعان ما ستنجلي عن أرض مصر، ولا دخل لدين موسى بها، فمنذ متى والدين يتدخل في طبيعة الأرصاد الجوية!
أما إذا فاض النيل واخضرت الأرض قالوا: هذا من حظنا ورزقنا ومن بركات الخطط التنموية التي رسمها الفرعون الإله، وإذا قل منسوب مياه النيل، وانقطعت الأمطار استثاروا الشعب ضد موسى، لأنه سبب غضب الآلهة عليهم بدعوته لدين غير دين آبائهم وأجدادهم، فيتشاءم الناس من موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل وقد نقل الله لنا كلامهم فقال: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف:131
وهنا تبرز مكانة الإعلام وأهميته في تأثيره الكبير على توجهات الناس وآرائهم في الحياة، سواءً بالسلب أو الإيجاب، فهي إما أن تسمو بهم للقمة أو تحطُّ بهم إلى الحضيض، ويبقى فكر المجتمع مرهوناً بما يقدمه الإعلام ويضخُّهُ في عقول الأفراد، فوسائل الإعلام منذ الأزل قادرة على فرض رأي أو توجّه معين بحسب توجهات وسياسة المؤسسة الإعلامية، ولا نستطيع أن نتوّجها بتاج السلطة الرابعة إلا إذا كانت تحكمها أخلاقيات ومبادئ تفرض عليها أن تلتزم الموضوعية والمصداقية في نقل مختلف الأحداث الجارية في المجتمع، ويتفق ذلك مع قول وزير إعلام هتلر، جوزيف غوبلز عندما قال: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أُعطيك شعباً بلا وعي»(1).
وهكذا يمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، رغم إن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله والتضرع له دون غيره، ولكنهم لا يتذكرون ولا يتعظون!﴿ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132.
وهكذا تجاهلوا الإنذار الأول رغم أنه كان علامة بينة وواضحة على صدق موسى عليه السلام؛ ولكن الفطرة حين تنحرف عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى قدرته - سبحانه- في تصريف هذا الوجود، وعندئذ تفقد إدراكها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة، فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة، وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام، فهم لم ينسبوا الأحداث إلى ظلمهم واستكبارهم، ولم يعدوها آية تحذيرية من الله، بل اعتبروها سحراً ودجلاً، أو كوارث طبيعية!
فقادتُهُم – فطرتهم المنحرفة - إلى استنتاج أن كل الأحداث هي من غدر الطبيعة القاسي! فَمَنْ أُهلِكوا بالريح – وفق نظرتهم - غضبت عليهم الطبيعة إثر تقلبات جوية، ومن أُهلكوا بالطوفان، أُهِلكوا بسبب ذوبان جبال الثلج وارتفاع منسوب مياه البحر التي سببت الفيضان !
دون نظر إلى الإله الذي أوجد ومنع، ودون اعتناء بأمر من أمر هذه النواميس الثابتة أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت!
مضت الأيام ببطء شديد حتى أزاح الله عنهم هذه الغمة، فسقطت الأمطار وارتفع منسوب مياه النيل، وبدأ المزارعون في زراعة أراضيهم، ودبت في مصر الحياة.
الإنذار الثاني: ( الطوفان ).
ذهب موسى عليه السلام مجدداً – بأمر من الله – إلى قصر فرعون، طالباً منهم الإيمان برسالة الله أو أن يتركوه يخرج بشعب بني إسرائيل بسلام، فلعلهم بعدما ذاقوا مَرَار الشدة، يخضعون لمراد الله.
فجدد فرعون رفضه واستكباره!
فقال له موسى: إذاً ترقب سقوط أمطار لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً حتى تغرق أرض مصر في طوفان؛ لن يترك لكم زرعاً ولا تجارة إلا أفسدها، ثم تركه وانصرف.
ولمّا انقضت المهلة المحددة، ولم يرجع فرعون عن قراراه بمنع بني إسرائيل من الخروج، تلبدت السماء بغمام كثيف، ثم أمطرت سبعة أيام بلياليهن دون توقف، ففاض نهر النيل، وتدفقت مياهه بغزارة وجنون(1)﴿ فَأَرْسَلْنا عليهِمُ الطُّوفانَ ﴾ الأعراف:133، فأُغرق من مصر السّهل والوعر، وتهدمت المنازل، وخربت المصانع، وشُرد العمال، وتدهور الاقتصاد.
بلغ الماء المتدفق في بعض الأماكن إلى مستوى صدور الرجال، ومات المئات غرقاً ..
فسبحان من يعذب بالشيء ونقيضه، عذبهم بقلة الماء كما عذبهم بكثرته! ومع ذلك مازال فرعون متمسكاً برأيه، معانداً لموسى، وإعلامه المضلل يصف هذا الإنذار الواضح – الطوفان - أنه كارثة من كوارث الطبيعة، وغضبة من الآلهة بسبب ما يدعيه موسى من وجود إله آخر معهم!
كما حثوا الناس على الصبر إلى أن تزول هذه المحنة وتعود مصر لسابق عهدها !، وقدموا لأهالي الضحايا والمفقودين واجب العزاء، كما بشروهم أن فرعون أمر عماله بتوزيع بعض الأغذية والأقمشة على المشردين الذين صعدوا إلى المرتفعات هروباً من الطوفان.
وبعد أيام من الخراب والدمار، اكتسح فيها الماء الأراضي والبيوت والمخازن، وعلت أمواجه الغاضبة الحيوانات النافقة، والجثث المتعفنة، أمر الله السماء فأمسكت مطرها، وأمر الأرض فابتلعت ماءها، وأشرقت الشمس وصفت السماء.
فنزل المصريون من على التلال والجبال التي احتموا بها، وخرجوا من الحصون ذات الأسوار العالية التي صمد بعضها أمام اندفاع المياه، وبدأ المزارعون منهم في إصلاح أراضيهم وزراعتها من جديد، كما بدأ العمال والبناءون يزاولون أعمالهم، ورجع التجار إلى أسواقهم يفترشون بضاعتهم، وبدأت الحياة الاقتصادية تدب على أرض مصر من جديد بعد توقف متكرر.
الإنذار الثالث: ( الجراد ).
وما كادوا يشعرون بالراحة والاطمئنان، حتى ذهب موسى عليه السلام إلى القصر الفرعوني من جديد طالباً منهم أن يتعظوا بما رأوه من آيات ونذر، فكل ما حذرهم من وقوعه وقع على النحو الذي وصفه وفي التوقيت الذي رصده، وهذا دليل دامغ أنه رسول من عند الله، وأن ما يحدث لهم من كوارث إنما هي صفارات إنذار تشير إلى غضب الله عليهم، فليتقوه وليؤدوا – يخرجوا - عباد الله معه، وأن يكفوا أذرعهم الإعلامية عن رجمه بإلقاء التهم جزافاً بأنه كاذب وساحر ودجال ليخدعوا الشعب، فهم أحرار في أن يؤمنوا أو يستمروا في كفرهم، بشرط أن يعتزلوه ويتركوه يدعو إلى ما يريد وما يعتقد.
معانٍ وإشاراتٌ لم يغفل القرآن عن ذكرها ورصدها، لنقدر كم عانى موسى وهارون عليهما السلام مع هؤلاء الفراعنة الظالمون، فقد قال الله حاكياً لنا ما دار بينهما وبين الملأ في قصر فرعون فقال: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إلى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ الدخان:21
ولكنهم لا آمنوا به، ولا اعتزلوه وتركوه يبلغ دعوة ربه في سلام؛ ولا تركوه يخرج بقومه من مصر، بل استكبروا وعاندوا ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132
فلما أبوا إلا العناد والجحود أنذرهم موسى بأن أسراباً من الجراد ستغزو جميع أراضيهم الزراعية وستأكل كل ما زرعه الزارعون، ثم تركهم وانصرف.
فقام فرعون من على عرشه غاضباً، ضرب الحائط بيده، وركل بعض الكاسات التي أمامه بقدمه فحطمها، ثم نظر إلى مرآة انعكست فيها صورته قائلاً:
ذلك الذي أتى من العدم بثعبان مبين، ويدٍ مضيئة كان جرواً صغيراً في قصري يلهو بين قدمي !
أتكون هذه هي النبوءة التي أتتني في المنام يوماً؟ أتكون نهاية حكمي على يده ؟! كيف لم أنتبه له منذ البداية ؟ لمَ لم تدهسه عربتي يوماً، أو تأكله سباعي؟!
ثم ضرب المرآة فكسرها .. قائلاً:
لن أسمح لكالح البشرة هذا أن يهزمني.
وقبل أن تنقضي المدة التي حددها لهم موسى، أصدر فرعون أوامره لجميع المزارعين بحصد كل ما يستطيعون حصاده من الثمار والزرع قبل أن تزحف عليهم أسراب الجراد التي توعدهم بها موسى.
ولما انقضت المهلة .. أرسل الله ريحاً ساقت أسراباً لا حصر لها من الجراد، أحالت أعدادها النهار المشمس إلى ليل مظلم في دقائق معدودة(1)، ثم هبطت على أراضي مصر فغطت جميع حقولها، فأكلت عُشبها، وأفسدت ثمارها حتى لم يبق شيء من الخضرة في أراضي المصريين، ولم تفلح النار ولا الأعشاب المنفرة في طردها !
طوال هذه الفترة العصيبة كان فرعون يعتمد على المخزون الاحتياطي من الزراعة، ليسد به حاجة الشعب حتى لا يثورا عليه، كما كان لتربية الماشية والأغنام دور هام في صد المجاعة التي أقبلت عليها البلاد في فترات القحط والجدب والطوفان.
انتهت الأزمة الجديدة، وباتت الخسائر الفادحة المتتالية تؤرق مضاجع الملأ، ولكنهم مازالوا يتجملون بالصمود والإصرار إلى حين.
الإنذار الرابع: (الْقُمَّلَ).
ولما أمر الله الجراد بالانسحاب من أرض مصر، وعاد كل شيء إلى طبيعته؛ ذهب موسى عليه السلام بصحبة هارون إلى فرعون، طالباً منه من جديد أن يُخرج معه بني إسرائيل من مصر، وهدده إن لم يخرجهم بسلام فسيرسل الله عليهم حشرات "الْقُمَّلَ(1)" لتقتل كل ما ربوه من مواشي وأغنام وطيور، وتنقل للناس العديد من الأمراض خاصة الأمراض الجلدية، إضافة إلى إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى.
فجدد فرعون رفضه واستعلاؤه، رغم يقينه من وقوع ما يحذرهم منه موسى، فهو وإن جحد بما يقوله موسى لكنه على يقين جازم أن ما جاء به هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ النمل:14
وبعد انقضاء المهلة التي حددها موسى، جاءتهم حشرات"الْقُمَّلَ" بأنواعها المختلفة، فركب بعضها على الماشية فأصابها بالهزال، وقَتل البعض الطيور والأغنام، وتسلى البعض الآخر على جلود الناس فامتص الدماء وزرع البثور التي أصابتهم بهياج شديد وقُرح، كما تسبب في إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى(2) التي أصابتهم بقشعريرة وشعور بالبرد، وصداع، وألم في العضلات، وكذلك غثيان، وبات الأنين من الأمراض غير محتمل !
العجيب أن بني إسرائيل لم يمسوا من تلك الإنذارات بسوء! ليبقى الإنذار واضحاً أنه لم يأتِ بعشوائية – كأي كارثة – فيعم الجميع، وإنما جاء فقط لمن كذبوا برسالة الله، وعصوا رسوله.
تكبدت الدولة خسائر فادحة، وكاد الشعب يموت جوعاً – بسبب نفاد أغلب المخزون الإستراتيجي للدولة لكثرة توقف الإنتاج – ، وانتشرت الأمراض الجلدية المعدية بين الناس، وفرعون يأبى أن يتنحى عن قرار حظر خروج بني إسرائيل من مصر، ولعل ذلك– فيما أظن – لثلاثة أسباب هي: سبب سياسي، وسبب عسكري، وسبب اقتصادي.
أما السبب السياسي: فهو من أجل أن يحافظ فرعون على ما تبقى له من هيبة في قلوب الشعب، فكيف يأخذ قراراً ويتراجع عنه؟ ولمن يتراجع ؟.. لربيب قصره ابن بني إسرائيل؟!
وأما السبب العسكري: فهو الخوف من استقواء بني إسرائيل– المستعبدين والمستضعفين منذ سنين - بأي عدو خارجي، ويعودون مرة أخرى لينتقموا من فرعون ونظامه الذي ظلمهم وقهرهم وذبح أبناءهم، خاصة بعد ظهور بعض القوى العسكرية الأخرى في البلاد المجاورة كفلسطين مثلاً وما فيها من " قوم جبارين" إثر انشغال فرعون بالشئون الداخلية للبلاد.
وأما السبب الاقتصادي: ففرعون كما نعلم كان يستخدم بني إسرائيل في الأعمال الشاقة في الدولة، فمن الذي سيقوم بأعمالهم هذه إذا تركوا مصر وخرجوا ؟!
فأي دولة في العالم حتى يومنا هذا تعتمد على عمالة من غير أبناء شعبها إذا أردت أن تضربها ضربة موجعة فاسحب كل العمالة التي فيها فجأة، لينهار اقتصادها تماما
ولأن الكبر أعمى بصيرته، وأحاطت به خطيئته استكبر أن يتفاوض مع موسى عليه السلام، أو أن يتساءل عن إمكانية خروجهم دفعات مثلاً حتى لا يتركوا فراغاً في الدولة، أو يأخذ عليهم العهود والمواثيق ألا يتعاهدوا أو يتحالفوا مع أي عدو آخر ضده وضد شعب مصر، ولولا أن تداركتهم رحمات الله الحليم، لهلك الناس جميعاً بسبب هذا العناد !
أخذت المحنة من شعب مصر ما أخذت، ثم أمر الله هذه الحشرات - وهي من جنوده التي لا تعد ولا تحصى - أن تتوقف عن عملها الذي كلفها به؛ فتوقفت ورفع الله البلاء عنهم.
الإنذار الخامس: ( الضفادع ).
وتمضي الأيام تباعاً مع تجاهل متعمد لمطالب بني إسرائيل المشروعة؛ رغم كل ما حل بآل فرعون من نقم وبلايا، وما زالت الإنذارات تتوالى رغم تجاهلهم وإعراضهم، فمن جديد يذهب موسى بصحبة هارون إليهم ومعه الإنذار الجديد، وقد كان فرعون وملؤه يستقبلون موسى في القصر - رغم تجاهلهم لمطالبه – ليعرفوا الحدث قبل وقوعه، فيحتاطوا قدر استطاعتهم!
الجديد هذه المرة، أن هذا الإنذار سينال من فرعون وملئه مثلما سينال من عموم المصريين الذين لم يؤمنوا بموسى، فإن كان فرعون في قصره بين جنوده وخدمه وحشمه ينعم بخيرات الشعب ولا يبالي بما يقع خارج القصر من سنوات جدب أدت إلى نقص الثمرات، أو حتى من سقوط أمطار أدت إلى غرق البلاد في فيضانات، أو حتى من الجراد والْقُمَّلَ اللذين أفسدا ما سيخزن وما خُزن من حبوب وثمار، فإن إنذار هذه المرة سيدخل إلى قصره، وإلى مجلسه، حتى إلى غرفة نومه؛ إنها ملايين الملايين من الضفادع التي ستأتي ولن تجعلهم يهنئون براحة أبداً إن لم يعودوا إلى خالقهم أو يخرجوا بني إسرائيل بسلام.
ويستمر سيناريو الإعراض والسخرية والاستهزاء، وتنقضي المدة وهم على الكفر كما كانوا، مُصِرين على ألا يخرج شعب بني إسرائيل، فجاءتهم الضفادع من كل مكان(1)، اكتظَّت على الضفاف وفي المستنقعات التي تشكلت بين البيوت، ثم اجتاحت بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم, فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع, وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه, ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه, وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم, وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاماً حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر, ويفتح فاه لِأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فمه, ولا يعجن عجيناً إلا تشدخت فيه، حتى ما تكاد تنظر في مكان إلا وجدت الضفادع منتشرة، فمنعتهم من النوم بعلو أصواتها، ومنعتهم من الراحة من سرعة قفزها حولهم؛ فكدرت عليهم معيشتهم.
لم يستطع جنود فرعون الذين يحيطون بقصره أن يتخلصوا من آلاف الضفادع القافزة داخل قصره المُحصن، واستطاعت بفظاعة منظرها، وعلو صوت نقيقها(1) أن تكدر عليه صفو معيشته وتمنعه من النوم والراحة أياماً وليالٍ، حتى أمرها الله عز وجل بالانسحاب - فأطاعت ربها - وانسحبت حيث جاءت.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ المدثر:21، ومضت الأيام والليالي فلا هم آمنوا بالله، ولا هم تركوا موسى يخرج ببني إسرائيل ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الأعراف:132
الإنذار السادس ( الدم ).
وتتجدد الإنذارات وتتنوع، مع تجديد التجاهل والإعراض من أتباع فرعون سيراً على خطاه ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ طه:79، ولكن بالرغم من تجاهل فرعون، وإظهار أنه ما زال متماسكاً وقوياً إلا أنه قد أُنهك بهذه الضربات القوية والمتتالية، وفقد تأييد أغلب الشارع المصري له، ففرعون اليوم ليس كفرعون يوم الزينة.
ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون، فخرج عليهما فرعون محتقن العينين، ثائر النفس، آثار الإجهاد من قلة النوم - بسبب نقيق الضفادع المزعج - تبدوا جلية على ملامحه.
فجدد له موسى دعوته - بأدب ولين ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ طه:44 - فيؤمن ويذعن لجبار السماوات والأرض، ويطلق سراح بني إسرائيل.
فلما رفض كالعادة .. أنذره قائلاً:
اعلم أنك وكل من يساندك لن تنعموا بشربة ماء نقية خلال الأيام القادمة، فنهر النيل سيتحول كله إلى دماء جارية، وكل المياه التي ستأمر بتخزينها ستتحول أيضاً إلى دم، وتركه وانصرف.
وبعد أيام – من الإعراض - تحولت مياه النيل إلى اللون الأحمر، كلون الدماء التي أسالها فرعون وجنوده .. إنها دماء الأطفال الذين ذبحهم، ودماء السحرة الذين قتلهم، ودماء آسية، ودماء الماشطة وأبناؤها، ودماء المعذبين في سجونه ...
فعاف الناس شرب الماء حتى عطشوا عطشاً شديداً، ولقد كان يُجمع بين المصري والرجل من بني إسرائيل على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً، ويقومان إلى بئر الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللمصري دماً.
حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل- حين جهدهم العطش - فتقول لها: اسقني من مائك، فتصب لها كأس ماء عذب نظيف، وقبل أن ترفعه إلى فمها لتشربه يتحول إلى دم صاف، فكانت تقول لها: اجعليه في فمك ثم مجيه في فمي، فتأخذ المرأة في فمها الماء فإذا مجَّته في فم المصرية صار دماً قبل أن تبتلعه.
فاضطروا خلال هذه المحنة إلى مضغ الأشجار والنباتات الرطبة لكيلا تصاب أجسامهم بالجفاف؛ وصدق الله القائل: ﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الزخرف:48
ولولا أن علة إرسال العذاب عليهم – كما أوضحت الآية - هو شد انتباههم أن موسى عليه السلام رسول من عند الله، فيرجعون إلى رشدهم ويتراجعون عن غيهم، ويتذكرون ضعفهم وعجزهم أمام قوة الله، لهلكوا جميعاً بسبب عدم توافر المياه النظيفة؛ فالإنسان بطبيعته لا يتحمل العطش لعدة أيام متتالية.
ولكن الله – بحلمه وجوده - رفع عنهم هذا البلاء، وأعطاهم فرصة من جديد ليصححوا أوضاعهم، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله رب العالمين، ولكنهم – كالعادة لا يتذكرون، ولا يتعظون!
وفي هذه الأثناء استثمر موسى انشغال فرعون بأحوال الدولة وشؤونها المتهاوية بسبب توالي ضربات الله لهم، وراح يعبئ بني إسرائيل روحيا ونظامياً ...المزيد
"إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ليراجع الناس حساباتهم ويصلحوا أعمالهم من قريب دون تماد في البغي والعدوان والمخالفة والعصيان، فإذا استبد العناد بالقوم، وظهر منهم التعنت والتحدي لرسالات الأنبياء، ولم يبق أمل في إصلاحهم وتحقق اليأس منهم، فإن الله ينزل بهم العقاب الصارم أو الاستئصال جزاء بما كسبوا، وردعا لأمثالهم. (1)
ولقد قرر موسى عليه السلام- بوحي من الله - أن يذهب بصحبة أخيه هارون إلى قصر فرعون، ليطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، خاصة بعدما أقيمت الحجة عليه أكثر من مرة، ومعه هذه المرة إنذار وتهديد من الله إن لم يستجب لمطلبه.
فإذا لم يكن في الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلاً على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذي سلطان- فقد دقت الآن طبول حرب جديدة [حرب خفية]سيسلّط الله فيها على فرعون وملئه ألواناً من البلاء، ومرسلات من النقم، لعلهم يستكينوا ويخضعوا، فتلين قلوبهم وتستنير بصيرتهم فيؤمنوا بالله وحده ﴿ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الزخرف:48، وكان عدد هذه النذر وتلك الآيات تسعة ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101، - سبق وأخرج منهم اليد والعصا - والآن سيأتي بواحدة تلو الأخرى.
وقد كانت هذه النذر واضحة بينة ﴿ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101 تحمل بين طياتها لكل متأمل ومدقق شارة تحذير من الله، ودليل صدق على أن موسى نبي مرسل من عند الله، كما كانت هذه الإنذارات منفصلات عن بعضهن في الزمن والأثر ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ الأعراف:133 حتى يكون في الانفصال الزمني فرصة للمراجعة والرجوع إلى الله(2)، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملاً لهم جميعاً، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.
فقد كان أول هذه النذر أعوام الجدب (السّنون) التي أدت لنقص حاد في السلع الغذائية، ثم سقطت عليهم أمطار غزيرة انقلبت إلى طوفان أغرق أرضهم وديارهم ومخازنهم، ثم غزت محاصيلهم أسراب الجراد فأكلتها، ثم ظهرت بعض الآفات والحشرات (الْقُمَّلَ) التي نشرت بينهم الأمراض، وقتلت المواشي والأغنام، ثم انتشرت الضفادع فملأت الشوارع ودخلت البيوت فأفسدت حياتهم وأرقت نومهم، ثم تحولت المياه إلى دماء، ثم وقع الرجز فانتشر مرض (الطاعون) فقتل منهم الآلاف ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ القمر:42، وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه، فتعالوا بنا نشاهد الذي حدث بالتفصيل.
الإنذار الأول:( القحط، ونقص للثمرات ).
ذهب موسى وبصحبته هارون إلى قصر فرعون ليعرض عليه من جديد أن يخرج معه بني إسرائيل بسلام من أرض مصر، وهدده إن لم يخرج معه بني إسرائيل فإن أرض مصر الخصبة المثمرة ستتحول إلى أرض جدباء لا زرع فيها بسبب الجفاف الذي سيضرب الله به أراضيهم.
أخذ فرعون كلام موسى على محمل الهزل وعدم التصديق، وأمر الحرس بطردهما خارج القصر.
وبعد انتهاء المهلة التي حددها موسى عليه السلام، فوجئ الملأ من قوم فرعون بانحسار الماء في الأنهار والآبار، حتى كاد قاع النيل يَظهر، وخرج منه السمك يتلوى فوق الطمي! وعم القحط أرض مصر، بسبب ندرة الأمطار، والنقصان الشديد لمنسوب ماء النيل.
فتدهور اقتصاد مصر الذي يعتمد في الأساس على المحاصيل الزراعية، وهذه ضربة – في أولها - لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة واضحاً، إذ كثيراً ما كان يفعل النيل شيئاً من هذا معهم، وقد عرفت مصر سبع سنين عجافاً في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين، ولكن لمّا طال الوقت ولم ينزل المطر بدءوا يشعرون أن هذه رسالة إنذار من الله، وأن عليهم أن يلجئوا لموسى كما لجئوا من قبل إلى يوسف ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الأعراف:130، ولكنهم تمادوا في عتوهم وضلالهم وتجاهلوا الإنذار الأول(1).
التناول الإعلامي للإنذارات الربانية
وكان رد أذرع فرعون الإعلامية على هذا الإنذار الرباني، هو تجاهله تماماً ورفض ربط هذه الأحداث بما حدث للمصريين في عهد يوسف عليه السلام، بحجة أن مصر الهكسوس ليست كمصر الفرعون، ويوسف ليس كموسى! ؛ وما يحدث ليس إلا كارثة من كوارث الطبيعة سرعان ما ستنجلي عن أرض مصر، ولا دخل لدين موسى بها، فمنذ متى والدين يتدخل في طبيعة الأرصاد الجوية!
أما إذا فاض النيل واخضرت الأرض قالوا: هذا من حظنا ورزقنا ومن بركات الخطط التنموية التي رسمها الفرعون الإله، وإذا قل منسوب مياه النيل، وانقطعت الأمطار استثاروا الشعب ضد موسى، لأنه سبب غضب الآلهة عليهم بدعوته لدين غير دين آبائهم وأجدادهم، فيتشاءم الناس من موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل وقد نقل الله لنا كلامهم فقال: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف:131
وهنا تبرز مكانة الإعلام وأهميته في تأثيره الكبير على توجهات الناس وآرائهم في الحياة، سواءً بالسلب أو الإيجاب، فهي إما أن تسمو بهم للقمة أو تحطُّ بهم إلى الحضيض، ويبقى فكر المجتمع مرهوناً بما يقدمه الإعلام ويضخُّهُ في عقول الأفراد، فوسائل الإعلام منذ الأزل قادرة على فرض رأي أو توجّه معين بحسب توجهات وسياسة المؤسسة الإعلامية، ولا نستطيع أن نتوّجها بتاج السلطة الرابعة إلا إذا كانت تحكمها أخلاقيات ومبادئ تفرض عليها أن تلتزم الموضوعية والمصداقية في نقل مختلف الأحداث الجارية في المجتمع، ويتفق ذلك مع قول وزير إعلام هتلر، جوزيف غوبلز عندما قال: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أُعطيك شعباً بلا وعي»(1).
وهكذا يمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، رغم إن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله والتضرع له دون غيره، ولكنهم لا يتذكرون ولا يتعظون!﴿ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132.
وهكذا تجاهلوا الإنذار الأول رغم أنه كان علامة بينة وواضحة على صدق موسى عليه السلام؛ ولكن الفطرة حين تنحرف عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى قدرته - سبحانه- في تصريف هذا الوجود، وعندئذ تفقد إدراكها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة، فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة، وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام، فهم لم ينسبوا الأحداث إلى ظلمهم واستكبارهم، ولم يعدوها آية تحذيرية من الله، بل اعتبروها سحراً ودجلاً، أو كوارث طبيعية!
فقادتُهُم – فطرتهم المنحرفة - إلى استنتاج أن كل الأحداث هي من غدر الطبيعة القاسي! فَمَنْ أُهلِكوا بالريح – وفق نظرتهم - غضبت عليهم الطبيعة إثر تقلبات جوية، ومن أُهلكوا بالطوفان، أُهِلكوا بسبب ذوبان جبال الثلج وارتفاع منسوب مياه البحر التي سببت الفيضان !
دون نظر إلى الإله الذي أوجد ومنع، ودون اعتناء بأمر من أمر هذه النواميس الثابتة أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت!
مضت الأيام ببطء شديد حتى أزاح الله عنهم هذه الغمة، فسقطت الأمطار وارتفع منسوب مياه النيل، وبدأ المزارعون في زراعة أراضيهم، ودبت في مصر الحياة.
الإنذار الثاني: ( الطوفان ).
ذهب موسى عليه السلام مجدداً – بأمر من الله – إلى قصر فرعون، طالباً منهم الإيمان برسالة الله أو أن يتركوه يخرج بشعب بني إسرائيل بسلام، فلعلهم بعدما ذاقوا مَرَار الشدة، يخضعون لمراد الله.
فجدد فرعون رفضه واستكباره!
فقال له موسى: إذاً ترقب سقوط أمطار لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً حتى تغرق أرض مصر في طوفان؛ لن يترك لكم زرعاً ولا تجارة إلا أفسدها، ثم تركه وانصرف.
ولمّا انقضت المهلة المحددة، ولم يرجع فرعون عن قراراه بمنع بني إسرائيل من الخروج، تلبدت السماء بغمام كثيف، ثم أمطرت سبعة أيام بلياليهن دون توقف، ففاض نهر النيل، وتدفقت مياهه بغزارة وجنون(1)﴿ فَأَرْسَلْنا عليهِمُ الطُّوفانَ ﴾ الأعراف:133، فأُغرق من مصر السّهل والوعر، وتهدمت المنازل، وخربت المصانع، وشُرد العمال، وتدهور الاقتصاد.
بلغ الماء المتدفق في بعض الأماكن إلى مستوى صدور الرجال، ومات المئات غرقاً ..
فسبحان من يعذب بالشيء ونقيضه، عذبهم بقلة الماء كما عذبهم بكثرته! ومع ذلك مازال فرعون متمسكاً برأيه، معانداً لموسى، وإعلامه المضلل يصف هذا الإنذار الواضح – الطوفان - أنه كارثة من كوارث الطبيعة، وغضبة من الآلهة بسبب ما يدعيه موسى من وجود إله آخر معهم!
كما حثوا الناس على الصبر إلى أن تزول هذه المحنة وتعود مصر لسابق عهدها !، وقدموا لأهالي الضحايا والمفقودين واجب العزاء، كما بشروهم أن فرعون أمر عماله بتوزيع بعض الأغذية والأقمشة على المشردين الذين صعدوا إلى المرتفعات هروباً من الطوفان.
وبعد أيام من الخراب والدمار، اكتسح فيها الماء الأراضي والبيوت والمخازن، وعلت أمواجه الغاضبة الحيوانات النافقة، والجثث المتعفنة، أمر الله السماء فأمسكت مطرها، وأمر الأرض فابتلعت ماءها، وأشرقت الشمس وصفت السماء.
فنزل المصريون من على التلال والجبال التي احتموا بها، وخرجوا من الحصون ذات الأسوار العالية التي صمد بعضها أمام اندفاع المياه، وبدأ المزارعون منهم في إصلاح أراضيهم وزراعتها من جديد، كما بدأ العمال والبناءون يزاولون أعمالهم، ورجع التجار إلى أسواقهم يفترشون بضاعتهم، وبدأت الحياة الاقتصادية تدب على أرض مصر من جديد بعد توقف متكرر.
الإنذار الثالث: ( الجراد ).
وما كادوا يشعرون بالراحة والاطمئنان، حتى ذهب موسى عليه السلام إلى القصر الفرعوني من جديد طالباً منهم أن يتعظوا بما رأوه من آيات ونذر، فكل ما حذرهم من وقوعه وقع على النحو الذي وصفه وفي التوقيت الذي رصده، وهذا دليل دامغ أنه رسول من عند الله، وأن ما يحدث لهم من كوارث إنما هي صفارات إنذار تشير إلى غضب الله عليهم، فليتقوه وليؤدوا – يخرجوا - عباد الله معه، وأن يكفوا أذرعهم الإعلامية عن رجمه بإلقاء التهم جزافاً بأنه كاذب وساحر ودجال ليخدعوا الشعب، فهم أحرار في أن يؤمنوا أو يستمروا في كفرهم، بشرط أن يعتزلوه ويتركوه يدعو إلى ما يريد وما يعتقد.
معانٍ وإشاراتٌ لم يغفل القرآن عن ذكرها ورصدها، لنقدر كم عانى موسى وهارون عليهما السلام مع هؤلاء الفراعنة الظالمون، فقد قال الله حاكياً لنا ما دار بينهما وبين الملأ في قصر فرعون فقال: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إلى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ الدخان:21
ولكنهم لا آمنوا به، ولا اعتزلوه وتركوه يبلغ دعوة ربه في سلام؛ ولا تركوه يخرج بقومه من مصر، بل استكبروا وعاندوا ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132
فلما أبوا إلا العناد والجحود أنذرهم موسى بأن أسراباً من الجراد ستغزو جميع أراضيهم الزراعية وستأكل كل ما زرعه الزارعون، ثم تركهم وانصرف.
فقام فرعون من على عرشه غاضباً، ضرب الحائط بيده، وركل بعض الكاسات التي أمامه بقدمه فحطمها، ثم نظر إلى مرآة انعكست فيها صورته قائلاً:
ذلك الذي أتى من العدم بثعبان مبين، ويدٍ مضيئة كان جرواً صغيراً في قصري يلهو بين قدمي !
أتكون هذه هي النبوءة التي أتتني في المنام يوماً؟ أتكون نهاية حكمي على يده ؟! كيف لم أنتبه له منذ البداية ؟ لمَ لم تدهسه عربتي يوماً، أو تأكله سباعي؟!
ثم ضرب المرآة فكسرها .. قائلاً:
لن أسمح لكالح البشرة هذا أن يهزمني.
وقبل أن تنقضي المدة التي حددها لهم موسى، أصدر فرعون أوامره لجميع المزارعين بحصد كل ما يستطيعون حصاده من الثمار والزرع قبل أن تزحف عليهم أسراب الجراد التي توعدهم بها موسى.
ولما انقضت المهلة .. أرسل الله ريحاً ساقت أسراباً لا حصر لها من الجراد، أحالت أعدادها النهار المشمس إلى ليل مظلم في دقائق معدودة(1)، ثم هبطت على أراضي مصر فغطت جميع حقولها، فأكلت عُشبها، وأفسدت ثمارها حتى لم يبق شيء من الخضرة في أراضي المصريين، ولم تفلح النار ولا الأعشاب المنفرة في طردها !
طوال هذه الفترة العصيبة كان فرعون يعتمد على المخزون الاحتياطي من الزراعة، ليسد به حاجة الشعب حتى لا يثورا عليه، كما كان لتربية الماشية والأغنام دور هام في صد المجاعة التي أقبلت عليها البلاد في فترات القحط والجدب والطوفان.
انتهت الأزمة الجديدة، وباتت الخسائر الفادحة المتتالية تؤرق مضاجع الملأ، ولكنهم مازالوا يتجملون بالصمود والإصرار إلى حين.
الإنذار الرابع: (الْقُمَّلَ).
ولما أمر الله الجراد بالانسحاب من أرض مصر، وعاد كل شيء إلى طبيعته؛ ذهب موسى عليه السلام بصحبة هارون إلى فرعون، طالباً منه من جديد أن يُخرج معه بني إسرائيل من مصر، وهدده إن لم يخرجهم بسلام فسيرسل الله عليهم حشرات "الْقُمَّلَ(1)" لتقتل كل ما ربوه من مواشي وأغنام وطيور، وتنقل للناس العديد من الأمراض خاصة الأمراض الجلدية، إضافة إلى إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى.
فجدد فرعون رفضه واستعلاؤه، رغم يقينه من وقوع ما يحذرهم منه موسى، فهو وإن جحد بما يقوله موسى لكنه على يقين جازم أن ما جاء به هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ النمل:14
وبعد انقضاء المهلة التي حددها موسى، جاءتهم حشرات"الْقُمَّلَ" بأنواعها المختلفة، فركب بعضها على الماشية فأصابها بالهزال، وقَتل البعض الطيور والأغنام، وتسلى البعض الآخر على جلود الناس فامتص الدماء وزرع البثور التي أصابتهم بهياج شديد وقُرح، كما تسبب في إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى(2) التي أصابتهم بقشعريرة وشعور بالبرد، وصداع، وألم في العضلات، وكذلك غثيان، وبات الأنين من الأمراض غير محتمل !
العجيب أن بني إسرائيل لم يمسوا من تلك الإنذارات بسوء! ليبقى الإنذار واضحاً أنه لم يأتِ بعشوائية – كأي كارثة – فيعم الجميع، وإنما جاء فقط لمن كذبوا برسالة الله، وعصوا رسوله.
تكبدت الدولة خسائر فادحة، وكاد الشعب يموت جوعاً – بسبب نفاد أغلب المخزون الإستراتيجي للدولة لكثرة توقف الإنتاج – ، وانتشرت الأمراض الجلدية المعدية بين الناس، وفرعون يأبى أن يتنحى عن قرار حظر خروج بني إسرائيل من مصر، ولعل ذلك– فيما أظن – لثلاثة أسباب هي: سبب سياسي، وسبب عسكري، وسبب اقتصادي.
أما السبب السياسي: فهو من أجل أن يحافظ فرعون على ما تبقى له من هيبة في قلوب الشعب، فكيف يأخذ قراراً ويتراجع عنه؟ ولمن يتراجع ؟.. لربيب قصره ابن بني إسرائيل؟!
وأما السبب العسكري: فهو الخوف من استقواء بني إسرائيل– المستعبدين والمستضعفين منذ سنين - بأي عدو خارجي، ويعودون مرة أخرى لينتقموا من فرعون ونظامه الذي ظلمهم وقهرهم وذبح أبناءهم، خاصة بعد ظهور بعض القوى العسكرية الأخرى في البلاد المجاورة كفلسطين مثلاً وما فيها من " قوم جبارين" إثر انشغال فرعون بالشئون الداخلية للبلاد.
وأما السبب الاقتصادي: ففرعون كما نعلم كان يستخدم بني إسرائيل في الأعمال الشاقة في الدولة، فمن الذي سيقوم بأعمالهم هذه إذا تركوا مصر وخرجوا ؟!
فأي دولة في العالم حتى يومنا هذا تعتمد على عمالة من غير أبناء شعبها إذا أردت أن تضربها ضربة موجعة فاسحب كل العمالة التي فيها فجأة، لينهار اقتصادها تماما
ولأن الكبر أعمى بصيرته، وأحاطت به خطيئته استكبر أن يتفاوض مع موسى عليه السلام، أو أن يتساءل عن إمكانية خروجهم دفعات مثلاً حتى لا يتركوا فراغاً في الدولة، أو يأخذ عليهم العهود والمواثيق ألا يتعاهدوا أو يتحالفوا مع أي عدو آخر ضده وضد شعب مصر، ولولا أن تداركتهم رحمات الله الحليم، لهلك الناس جميعاً بسبب هذا العناد !
أخذت المحنة من شعب مصر ما أخذت، ثم أمر الله هذه الحشرات - وهي من جنوده التي لا تعد ولا تحصى - أن تتوقف عن عملها الذي كلفها به؛ فتوقفت ورفع الله البلاء عنهم.
الإنذار الخامس: ( الضفادع ).
وتمضي الأيام تباعاً مع تجاهل متعمد لمطالب بني إسرائيل المشروعة؛ رغم كل ما حل بآل فرعون من نقم وبلايا، وما زالت الإنذارات تتوالى رغم تجاهلهم وإعراضهم، فمن جديد يذهب موسى بصحبة هارون إليهم ومعه الإنذار الجديد، وقد كان فرعون وملؤه يستقبلون موسى في القصر - رغم تجاهلهم لمطالبه – ليعرفوا الحدث قبل وقوعه، فيحتاطوا قدر استطاعتهم!
الجديد هذه المرة، أن هذا الإنذار سينال من فرعون وملئه مثلما سينال من عموم المصريين الذين لم يؤمنوا بموسى، فإن كان فرعون في قصره بين جنوده وخدمه وحشمه ينعم بخيرات الشعب ولا يبالي بما يقع خارج القصر من سنوات جدب أدت إلى نقص الثمرات، أو حتى من سقوط أمطار أدت إلى غرق البلاد في فيضانات، أو حتى من الجراد والْقُمَّلَ اللذين أفسدا ما سيخزن وما خُزن من حبوب وثمار، فإن إنذار هذه المرة سيدخل إلى قصره، وإلى مجلسه، حتى إلى غرفة نومه؛ إنها ملايين الملايين من الضفادع التي ستأتي ولن تجعلهم يهنئون براحة أبداً إن لم يعودوا إلى خالقهم أو يخرجوا بني إسرائيل بسلام.
ويستمر سيناريو الإعراض والسخرية والاستهزاء، وتنقضي المدة وهم على الكفر كما كانوا، مُصِرين على ألا يخرج شعب بني إسرائيل، فجاءتهم الضفادع من كل مكان(1)، اكتظَّت على الضفاف وفي المستنقعات التي تشكلت بين البيوت، ثم اجتاحت بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم, فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع, وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه, ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه, وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم, وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاماً حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر, ويفتح فاه لِأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فمه, ولا يعجن عجيناً إلا تشدخت فيه، حتى ما تكاد تنظر في مكان إلا وجدت الضفادع منتشرة، فمنعتهم من النوم بعلو أصواتها، ومنعتهم من الراحة من سرعة قفزها حولهم؛ فكدرت عليهم معيشتهم.
لم يستطع جنود فرعون الذين يحيطون بقصره أن يتخلصوا من آلاف الضفادع القافزة داخل قصره المُحصن، واستطاعت بفظاعة منظرها، وعلو صوت نقيقها(1) أن تكدر عليه صفو معيشته وتمنعه من النوم والراحة أياماً وليالٍ، حتى أمرها الله عز وجل بالانسحاب - فأطاعت ربها - وانسحبت حيث جاءت.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ المدثر:21، ومضت الأيام والليالي فلا هم آمنوا بالله، ولا هم تركوا موسى يخرج ببني إسرائيل ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الأعراف:132
الإنذار السادس ( الدم ).
وتتجدد الإنذارات وتتنوع، مع تجديد التجاهل والإعراض من أتباع فرعون سيراً على خطاه ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ طه:79، ولكن بالرغم من تجاهل فرعون، وإظهار أنه ما زال متماسكاً وقوياً إلا أنه قد أُنهك بهذه الضربات القوية والمتتالية، وفقد تأييد أغلب الشارع المصري له، ففرعون اليوم ليس كفرعون يوم الزينة.
ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون، فخرج عليهما فرعون محتقن العينين، ثائر النفس، آثار الإجهاد من قلة النوم - بسبب نقيق الضفادع المزعج - تبدوا جلية على ملامحه.
فجدد له موسى دعوته - بأدب ولين ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ طه:44 - فيؤمن ويذعن لجبار السماوات والأرض، ويطلق سراح بني إسرائيل.
فلما رفض كالعادة .. أنذره قائلاً:
اعلم أنك وكل من يساندك لن تنعموا بشربة ماء نقية خلال الأيام القادمة، فنهر النيل سيتحول كله إلى دماء جارية، وكل المياه التي ستأمر بتخزينها ستتحول أيضاً إلى دم، وتركه وانصرف.
وبعد أيام – من الإعراض - تحولت مياه النيل إلى اللون الأحمر، كلون الدماء التي أسالها فرعون وجنوده .. إنها دماء الأطفال الذين ذبحهم، ودماء السحرة الذين قتلهم، ودماء آسية، ودماء الماشطة وأبناؤها، ودماء المعذبين في سجونه ...
فعاف الناس شرب الماء حتى عطشوا عطشاً شديداً، ولقد كان يُجمع بين المصري والرجل من بني إسرائيل على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً، ويقومان إلى بئر الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللمصري دماً.
حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل- حين جهدهم العطش - فتقول لها: اسقني من مائك، فتصب لها كأس ماء عذب نظيف، وقبل أن ترفعه إلى فمها لتشربه يتحول إلى دم صاف، فكانت تقول لها: اجعليه في فمك ثم مجيه في فمي، فتأخذ المرأة في فمها الماء فإذا مجَّته في فم المصرية صار دماً قبل أن تبتلعه.
فاضطروا خلال هذه المحنة إلى مضغ الأشجار والنباتات الرطبة لكيلا تصاب أجسامهم بالجفاف؛ وصدق الله القائل: ﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الزخرف:48
ولولا أن علة إرسال العذاب عليهم – كما أوضحت الآية - هو شد انتباههم أن موسى عليه السلام رسول من عند الله، فيرجعون إلى رشدهم ويتراجعون عن غيهم، ويتذكرون ضعفهم وعجزهم أمام قوة الله، لهلكوا جميعاً بسبب عدم توافر المياه النظيفة؛ فالإنسان بطبيعته لا يتحمل العطش لعدة أيام متتالية.
ولكن الله – بحلمه وجوده - رفع عنهم هذا البلاء، وأعطاهم فرصة من جديد ليصححوا أوضاعهم، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله رب العالمين، ولكنهم – كالعادة لا يتذكرون، ولا يتعظون!
وفي هذه الأثناء استثمر موسى انشغال فرعون بأحوال الدولة وشؤونها المتهاوية بسبب توالي ضربات الله لهم، وراح يعبئ بني إسرائيل روحيا ونظامياً ...المزيد
الحالة النفسية لفرعون سنوات متتالية وفرعون لم ينتصر على دعوة موسى عليه السلام، كما لم يستطع أن ...
الحالة النفسية لفرعون
سنوات متتالية وفرعون لم ينتصر على دعوة موسى عليه السلام، كما لم يستطع أن يطفئ نورها، أو يخمد لهيب حماستها، فأصبح وأمسى واليأس والخسران يحيطان به، فقد استفرغ ما في وسعه وباءت كل محاولاته بالخسارة والفشل.
خسر فرعون هيبته ورجاحة عقله عندما غلبه موسى في حوارهما بالقصر، وخسر تأثير السلطة الدينية عندما قتل في يوم واحد آلاف السحرة الذين آمنوا بموسى، وخسر بقتله لآسية وحدة الأسرة ودفء العائلة، وخسر بتدبير محاولة اغتيال ابن عمه ومستشاره - الذي كان يكتم إيمانه - الرأي والمشورة الراجحة، وخسر بهلاك قارون الأموال والكنوز، وخسر بمعاركه الداخلية مع بني إسرائيل هيبة مصر الخارجية.
وهكذا في كل يوم يتقوض ملك فرعون أمام عينيه، ويخسر في كل يوم صديقاً أو حليفاً؛ وهذه سنة الله في إهلاك الظالمين، يمهلهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
والآن جاء دور موسى عليه السلام ليبدأ مرحلة جديدة من صراعه مع فرعون، وهي مرحلة الإنذارات السبعة والتي سنتعرف فيها على بعض الأسرار ..
- سر إصرار فرعون على العناد والكفر رغم كل يراه من معجزات خارقة !
- سر الإشاعة التي ترددت عن إعلان تنحي فرعون عن قراره بحظر خروج بني إسرائيل من مصر وإيمانه المفاجئ بدعوة موسى عليه السلام !
- سر تمسك جموع من الشعب المصري بفرعون رغم كل ما حل عليهم من بلايا ونقم بسبب عناده وطغيانه !
- وسنرى كيف كوّن موسى وهارون عليهما السلام هرماً تنظيماً لقيادة شعب بني إسرائيل، استعداداً للحظة الخروج من مصر !
كل هذه الأسرار وأكثر سنتعرف على إجاباتها بإذن الله خلال أحداث الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب ... ...المزيد
سنوات متتالية وفرعون لم ينتصر على دعوة موسى عليه السلام، كما لم يستطع أن يطفئ نورها، أو يخمد لهيب حماستها، فأصبح وأمسى واليأس والخسران يحيطان به، فقد استفرغ ما في وسعه وباءت كل محاولاته بالخسارة والفشل.
خسر فرعون هيبته ورجاحة عقله عندما غلبه موسى في حوارهما بالقصر، وخسر تأثير السلطة الدينية عندما قتل في يوم واحد آلاف السحرة الذين آمنوا بموسى، وخسر بقتله لآسية وحدة الأسرة ودفء العائلة، وخسر بتدبير محاولة اغتيال ابن عمه ومستشاره - الذي كان يكتم إيمانه - الرأي والمشورة الراجحة، وخسر بهلاك قارون الأموال والكنوز، وخسر بمعاركه الداخلية مع بني إسرائيل هيبة مصر الخارجية.
وهكذا في كل يوم يتقوض ملك فرعون أمام عينيه، ويخسر في كل يوم صديقاً أو حليفاً؛ وهذه سنة الله في إهلاك الظالمين، يمهلهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
والآن جاء دور موسى عليه السلام ليبدأ مرحلة جديدة من صراعه مع فرعون، وهي مرحلة الإنذارات السبعة والتي سنتعرف فيها على بعض الأسرار ..
- سر إصرار فرعون على العناد والكفر رغم كل يراه من معجزات خارقة !
- سر الإشاعة التي ترددت عن إعلان تنحي فرعون عن قراره بحظر خروج بني إسرائيل من مصر وإيمانه المفاجئ بدعوة موسى عليه السلام !
- سر تمسك جموع من الشعب المصري بفرعون رغم كل ما حل عليهم من بلايا ونقم بسبب عناده وطغيانه !
- وسنرى كيف كوّن موسى وهارون عليهما السلام هرماً تنظيماً لقيادة شعب بني إسرائيل، استعداداً للحظة الخروج من مصر !
كل هذه الأسرار وأكثر سنتعرف على إجاباتها بإذن الله خلال أحداث الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب ... ...المزيد
قصة حياة قارون ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ القصص:76؛ في هذه الكلمات السِتة فقط! ...
قصة حياة قارون
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ القصص:76؛ في هذه الكلمات السِتة فقط! اختصار لأحداث طويلة من حياة قارون؛ قبل أن يلهث وراء الثروة التي جعلها فرعون طعماً لاصطياده.
فقد كان قارون من فقراء بني إسرائيل الضعفاء المطحونين المضطهدين، ولكنه كان طموحاً صاحب همة عالية، كما كان عابداً لله موحداً له على دين جده يعقوب.
وكان من الأتباع العباد لله المقربين من موسى عليه السلام، الذين حملوا الرسالة بقوة لتبليغها لقومهما، ولذلك لم يقل الله عنه أنه "كان من بني إسرائيل" لأن فيهم الصالح والطالح، ولكن الله قال:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ ليترك المجال أمام عقلنا الواعي لنتخيل عبادته(1) وورعه، وقربه من موسى وحرصه على تبليغ الدعوة معه.
سر الثراء
كان قارون طموحاً ذا همة عالية، لم يستسلم للفقر والاستعباد، فعمل على تحسين مستواه المعيشي، بما حباه الله من علم ومعرفه، فانشغل بالتجارة ونجح فيها نجاحاً ملحوظاً مقارنة بأقرانه؛ ولما اشتد الإيذاء على بني إسرائيل بعد أحداث يوم الزينة، خاف قارون من بطش فرعون به، فبدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن موسى، وكان فرعون – ككل نظام فاسد – يمنع نمو أموال المعارضين له، وكان من استضعافه للناس يصادر أموالهم وأراضيهم إذا زادت عن الحد الذي حده؛ ولكن فرعون ونظامه غضوا الطرف عن قارون، لأن التقارير الأمنية كانت تؤكد أن قارون أصبح بلا انتماء بعد ابتعاده عن موسى ودعوته؛ فأفسحوا له المجال!
فازدادت أموال قارون، ودخل بها في تجارات عديدة ومتنوعة، ومشاريع استثمارية كبيرة، وسط فرحة عارمة في صفوف بني إسرائيل لنجاح واحد منهم في مجال من المجالات، مع تخوف ملحوظ من موسى ورفاقه على ثبات قارون على الإيمان بالرسالة، فطموحه الزائد – وإن بقي على الإسلام – مع ابتعاده عن طريق الدعوة قد يجعله فريسة لفرعون ونظامه، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية(1).
استمر قارون بعيداً عن طريق الدعوة، فقد انشغل بأمواله وتجاراته وشركاته، حتى أصبحت أمواله ثروة لا يتخيلها العقل البشري– إنها كنوز - وانطبق عليه المثل الذي يقول: ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب !.
حجم الثروة
ولما كانت النقود عملة متغيرة القيمة من وقت إلى آخر ومن زمان إلى زمان؛ وصف الله لنا ثروة قارون بطريقة حفظها في الخزائن فقال:﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ﴾ مفاتيح الخزائن التي تحتوي على الكنوز﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ والعصبة: جماعة من الناس لا يقلون عن عشرة رجال أشداء(2)، من أُولِي الْقُوَّةِ ليحملوا مفاتيح الخزائن فقط لكلّ بعضهم واثّاقل عن حملها من ثقلها وكثرتها، رغم أنه من أُولِي الْقُوَّةِ !
ويزداد العجب عندما تعلم أن الخزائن – كالعادة – لا تحتوي إلا على النقود– السيولة – فما بالكم بقصوره، وأراضيه، وشركاته ؟! فكلمة "مِنَ" في الآية ليست للتبعيض وإنما للتنوع، لتفسح لعقولنا المجال لنتخيل أنواع الثروات التي يمتلكها قارون.
كما جاءت كنوزه بدون تفصيل أو وصف لنوعها ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ لنتخيل في كل زمان ومكان أنواع التجارات التي تاجر فيها، وشكل المصانع التي بناها، والأسواق التي امتلكها، والأراضي التي زرعها، فإذا كان في زماننا من حصل على توكيل لإحدى شركات السيارات أو الأجهزة المنزلية يقول: أنا حصلت على"كنز"؛ فقارون قد حصل على كنوز كثيرة !!
رحلة السقوط
وبدأ الانحدار الأخلاقي الذي يقع فيه بعض من وسع الله عليهم بالتعالي على من هم دونه، فكانت أول سقطة لقارون أنه لما علا بغى ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عليهِمْ﴾ القصص:76، وكلمة "بَغى" لها في اللغة تصريفات عديدة بمعان كثيرة(1)؛ تفهم من خلالها درجة السقوط والتدني التي وقع فيها قارون بعدما أصبح من كبار رجال الأعمال في الدولة، وكأن الله يقول: ما إن أنعمنا عليه وكثرت أمواله حتى نسي دعوته التي تربى في كنفها، بل ونسي أهله الذين خرج من بينهم وتعالى عليهم ثم تنصل منهم وكأنه لا يعرفهم.
كِبر وغرور
تغلغلت الوجاهة والزعامة في قلب قارون؛ فها هو يمشي متبختراً لا يلقي سلاماً ولا يرده! وأصبح لا يرى في الدولة إلا نفسه، وبدأت علامات الكبر والعُجب تظهر عليه بوضوح؛ تقرؤها في قسمات وجهه، وتراها في سُخرية عينيه، وتسمعها من فلتات لسانه.
وهذا دائما يكون حال من تقبل عليهم الدنيا، فيظهرون معدنهم السيئ، وعلاج ذلك أن تُعمَرَ القلوب بالإيمان، ويُتخذ للنفوس صحبة صالحة ترصد عيوبها وتُقوِّم اعوجاجها، مع محاسبة ذاتية مستمرة للنفس فهي دائما ما تتغير مع المنصب والجاه، فتبدأ في ازدراء الناس، وتغيير المبادئ؛ وهذا هو السر في قول الرزاق - جل في علاه - ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ فخزائنه ملأى لا تنفد أبداً، قال في الحديث القدسي: "يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألتَه؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ"(1)، ولكن الناس أمام المال صغار لا يملكون التوازن، ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد، والله بعباده خبير بصير، ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً، وإلا لبغوا في الأرض، لنوقن أن الخير فيما يأتينا، وأن الكثرة ربما ستطغينا.
ولأن عبد المال يضحي بكل شيء في سبيل تحصيله؛ كان قارون في كل يوم يتخلى عن مبادئه وأخلاقه ليجتاز أي عقبة قد توضع أمامه، حتى وإن كان اجتياز هذه العقبات على حساب أهله وأصدقائه ورفقاء دعوته من بني إسرائيل.
قارون في شباك الدنيا
لقد كان غنى قارون تحت عين فرعون وبإذن منه، وإلا كان من الممكن أن يصادر نظام فرعون كل أموال قارون بجرة قلم وبدون آية أسباب؛ ولكنهم تركوه ليستغلوه ويضموه إلى معسكرهم، ويكون معول هدم في أيديهم يضربون به دعوة موسى، ولا مانع وقتها أن يستمر في غناه، طالما أنه نفذ خطتهم التي رسموها.
جمعت الثروة بين قارون وسادة ملأ فرعون، وباتت تجمعه بهم سهرات وشراكات – وإن كان مازال حتى الآن على خلاف عقائدي معهم – لجمع المزيد من الأموال عن طريق التسهيلات والتنازلات التي سيقدمونها له، رغم أن الله آتاه من الكنوز ما لو ظل أعماراً فوق أعماره ينفق منها ما نفدت، ولكنه الطمع واللهث وراء المال.. أي مال، حتى ولو كان عن طريق الإفساد في الأرض(1)، فإن كانت صحبة السوء تفسد، فكيف لو كانت هذه الصحبة حفنة يقودها أفسد أهل الأرض "فرعون"؟!
ومرة بعد مرة، وصفقة بعد صفقة، كان على قارون سرعة الاختيار بين الدين والدنيا، بين حمل الرسالة أو الجاه والمال والسلطان، ولكنه - كما ظن فرعون - آثر الحياة الدنيا وزينتها، ورأى في بعده عن دين أجداده- وارتمائه في أحضان نظام فرعون - الخير له ولأمواله وتجاراته، فتلك الصفقات المشبوهة الفاسدة، جعلت قارون يدرك أن بقاء نظام فرعون يعني بقاء ثروته ونموها، ومعنى سقوط نظام فرعون هو ضياع أمواله التي جمعها من الحلال ومن الحرام، فبدأ يظهر في الصورة مع المعادين لرسالة موسى عليه السلام، معلنا ترك دينه الذي آمن به من قبل.
قارون يكفر بالله
لقد رضي الشيطان من قارون أن يترك العمل الدعوي فقط، من أجل أن يتفرغ لتجارته وأمواله ؛ على أن يظل متمسكاً بدينه داعماً له، ثم جره الشيطان إلى الخطوة التي تليها وهي الابتعاد عن رفقاء دعوته حتى يحافظ على أمواله وكنوزه من مصادرة نظام فرعون لها، ثم جره إلى الخطوة التي تليها فغرس في قلبه حب الدنيا والحرص على جمع المال والكبر والسعي نحو الزعامة فتعالى على أهله ورفقاء دعوته، ليجره للخطوة التي بعدها وهي القرب من طبقة النظام الحاكم وتبادل الرؤى والحوارات والسهرات معهم، ليجره للتي بعدها وهي عقد شراكات هدفها الإفساد في الأرض فيتلوث ماله بالحرام، ثم جره للتي بعدها فأقنعه أن بقاء أمواله مرتبط ببقاء فرعون ونظامه لذا كن حليفاً لهم؛ ليهوي به هذه المرة إلى القاع ويقول له: كن على دينهم؛ فكان على دينهم !
قارون القيادي السابق
انتهز فرعون الفرصة؛ فقارون أصبح أُلعوبة في أيديهم يحركونها كما يريدون، فطلبوا منه أن يخرج في الناس ويدلي ببعض التصريحات التي تحط من قدر موسى وتطعن في دعوته.
فخرج قارون في الناس معترفاً أنه كان في يوم من الأيام تلميذاً من تلامذة موسى وأحد أبناء دعوته، ولكنه ترك الدعوة عندما تأكد من كذب موسى وافترائه على الله، فما يقوم به موسى سحر ودجل، ناصحاً الناس بعدم تصديقه أو الاستماع إليه، فهو أدرى الناس به، فقبل أن يكون ابن دعوته كان ابن عمه ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ غافر:24
ولكم عانى موسى من هذه التصريحات، فقد أخذ الناس كلام قارون على أنه حقيقة مُسَلم بها، فقد كان يوما ما قريباً منه، وهو أولاً وأخيراً ابن عمه وأدرى الناس به، فصد عن سبيل الله خلقاً كثيراً.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وبدأ عداء قارون لموسى ودعوته يتصاعد حتى أصبح أشد من عداء فرعون وهامان، فقد تقدم اسمه على أسمائهم عندما ذكر الله لنا عداء أصحاب المصالح للدعوات فقال:﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ العنكبوت:39
لنفهم أن قارون قد تنازل عن دينه وقيمه وأخلاقه ومبادئه - التي تربى عليها - من أجل الحفاظ على منصبه وأمواله، فكثر شره وانعدم خيره فكان أشد عداء لموسى من عداء فرعون !
وهو الذي كان يوما ما صاحب رسالة، وعابداً من العباد، ولكنها نفسه التي لم يكبح جماح حرصها على الدنيا، فأوردته المهالك ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ العنكبوت:38.
المؤامرة الفاشلة
زاد قارون في طغيانه - من أجل أن ترضى عنه السلطات - أن دفع مالاً لامرأة من العاهرات الزواني - يبدو أنه تعرف عليها في إحدى سهراته الفرعونية - مقابل أن تقف في جمع حاشد من بني إسرائيل وتتهم موسى علانية بأنه قد زنى بها
وبالفعل ذهبت المرأة ووقفت في جمع حاشد لبني إسرائيل وقالت: أيها الناس إن موسى الذي يحدثكم أنه نبي يوحى إليه من السماء؛ كان معي على فراشي الليلة الماضية!
فقلب الناس كفاً على كف، وسط همهمة فيها سب وتطاول وإيذاء، ليجد موسى نفسه في محنة لا يدري كيف يخرج منها؛ فرفع يديه ودعا ربه أن يبرئ ساحته من هذا الاتهام البشع.
فاستجاب الله دعاءه، فرق قلب المرأة واعترفت أمام الناس أن قارون هو الذي دفع لها مالاً كثيراً من أجل أن تقول ما قالته على موسى عليه السلام ثم استغفرت الله وتابت إليه، فخر موسى ساجداً لله شاكراً له (1).
وفد في زيارة قارون
ورغم كل ما فعله قارون، لم يتخل موسى عنه، فقد أرسل له وفداً من خيار قومه، برسالة مفادها، ألا يتعالى على الناس فهم منه، وهو منهم، والله لا يحب المتكبرين وفي ذلك إيقاظ له من سكرة المال(2)، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغي أن ينفق فيه ماله، فيطلب به رضا الله، ويقدم منه بعض الصدقات لتطهره وتزكيه وتنفعه في الآخرة، وأن يبرئ ساحة نفسه من تهم الفساد الموجهة إليه.
وذهب الوفد إلى قصره الفخم؛ ما أروعه !! أعمدته من الرخام المُحلى بالذهب والفضة وأرضيته من أرقى أنواع الرخام، ونوافذه من خشب الصندل المعطر ..
خدم وحشم في كل مكان، وإجراءات أمنية مشددة قابلهم بها حرسه الخاص حرصاً على سلامته!
وبعد طول انتظار .. قابلوا قارون في أبهته، ووجاهته! ولما كان وقته من ذهب - كما علموا عند قدومهم - أوجزوا حوارهم واختصروا نصيحتهم في ثلاث رسائل واضحة وقوية.
الرسالة الأولى: لا تفرح بالدنيا
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ فإن الدنيا لو أعطتك وجهها اليوم فقد تستدير عنك غداً، ولا تغتر بما آتاك الله من ثروات وكنوز، فتتكبر وتتعالى على خلق الله، فهم منك وأنت منهم، والناس سواسية وكلهم من آدم وآدم من تراب، يقولُ اللهُ تعالى: يا ابْنَ آدمَ ! أنَّى تُعْجِزُني وقد خلَقْتُكَ من مِثْلِ هذا ؟ حتى إذا سوَّيْتُك وعَدَلْتُك ، مَشَيتَ بين بُرْديْنِ ولِلأرضِ منكَ وئِيدٌ ، فجمعْتَ ومَنعْتَ(1)
الرسالة الثانية: أدِ حقوق الناس
كما ننصحك - بحق الأخوة والدين - أن تتصدق ببعض مالك ابتغاء رضى الله عنك؛ فإن "صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوءِ وصدقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ وصلةُ الرَّحمِ تزيدُ في العمرِ"(1) ﴿ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ﴾ القصص:77، فالعاقل من يستطيع الموازنة بين الدنيا والآخرة ولا يطغي إحداهما على الأخرى.
﴿ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إليكَ﴾ القصص:77، فما نطلبه من زكاة وصدقات لأهلك من فقراء بني إسرائيل، هو نوع من الإحسان مقابل ما أحسن الله إليك فأعطاك وأغناك.
الرسالة الثالثة: تطهر من الفساد
وفي الختام حتى لا نطيل عليك، فقد جاءت امرأة عاهرة تتهم نبي الله موسى بأنه زنا بها، ثم كذّبت نفسها بنفسها واعترفت: أنك استأجرتها لتتهم نبي الله موسى بهذا الاتهام فتهز صورته أمام الناس، كما بلغنا أنك تستخدم أموالك في الصد عن سبيل دعوة الله، وأنك أصبحت حليفاً لفرعون الذي اضطهدنا وأذلنا وقتّل أبناءنا، وبت تقول ما يقوله عن موسى بأنه ساحر وكذاب ! ، فابتعد عن فرعون ونقِ أموالك إن شابها شيء من هذا الفساد ﴿ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص:77، ثم سكتوا ..
فقال قارون – بعد صمت وعدم مقاطعة-: أنا لا أحتاج إلى استماع ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ القصص:78، فقد أوتيتُ هذه الكنوز بسبب علمي وجهدي وتعبي وذكائي، فبأي حق تُملُون على طريقة خاصة في التصرف فيها ؟ أنا أتصرف كما أشاء وقتما أشاء، وأمنع من أشاء وأعطي من أشاء؛ ونصائحكم غير مقبولة. .. انتهت المقابلة!
ليخرج قومه من عنده وهم يتأسفون على حاله ويقلبون كفاً على كف، كيف تجرأ قارون بهذه البشاعة والوقاحة على الله، كيف تناسى ما كان بيننا وبينه من أواصر أُخَوِية، كيف لا يتبين الحلال من الحرام في أمواله، كيف ينسب فضل ما هو فيه من صحة ونعيم لنفسه ولا يُرجع الفضل لله، ألا يخاف من الله؟ ، أفلا يجلس مع نفسه لحظات لينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس الله من شيء؟ لقد هلكوا، وهلك ما كان لهم﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ ؟! القصص:78.
تفاصيل الزيارة بين يدي موسى
وجاء الوفد لموسى يقصون عليه ما دار بينهم وبين قارون، وما كان منه من بغي وتطاول، وإعراض عن النصح، وتعالِ على العظة، وإصرار على الفساد، واغترار بالمال.
فتيقن موسى أن قارون قد وصل إلى طريق لا رجعة فيه، وقد أصبح وجوده أشد خطراً من فرعون على دعوته، فهو بماله يصد عن سبيل الله، ويبهر عقول الناس ويلهيهم، كما أنه يفتن الآخرين بتصريحاته التي يرددها بأن موسى ساحر وكذاب؛ فدعا موسى عليه بأن يجعله عبرة وآية لكل الناس؛ فاستجاب الله دعاءه.
لا تظلمنَّ إِذا ما كنتَ مقتدراً فالظلمُ ترجع عقباه إِلى الندمِ
تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ يدعو عليكَ وعينُ اللّهِ لم تنمِ
موكب قارون
وذات يوم تحرك موكب قارون - وقد خرج كعادته - في موكب حاشد لأكبر رجل أعمال في الدولة، عربات من أحدث طراز مزينة بأرقى الزينات، ومُطَعّمة بالفضة والذهب وسروج خيلها مصنوعة من الجلد المزين بالذهب الخالص، جنود وحرس على جانبي الموكب، وأصناف النعيم والترف وزخارف الدنيا تحيط به من كل مكان، ﴿ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ القصص:79؛ والغرض من كل هذا أن يظهر فيه سيداً عظيماً في زي أصحاب الملك والسلطان، فيفتن الناس ويحرك أهواءهم.
فلما رآه الناس تطايرت من أعينهم قطرات التمني والغيرة ﴿ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ القصص:79، فقد استهوتهم الزينة، وسال لعابهم أمام جمال الموكب، ولم يتساءلوا بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما ناله من حظ الحياة؟ لم يفكروا ولو للحظات إلى الثمن الباهظ الذي أداه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذها !!.
لقد ظن المساكين أن الله لما أحب قارون أعطاه الدنيا فصار ذا حظ عظيم، ونسي المساكين أن سعة الرزق وكثرة المال ليست علامة حب من الله جل وعلا، فهو القائل:﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ المؤمنون:56
فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب(1)، ولكنه لا يعطي الدين والتمسك بالدعوة إلا لمن أحب، بهذه المعاني دخل عليهم عقلاء القوم – من المتصلين بالله - ليذكروهم بها: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ القصص:80، فاحمدوا الله على نعمة الإيمان، وشرف حمل الرسالة، فذلك خير وأبقى.
وما أروعها من نصيحة صادقة يحتاج إليها بسطاء الشعب الكادح حينما يشاهدون مواكب «قارونات» اليوم وهى تقطع عليهم طرقهم وتعطلهم عن مصالحهم، وتسير بفخامتها أمام أعينهم؛ لتحول أغلبهم إلى باحثين عن المال حتى لو كان على حساب الأخلاق والمبادئ أو حتى الدين.
الأرض تبتلع قارون
وما هي إلا لحظات وفي لمحة خاطفة فتحت الأرض فمها وابتلعت قصر قارون بأسواره وأشجاره وأنهاره وزينته؛ ثم امتد الخسف إلى موكبه وحُرّاسه وخدمه وحشمه، وسط محاولات للفرار بعيداً عن فتحات الأرض العميقة، ولكنها كانت تبتلعهم بشراهة؛ ليسقط فيها قارون وكل ما جمعه وملكه، في حادث مروع أذهل كل من رآه !﴿ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ(1) الْأَرْضَ﴾ القصص:81، فأين فرعون لينصره ؟!، بل أين هامان ليغيثه ؟!، أين فرق الإنقاذ؟، أين الجنود أين الأتباع ؟!!
﴿فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ﴾ القصص:81.
فهل يتعظ «قارونات» هذا الزمن مما حدث لقارون قوم موسى، هل أدرك المتطلعون للثراء على حساب مبادئهم وأخلاقهم وأوامر ونواهي الله عز وجل مصير قارون، أم إنهم سيستمرون في طريقهم يجمعون المال فوق المال غافلين عن دورهم في الحياة، ونصيب الفقراء فيما جمعوا؟
الإجابة ربما ستكون عكس ما تتوقع، لأن أسطورة قارون وأمواله وقصوره لم تدفع أحداً للتوقف أمام نتائجها بقدر ما دفعت الجميع لتخيل شكل أموال وقصور قارون !
ردود فعل الشارع
تجمع الناس حول هذه الحفرة الواسعة الكبيرة العميقة جداً، ينظرون إليها في دهشة وذهول، لقد اختفى كل شيء في لحظة خاطفة، كما يختفي السابح في الماء، وقد احتوته دوامة عاتية فغرق وهوى إلى القاع!! فقلبوا أكُفهم وهم متعجبون متعظون، أهكذا الدنيا إذاً ؟ أهكذا تصاريف القدر فيها؟ أهكذا يفعل الله بمن باع رصيد القيم والأخلاق من أجل رصيد المال ؟!
بدأوا يقلبون أيديهم على مآله، فقد خسر ثروته التي جمعها من حلال ومن حرام، ولم ينفعه فرعون ونظامه الذين ارتمى في أحضانهما وباع أهله ودينه، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
ثم تلمح في ذات المشهد ذهول فريق من الذين تعلقت أمانيهم بذيل الموكب، وسخطوا على حظهم الضئيل من الدنيا وهم يبكون على ما كان منهم، فقد لقنوا درساً قاسياً للغاية، فهموا منه أن المال ليس كل شيء، وأن قليلاً يكفي خير من كثير يُطغي﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ علينا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ﴾ القصص:82.
وبات ما حدث لقارون – بعد دعاء موسى عليه – رسالة إنذار جديدة لفرعون وكل أفراد نظامه، لعلهم يتوبون أو يعودون، فكل ما دبروه لموسى ينقلب لصالحه، ويجعل الناس تتأكد من صدقه، فيصبح وبالاً عليهم!﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال:30.
الدعاء على فرعون ونظامه
وهنا يتجه موسى عليه السلام إلى ربه رافعاً يديه، وأخوه هارون بجواره يُؤمّن على دعائه، ليدعوا على فرعون وملئه ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ الدخان:22، دعاء من يئس من هدايتهم، وضاق ذرعاً مما يدبرونه له وللمؤمنين من حوله من ابتلاءات وفتن وعقبات، مستخدمين ما أنعم الله به عليهم من جاه ومناصب وأموال ليصدوا الناس ويضلوهم عن سبيل الله ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وملئه زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأليمَ ﴾ يونس:88.
وتلمس مدى حسرة قلب موسى عليه السلام على فرعون وملئه، إنه يقول: ربنا إنك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالاً في الحياة الدّنيا فكفروا بنعمك وجحدوها، وحاربوك بها فأذلوا الناس واستضعفوهم، وكانت تلك الأموال والمناصب سبباً في عتوّهم وضلالهم، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأليمَ﴾ يونس:88.
فتقبل الله دعوتهُما وأمرهما بأمرين فقال: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يونس:89.
الأمر الأول: الاستقامة على منهج الله، واستمرار الدعوة دون تلكؤ أو استثقال.
الأمر الثاني: ألا يسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنته في خلقه، فيستعجلا الهلاك لعدوهما قبل ميقاته، أو يستبطئا النصر لهما قبل حينه. ...المزيد
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ القصص:76؛ في هذه الكلمات السِتة فقط! اختصار لأحداث طويلة من حياة قارون؛ قبل أن يلهث وراء الثروة التي جعلها فرعون طعماً لاصطياده.
فقد كان قارون من فقراء بني إسرائيل الضعفاء المطحونين المضطهدين، ولكنه كان طموحاً صاحب همة عالية، كما كان عابداً لله موحداً له على دين جده يعقوب.
وكان من الأتباع العباد لله المقربين من موسى عليه السلام، الذين حملوا الرسالة بقوة لتبليغها لقومهما، ولذلك لم يقل الله عنه أنه "كان من بني إسرائيل" لأن فيهم الصالح والطالح، ولكن الله قال:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ ليترك المجال أمام عقلنا الواعي لنتخيل عبادته(1) وورعه، وقربه من موسى وحرصه على تبليغ الدعوة معه.
سر الثراء
كان قارون طموحاً ذا همة عالية، لم يستسلم للفقر والاستعباد، فعمل على تحسين مستواه المعيشي، بما حباه الله من علم ومعرفه، فانشغل بالتجارة ونجح فيها نجاحاً ملحوظاً مقارنة بأقرانه؛ ولما اشتد الإيذاء على بني إسرائيل بعد أحداث يوم الزينة، خاف قارون من بطش فرعون به، فبدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن موسى، وكان فرعون – ككل نظام فاسد – يمنع نمو أموال المعارضين له، وكان من استضعافه للناس يصادر أموالهم وأراضيهم إذا زادت عن الحد الذي حده؛ ولكن فرعون ونظامه غضوا الطرف عن قارون، لأن التقارير الأمنية كانت تؤكد أن قارون أصبح بلا انتماء بعد ابتعاده عن موسى ودعوته؛ فأفسحوا له المجال!
فازدادت أموال قارون، ودخل بها في تجارات عديدة ومتنوعة، ومشاريع استثمارية كبيرة، وسط فرحة عارمة في صفوف بني إسرائيل لنجاح واحد منهم في مجال من المجالات، مع تخوف ملحوظ من موسى ورفاقه على ثبات قارون على الإيمان بالرسالة، فطموحه الزائد – وإن بقي على الإسلام – مع ابتعاده عن طريق الدعوة قد يجعله فريسة لفرعون ونظامه، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية(1).
استمر قارون بعيداً عن طريق الدعوة، فقد انشغل بأمواله وتجاراته وشركاته، حتى أصبحت أمواله ثروة لا يتخيلها العقل البشري– إنها كنوز - وانطبق عليه المثل الذي يقول: ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب !.
حجم الثروة
ولما كانت النقود عملة متغيرة القيمة من وقت إلى آخر ومن زمان إلى زمان؛ وصف الله لنا ثروة قارون بطريقة حفظها في الخزائن فقال:﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ﴾ مفاتيح الخزائن التي تحتوي على الكنوز﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ والعصبة: جماعة من الناس لا يقلون عن عشرة رجال أشداء(2)، من أُولِي الْقُوَّةِ ليحملوا مفاتيح الخزائن فقط لكلّ بعضهم واثّاقل عن حملها من ثقلها وكثرتها، رغم أنه من أُولِي الْقُوَّةِ !
ويزداد العجب عندما تعلم أن الخزائن – كالعادة – لا تحتوي إلا على النقود– السيولة – فما بالكم بقصوره، وأراضيه، وشركاته ؟! فكلمة "مِنَ" في الآية ليست للتبعيض وإنما للتنوع، لتفسح لعقولنا المجال لنتخيل أنواع الثروات التي يمتلكها قارون.
كما جاءت كنوزه بدون تفصيل أو وصف لنوعها ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ لنتخيل في كل زمان ومكان أنواع التجارات التي تاجر فيها، وشكل المصانع التي بناها، والأسواق التي امتلكها، والأراضي التي زرعها، فإذا كان في زماننا من حصل على توكيل لإحدى شركات السيارات أو الأجهزة المنزلية يقول: أنا حصلت على"كنز"؛ فقارون قد حصل على كنوز كثيرة !!
رحلة السقوط
وبدأ الانحدار الأخلاقي الذي يقع فيه بعض من وسع الله عليهم بالتعالي على من هم دونه، فكانت أول سقطة لقارون أنه لما علا بغى ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عليهِمْ﴾ القصص:76، وكلمة "بَغى" لها في اللغة تصريفات عديدة بمعان كثيرة(1)؛ تفهم من خلالها درجة السقوط والتدني التي وقع فيها قارون بعدما أصبح من كبار رجال الأعمال في الدولة، وكأن الله يقول: ما إن أنعمنا عليه وكثرت أمواله حتى نسي دعوته التي تربى في كنفها، بل ونسي أهله الذين خرج من بينهم وتعالى عليهم ثم تنصل منهم وكأنه لا يعرفهم.
كِبر وغرور
تغلغلت الوجاهة والزعامة في قلب قارون؛ فها هو يمشي متبختراً لا يلقي سلاماً ولا يرده! وأصبح لا يرى في الدولة إلا نفسه، وبدأت علامات الكبر والعُجب تظهر عليه بوضوح؛ تقرؤها في قسمات وجهه، وتراها في سُخرية عينيه، وتسمعها من فلتات لسانه.
وهذا دائما يكون حال من تقبل عليهم الدنيا، فيظهرون معدنهم السيئ، وعلاج ذلك أن تُعمَرَ القلوب بالإيمان، ويُتخذ للنفوس صحبة صالحة ترصد عيوبها وتُقوِّم اعوجاجها، مع محاسبة ذاتية مستمرة للنفس فهي دائما ما تتغير مع المنصب والجاه، فتبدأ في ازدراء الناس، وتغيير المبادئ؛ وهذا هو السر في قول الرزاق - جل في علاه - ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ فخزائنه ملأى لا تنفد أبداً، قال في الحديث القدسي: "يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألتَه؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ"(1)، ولكن الناس أمام المال صغار لا يملكون التوازن، ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد، والله بعباده خبير بصير، ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً، وإلا لبغوا في الأرض، لنوقن أن الخير فيما يأتينا، وأن الكثرة ربما ستطغينا.
ولأن عبد المال يضحي بكل شيء في سبيل تحصيله؛ كان قارون في كل يوم يتخلى عن مبادئه وأخلاقه ليجتاز أي عقبة قد توضع أمامه، حتى وإن كان اجتياز هذه العقبات على حساب أهله وأصدقائه ورفقاء دعوته من بني إسرائيل.
قارون في شباك الدنيا
لقد كان غنى قارون تحت عين فرعون وبإذن منه، وإلا كان من الممكن أن يصادر نظام فرعون كل أموال قارون بجرة قلم وبدون آية أسباب؛ ولكنهم تركوه ليستغلوه ويضموه إلى معسكرهم، ويكون معول هدم في أيديهم يضربون به دعوة موسى، ولا مانع وقتها أن يستمر في غناه، طالما أنه نفذ خطتهم التي رسموها.
جمعت الثروة بين قارون وسادة ملأ فرعون، وباتت تجمعه بهم سهرات وشراكات – وإن كان مازال حتى الآن على خلاف عقائدي معهم – لجمع المزيد من الأموال عن طريق التسهيلات والتنازلات التي سيقدمونها له، رغم أن الله آتاه من الكنوز ما لو ظل أعماراً فوق أعماره ينفق منها ما نفدت، ولكنه الطمع واللهث وراء المال.. أي مال، حتى ولو كان عن طريق الإفساد في الأرض(1)، فإن كانت صحبة السوء تفسد، فكيف لو كانت هذه الصحبة حفنة يقودها أفسد أهل الأرض "فرعون"؟!
ومرة بعد مرة، وصفقة بعد صفقة، كان على قارون سرعة الاختيار بين الدين والدنيا، بين حمل الرسالة أو الجاه والمال والسلطان، ولكنه - كما ظن فرعون - آثر الحياة الدنيا وزينتها، ورأى في بعده عن دين أجداده- وارتمائه في أحضان نظام فرعون - الخير له ولأمواله وتجاراته، فتلك الصفقات المشبوهة الفاسدة، جعلت قارون يدرك أن بقاء نظام فرعون يعني بقاء ثروته ونموها، ومعنى سقوط نظام فرعون هو ضياع أمواله التي جمعها من الحلال ومن الحرام، فبدأ يظهر في الصورة مع المعادين لرسالة موسى عليه السلام، معلنا ترك دينه الذي آمن به من قبل.
قارون يكفر بالله
لقد رضي الشيطان من قارون أن يترك العمل الدعوي فقط، من أجل أن يتفرغ لتجارته وأمواله ؛ على أن يظل متمسكاً بدينه داعماً له، ثم جره الشيطان إلى الخطوة التي تليها وهي الابتعاد عن رفقاء دعوته حتى يحافظ على أمواله وكنوزه من مصادرة نظام فرعون لها، ثم جره إلى الخطوة التي تليها فغرس في قلبه حب الدنيا والحرص على جمع المال والكبر والسعي نحو الزعامة فتعالى على أهله ورفقاء دعوته، ليجره للخطوة التي بعدها وهي القرب من طبقة النظام الحاكم وتبادل الرؤى والحوارات والسهرات معهم، ليجره للتي بعدها وهي عقد شراكات هدفها الإفساد في الأرض فيتلوث ماله بالحرام، ثم جره للتي بعدها فأقنعه أن بقاء أمواله مرتبط ببقاء فرعون ونظامه لذا كن حليفاً لهم؛ ليهوي به هذه المرة إلى القاع ويقول له: كن على دينهم؛ فكان على دينهم !
قارون القيادي السابق
انتهز فرعون الفرصة؛ فقارون أصبح أُلعوبة في أيديهم يحركونها كما يريدون، فطلبوا منه أن يخرج في الناس ويدلي ببعض التصريحات التي تحط من قدر موسى وتطعن في دعوته.
فخرج قارون في الناس معترفاً أنه كان في يوم من الأيام تلميذاً من تلامذة موسى وأحد أبناء دعوته، ولكنه ترك الدعوة عندما تأكد من كذب موسى وافترائه على الله، فما يقوم به موسى سحر ودجل، ناصحاً الناس بعدم تصديقه أو الاستماع إليه، فهو أدرى الناس به، فقبل أن يكون ابن دعوته كان ابن عمه ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ غافر:24
ولكم عانى موسى من هذه التصريحات، فقد أخذ الناس كلام قارون على أنه حقيقة مُسَلم بها، فقد كان يوما ما قريباً منه، وهو أولاً وأخيراً ابن عمه وأدرى الناس به، فصد عن سبيل الله خلقاً كثيراً.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وبدأ عداء قارون لموسى ودعوته يتصاعد حتى أصبح أشد من عداء فرعون وهامان، فقد تقدم اسمه على أسمائهم عندما ذكر الله لنا عداء أصحاب المصالح للدعوات فقال:﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ العنكبوت:39
لنفهم أن قارون قد تنازل عن دينه وقيمه وأخلاقه ومبادئه - التي تربى عليها - من أجل الحفاظ على منصبه وأمواله، فكثر شره وانعدم خيره فكان أشد عداء لموسى من عداء فرعون !
وهو الذي كان يوما ما صاحب رسالة، وعابداً من العباد، ولكنها نفسه التي لم يكبح جماح حرصها على الدنيا، فأوردته المهالك ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ العنكبوت:38.
المؤامرة الفاشلة
زاد قارون في طغيانه - من أجل أن ترضى عنه السلطات - أن دفع مالاً لامرأة من العاهرات الزواني - يبدو أنه تعرف عليها في إحدى سهراته الفرعونية - مقابل أن تقف في جمع حاشد من بني إسرائيل وتتهم موسى علانية بأنه قد زنى بها
وبالفعل ذهبت المرأة ووقفت في جمع حاشد لبني إسرائيل وقالت: أيها الناس إن موسى الذي يحدثكم أنه نبي يوحى إليه من السماء؛ كان معي على فراشي الليلة الماضية!
فقلب الناس كفاً على كف، وسط همهمة فيها سب وتطاول وإيذاء، ليجد موسى نفسه في محنة لا يدري كيف يخرج منها؛ فرفع يديه ودعا ربه أن يبرئ ساحته من هذا الاتهام البشع.
فاستجاب الله دعاءه، فرق قلب المرأة واعترفت أمام الناس أن قارون هو الذي دفع لها مالاً كثيراً من أجل أن تقول ما قالته على موسى عليه السلام ثم استغفرت الله وتابت إليه، فخر موسى ساجداً لله شاكراً له (1).
وفد في زيارة قارون
ورغم كل ما فعله قارون، لم يتخل موسى عنه، فقد أرسل له وفداً من خيار قومه، برسالة مفادها، ألا يتعالى على الناس فهم منه، وهو منهم، والله لا يحب المتكبرين وفي ذلك إيقاظ له من سكرة المال(2)، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغي أن ينفق فيه ماله، فيطلب به رضا الله، ويقدم منه بعض الصدقات لتطهره وتزكيه وتنفعه في الآخرة، وأن يبرئ ساحة نفسه من تهم الفساد الموجهة إليه.
وذهب الوفد إلى قصره الفخم؛ ما أروعه !! أعمدته من الرخام المُحلى بالذهب والفضة وأرضيته من أرقى أنواع الرخام، ونوافذه من خشب الصندل المعطر ..
خدم وحشم في كل مكان، وإجراءات أمنية مشددة قابلهم بها حرسه الخاص حرصاً على سلامته!
وبعد طول انتظار .. قابلوا قارون في أبهته، ووجاهته! ولما كان وقته من ذهب - كما علموا عند قدومهم - أوجزوا حوارهم واختصروا نصيحتهم في ثلاث رسائل واضحة وقوية.
الرسالة الأولى: لا تفرح بالدنيا
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ فإن الدنيا لو أعطتك وجهها اليوم فقد تستدير عنك غداً، ولا تغتر بما آتاك الله من ثروات وكنوز، فتتكبر وتتعالى على خلق الله، فهم منك وأنت منهم، والناس سواسية وكلهم من آدم وآدم من تراب، يقولُ اللهُ تعالى: يا ابْنَ آدمَ ! أنَّى تُعْجِزُني وقد خلَقْتُكَ من مِثْلِ هذا ؟ حتى إذا سوَّيْتُك وعَدَلْتُك ، مَشَيتَ بين بُرْديْنِ ولِلأرضِ منكَ وئِيدٌ ، فجمعْتَ ومَنعْتَ(1)
الرسالة الثانية: أدِ حقوق الناس
كما ننصحك - بحق الأخوة والدين - أن تتصدق ببعض مالك ابتغاء رضى الله عنك؛ فإن "صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوءِ وصدقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ وصلةُ الرَّحمِ تزيدُ في العمرِ"(1) ﴿ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ﴾ القصص:77، فالعاقل من يستطيع الموازنة بين الدنيا والآخرة ولا يطغي إحداهما على الأخرى.
﴿ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إليكَ﴾ القصص:77، فما نطلبه من زكاة وصدقات لأهلك من فقراء بني إسرائيل، هو نوع من الإحسان مقابل ما أحسن الله إليك فأعطاك وأغناك.
الرسالة الثالثة: تطهر من الفساد
وفي الختام حتى لا نطيل عليك، فقد جاءت امرأة عاهرة تتهم نبي الله موسى بأنه زنا بها، ثم كذّبت نفسها بنفسها واعترفت: أنك استأجرتها لتتهم نبي الله موسى بهذا الاتهام فتهز صورته أمام الناس، كما بلغنا أنك تستخدم أموالك في الصد عن سبيل دعوة الله، وأنك أصبحت حليفاً لفرعون الذي اضطهدنا وأذلنا وقتّل أبناءنا، وبت تقول ما يقوله عن موسى بأنه ساحر وكذاب ! ، فابتعد عن فرعون ونقِ أموالك إن شابها شيء من هذا الفساد ﴿ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص:77، ثم سكتوا ..
فقال قارون – بعد صمت وعدم مقاطعة-: أنا لا أحتاج إلى استماع ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ القصص:78، فقد أوتيتُ هذه الكنوز بسبب علمي وجهدي وتعبي وذكائي، فبأي حق تُملُون على طريقة خاصة في التصرف فيها ؟ أنا أتصرف كما أشاء وقتما أشاء، وأمنع من أشاء وأعطي من أشاء؛ ونصائحكم غير مقبولة. .. انتهت المقابلة!
ليخرج قومه من عنده وهم يتأسفون على حاله ويقلبون كفاً على كف، كيف تجرأ قارون بهذه البشاعة والوقاحة على الله، كيف تناسى ما كان بيننا وبينه من أواصر أُخَوِية، كيف لا يتبين الحلال من الحرام في أمواله، كيف ينسب فضل ما هو فيه من صحة ونعيم لنفسه ولا يُرجع الفضل لله، ألا يخاف من الله؟ ، أفلا يجلس مع نفسه لحظات لينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس الله من شيء؟ لقد هلكوا، وهلك ما كان لهم﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ ؟! القصص:78.
تفاصيل الزيارة بين يدي موسى
وجاء الوفد لموسى يقصون عليه ما دار بينهم وبين قارون، وما كان منه من بغي وتطاول، وإعراض عن النصح، وتعالِ على العظة، وإصرار على الفساد، واغترار بالمال.
فتيقن موسى أن قارون قد وصل إلى طريق لا رجعة فيه، وقد أصبح وجوده أشد خطراً من فرعون على دعوته، فهو بماله يصد عن سبيل الله، ويبهر عقول الناس ويلهيهم، كما أنه يفتن الآخرين بتصريحاته التي يرددها بأن موسى ساحر وكذاب؛ فدعا موسى عليه بأن يجعله عبرة وآية لكل الناس؛ فاستجاب الله دعاءه.
لا تظلمنَّ إِذا ما كنتَ مقتدراً فالظلمُ ترجع عقباه إِلى الندمِ
تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ يدعو عليكَ وعينُ اللّهِ لم تنمِ
موكب قارون
وذات يوم تحرك موكب قارون - وقد خرج كعادته - في موكب حاشد لأكبر رجل أعمال في الدولة، عربات من أحدث طراز مزينة بأرقى الزينات، ومُطَعّمة بالفضة والذهب وسروج خيلها مصنوعة من الجلد المزين بالذهب الخالص، جنود وحرس على جانبي الموكب، وأصناف النعيم والترف وزخارف الدنيا تحيط به من كل مكان، ﴿ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ القصص:79؛ والغرض من كل هذا أن يظهر فيه سيداً عظيماً في زي أصحاب الملك والسلطان، فيفتن الناس ويحرك أهواءهم.
فلما رآه الناس تطايرت من أعينهم قطرات التمني والغيرة ﴿ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ القصص:79، فقد استهوتهم الزينة، وسال لعابهم أمام جمال الموكب، ولم يتساءلوا بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما ناله من حظ الحياة؟ لم يفكروا ولو للحظات إلى الثمن الباهظ الذي أداه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذها !!.
لقد ظن المساكين أن الله لما أحب قارون أعطاه الدنيا فصار ذا حظ عظيم، ونسي المساكين أن سعة الرزق وكثرة المال ليست علامة حب من الله جل وعلا، فهو القائل:﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ المؤمنون:56
فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب(1)، ولكنه لا يعطي الدين والتمسك بالدعوة إلا لمن أحب، بهذه المعاني دخل عليهم عقلاء القوم – من المتصلين بالله - ليذكروهم بها: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ القصص:80، فاحمدوا الله على نعمة الإيمان، وشرف حمل الرسالة، فذلك خير وأبقى.
وما أروعها من نصيحة صادقة يحتاج إليها بسطاء الشعب الكادح حينما يشاهدون مواكب «قارونات» اليوم وهى تقطع عليهم طرقهم وتعطلهم عن مصالحهم، وتسير بفخامتها أمام أعينهم؛ لتحول أغلبهم إلى باحثين عن المال حتى لو كان على حساب الأخلاق والمبادئ أو حتى الدين.
الأرض تبتلع قارون
وما هي إلا لحظات وفي لمحة خاطفة فتحت الأرض فمها وابتلعت قصر قارون بأسواره وأشجاره وأنهاره وزينته؛ ثم امتد الخسف إلى موكبه وحُرّاسه وخدمه وحشمه، وسط محاولات للفرار بعيداً عن فتحات الأرض العميقة، ولكنها كانت تبتلعهم بشراهة؛ ليسقط فيها قارون وكل ما جمعه وملكه، في حادث مروع أذهل كل من رآه !﴿ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ(1) الْأَرْضَ﴾ القصص:81، فأين فرعون لينصره ؟!، بل أين هامان ليغيثه ؟!، أين فرق الإنقاذ؟، أين الجنود أين الأتباع ؟!!
﴿فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ﴾ القصص:81.
فهل يتعظ «قارونات» هذا الزمن مما حدث لقارون قوم موسى، هل أدرك المتطلعون للثراء على حساب مبادئهم وأخلاقهم وأوامر ونواهي الله عز وجل مصير قارون، أم إنهم سيستمرون في طريقهم يجمعون المال فوق المال غافلين عن دورهم في الحياة، ونصيب الفقراء فيما جمعوا؟
الإجابة ربما ستكون عكس ما تتوقع، لأن أسطورة قارون وأمواله وقصوره لم تدفع أحداً للتوقف أمام نتائجها بقدر ما دفعت الجميع لتخيل شكل أموال وقصور قارون !
ردود فعل الشارع
تجمع الناس حول هذه الحفرة الواسعة الكبيرة العميقة جداً، ينظرون إليها في دهشة وذهول، لقد اختفى كل شيء في لحظة خاطفة، كما يختفي السابح في الماء، وقد احتوته دوامة عاتية فغرق وهوى إلى القاع!! فقلبوا أكُفهم وهم متعجبون متعظون، أهكذا الدنيا إذاً ؟ أهكذا تصاريف القدر فيها؟ أهكذا يفعل الله بمن باع رصيد القيم والأخلاق من أجل رصيد المال ؟!
بدأوا يقلبون أيديهم على مآله، فقد خسر ثروته التي جمعها من حلال ومن حرام، ولم ينفعه فرعون ونظامه الذين ارتمى في أحضانهما وباع أهله ودينه، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
ثم تلمح في ذات المشهد ذهول فريق من الذين تعلقت أمانيهم بذيل الموكب، وسخطوا على حظهم الضئيل من الدنيا وهم يبكون على ما كان منهم، فقد لقنوا درساً قاسياً للغاية، فهموا منه أن المال ليس كل شيء، وأن قليلاً يكفي خير من كثير يُطغي﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ علينا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ﴾ القصص:82.
وبات ما حدث لقارون – بعد دعاء موسى عليه – رسالة إنذار جديدة لفرعون وكل أفراد نظامه، لعلهم يتوبون أو يعودون، فكل ما دبروه لموسى ينقلب لصالحه، ويجعل الناس تتأكد من صدقه، فيصبح وبالاً عليهم!﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال:30.
الدعاء على فرعون ونظامه
وهنا يتجه موسى عليه السلام إلى ربه رافعاً يديه، وأخوه هارون بجواره يُؤمّن على دعائه، ليدعوا على فرعون وملئه ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ الدخان:22، دعاء من يئس من هدايتهم، وضاق ذرعاً مما يدبرونه له وللمؤمنين من حوله من ابتلاءات وفتن وعقبات، مستخدمين ما أنعم الله به عليهم من جاه ومناصب وأموال ليصدوا الناس ويضلوهم عن سبيل الله ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وملئه زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأليمَ ﴾ يونس:88.
وتلمس مدى حسرة قلب موسى عليه السلام على فرعون وملئه، إنه يقول: ربنا إنك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالاً في الحياة الدّنيا فكفروا بنعمك وجحدوها، وحاربوك بها فأذلوا الناس واستضعفوهم، وكانت تلك الأموال والمناصب سبباً في عتوّهم وضلالهم، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأليمَ﴾ يونس:88.
فتقبل الله دعوتهُما وأمرهما بأمرين فقال: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يونس:89.
الأمر الأول: الاستقامة على منهج الله، واستمرار الدعوة دون تلكؤ أو استثقال.
الأمر الثاني: ألا يسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنته في خلقه، فيستعجلا الهلاك لعدوهما قبل ميقاته، أو يستبطئا النصر لهما قبل حينه. ...المزيد
محاولة اغتيال موسى الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل ...
محاولة اغتيال موسى
الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل أمثل للتخلص من موسى، فالتضييق على موسى لا يثنيه من الحديث مع الناس ليل نهار، وتقتيل أبناء الذين آمنوا معه زادهم إصراراً على التمسك بدينهم وكرها لفرعون ونظامه!
فما الحل ؟ وقد سبق – فيما أشرنا- عرض فكرة قتل موسى على طاولة المناقشة في اجتماع سابق لهم بعد أحداث يوم الزينة، ولاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة - من ناحية الرأي- للأسباب السابق ذكرها؛ تلك الأسباب التي جعلتهم يفكرون ألف مرة قبل أن يقدموا على محاولة قتل موسى؛ لكنهم اليوم في اجتماع مع فرعون لمناقشة هذه الأسباب من جديد، وطرح فكرة قتل موسى والخلاص منه ومن دعوته..
وكانت الكلمة الأولى في الاجتماع لفرعون ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ غافر:26.
ليبدد فرعون كل الأسباب الماضية في طيات كلامه، فهو يقول: دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إنني أنا الذي سأتولى قتله، فسكوتنا عليه أكثر من هذا سيجعل رسالته تنتشر، ويضم أعداداً أكثر وأكثر إلى صفوفه فيبدل دينكم –كما بدل دين زوجتي وخادمتي – أو يظهر في الأرض الفساد بتأليب الناس علينا.
ويبدو أن كلام فرعون - هذه المرة - لاقى قبولاً من أغلب الحاضرين في هذا الاجتماع؛ وسوف تتم عملية اغتيال موسى بالفعل.
فأوحى الله إلى موسى أن فرعون وملأه يدبرون الآن في اجتماعهم الأجواء لقتلك، فقال موسى عليه السلام طالباً العون والنصرة والحماية من الله: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ غافر:27، فقيض الله إنسانا أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة، واجتهد في إزالة ذلك الشر(1).
فقد كان من الحاضرين في هذا الاجتماع ﴿ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي من عائلته، بل ومن الرؤوس الكبيرة في الدولة فقد كان مستشاراً أو أميراً أو وزيراً أو قائد جند؛ وقد كتم إيمانه ليس عن جبن أو خوف، وإنما كان كتمان إيمانه لسياسة حكيمة، وتدبير محكم، لينفع موسى عندما يشعر أن الخطر يحيط به.
فلقد كان من تدبيره – وهو رجل سياسة ومُلك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه - مجلس إبداء الرأي، وعرض النصيحة، في معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها لا أكثر ولا أقلّ، ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون ومن حوله أذناً تسمع، وعقلاً يعقل، وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأي الذي يخلص به من بين تلك الآراء؛ ووقتها سيكون هو الذي يعطى الرأي ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!!
ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- سيقوم خطيباً يحتال في كلامه لدفع الملأ عن موسى, ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى, مخاطباً عقولهم وقلوبهم وفي آن واحد؛ مرة بالتخويف، ومرة بالإقناع، ومرة بأخذ العبرة من التاريخ، مستخدماً أغلب أساليب الإقناع، ومنهجيات وأسس الحوار الناجح المعروفة لدى الأكاديميين الآن.
محاولة الإقناع العقلي
فعندما قال فرعون ما قاله، وسكت الحضور إقراراً وتأييداً لما سوف يفعله فرعون، قام المؤمن يقول لهم: إنكم مقدمون على فعل فظيع ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ غافر:28، هل هذه الكلمة البريئة التي يرددها موسى، المتعلقة باعتقاد قلبه, واقتناع نفسه, تستحق القتل؟
ثم يخطو بهم خطوة أخرى، فيقول لهم: إن الذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾يقولها ومعه حجته, وفي يده برهانه ﴿ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض; ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية; تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه فيقول: ﴿ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعليهِ كَذِبُهُ﴾ غافر:28، فهو وحده الذي يتحمل تبعة عمله, ويلقى جزاءه, ويحتمل جريرته-إن كان كاذباً - فلماذا نقتله ؟!؛ ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقاً فيما يقول، فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا في دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث، فقد نجد فيها خيراً، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور، وهل ثمة بأس علينا إذا وجدنا خيراً فأخذنا بحظنا منه؟﴿ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يهددهم من طرف خفي, وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ غافر:28، فإذا كان موسى كاذباً فإن الله لن يهديه ولن يوفقه, فدعوه له يلاقي منه جزاءه؛ واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وتفترون عليه, فيصيبكم هذا المآل(1)!
العزف على وتر حب الوطن
ثم يسألهم قائلاً:﴿ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ اليوم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ ؟! غافر:29.
ولم يقل "فمن ينصركم" ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص، فهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاؤه ضعاف، وأنه يخاف على مصر القوية أن تسقط بسبب الإسراف في قتل الأبرياء.
ثم يسكت ولسان حاله يقول:هذا رأيي، وتلك نصيحتي لجناب الفرعون، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص له، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته - في كتم إيمانه - أن يَلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، في غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ، ليترك الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.
ولكن فرعون هو فرعون، يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة؛ تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص له افتئاتاً على سلطانه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان، فقد قال معقباً على كلام مستشاره: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر:29، إذ ليس لكم عندي في هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هي كلمتي الأولى والأخيرة، وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهِبُ عليكم فهل تشكّون في حمايتي، وحرصي على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
كلمات تدل دلالة واضحة على الفكر الإقصائي السلطوي الذي كان يحمله هذا الطاغية، فقوله ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، يعني أنه لا ينبغي أن يرى الناس إلا ما رآه، ولا يجوز لهم أن يفكروا إلا بتفكيره، ولا ينظروا إلا إلى موضع نظره، فهو على الصواب دائماً وغيره على الخطأ، وهو المبصر وهم العميان؛ كلامه رشاد وكلام غيره غي، هو كل شيء وغيره لا شيء.
حوار عاطفي لاستمالة القلوب
وتأذن هذه الكلمات من فرعون بانفضاض مجلس المشورة، والسماح لهم بالانصراف، فبادرهم المؤمن ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ..﴾ فقعد من همّ بالوقوف، وأنصت من كان يتكلم !!
ليتابع الرجل المؤمن حديثه، ويواصل ما انقطع منه - وكأنّ فرعون لم يقل شيئاً- فخرجت الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق، خشية أن ينزل عليهم عقاب من عند الله كما نزل على الذين من قبلهم، فقد كُتب عندهم في كتب التاريخ أن كل من قتلوا الأنبياء أو آذوهم عمهم الله بعذاب من عنده، فذكرهم الرجل بهذه السُنة﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ غافر:30، الذين أغرقهم الله بالطوفان، ﴿وَعادٍ﴾ الذين أهلكوا بالريح العقيم، ﴿وَثَمُودَ﴾ الذين الله بالصيحة ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ممن أهلكوا بأنواع أخرى من العذاب، جزاء تكذيبهم وتنكيلهم بأنبيائهم؛ فهل تنتظرون أن تكونوا مثلهم؟!﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ غافر:31
تذكرة بالمآل والمصير
ثم يحذرهم من يوم القيامة فيقول:﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ غافر:33، فكروا جيداً في هذا اليوم العصيب، واعملوا صالحاً من أجله، فلن ينفعكم أحد– إشارة إلى فرعون –في هذا اليوم إلا عملكم الصالح مع رحمة الله.
جولة تاريخية
ثم يذكرهم بتاريخ يوسف وما فعله أجدادهم من المصريين معه فيقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ غافر:34.
وهل موسى إلا من نسل آل يوسف؟ وهل جاء موسى بغير ما جاء به يوسف ؟!
ثم يسكت لينتظر ردهم، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، فكلام الرجل غاية في الإقناع؛ ودارت برءوس القوم عواصف البلبلة والحيرة، فيجد فرعون نفسه في مأزق جديد، فكلام مستشاره – المؤمن – قد لانت له عقول الملأ.
مراوغة مفضوحة
نظر فرعون إلى من حوله من الملأ قاطعاً حالة التفكير التي عمتهم، قائلاً:
في أي شيء تفكرون ؟ ﴿ يا أَيُّهَا الملأ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ﴾ القصص:38، فموسى الذي تدافعون عنه يتحدث عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأي أرض هي؟ إنه لا آلهة على الأرض غيري أنا!
أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ القصص:38، حتى إذا صار حجارة تصلح للبناء ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ غافر:36.
هزل في هزل، ليس فيه شيء من الجدّ.. إذ كيف يبني «هامان» صرحاً يرتفع به إلى السماء؟ وما المدة التي يستغرقها بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعاً من الأساس !!
إنها مماحكات وتعللّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه في قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون في حينه بالامتثال والطاعة، فهو لا يملك إلا أن يقول "تمام يافندم" كعادة العسكريين مع قادتهم، حتى وإن كان الأمر خطئاً أو غير جاد! ففي قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول، وإنما هي مناورة من مناورات حواره السلبي(1) للخروج من المأزق.. فلقد أصدر حكمه على موسى واتهمه بالكذب قبل أن يتحقق من وجود إلهه؛ فما الداعي إذاً لبناء الصرح ؟!
ولو كان جاداً لصعد الأهرامات(2) لينظر ويطلع – كما أراد – إنما هو الاستهتار من جهة، والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ غافر:37.
الكلمة الأخيرة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار والإصرار على الباطل؛ ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، ليدعو الملأ بكل وضوح إلى اتباعه في الطريق إلى الله، فهو طريق الرشاد ﴿ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ﴾ غافر:38، ليرد بوضوح وتحدٍ على فرعون الذي قال: «وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» غافر:29
ثم حاول أن يكشف لهم قيمة هذه الحياة الزائلة في الدنيا، وأن يشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، ويحذرهم عذاب الآخرة ويبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إليه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾غافر:43
التدبير لاغتيال المستشار
ثم بعد هذا البيان الواضح الذي واجه به فرعون وملأه بلا تردد ولا تلعثم - بعد ما كان يكتم إيمانه - لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله، وقد قال كلمته وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر:44، ثم قام وترك اجتماعهم وانصرف!
فنظر فرعون إلى هامان، نظرة الإذن في التخلص منه؛ فتعقبوه فلم يصلوا إليه ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ غافر:45، فقد فر الرجل إلى الجبال، تاركاً قصره ومكانته الاجتماعية، ووظيفته السيادية، وراء ظهره راغباً في جوار الله، وظل على حالته هذه عدة سنوات – ملاحقاً ومطارداً - حتى أذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فخرج معهم(1).
ولما كان من الصعب – كما تبين – اغتيال موسى عليه السلام، بدأ فرعون وملؤه يفكرون في القضاء على دعوة موسى ذاتياً، لتدمر الدعوة نفسها بنفسها، وذلك بتفكيك الصف الداخلي لهذه الجماعة المؤمنة، والتشكيك في قائدها وتشويه صورته أمامهم، مستخدمين لتحقيق هذا الهدف أحد أفراد بني إسرائيل؛ وقد كان هذا الرجل ابن عم موسى ومن الفئة القريبة منه يوماً من الأيام
إنه قارون ...المزيد
الآن فرعون في اجتماع وزاري موسع يضم عدداً من مستشاريه؛ الغرض منه هو اقتراح حل أمثل للتخلص من موسى، فالتضييق على موسى لا يثنيه من الحديث مع الناس ليل نهار، وتقتيل أبناء الذين آمنوا معه زادهم إصراراً على التمسك بدينهم وكرها لفرعون ونظامه!
فما الحل ؟ وقد سبق – فيما أشرنا- عرض فكرة قتل موسى على طاولة المناقشة في اجتماع سابق لهم بعد أحداث يوم الزينة، ولاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة - من ناحية الرأي- للأسباب السابق ذكرها؛ تلك الأسباب التي جعلتهم يفكرون ألف مرة قبل أن يقدموا على محاولة قتل موسى؛ لكنهم اليوم في اجتماع مع فرعون لمناقشة هذه الأسباب من جديد، وطرح فكرة قتل موسى والخلاص منه ومن دعوته..
وكانت الكلمة الأولى في الاجتماع لفرعون ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ غافر:26.
ليبدد فرعون كل الأسباب الماضية في طيات كلامه، فهو يقول: دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إنني أنا الذي سأتولى قتله، فسكوتنا عليه أكثر من هذا سيجعل رسالته تنتشر، ويضم أعداداً أكثر وأكثر إلى صفوفه فيبدل دينكم –كما بدل دين زوجتي وخادمتي – أو يظهر في الأرض الفساد بتأليب الناس علينا.
ويبدو أن كلام فرعون - هذه المرة - لاقى قبولاً من أغلب الحاضرين في هذا الاجتماع؛ وسوف تتم عملية اغتيال موسى بالفعل.
فأوحى الله إلى موسى أن فرعون وملأه يدبرون الآن في اجتماعهم الأجواء لقتلك، فقال موسى عليه السلام طالباً العون والنصرة والحماية من الله: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ غافر:27، فقيض الله إنسانا أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة، واجتهد في إزالة ذلك الشر(1).
فقد كان من الحاضرين في هذا الاجتماع ﴿ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي من عائلته، بل ومن الرؤوس الكبيرة في الدولة فقد كان مستشاراً أو أميراً أو وزيراً أو قائد جند؛ وقد كتم إيمانه ليس عن جبن أو خوف، وإنما كان كتمان إيمانه لسياسة حكيمة، وتدبير محكم، لينفع موسى عندما يشعر أن الخطر يحيط به.
فلقد كان من تدبيره – وهو رجل سياسة ومُلك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه - مجلس إبداء الرأي، وعرض النصيحة، في معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها لا أكثر ولا أقلّ، ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون ومن حوله أذناً تسمع، وعقلاً يعقل، وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأي الذي يخلص به من بين تلك الآراء؛ ووقتها سيكون هو الذي يعطى الرأي ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!!
ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- سيقوم خطيباً يحتال في كلامه لدفع الملأ عن موسى, ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى, مخاطباً عقولهم وقلوبهم وفي آن واحد؛ مرة بالتخويف، ومرة بالإقناع، ومرة بأخذ العبرة من التاريخ، مستخدماً أغلب أساليب الإقناع، ومنهجيات وأسس الحوار الناجح المعروفة لدى الأكاديميين الآن.
محاولة الإقناع العقلي
فعندما قال فرعون ما قاله، وسكت الحضور إقراراً وتأييداً لما سوف يفعله فرعون، قام المؤمن يقول لهم: إنكم مقدمون على فعل فظيع ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ غافر:28، هل هذه الكلمة البريئة التي يرددها موسى، المتعلقة باعتقاد قلبه, واقتناع نفسه, تستحق القتل؟
ثم يخطو بهم خطوة أخرى، فيقول لهم: إن الذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾يقولها ومعه حجته, وفي يده برهانه ﴿ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض; ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية; تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه فيقول: ﴿ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعليهِ كَذِبُهُ﴾ غافر:28، فهو وحده الذي يتحمل تبعة عمله, ويلقى جزاءه, ويحتمل جريرته-إن كان كاذباً - فلماذا نقتله ؟!؛ ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقاً فيما يقول، فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا في دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث، فقد نجد فيها خيراً، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور، وهل ثمة بأس علينا إذا وجدنا خيراً فأخذنا بحظنا منه؟﴿ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ غافر:28.
ثم يهددهم من طرف خفي, وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ غافر:28، فإذا كان موسى كاذباً فإن الله لن يهديه ولن يوفقه, فدعوه له يلاقي منه جزاءه؛ واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وتفترون عليه, فيصيبكم هذا المآل(1)!
العزف على وتر حب الوطن
ثم يسألهم قائلاً:﴿ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ اليوم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ ؟! غافر:29.
ولم يقل "فمن ينصركم" ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص، فهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاؤه ضعاف، وأنه يخاف على مصر القوية أن تسقط بسبب الإسراف في قتل الأبرياء.
ثم يسكت ولسان حاله يقول:هذا رأيي، وتلك نصيحتي لجناب الفرعون، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص له، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته - في كتم إيمانه - أن يَلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، في غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ، ليترك الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.
ولكن فرعون هو فرعون، يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة؛ تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص له افتئاتاً على سلطانه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان، فقد قال معقباً على كلام مستشاره: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر:29، إذ ليس لكم عندي في هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هي كلمتي الأولى والأخيرة، وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهِبُ عليكم فهل تشكّون في حمايتي، وحرصي على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
كلمات تدل دلالة واضحة على الفكر الإقصائي السلطوي الذي كان يحمله هذا الطاغية، فقوله ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، يعني أنه لا ينبغي أن يرى الناس إلا ما رآه، ولا يجوز لهم أن يفكروا إلا بتفكيره، ولا ينظروا إلا إلى موضع نظره، فهو على الصواب دائماً وغيره على الخطأ، وهو المبصر وهم العميان؛ كلامه رشاد وكلام غيره غي، هو كل شيء وغيره لا شيء.
حوار عاطفي لاستمالة القلوب
وتأذن هذه الكلمات من فرعون بانفضاض مجلس المشورة، والسماح لهم بالانصراف، فبادرهم المؤمن ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ..﴾ فقعد من همّ بالوقوف، وأنصت من كان يتكلم !!
ليتابع الرجل المؤمن حديثه، ويواصل ما انقطع منه - وكأنّ فرعون لم يقل شيئاً- فخرجت الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق، خشية أن ينزل عليهم عقاب من عند الله كما نزل على الذين من قبلهم، فقد كُتب عندهم في كتب التاريخ أن كل من قتلوا الأنبياء أو آذوهم عمهم الله بعذاب من عنده، فذكرهم الرجل بهذه السُنة﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ غافر:30، الذين أغرقهم الله بالطوفان، ﴿وَعادٍ﴾ الذين أهلكوا بالريح العقيم، ﴿وَثَمُودَ﴾ الذين الله بالصيحة ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ممن أهلكوا بأنواع أخرى من العذاب، جزاء تكذيبهم وتنكيلهم بأنبيائهم؛ فهل تنتظرون أن تكونوا مثلهم؟!﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ غافر:31
تذكرة بالمآل والمصير
ثم يحذرهم من يوم القيامة فيقول:﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ غافر:33، فكروا جيداً في هذا اليوم العصيب، واعملوا صالحاً من أجله، فلن ينفعكم أحد– إشارة إلى فرعون –في هذا اليوم إلا عملكم الصالح مع رحمة الله.
جولة تاريخية
ثم يذكرهم بتاريخ يوسف وما فعله أجدادهم من المصريين معه فيقول: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ غافر:34.
وهل موسى إلا من نسل آل يوسف؟ وهل جاء موسى بغير ما جاء به يوسف ؟!
ثم يسكت لينتظر ردهم، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، فكلام الرجل غاية في الإقناع؛ ودارت برءوس القوم عواصف البلبلة والحيرة، فيجد فرعون نفسه في مأزق جديد، فكلام مستشاره – المؤمن – قد لانت له عقول الملأ.
مراوغة مفضوحة
نظر فرعون إلى من حوله من الملأ قاطعاً حالة التفكير التي عمتهم، قائلاً:
في أي شيء تفكرون ؟ ﴿ يا أَيُّهَا الملأ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ﴾ القصص:38، فموسى الذي تدافعون عنه يتحدث عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأي أرض هي؟ إنه لا آلهة على الأرض غيري أنا!
أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ القصص:38، حتى إذا صار حجارة تصلح للبناء ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ غافر:36.
هزل في هزل، ليس فيه شيء من الجدّ.. إذ كيف يبني «هامان» صرحاً يرتفع به إلى السماء؟ وما المدة التي يستغرقها بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعاً من الأساس !!
إنها مماحكات وتعللّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه في قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون في حينه بالامتثال والطاعة، فهو لا يملك إلا أن يقول "تمام يافندم" كعادة العسكريين مع قادتهم، حتى وإن كان الأمر خطئاً أو غير جاد! ففي قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول، وإنما هي مناورة من مناورات حواره السلبي(1) للخروج من المأزق.. فلقد أصدر حكمه على موسى واتهمه بالكذب قبل أن يتحقق من وجود إلهه؛ فما الداعي إذاً لبناء الصرح ؟!
ولو كان جاداً لصعد الأهرامات(2) لينظر ويطلع – كما أراد – إنما هو الاستهتار من جهة، والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ غافر:37.
الكلمة الأخيرة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار والإصرار على الباطل؛ ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، ليدعو الملأ بكل وضوح إلى اتباعه في الطريق إلى الله، فهو طريق الرشاد ﴿ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ﴾ غافر:38، ليرد بوضوح وتحدٍ على فرعون الذي قال: «وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» غافر:29
ثم حاول أن يكشف لهم قيمة هذه الحياة الزائلة في الدنيا، وأن يشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، ويحذرهم عذاب الآخرة ويبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إليه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾غافر:43
التدبير لاغتيال المستشار
ثم بعد هذا البيان الواضح الذي واجه به فرعون وملأه بلا تردد ولا تلعثم - بعد ما كان يكتم إيمانه - لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله، وقد قال كلمته وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر:44، ثم قام وترك اجتماعهم وانصرف!
فنظر فرعون إلى هامان، نظرة الإذن في التخلص منه؛ فتعقبوه فلم يصلوا إليه ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ غافر:45، فقد فر الرجل إلى الجبال، تاركاً قصره ومكانته الاجتماعية، ووظيفته السيادية، وراء ظهره راغباً في جوار الله، وظل على حالته هذه عدة سنوات – ملاحقاً ومطارداً - حتى أذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فخرج معهم(1).
ولما كان من الصعب – كما تبين – اغتيال موسى عليه السلام، بدأ فرعون وملؤه يفكرون في القضاء على دعوة موسى ذاتياً، لتدمر الدعوة نفسها بنفسها، وذلك بتفكيك الصف الداخلي لهذه الجماعة المؤمنة، والتشكيك في قائدها وتشويه صورته أمامهم، مستخدمين لتحقيق هذا الهدف أحد أفراد بني إسرائيل؛ وقد كان هذا الرجل ابن عم موسى ومن الفئة القريبة منه يوماً من الأيام
إنه قارون ...المزيد
الإيمان يتسلل إلى قصر فرعون "ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ بليت سياطك ...
الإيمان يتسلل إلى قصر فرعون
"ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ
بليت سياطك والعزائم لم تزل .. منّا كحدّ الصارم المسنونِ
إنا لعمري إن صمتنا برهةً .. فالنار في البركان ذات كمونِ
تالله ما الطغيان يهزم دعوةً .. يوماً وفي التاريخ برُّ يمينِ"(1)
لم يعلم فرعون أن الإيمان الذي يحاربه قد تسرب إلى خاصة أهل بيته، فزوجته وابن عمه وماشطة ابنته كلهم قد آمنوا، ولكنهم كانوا يخفون إيمانهم !
إسلام ماشطة بنت فرعون
في يوم من الأيام – بعد مذبحة يوم الزينة – كانت الماشطة تمشط شعر ابنته وتزينه، فوقع المشط من يدها، فقالت بتلقائية القلب الذي نضح منه الإيمان: بسم الله !
فقالت ابنته لها في ابتسامة واستفهام: هل تقصدين أبى؟!
فقالت المرأة لها: لا، بل ربي وربك ورب أبيك هو الله.
فقالت: هل اتخذت إلاهاً غير أبي ؟
فقالت لها: نعم ، لأن أباكِ ليس إلها ، بل هو بشر مثلنا.
فقالت:لأُخبرن بذلك أبي؟
وذهبت البنت لفرعون وحكت له الذي حدث بينها وبين الماشطة، فغضب فرعون غضباً شديداً وأصدر قراراً بضبطها وإحضارها فوراً؛ فلما وقفت بين يديه سألها فقال: من ربك؟
فقالت بثبات ويقين: ربي وربك في السماء يا فرعون.
التعذيب البدني
فأمر فرعون جنده برميها في السجن، فضربوها وسحلوها وعذبوها لعلها بعد التعذيب تعود إلى عبادتها له مرة أخرى، ولكنها أصرت على الإيمان بالله.
ويتلقى فرعون التقارير الأمنية عنها، ليفاجأ بفشله مجدداً في انتزاع الإيمان من قلوب المؤمنين، فقرر أن يحاول بنفسه هذه المرة، ويتم التعذيب تحت عينه ورعايته
فقال فرعون للجنود: ألها أولاد؟
فقالوا له: نعم لها أربعة أحدهم ما زال طفلاً رضيعاً.
فقال فرعون: أشعلوا ناراً ببقرة من نحاس –إناء ضخم فيه زيت- حتى إذا غلى الزيت، ائتوني بها وبأولادها !
وبالفعل جاءوا بالإناء وأشعلوا تحته النار، وحمي على الزيت الذي بداخله، وأخرجوها من السجن وجروها أمام الإناء وطالبوها بالرجوع عن دينها، فرفضت؛ فأدخلوا عليها أولادها الصغار تدور أعينهم لا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تجمعوا حولها وتعلقوا بها وظلوا يبكون، فبكت لبكائهم وأقبلت عليهم تُقبلهم، وتبكي لفزعهم، ثم أخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها.
التعذيب النفسي
فقالوا لها: ارحمي أولادك الصغار وعودي إلى ما كنتِ عليه.
فرفضت وقالت: ربي وربكم الله.
فلما رأى فرعون إصرارها أومأ برأسه للجنود، فأخذوا أكبر أولادها سناً وجروه نحو الإناء، وقيدوا يديه وقدميه، والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون،يحاول الفكاك والهرب، ينادي أخوته الصغار ويضرب الجنود بيديه، وهم يصفعونه على وجهه، وأمه تنظر إليه تودعه وعيناها تبكيان وليس على لسانها إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
وما هي إلا لحظات حتى غُيّب الغلام في الزيت، فذاب لحمه من على جسمه النحيل وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، وأخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، والأم في حال انهيار تام.
ثم قام فرعون من على كرسيه، يحوم حولها وحول أطفالها وهو يقول: ألك رب سواي ؟!
لتصرخ المرأة قائلة: ربي وربك الله يا فرعون.
فيزاد فرعون خزياً على خزيه، وفشلاً على فشله.. إنه يأمل ولو أن تنطق كلمة.. أي كلمة! ولو من وراء قلبها، ولكنها ترفض وتمانع؛ فأمر جنده أن يجروا ولدها الثاني ليلحق بأخيه
فسحبوه من حضن أمه وهو يبكي ويستغيث، وما هي إلا لحظات .. حتى أُلقي في الزيت وطفت عظامه إلى جوار عظام أخيه .. والأم تنظر إليه ولا تصدق ما يحدث حولها.. أي بشاعة هذه، وأي قسوة تلك! لتستفيق من ذهولها وابنها الثالث متشبث بأثوابها، ودموعه تجري على رجليها، وهم يسحبونه منها..
إنه طفل صغير.. فتحاول الأم أن تنتزعه من أيديهم وتحمله مع أخيه الرضيع، فلم تتمالك! فحاولت أن تودعه، وتقبله وتشمه، قبل أن يفارقها، فلم تستطع!
فحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومه، وهم لا يرحمونه.. وما هي إلا لحظات.. حتى غرق الصغير بالزيت المغلي وغاب جسده النحيل وانقطع صوته الملائكي، وشمت أمه رائحة لحمه وهو يحترق وقد علت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت يتقلب بها !
لحظات يعجز القلم عن رصد مرارتها وقسوتها على قلب أم
جريمتها الوحيدة أنها آمنت بالله!
ثم ينظر فرعون إليها وهو يقول: هل مازلت على دينك؟ ألا ترحمين طفلك الرضيع الذي على يديك؟ أما آن لك أن تعقلي وتعودي إلى دين آبائك وأجدادك ؟!
لتنظر إليه الأم المسكينة بعينين ممتلئتين بالدموع، وترد بصوت محبوس في صدرها: بل ربي وربك الله يا فرعون ! فتنزل هذه الكلمات عليه كنزول السياط الملتهبة، فيصرخ بأعلى صوته: خذوا رضيعها وارموه مع إخوته.
وقد كان الطفل يبكي ملتقماً ثدي أمه، التي لم تفتأ تبكي على إخوته الذين لم يعد منهم إلا عظامهم الطافية في إناء الزيت؛ ويتدافع الجنود نحوها.. ينتزعون صغيرها من يديها وفي فمه بقايا حليب من ثديها.. وعلى أثوابه قطرات من دموعها.. يتوجهون به نحو الإناء..
الأم تسقط على الأرض.. فما تراه لا تطيق حمله الجبال الرواسي.. يرفعون الطفل ليلقوه في الزيت .. والأم يراودها شيطانها أن تقول ما يريدونه منها؛ رحمة بطفلها الرضيع.. وما تحركت شفتاها حتى تدخلت عناية السماء فنطق الطفل بصوت مفهوم قائلاً:
اثبتي يا أماه فإنك على الحق، وإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة.
ثم ألقي في الزيت.. ليرحل مع إخوته الصغار، وهاهي عظامهم يلوح بها القِدر، ولحمهم يفور به الزيت،وتنظر المسكينة إلى هذه العظام.. إنها عظام أولادها، اللذين ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً.. إنهم فلذات كبدها .. لكم سهرت من أجل رعايتهم، وكدت وتعبت من أجل قضاء حاجاتهم .. ثم هاهم اليوم ينتزعون من بين يديها ويقتلون أمام ناظريها !!
أي قلب قلبها .. وأي ثبات ثباتها ؟!
الآن لم يعد لها في الدنيا ما تحرص عليه، فمسحت دموعها بيدها، واستجمعت ما تبقى من قواها، وقامت من على الأرض لتقف في عزة المؤمن الذي يرى الخير فيما ابتلاه الله به، تنتظر دورها في القتل، فلما توجه الجنود نحوها ليُلحقوها بأولادها قالت لفرعون: إن لي عندك حاجه أريدك أن تقضيها لي.
فقال فرعون: وما هي ؟!
قالت: أن تجمعوا عظامي وعظام أولادي فتدفنوها في مكان واحد.
فقال لها: لك ذلك !
فأغمضت عينيها وألقيت في القدر مع أولادها واحترق جسدها وطفت عظامها، فلله درها ما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها، وبعد هذه الحادثة بأكثر من 1500 عام رأى النبي ليلة الإسراء شيئاً من النعيم الذي أعده الله لها؛ فحدث به أصحابه فقال لهم: (( لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ على رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا ". قَالَ: " قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا.
فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إليكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ علينا مِنَ الحَقِّ ".
قَالَ: " فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ " قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ "(2).
إسلام آسية بنت مزاحم
لا تمر الأيام على فرعون إلا ويفاجأ بإسلام فرد جديد من أفراد رعيته؛ فما هي إلا أيام قليلة ولحقت بماشطة ابنة فرعون، زوجته آسية بنت مزاحم(1)، تلك المرأة التي نشأتْ ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان، وطاعة الأتباع والرعية، فهي زوجة فرعون الذي اغترَّ بسعة ملكه وقوة جنده، ولكنها لم تغتر بكونها ملكة، ولم يصرفها ذلك عن الإيمان بالله عز وجل حين رأت الآيات البينات، فآمنت بربها وصدَّقت برسالة موسى فقد أضاء الإيمان فؤادها يوم الزينة؛ فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه الحياة التي تحياها، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلاً للذين آمنوا، فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ..﴾[التحريم: 11].
فأصبحت– بإيمانها - نموذجًا في الصلاح والتُّقى والبراءة من الظلمِ وأهلِهِ، والنفورِ من الطغاة، والرغبة الصادقة في هجرِ هذه الحياةِ المتْرَفةِ، إلى حياة الأنس بالله.
آسية والميلاد الجديد
ولما علم فرعون بخبر إسلامها، جُن جنونه .. فهددها وتوعدها لئن لم ترجع عما تعتقده ليقتلنها شر قتلة؛ فلم تفلح تهديدات فرعون ولا وعيده في إبعادها عن طريق الحق والهدى، فأمر بحبسها؛ فأدخلوها في سجن ضيق - غير آدمي - تاركة القصر بزينته وخدمه وحشمه، لتبدأ في مرحلة جديدة من حياتها؛ فبعد عيش التجمُّل، جاءت حياة التحمُّل، والفارق بينهما كالفارق بين الحي والميت سواء بسواء، ولقد عبر القرآن عن الفترة التي يقضيها الإنسان بعيداً عن ربه، غير مدرك لحقيقة الغاية التي خلق من أجلها بأنها معيشة ضنك! فمهما تقلب فيها مع النعيم، ومهما تذوق فيها أنواع المتع هي معيشة ضنك ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ طه:124.
معيشة في صورة حياة؛ ولكن أصحابها في الحقيقة ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ النحل:21، إلى أن يولدوا ميلاداً جديداً، بعدما يُنفخُ في أرواحهم بالإيمان لتحيا ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:122
فيعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! وعندها تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، ولو كانت سجناً ضيقاً، كُبل فيه صاحبه بالقيود والأغلال.
وما أحلاها من حياة – مهما كانت صعبة – أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟
استعذاب العذاب
وبعدما دخلت آسية السجن، وثبتت على إسلامها(1) ولم تتراجع، أشرف فرعون على عذابها بنفسه، فأمر جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، وضربها بالسياط على جسدها، وهى صابرة محتسبة على ما تجد من ألم العذاب، فأمر بوضع رحًى على صدرها - لا يقوى الرجلان على حملها- وهي صامدة ومستعذبة العذاب، من أجل رضا الله عنها!
وبعد أيام من الجلد والشبِحِ والتعذيب تحت حرارة الشمس، في ظل صمود وصبر وثبات على الدين، اشتاقت إلى جوار الله في الجنة فرفعت يديها قائلة: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ التحريم:11
فطلبتِ الجارَ قبل الدارِ.
إني لأحْسِدُ جارَكُمْ لجوارِكُمْ طوبَى لمن أَضْحَى لدَارِكَ جَارًا
يا ليتَ جارَكَ باعَنِي من دارِهِ شبرًا لأُعطِيه بشبرٍ دارًا
فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ وهي تبتسم ضاحكة لما تراه من نعيم ذاهبة إليه في جوار ربها!
ولمَ لا تبتسم وتضحك.. وقد تركت لقب "سيدة مصر الأولى" لتنضم إلى قائمة "سيدة نساء العالمين"(1) وتحظى بلقب"أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ"(2).
ولمَ لا تبتسم وتضحك ساخرة من زوجها فرعون الذي اتهمها بالجنون رغم أنها في الحقيقة "أكمل الناس عقلاً"(3).
لقد ماتت آسية.. وتركت لنا مثالاً يحتذى به للمرأة الصابرة المجاهدة التي تقول الحق ولا تخشى في الله لومة لائم، لتضع بصمودها وشجاعتها وصمة عار على جبين كل جبان خائر العزم.
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا .. لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ .. عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ (1)
بهؤلاء ينبغي أن نفتخر
هناك من المصريين حتى الآن من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي تقرؤون الآن بعض أشكال إجرامه مع أبناء شعبه، ناهيك عن إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجل بناءها الشعب لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به!.
وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن اللَّه ذكر في القرآن ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكره لمصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام !
وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، الذي هو نهر من أنهار الجنة(1)، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل.
ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الافتخار والاعتزاز بالإنسان المصري المسلم نفسه! بالسحرة المصريين الذين وقفوا بكل ثبات أمام أعتى طاغية عرفته البشرية، بالماشطة البسيطة التي قدمت أولادها فداء لدينها وعزتها، بآسية المصرية التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل دينها وحريتها؛ بهؤلاء جميعاً ينبغي أن يفتخر المصريون.
فرعون يعذب نفسياً
لقد أحب فرعون آسية حباً لا يوصف – فقد نزل على رأيها ولم يقتل موسى من قبل – وقتله لها اليوم عذبه نفسياً، فهو لم يكن يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، وما أراد من تعذيبها سوى أن ترجع إلى سلطانه وتنقاد تحت إمرته، ولكن أتته الريح بما لم يشتهِ، ليقوض الله ملكه كل يوم أمام عينيه، فبالأمس قتل آلاف السحرة من كهنة المعابد، ثم قتل الماشطة، ثم قتل زوجته آسية المحببة إلى قلبه، وبات في كل يوم يستعدي الناس عليها؛ ويقف عاجزاً أمام الزحف الإسلامي، فعذابه الذي يصبه على أتباع موسى لا يثني الناس عن الإيمان به واتباع منهجه ولو سراً، وأشباح ضحاياه تؤرق ليله ونهاره وتتوعده بالانتقام. ...المزيد
"ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ
بليت سياطك والعزائم لم تزل .. منّا كحدّ الصارم المسنونِ
إنا لعمري إن صمتنا برهةً .. فالنار في البركان ذات كمونِ
تالله ما الطغيان يهزم دعوةً .. يوماً وفي التاريخ برُّ يمينِ"(1)
لم يعلم فرعون أن الإيمان الذي يحاربه قد تسرب إلى خاصة أهل بيته، فزوجته وابن عمه وماشطة ابنته كلهم قد آمنوا، ولكنهم كانوا يخفون إيمانهم !
إسلام ماشطة بنت فرعون
في يوم من الأيام – بعد مذبحة يوم الزينة – كانت الماشطة تمشط شعر ابنته وتزينه، فوقع المشط من يدها، فقالت بتلقائية القلب الذي نضح منه الإيمان: بسم الله !
فقالت ابنته لها في ابتسامة واستفهام: هل تقصدين أبى؟!
فقالت المرأة لها: لا، بل ربي وربك ورب أبيك هو الله.
فقالت: هل اتخذت إلاهاً غير أبي ؟
فقالت لها: نعم ، لأن أباكِ ليس إلها ، بل هو بشر مثلنا.
فقالت:لأُخبرن بذلك أبي؟
وذهبت البنت لفرعون وحكت له الذي حدث بينها وبين الماشطة، فغضب فرعون غضباً شديداً وأصدر قراراً بضبطها وإحضارها فوراً؛ فلما وقفت بين يديه سألها فقال: من ربك؟
فقالت بثبات ويقين: ربي وربك في السماء يا فرعون.
التعذيب البدني
فأمر فرعون جنده برميها في السجن، فضربوها وسحلوها وعذبوها لعلها بعد التعذيب تعود إلى عبادتها له مرة أخرى، ولكنها أصرت على الإيمان بالله.
ويتلقى فرعون التقارير الأمنية عنها، ليفاجأ بفشله مجدداً في انتزاع الإيمان من قلوب المؤمنين، فقرر أن يحاول بنفسه هذه المرة، ويتم التعذيب تحت عينه ورعايته
فقال فرعون للجنود: ألها أولاد؟
فقالوا له: نعم لها أربعة أحدهم ما زال طفلاً رضيعاً.
فقال فرعون: أشعلوا ناراً ببقرة من نحاس –إناء ضخم فيه زيت- حتى إذا غلى الزيت، ائتوني بها وبأولادها !
وبالفعل جاءوا بالإناء وأشعلوا تحته النار، وحمي على الزيت الذي بداخله، وأخرجوها من السجن وجروها أمام الإناء وطالبوها بالرجوع عن دينها، فرفضت؛ فأدخلوا عليها أولادها الصغار تدور أعينهم لا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تجمعوا حولها وتعلقوا بها وظلوا يبكون، فبكت لبكائهم وأقبلت عليهم تُقبلهم، وتبكي لفزعهم، ثم أخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها.
التعذيب النفسي
فقالوا لها: ارحمي أولادك الصغار وعودي إلى ما كنتِ عليه.
فرفضت وقالت: ربي وربكم الله.
فلما رأى فرعون إصرارها أومأ برأسه للجنود، فأخذوا أكبر أولادها سناً وجروه نحو الإناء، وقيدوا يديه وقدميه، والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون،يحاول الفكاك والهرب، ينادي أخوته الصغار ويضرب الجنود بيديه، وهم يصفعونه على وجهه، وأمه تنظر إليه تودعه وعيناها تبكيان وليس على لسانها إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
وما هي إلا لحظات حتى غُيّب الغلام في الزيت، فذاب لحمه من على جسمه النحيل وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، وأخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، والأم في حال انهيار تام.
ثم قام فرعون من على كرسيه، يحوم حولها وحول أطفالها وهو يقول: ألك رب سواي ؟!
لتصرخ المرأة قائلة: ربي وربك الله يا فرعون.
فيزاد فرعون خزياً على خزيه، وفشلاً على فشله.. إنه يأمل ولو أن تنطق كلمة.. أي كلمة! ولو من وراء قلبها، ولكنها ترفض وتمانع؛ فأمر جنده أن يجروا ولدها الثاني ليلحق بأخيه
فسحبوه من حضن أمه وهو يبكي ويستغيث، وما هي إلا لحظات .. حتى أُلقي في الزيت وطفت عظامه إلى جوار عظام أخيه .. والأم تنظر إليه ولا تصدق ما يحدث حولها.. أي بشاعة هذه، وأي قسوة تلك! لتستفيق من ذهولها وابنها الثالث متشبث بأثوابها، ودموعه تجري على رجليها، وهم يسحبونه منها..
إنه طفل صغير.. فتحاول الأم أن تنتزعه من أيديهم وتحمله مع أخيه الرضيع، فلم تتمالك! فحاولت أن تودعه، وتقبله وتشمه، قبل أن يفارقها، فلم تستطع!
فحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومه، وهم لا يرحمونه.. وما هي إلا لحظات.. حتى غرق الصغير بالزيت المغلي وغاب جسده النحيل وانقطع صوته الملائكي، وشمت أمه رائحة لحمه وهو يحترق وقد علت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت يتقلب بها !
لحظات يعجز القلم عن رصد مرارتها وقسوتها على قلب أم
جريمتها الوحيدة أنها آمنت بالله!
ثم ينظر فرعون إليها وهو يقول: هل مازلت على دينك؟ ألا ترحمين طفلك الرضيع الذي على يديك؟ أما آن لك أن تعقلي وتعودي إلى دين آبائك وأجدادك ؟!
لتنظر إليه الأم المسكينة بعينين ممتلئتين بالدموع، وترد بصوت محبوس في صدرها: بل ربي وربك الله يا فرعون ! فتنزل هذه الكلمات عليه كنزول السياط الملتهبة، فيصرخ بأعلى صوته: خذوا رضيعها وارموه مع إخوته.
وقد كان الطفل يبكي ملتقماً ثدي أمه، التي لم تفتأ تبكي على إخوته الذين لم يعد منهم إلا عظامهم الطافية في إناء الزيت؛ ويتدافع الجنود نحوها.. ينتزعون صغيرها من يديها وفي فمه بقايا حليب من ثديها.. وعلى أثوابه قطرات من دموعها.. يتوجهون به نحو الإناء..
الأم تسقط على الأرض.. فما تراه لا تطيق حمله الجبال الرواسي.. يرفعون الطفل ليلقوه في الزيت .. والأم يراودها شيطانها أن تقول ما يريدونه منها؛ رحمة بطفلها الرضيع.. وما تحركت شفتاها حتى تدخلت عناية السماء فنطق الطفل بصوت مفهوم قائلاً:
اثبتي يا أماه فإنك على الحق، وإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة.
ثم ألقي في الزيت.. ليرحل مع إخوته الصغار، وهاهي عظامهم يلوح بها القِدر، ولحمهم يفور به الزيت،وتنظر المسكينة إلى هذه العظام.. إنها عظام أولادها، اللذين ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً.. إنهم فلذات كبدها .. لكم سهرت من أجل رعايتهم، وكدت وتعبت من أجل قضاء حاجاتهم .. ثم هاهم اليوم ينتزعون من بين يديها ويقتلون أمام ناظريها !!
أي قلب قلبها .. وأي ثبات ثباتها ؟!
الآن لم يعد لها في الدنيا ما تحرص عليه، فمسحت دموعها بيدها، واستجمعت ما تبقى من قواها، وقامت من على الأرض لتقف في عزة المؤمن الذي يرى الخير فيما ابتلاه الله به، تنتظر دورها في القتل، فلما توجه الجنود نحوها ليُلحقوها بأولادها قالت لفرعون: إن لي عندك حاجه أريدك أن تقضيها لي.
فقال فرعون: وما هي ؟!
قالت: أن تجمعوا عظامي وعظام أولادي فتدفنوها في مكان واحد.
فقال لها: لك ذلك !
فأغمضت عينيها وألقيت في القدر مع أولادها واحترق جسدها وطفت عظامها، فلله درها ما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها، وبعد هذه الحادثة بأكثر من 1500 عام رأى النبي ليلة الإسراء شيئاً من النعيم الذي أعده الله لها؛ فحدث به أصحابه فقال لهم: (( لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ على رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا ". قَالَ: " قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا.
فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إليكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ علينا مِنَ الحَقِّ ".
قَالَ: " فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ " قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ "(2).
إسلام آسية بنت مزاحم
لا تمر الأيام على فرعون إلا ويفاجأ بإسلام فرد جديد من أفراد رعيته؛ فما هي إلا أيام قليلة ولحقت بماشطة ابنة فرعون، زوجته آسية بنت مزاحم(1)، تلك المرأة التي نشأتْ ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان، وطاعة الأتباع والرعية، فهي زوجة فرعون الذي اغترَّ بسعة ملكه وقوة جنده، ولكنها لم تغتر بكونها ملكة، ولم يصرفها ذلك عن الإيمان بالله عز وجل حين رأت الآيات البينات، فآمنت بربها وصدَّقت برسالة موسى فقد أضاء الإيمان فؤادها يوم الزينة؛ فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه الحياة التي تحياها، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلاً للذين آمنوا، فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ..﴾[التحريم: 11].
فأصبحت– بإيمانها - نموذجًا في الصلاح والتُّقى والبراءة من الظلمِ وأهلِهِ، والنفورِ من الطغاة، والرغبة الصادقة في هجرِ هذه الحياةِ المتْرَفةِ، إلى حياة الأنس بالله.
آسية والميلاد الجديد
ولما علم فرعون بخبر إسلامها، جُن جنونه .. فهددها وتوعدها لئن لم ترجع عما تعتقده ليقتلنها شر قتلة؛ فلم تفلح تهديدات فرعون ولا وعيده في إبعادها عن طريق الحق والهدى، فأمر بحبسها؛ فأدخلوها في سجن ضيق - غير آدمي - تاركة القصر بزينته وخدمه وحشمه، لتبدأ في مرحلة جديدة من حياتها؛ فبعد عيش التجمُّل، جاءت حياة التحمُّل، والفارق بينهما كالفارق بين الحي والميت سواء بسواء، ولقد عبر القرآن عن الفترة التي يقضيها الإنسان بعيداً عن ربه، غير مدرك لحقيقة الغاية التي خلق من أجلها بأنها معيشة ضنك! فمهما تقلب فيها مع النعيم، ومهما تذوق فيها أنواع المتع هي معيشة ضنك ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ طه:124.
معيشة في صورة حياة؛ ولكن أصحابها في الحقيقة ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ النحل:21، إلى أن يولدوا ميلاداً جديداً، بعدما يُنفخُ في أرواحهم بالإيمان لتحيا ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:122
فيعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! وعندها تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، ولو كانت سجناً ضيقاً، كُبل فيه صاحبه بالقيود والأغلال.
وما أحلاها من حياة – مهما كانت صعبة – أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟
استعذاب العذاب
وبعدما دخلت آسية السجن، وثبتت على إسلامها(1) ولم تتراجع، أشرف فرعون على عذابها بنفسه، فأمر جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، وضربها بالسياط على جسدها، وهى صابرة محتسبة على ما تجد من ألم العذاب، فأمر بوضع رحًى على صدرها - لا يقوى الرجلان على حملها- وهي صامدة ومستعذبة العذاب، من أجل رضا الله عنها!
وبعد أيام من الجلد والشبِحِ والتعذيب تحت حرارة الشمس، في ظل صمود وصبر وثبات على الدين، اشتاقت إلى جوار الله في الجنة فرفعت يديها قائلة: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ التحريم:11
فطلبتِ الجارَ قبل الدارِ.
إني لأحْسِدُ جارَكُمْ لجوارِكُمْ طوبَى لمن أَضْحَى لدَارِكَ جَارًا
يا ليتَ جارَكَ باعَنِي من دارِهِ شبرًا لأُعطِيه بشبرٍ دارًا
فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ وهي تبتسم ضاحكة لما تراه من نعيم ذاهبة إليه في جوار ربها!
ولمَ لا تبتسم وتضحك.. وقد تركت لقب "سيدة مصر الأولى" لتنضم إلى قائمة "سيدة نساء العالمين"(1) وتحظى بلقب"أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ"(2).
ولمَ لا تبتسم وتضحك ساخرة من زوجها فرعون الذي اتهمها بالجنون رغم أنها في الحقيقة "أكمل الناس عقلاً"(3).
لقد ماتت آسية.. وتركت لنا مثالاً يحتذى به للمرأة الصابرة المجاهدة التي تقول الحق ولا تخشى في الله لومة لائم، لتضع بصمودها وشجاعتها وصمة عار على جبين كل جبان خائر العزم.
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا .. لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ .. عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ (1)
بهؤلاء ينبغي أن نفتخر
هناك من المصريين حتى الآن من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي تقرؤون الآن بعض أشكال إجرامه مع أبناء شعبه، ناهيك عن إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجل بناءها الشعب لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به!.
وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن اللَّه ذكر في القرآن ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكره لمصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام !
وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، الذي هو نهر من أنهار الجنة(1)، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل.
ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الافتخار والاعتزاز بالإنسان المصري المسلم نفسه! بالسحرة المصريين الذين وقفوا بكل ثبات أمام أعتى طاغية عرفته البشرية، بالماشطة البسيطة التي قدمت أولادها فداء لدينها وعزتها، بآسية المصرية التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل دينها وحريتها؛ بهؤلاء جميعاً ينبغي أن يفتخر المصريون.
فرعون يعذب نفسياً
لقد أحب فرعون آسية حباً لا يوصف – فقد نزل على رأيها ولم يقتل موسى من قبل – وقتله لها اليوم عذبه نفسياً، فهو لم يكن يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، وما أراد من تعذيبها سوى أن ترجع إلى سلطانه وتنقاد تحت إمرته، ولكن أتته الريح بما لم يشتهِ، ليقوض الله ملكه كل يوم أمام عينيه، فبالأمس قتل آلاف السحرة من كهنة المعابد، ثم قتل الماشطة، ثم قتل زوجته آسية المحببة إلى قلبه، وبات في كل يوم يستعدي الناس عليها؛ ويقف عاجزاً أمام الزحف الإسلامي، فعذابه الذي يصبه على أتباع موسى لا يثني الناس عن الإيمان به واتباع منهجه ولو سراً، وأشباح ضحاياه تؤرق ليله ونهاره وتتوعده بالانتقام. ...المزيد
جولة داخل سجون فرعون والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي ...
جولة داخل سجون فرعون
والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الفجر:10، وهذه الأوتاد كانت أداة من أدوات التعذيب في سجونه(1)، وإذا أردت أن تفهم وتتخيل معنى هذه الآية جيداً تعالى معي نقوم بجولة داخل سجون الفراعنة ..
انظر .. هناك خمسة رجال يلتفون حول رجل يصرخ، وهم يفعلون فيه أمرا ما !
ها قد ابتعدوا عنه قليلاً وبإمكانك الآن أن ترى معي ما يفعلون ..
لقد ربطوا حبلاً في يده اليمنى وحبلاً في اليسرى وثالثاً في قدمه اليمنى ورابعاً في اليسرى، وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع الثلاثة .. هل ترى ؟
إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد والرجل يصرخ مستنجداً .. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة، ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخاً، وظلت الجياد تتحرك تارة والرجل يتمزق باكياً
ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنف سريع، لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها !!
وها هو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ، ويأتي رجل آخر ماسكا وتداً خشبياً طويلاً مسنناً ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل، ويحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى، ثم يقيدون يديه ورجليه بطريقة معينة إلى الوتد، ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة في الأرض، وها هو الرجل في أعلى الوتد وكأنه جالس عليه ويترك على هذه الحال حتى يموت !
ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش، بل المشكلة أن هذا الوتد ينغرز ببطء شديد في أحشاء الرجل ولا يقتله، فقط يعذبه من الألم ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم أو من انفجار الأحشاء ..
هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطلح على تسميته في عصرنا بالخازوق؛ وقد كان جنود فرعون يتفننون في التعذيب بالأوتاد تفنناً عجيباً .. فمرة يغرزون الوتد في فم المعذب ويعلقونه على الوتد مقلوباً، ومرة في بطنه، وهكذا يتفنن هؤلاء الزبانية في تعذيب المسلمين.
"فيه زبانية أعدوا للأذى وتخصصوا في فنه الملعون
متبلدون عقولهم بأكفهم وأكفهم للشر ذات حنين
لا فرق بينهمو وبين سياطهم كل أداة في يدي مأفون
يتلقفون القادمين كأنهم عثروا على كنزٍ لديك ثمين
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا وبكل أسلوبٍ خسيسٍ دونِ
لا يُقدرون مفكراً ولو أنه في عَقل سُقراط وأفلاطون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه في زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهو محطمٌ والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون"(1)
وقد روي أيضا أنهم كانوا يشّبِحون المسجون مستلقياً بين أربعة أوتاد في الأرض تشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، ويرسل عليه العقارب والحيات، كما روي أيضاً أنهم يسقطون فوقه صخرة عظيمة ترفع بالبكرات فتشدخه فيموت(2)، وقائمة أخرى من أدوات التعذيب وأشكاله، أدع للقارئ اللبيب المجال واسعاً لتصورها وتخيلها.
"أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
أسمعت بالآهات تخترق الدجى رباه عدلك .. إنهم قتلوني"(3)
لا يوجد مؤشر صريح في القرآن حول طول الفترة التي استغرقتها حملة التعذيب والقتل هذه، أي فيما إذا توقفت في تاريخ معين أم استمرّت حتى خروج بني إسرائيل من مصر، فالكلام هنا سيكون فرضية جدالية، ولكن لما كانت تلك الحملة قد أُطلِقت قبل أن تبدأ الكوارث (الإنذارات السبعة) بضرب قوم فرعون، سيبدو من المعقول القول بأن فرعون أوقف حملة الاضطهاد الدموي هذه في وقت ما لاحقاً، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إيقاف تلك الكوارث.
بث الأمل
استقبل موسى وهارون هذه القرارات الجديدة – بذبح كل من آمن - بمزيد من النشاط والهمة في تبليغ دعوة الله للناس، ولكنهما حرصا على التقاء هذه الفئة المسلمة – من المصريين وبني إسرائيل– سراً بعيداً عن أعين فرعون التي زرعها في كل مكان؛ وكان الهدف من هذه الزيارات والاجتماعات هو التعبئة الروحية والإيمانية، وبث روح الأمل والتفاؤل في قلوبهم.
فإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعليهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ يونس:84
فاستجاب قومه لنصيحته، سائلين الله أن ينجيهم من بطش الطغاة ومكر الماكرين فقالوا: "اللهم لا تسلّط علينا الظالمين فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا؛ فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سُلّطنا عليهم وعذبناهم"(1).
﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ يونس:86
فهم الطريق
ولما نزلت سياط العذاب تنهال عليهم، فسجنوا وضربوا، وعذبوا وشردوا، إلى جانب ما كان من تذبيح لذكورهن واستذلال لنسائهن واستباحة لأعراضهن ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف:128
فقال له قومه متعجبين من مآلات الأمور، غير مدركين لطبيعة الطريق الذي سلكوه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾؟!! الأعراف:129.
لقد ظنوا أن الظلم لن يطول بمجيء موسى، وأن الخلاص من بطش فرعون جاء مرافقاً له ؛ لذا قالوا: إلى متى سيظل الظلم والقهر مرافقين لنا، أبعد ما جئتنا وآمنا بك يحدث لنا كل هذا؟!
لقد ظن المساكين أن طريق الإيمان مفروش بالورود والرياحين، ولم يدركوا أن الطريق محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك، فأوصاهم نبي الله موسى بتحمل الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها؛ وانتظار الفرج القريب ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ الأعراف:129
فالمؤمن ينبغي ألا يقطع حسن ظنه بالله، وأن يتحلى بالأمل ويتخلى عن اليأس والقنوط مهما اشتد عليه البلاء وتراكم؛ فقد فقدَ يعقوب أحد أبنائه ثم فقدَ الآخر، ثم فقدَ بصره، وما زال يردد ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف:87.
كما عرّفهم موسى عليه السلام بطبيعة الطريق الذي يسيرون عليه، فهو طريق ناح فيه نوح، وألقي بسببه نبي الله إبراهيم في النار، فمن الطبيعي أن يقف الظالمون ضدهم ويبذلون جهدهم للحد من نشاطهم، ويضعون العراقيل في طريقهم، ويستعينون بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة للإساءة إليهم وتشويه سمعتهم، والنيل من أقدارهم.
ولكن مآل إرادة الطغاة إلى نقيض قصدهم ولو بعد حين؛ وإن ممتطي الباطل ومنتعلي البغي وراكبي الظلم ظنًا منهم أن تلك هي الوسائل الموصلة لعلوهم المبتغى، سيفاجأون أن السحر سينقلب على الساحر وأن يومًا سيأتي يقع فيه بهم ما كانوا يحذرون، ومن جنس ما كانوا يحذرون..!.
يا نصر الله اقترب
ومضى موسى ومن آمن معه يتحملون ضربات العذاب، وجرعات الظلم والاستبداد، وهم يرجون فرج الله، بقلوبٍ تجأر "يانصر الله اقترب" !
وبات عنوان مشهد هذه المرحلة التي استمرت عدة سنوات(1) هو: (إيمان يقابله كفر، وطغيان يقابله صبر)؛ تعرضوا خلالها لتسلط فرعون الفظيع والفتنة التي قال فيها: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف:127.
ولقد طال بهم أمد هذا الإمتحان الذي امتد سنين عدداً، لغربلة صفوفهم وتنقيتها، فالشعوب لا تنتقل من مواقع العز إلى الذل في عام أو عامين، بل يُحسب هذا بالجيل! وذلك، لأن معركة كسر الظالمين وإزاحتهم عن المشهد هي معركة جيل كامل لا معركة سنوات، وعلى الفئة التي تنشأ للقيام بهذا العبء الضخم أن تكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، يتحلون بالثقة في النصر ويتجملون بالصبر؛ لأنهم لو خسروا هذه المعركة بسبب نفاذ صبرهم فلا داعي أن يكون لديهم أمل في التغيير إلا بعد نصف قرن آخر؛ فالثمن الذي سيدفع في مقاومة الظلم الآن مهما كان عظيماً، هو أقل بكثير من الثمن الذي سيدفع عبر نصف قرن آخر من الذل والهوان.
وخلال هذه المرحلة العصيبة وتلك السنوات العجاف تخللت أحداث كثيرة، وانضم إلى موسى أنصار كُثُر، ولاحت بشائر نصر في الأفق ..
تعالوا بنا من خلال الفصل الرابع نتابع حكاية المرأة التي أصّر فرعون أن يُشرف على تعذيبها بنفسه ؟ ونعرف سر رائحتها الجميلة التي تعطر الجنة حتى الان ؟
ثم نشاهد كيف عذب فرعون آسية ؟ وكيف ساءت حالته النفسية بعدما قتلها بيده ؟.
ثم نعرف حكاية مستشار فرعون الذي أنقذ موسى عليه السلام من محاولة اغتيال كان فرعون يُدبر لها !
ثم نستمع إلى اعترافات الفتاة التي سعت لتشويه سمعة سيدنا موسى وادعت أنها على علاقة به ؟!
ثم ندخل سوياً قصر قارون ونشاهد كيف كان يعيش ببزخ؟ ونتعرف على سر انتكاسته وارتداده عن الاسلام حتى أصبح من أشد المعادين لموسى؟! هيا بنا نتابع ... ...المزيد
والتعذيب في سجون فرعون كان ممنهجاً، حتى وُصف به في القرآن ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ الفجر:10، وهذه الأوتاد كانت أداة من أدوات التعذيب في سجونه(1)، وإذا أردت أن تفهم وتتخيل معنى هذه الآية جيداً تعالى معي نقوم بجولة داخل سجون الفراعنة ..
انظر .. هناك خمسة رجال يلتفون حول رجل يصرخ، وهم يفعلون فيه أمرا ما !
ها قد ابتعدوا عنه قليلاً وبإمكانك الآن أن ترى معي ما يفعلون ..
لقد ربطوا حبلاً في يده اليمنى وحبلاً في اليسرى وثالثاً في قدمه اليمنى ورابعاً في اليسرى، وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع الثلاثة .. هل ترى ؟
إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد والرجل يصرخ مستنجداً .. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة، ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخاً، وظلت الجياد تتحرك تارة والرجل يتمزق باكياً
ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنف سريع، لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها !!
وها هو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ، ويأتي رجل آخر ماسكا وتداً خشبياً طويلاً مسنناً ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل، ويحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى، ثم يقيدون يديه ورجليه بطريقة معينة إلى الوتد، ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة في الأرض، وها هو الرجل في أعلى الوتد وكأنه جالس عليه ويترك على هذه الحال حتى يموت !
ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش، بل المشكلة أن هذا الوتد ينغرز ببطء شديد في أحشاء الرجل ولا يقتله، فقط يعذبه من الألم ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم أو من انفجار الأحشاء ..
هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطلح على تسميته في عصرنا بالخازوق؛ وقد كان جنود فرعون يتفننون في التعذيب بالأوتاد تفنناً عجيباً .. فمرة يغرزون الوتد في فم المعذب ويعلقونه على الوتد مقلوباً، ومرة في بطنه، وهكذا يتفنن هؤلاء الزبانية في تعذيب المسلمين.
"فيه زبانية أعدوا للأذى وتخصصوا في فنه الملعون
متبلدون عقولهم بأكفهم وأكفهم للشر ذات حنين
لا فرق بينهمو وبين سياطهم كل أداة في يدي مأفون
يتلقفون القادمين كأنهم عثروا على كنزٍ لديك ثمين
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا وبكل أسلوبٍ خسيسٍ دونِ
لا يُقدرون مفكراً ولو أنه في عَقل سُقراط وأفلاطون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه في زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهو محطمٌ والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون"(1)
وقد روي أيضا أنهم كانوا يشّبِحون المسجون مستلقياً بين أربعة أوتاد في الأرض تشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، ويرسل عليه العقارب والحيات، كما روي أيضاً أنهم يسقطون فوقه صخرة عظيمة ترفع بالبكرات فتشدخه فيموت(2)، وقائمة أخرى من أدوات التعذيب وأشكاله، أدع للقارئ اللبيب المجال واسعاً لتصورها وتخيلها.
"أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
أسمعت بالآهات تخترق الدجى رباه عدلك .. إنهم قتلوني"(3)
لا يوجد مؤشر صريح في القرآن حول طول الفترة التي استغرقتها حملة التعذيب والقتل هذه، أي فيما إذا توقفت في تاريخ معين أم استمرّت حتى خروج بني إسرائيل من مصر، فالكلام هنا سيكون فرضية جدالية، ولكن لما كانت تلك الحملة قد أُطلِقت قبل أن تبدأ الكوارث (الإنذارات السبعة) بضرب قوم فرعون، سيبدو من المعقول القول بأن فرعون أوقف حملة الاضطهاد الدموي هذه في وقت ما لاحقاً، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إيقاف تلك الكوارث.
بث الأمل
استقبل موسى وهارون هذه القرارات الجديدة – بذبح كل من آمن - بمزيد من النشاط والهمة في تبليغ دعوة الله للناس، ولكنهما حرصا على التقاء هذه الفئة المسلمة – من المصريين وبني إسرائيل– سراً بعيداً عن أعين فرعون التي زرعها في كل مكان؛ وكان الهدف من هذه الزيارات والاجتماعات هو التعبئة الروحية والإيمانية، وبث روح الأمل والتفاؤل في قلوبهم.
فإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعليهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ يونس:84
فاستجاب قومه لنصيحته، سائلين الله أن ينجيهم من بطش الطغاة ومكر الماكرين فقالوا: "اللهم لا تسلّط علينا الظالمين فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا؛ فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سُلّطنا عليهم وعذبناهم"(1).
﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ يونس:86
فهم الطريق
ولما نزلت سياط العذاب تنهال عليهم، فسجنوا وضربوا، وعذبوا وشردوا، إلى جانب ما كان من تذبيح لذكورهن واستذلال لنسائهن واستباحة لأعراضهن ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف:128
فقال له قومه متعجبين من مآلات الأمور، غير مدركين لطبيعة الطريق الذي سلكوه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾؟!! الأعراف:129.
لقد ظنوا أن الظلم لن يطول بمجيء موسى، وأن الخلاص من بطش فرعون جاء مرافقاً له ؛ لذا قالوا: إلى متى سيظل الظلم والقهر مرافقين لنا، أبعد ما جئتنا وآمنا بك يحدث لنا كل هذا؟!
لقد ظن المساكين أن طريق الإيمان مفروش بالورود والرياحين، ولم يدركوا أن الطريق محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك، فأوصاهم نبي الله موسى بتحمل الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها؛ وانتظار الفرج القريب ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ الأعراف:129
فالمؤمن ينبغي ألا يقطع حسن ظنه بالله، وأن يتحلى بالأمل ويتخلى عن اليأس والقنوط مهما اشتد عليه البلاء وتراكم؛ فقد فقدَ يعقوب أحد أبنائه ثم فقدَ الآخر، ثم فقدَ بصره، وما زال يردد ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف:87.
كما عرّفهم موسى عليه السلام بطبيعة الطريق الذي يسيرون عليه، فهو طريق ناح فيه نوح، وألقي بسببه نبي الله إبراهيم في النار، فمن الطبيعي أن يقف الظالمون ضدهم ويبذلون جهدهم للحد من نشاطهم، ويضعون العراقيل في طريقهم، ويستعينون بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة للإساءة إليهم وتشويه سمعتهم، والنيل من أقدارهم.
ولكن مآل إرادة الطغاة إلى نقيض قصدهم ولو بعد حين؛ وإن ممتطي الباطل ومنتعلي البغي وراكبي الظلم ظنًا منهم أن تلك هي الوسائل الموصلة لعلوهم المبتغى، سيفاجأون أن السحر سينقلب على الساحر وأن يومًا سيأتي يقع فيه بهم ما كانوا يحذرون، ومن جنس ما كانوا يحذرون..!.
يا نصر الله اقترب
ومضى موسى ومن آمن معه يتحملون ضربات العذاب، وجرعات الظلم والاستبداد، وهم يرجون فرج الله، بقلوبٍ تجأر "يانصر الله اقترب" !
وبات عنوان مشهد هذه المرحلة التي استمرت عدة سنوات(1) هو: (إيمان يقابله كفر، وطغيان يقابله صبر)؛ تعرضوا خلالها لتسلط فرعون الفظيع والفتنة التي قال فيها: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف:127.
ولقد طال بهم أمد هذا الإمتحان الذي امتد سنين عدداً، لغربلة صفوفهم وتنقيتها، فالشعوب لا تنتقل من مواقع العز إلى الذل في عام أو عامين، بل يُحسب هذا بالجيل! وذلك، لأن معركة كسر الظالمين وإزاحتهم عن المشهد هي معركة جيل كامل لا معركة سنوات، وعلى الفئة التي تنشأ للقيام بهذا العبء الضخم أن تكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، يتحلون بالثقة في النصر ويتجملون بالصبر؛ لأنهم لو خسروا هذه المعركة بسبب نفاذ صبرهم فلا داعي أن يكون لديهم أمل في التغيير إلا بعد نصف قرن آخر؛ فالثمن الذي سيدفع في مقاومة الظلم الآن مهما كان عظيماً، هو أقل بكثير من الثمن الذي سيدفع عبر نصف قرن آخر من الذل والهوان.
وخلال هذه المرحلة العصيبة وتلك السنوات العجاف تخللت أحداث كثيرة، وانضم إلى موسى أنصار كُثُر، ولاحت بشائر نصر في الأفق ..
تعالوا بنا من خلال الفصل الرابع نتابع حكاية المرأة التي أصّر فرعون أن يُشرف على تعذيبها بنفسه ؟ ونعرف سر رائحتها الجميلة التي تعطر الجنة حتى الان ؟
ثم نشاهد كيف عذب فرعون آسية ؟ وكيف ساءت حالته النفسية بعدما قتلها بيده ؟.
ثم نعرف حكاية مستشار فرعون الذي أنقذ موسى عليه السلام من محاولة اغتيال كان فرعون يُدبر لها !
ثم نستمع إلى اعترافات الفتاة التي سعت لتشويه سمعة سيدنا موسى وادعت أنها على علاقة به ؟!
ثم ندخل سوياً قصر قارون ونشاهد كيف كان يعيش ببزخ؟ ونتعرف على سر انتكاسته وارتداده عن الاسلام حتى أصبح من أشد المعادين لموسى؟! هيا بنا نتابع ... ...المزيد
تداعيات يوم الزينة عقد فرعون بوزرائه ومستشاريه اجتماعاً طارئاً لبحث تداعيات يوم الزينة ومناقشة آخر ...
تداعيات يوم الزينة
عقد فرعون بوزرائه ومستشاريه اجتماعاً طارئاً لبحث تداعيات يوم الزينة ومناقشة آخر التطورات المستجدة على الساحة بسببه، وكيفية وقف الزحف الإسلامي الذي يقوده موسى وهارون، وتبادل الحضور أطراف الحديث، محرضين فرعون على اتخاذ أي قرارات استثنائية، لوقف هذا الزحف الذي يهدد مصالحهم ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..(1)﴾ الأعراف:127.
فراودتهم فكرة قتل موسى والتخلص منه، فهو مؤجج الفتنة ورأس هذا التنظيم، فلاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة من البعض لعدة أسباب لعل من بينها:
أن قتل موسى لا ينهي الإشكال، فموسى ليس وحده بل معه هارون، وقد يوحي قتلهما للجماهير بتقديسهما واعتبارهما من الشهداء، فتزاد الحماسة لهما وللدين الذي جاءا به.
ثانيا: قد يكون بعض مستشاري فرعون أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له، لو قتلوه - وليس هذا ببعيد - فقد كان المصريون يعتقدون بتعدد الآلهة، وكان فرعون وملؤه يوقنون أن لموسى إله، وأن ما أتى به موسى هو الحق، وأنهم على باطل وضلال، وقد وصف الله هذا الشعور الداخلي عندهم فقال:﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ النمل:14.
فما يقولونه أمام الناس، وما يلقنوه لأذرعهم الإعلامية غير ما يعتقدونه داخل ضمائرهم !
فلما كان قرار قتل موسى لم يلق إجماعاً، ولم يرق لفرعون الذي يأمل أن يراود موسى عن أفكاره ويغريه بمنصب أو مال ليضمه إلى أنصاره؛ أصدر فرعون قراراً بإعادة العمل بقانون العقوبات "الذبح" مرة أخرى ﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ الأعراف:127
وعمم هذا القانون على كل من يؤمن بموسى سواء كان مصرياً أو من بني إسرائيل ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ غافر:25، كما طالت هذه المذبحة أبناء المؤمنين سواء كانوا صغاراً أو بالغين، وكل هذا لإرهاب المجتمع من إتباع موسى.
قانون الاستئصال
لقد توقف العمل بهذا "القانون الاستئصالي" الجائر فترة من الزمن، حين ظن فرعون أن موسى قد مات في الصحراء عندما فر هارباً، وبالتالي فقد أمن على عرشه منه، فقد كان هو الطفل الذي يبحث عنه، وقتل في طلبه آلاف الذكور؛ ولكن لما عاد موسى من جديد؛ عاد معه الخوف على زوال ملكه، والرؤيا التي رآها في منامه منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، باتت تتحقق أمامه يوماً بعد يوم، فأعاد العمل بهذا القانون الجائر على بني إسرائيل والمصريين معاً، خاصة بعدما توسعت دعوة موسى وأصبح لها أنصار من المصريين أيضاً – وإن كانوا قلة - وخاصة من جيل الشباب ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(2)يونس:83
الشباب أمل المصلحين
أعطى موسى عليه السلام جُل اهتمامه للشباب، لأن الشيوخ قلّ أن يستجيبوا لجديد يُدعونَ إليه، لطول إلفهم لما ورثوه من عادات وتقاليد ومعتقدات ملأت عقولهم، حتى أسِرتها فأصبح تغيّيرها عسيراً وشاقاً، أما الشباب فهم يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون - إلى حد ما - في خُلُوٍّ من المشاكل، كما أنهم لم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها؛ والتاريخ يؤكد لنا أن الشباب دوماً أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد والأخذ به، وهذا يعنى أن تحركات الأمم نحو التجديد ستكون على يد الشباب، فالشباب هم أمل الأمة، وهم حاضرها ومستقبلها، وهم الأسس المتينة، والقواعد الراسخة في بنية المجتمع، كما أنهم السواعد القوية التي ترفع البناء وتعليه، والعقول التي تخطط وتفكر وتعمل للغد المشرق، فهم يملكون طاقات هائلة لا يمكن وصفها، وبالسهو عنها سيكون الانطلاق بطيئاً، والبناء هشاً(2)، " وإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها, وتوفر الإخلاص في سبيلها, وازدادت الحماس لها, ووُجِد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها, وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان, والإخلاص, والحماس, والعمل من خصائص الشباب؛ لأنّ أساس الإيمان القلب الذكي, وأساس الإخلاص الفؤاد النقي, وأساس الحماس الشعور القوي, وأساس العمل العزم الفتي, وهذه كلها لا تكون إلا في الشباب، ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أُمَّةٍ عِمَادُ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سِرُّ قُوَّتها، وفي كل فكرة حَامِلُ رَايتها: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ﴾ الكهف: 13"(1).
التعذيب الممنهج
وقد كان إيمان هذه الذرية من الشباب ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ(3)﴾ فلو علم نظام فرعون بإيمانهم سيبذلون قصارى جهدهم - كالعادة - في أن يفتنوهم عن دينهم بالاضطهاد، والسجن والتعذيب حتى يتركوه.
وقد كانت فتنة التعذيب هذه أشد من القتل والذبح !! وهذا ما يلفت النظر في قوله جل وعلا عندما وصف الفتنة في الدين فقال :﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ البقرة: 191، ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ البقرة: 217، وذلك لأن القتل أو الذبح هو قتل للجسد؛ أما الإرهاب والترويع والتخويف فهو قتل معنوي يقتل أجمل ما في النفس البشرية إن لم تصمد وتستعن بالله جل وعلا.
فكل نفس بشرية ذائقة الموت، إما موتاً عادياً وإما قتلاً، لكن ليس كل نفس بشرية تذوق ألم القهر والتعذيب بسبب اختيارها الديني أو الفكري، إلى درجة تتمنى فيها الراحة بالموت، وهذا ما يشعر به كل مقهور ومسجون؛ فالاضطهاد أو الفتنة معاناة مستمرة بالخوف والرعب والقلق، وانتظار المصائب، وتوقع الشّر عند أيّ لفتة أو همسة أو دق على الباب ..
وهناك علاقة طردية بين ظلم الحاكم المستبد للمصلحين وبين خوفه وذعره، فكلما زاد ظلمه للشعب زاد خوفه منهم؛ وكلما زاد خوفه من الشعب زاد ظلمه لهم، من هنا أدى الخوف بفرعون إلى تطرف في اضطهاد خصومه؛ فالإسراف هو المصطلح القرآني لما نسميه في ثقافتنا المعاصرة بالتطرف، وصل هذا التطرف في معاملة الخصوم إلى تعذيبهم تعذيباً مهينا وممنهجاً لإرهابهم وإرهاب كل من وراءهم
فَللسِّياطِ رَنِينٌ يُنْسِي الحَلِيمَ الفِكْرا
وَللزَّنازِين لَيلٌ يُنسِي الزَّمانَ الفَجْرا
وجاء وصف فرعون بالعلو والإسراف في نفس سياق تطرفه في تعذيب بني إسرائيل في قوله سبحانه وتعالى ﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ الدخان:31 ...المزيد
عقد فرعون بوزرائه ومستشاريه اجتماعاً طارئاً لبحث تداعيات يوم الزينة ومناقشة آخر التطورات المستجدة على الساحة بسببه، وكيفية وقف الزحف الإسلامي الذي يقوده موسى وهارون، وتبادل الحضور أطراف الحديث، محرضين فرعون على اتخاذ أي قرارات استثنائية، لوقف هذا الزحف الذي يهدد مصالحهم ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..(1)﴾ الأعراف:127.
فراودتهم فكرة قتل موسى والتخلص منه، فهو مؤجج الفتنة ورأس هذا التنظيم، فلاقت هذه الفكرة رفضاً وممانعة من البعض لعدة أسباب لعل من بينها:
أن قتل موسى لا ينهي الإشكال، فموسى ليس وحده بل معه هارون، وقد يوحي قتلهما للجماهير بتقديسهما واعتبارهما من الشهداء، فتزاد الحماسة لهما وللدين الذي جاءا به.
ثانيا: قد يكون بعض مستشاري فرعون أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له، لو قتلوه - وليس هذا ببعيد - فقد كان المصريون يعتقدون بتعدد الآلهة، وكان فرعون وملؤه يوقنون أن لموسى إله، وأن ما أتى به موسى هو الحق، وأنهم على باطل وضلال، وقد وصف الله هذا الشعور الداخلي عندهم فقال:﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ النمل:14.
فما يقولونه أمام الناس، وما يلقنوه لأذرعهم الإعلامية غير ما يعتقدونه داخل ضمائرهم !
فلما كان قرار قتل موسى لم يلق إجماعاً، ولم يرق لفرعون الذي يأمل أن يراود موسى عن أفكاره ويغريه بمنصب أو مال ليضمه إلى أنصاره؛ أصدر فرعون قراراً بإعادة العمل بقانون العقوبات "الذبح" مرة أخرى ﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ الأعراف:127
وعمم هذا القانون على كل من يؤمن بموسى سواء كان مصرياً أو من بني إسرائيل ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ غافر:25، كما طالت هذه المذبحة أبناء المؤمنين سواء كانوا صغاراً أو بالغين، وكل هذا لإرهاب المجتمع من إتباع موسى.
قانون الاستئصال
لقد توقف العمل بهذا "القانون الاستئصالي" الجائر فترة من الزمن، حين ظن فرعون أن موسى قد مات في الصحراء عندما فر هارباً، وبالتالي فقد أمن على عرشه منه، فقد كان هو الطفل الذي يبحث عنه، وقتل في طلبه آلاف الذكور؛ ولكن لما عاد موسى من جديد؛ عاد معه الخوف على زوال ملكه، والرؤيا التي رآها في منامه منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، باتت تتحقق أمامه يوماً بعد يوم، فأعاد العمل بهذا القانون الجائر على بني إسرائيل والمصريين معاً، خاصة بعدما توسعت دعوة موسى وأصبح لها أنصار من المصريين أيضاً – وإن كانوا قلة - وخاصة من جيل الشباب ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(2)يونس:83
الشباب أمل المصلحين
أعطى موسى عليه السلام جُل اهتمامه للشباب، لأن الشيوخ قلّ أن يستجيبوا لجديد يُدعونَ إليه، لطول إلفهم لما ورثوه من عادات وتقاليد ومعتقدات ملأت عقولهم، حتى أسِرتها فأصبح تغيّيرها عسيراً وشاقاً، أما الشباب فهم يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون - إلى حد ما - في خُلُوٍّ من المشاكل، كما أنهم لم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها؛ والتاريخ يؤكد لنا أن الشباب دوماً أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد والأخذ به، وهذا يعنى أن تحركات الأمم نحو التجديد ستكون على يد الشباب، فالشباب هم أمل الأمة، وهم حاضرها ومستقبلها، وهم الأسس المتينة، والقواعد الراسخة في بنية المجتمع، كما أنهم السواعد القوية التي ترفع البناء وتعليه، والعقول التي تخطط وتفكر وتعمل للغد المشرق، فهم يملكون طاقات هائلة لا يمكن وصفها، وبالسهو عنها سيكون الانطلاق بطيئاً، والبناء هشاً(2)، " وإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها, وتوفر الإخلاص في سبيلها, وازدادت الحماس لها, ووُجِد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها, وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان, والإخلاص, والحماس, والعمل من خصائص الشباب؛ لأنّ أساس الإيمان القلب الذكي, وأساس الإخلاص الفؤاد النقي, وأساس الحماس الشعور القوي, وأساس العمل العزم الفتي, وهذه كلها لا تكون إلا في الشباب، ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أُمَّةٍ عِمَادُ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سِرُّ قُوَّتها، وفي كل فكرة حَامِلُ رَايتها: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ﴾ الكهف: 13"(1).
التعذيب الممنهج
وقد كان إيمان هذه الذرية من الشباب ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ(3)﴾ فلو علم نظام فرعون بإيمانهم سيبذلون قصارى جهدهم - كالعادة - في أن يفتنوهم عن دينهم بالاضطهاد، والسجن والتعذيب حتى يتركوه.
وقد كانت فتنة التعذيب هذه أشد من القتل والذبح !! وهذا ما يلفت النظر في قوله جل وعلا عندما وصف الفتنة في الدين فقال :﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ البقرة: 191، ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ البقرة: 217، وذلك لأن القتل أو الذبح هو قتل للجسد؛ أما الإرهاب والترويع والتخويف فهو قتل معنوي يقتل أجمل ما في النفس البشرية إن لم تصمد وتستعن بالله جل وعلا.
فكل نفس بشرية ذائقة الموت، إما موتاً عادياً وإما قتلاً، لكن ليس كل نفس بشرية تذوق ألم القهر والتعذيب بسبب اختيارها الديني أو الفكري، إلى درجة تتمنى فيها الراحة بالموت، وهذا ما يشعر به كل مقهور ومسجون؛ فالاضطهاد أو الفتنة معاناة مستمرة بالخوف والرعب والقلق، وانتظار المصائب، وتوقع الشّر عند أيّ لفتة أو همسة أو دق على الباب ..
وهناك علاقة طردية بين ظلم الحاكم المستبد للمصلحين وبين خوفه وذعره، فكلما زاد ظلمه للشعب زاد خوفه منهم؛ وكلما زاد خوفه من الشعب زاد ظلمه لهم، من هنا أدى الخوف بفرعون إلى تطرف في اضطهاد خصومه؛ فالإسراف هو المصطلح القرآني لما نسميه في ثقافتنا المعاصرة بالتطرف، وصل هذا التطرف في معاملة الخصوم إلى تعذيبهم تعذيباً مهينا وممنهجاً لإرهابهم وإرهاب كل من وراءهم
فَللسِّياطِ رَنِينٌ يُنْسِي الحَلِيمَ الفِكْرا
وَللزَّنازِين لَيلٌ يُنسِي الزَّمانَ الفَجْرا
وجاء وصف فرعون بالعلو والإسراف في نفس سياق تطرفه في تعذيب بني إسرائيل في قوله سبحانه وتعالى ﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ الدخان:31 ...المزيد
ابتسامة الإصرار وأنشودة الصمود وقبل غروب شمس هذا اليوم الحزين في تاريخ الإنسانية نُفذ فيهم حكم ...
ابتسامة الإصرار وأنشودة الصمود
وقبل غروب شمس هذا اليوم الحزين في تاريخ الإنسانية نُفذ فيهم حكم فرعون، وقُتل السحرة أمام الناس، وهم في قمة الصمود والثبات، وسالت دماؤهم الذكية على أرض مصر، ليقيموا الحجة على كل من يرى الظلم ويسكت عليه، ويرى الفاسد ويحابيه، ومضى هذا المشهد المفزع في تاريخ البشرية إعلاناً لحرية القلب البشري واستعلائه على قيود الأرض وسلطان الظلم، طمعاً في رضا الله والجنة.
والله لو سافرت أرواحنا عبر الزمن إلى هناك لرأينا ألسنتهم تُتمتم بأدعية تستمطر من السماء مزيداً من الصبر لتحمُّل تقطيع السيوف لأيديهم وأرجلهم قائلين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ علينا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ الأعراف:126، ولسمعناهم يرددون وهم يعذبون أنشودة الإصرار والصمود:
ضـع فـي يـدي ّ القيـد ألهـب أضلـعـي بالسـوط --- ضـع عنقـي علـى السكّـيـن
لـن تستطـيـع حـصـار فـكـري سـاعـةً --- أو نــــزع إيـمــانــي ونـــــور يـقـيـنــي
فالنـور فـي قلبـي وقلبـي فـي يــديْ ربّـــي --- وربّـــي نــاصــري ومـعـيـنـي
سأعـيـش معتصـمـاً بحـبـل عقيـدتـي --- وأمــــوت مبـتـسـمـاً لـيـحـيـا ديــنــي
صبـراً أخي فـي محنتـي و عقيـدتـي --- لا بـــد بـعــد الـصـبــر مــــن تـمـكـيـن
و لـنـا بيـوسـف أســـوة فـــي صـبــره --- و قد ارتمى في السجن بضـع سنيـن
هــــون عـلـيــك الأمــــر لا تـعـبــأ بــــه --- إن الــصــعــاب تـــهــــون بـالـتـهــويــن(1)
ولرأينا على وجوههم ابتسامة المنتصرين بعدما فاضت أرواحهم إلى السماء ..
ولا تحسبوا أن الله خذلهم، أو تركهم !!
لا وربِّي .. فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " ما يجِدُ الشهيدُ من مَسِّ القتْلِ، إلَّا كَما يجدُ أحدُكمْ من مسِّ القرْصةِ"(1)، فما هي إلا لحظات حتى كانوا .. ﴿ .. فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ القمر:55، في صحبة من سبقوهم إلى الله ﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ النساء:69، لأن سيد الشهداء من قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فأُمر بقتله(2).
أما موسى وهارون فلم يذكر القرآن لنا أنهما تكلما بكلمة في هذه اللحظات، فهما لا يملكان شيئاً يقدموه لهؤلاء الذين بذلوا حياتهم الغالية في سبيل الله، فالدعوة دخلت في مرحلة جديدة، مرحلة الصبر الطويل على البلاء "فإن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب المصلحين ضربات عشوائية، كثور هائج أو كفيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال".
وكأنما على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم، وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال:25.
رد فعل الجماهير
لقد كان تفاعل الجماهير (الطرف المتلقي) رغم هذه المعجزة العظيمة التي شاهدوها، تفاعلاً سلبياً للغاية، فالثابت أن من حضروا في يوم الزينة شاهدوا بعيونهم انقلاب صورة الحبال إلى حيات تسعى، كما شاهدوا ما فعلت عصا موسى بهذه الحيات، وسمعوا السحرة وهم يعترفون أنهم كانوا مكرهين على سحر أعين الناس وخداعهم - بأمر من فرعون - لتضليلهم عن حقائق ما يجري في أروقة الحكم، كما كادت آذنهم تُصَم من هتافات السحرة التي أعلنوا فيها توبتهم لله مما فعلوا، وإيمانهم بدين موسى وهارون؛ كما شاهدوا بأعينهم تنفيذ حكم الإعدام فيهم، ومع ذلك كله لم ينصرفوا إلى الحق !
فيمكنك تخيل خروجهم من المدرجات التي أعدت ليوم الزينة، وقليل منهم من يتحدث همساً عن الحق الذي مع موسى، وأغلبهم -كما ورد- استُخِف فيما بعد، واتبع حكم القوي عسكرياً ومالياً، وصدّق أذرعه الإعلامية وكذب ما رأته عيناه !
التناول الإعلامي ليوم الزينة
انقادت عقول الشعب بالتبعية العمياء إلى أبواق فرعون الإعلامية التي أكدت لهم أن موسى كبير هؤلاء السحرة الذين دبروا هذه المؤامرة لقلب نظام الحكم الفرعوني والاستيلاء على أرض مصر؛ فلقد عمل الجهاز الإعلامي لفرعون على إذاعة أنباء التنظيم السري الذي أنشأته طائفة بني إسرائيل - عملاء الهكسوس السابقين - الذين قدِموا من الشام أيام الاحتلال الهكسوسي البغيض، لضرب استقرار البلاد وإعادتها إلى قرون التخلف والرجعية.
كما أخرج الجهاز الإعلامي رواية تفسيرية مفصلة عن إعداد وإخراج المشهد الذي سيمثل فيه السحرة – بادئ الأمر- أنهم مخلصون للدولة؛ وجاءوا من كل حدب وصوب لمواجهة موسى عدو فرعون، ثم وفي اللحظة المناسبة يُظهرون خيانتهم للدولة وولائهم لموسى وهارون.
ثم مجدوا في عقل وذكاء الفرعون الزعيم الملهم، الذي فطن في اللحظة المناسبة لهذه المكيدة النكراء، وكيف أنه وقف بكل ثبات وشموخ وتوعدهم إن لم يرجعوا عما دبروه أن ينتقم منهم شر انتقام.
وكيف غسل موسى أدمغة السحرة بكلام معسول عن جنة سيدخلونها معه، فانقادوا خلفه وسلموا عقولهم له ولأخيه، فخالفوا دين الدولة ووقفوا ضد إرادة الشعب الذي ارتضى فرعون إلهاً حاكماً، فنُفِذَ فيهم الحُكم العادل !
كما تسابقت وسائل الإعلام إلى إعلان الكشف عن وجود مجوهرات وعملات مالية بأرقام فلكية، استخرجتها الجهات الأمنية من بيوت وقصور السحرة، إلى جانب ما وجدوه من بعض أوراق البردي التي تؤكد المخطط الكامل للمؤامرة الرهيبة التي اكتشفها فرعون.
نظرية المؤامرة
وهكذا لو تأملنا من بداية القصة حتى الآن سنجد أن كل تصرف لا يرغب فيه الفرعون ونظامه الحاكم يتم تأويله إلى مؤامرة من جهات أخرى لقلب نظام الحكم أو لتقسيم مصر وتفكيك وحدة شعبها - المفكك من الأساس - شيعاً وأحزاباً ! ونضرب لذلك أمثلة:
* لم تكن رسالة موسى إلى فرعون وملئه إلا مجرد أن يسمحوا لهم بهجرة بني إسرائيل من مصر، فاعتبر نظام فرعون ذلك الطلب مؤامرة تهدد سلطانهم في الأرض﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ يونس: 78
* وعندما أراهم موسى الدلائل على نبوته بالعصا التي تحولت إلى ثعبان، واليد التي أصبحت بيضاء للناظرين جاء الرد الفوري من فرعون للملأ أن مؤامرة موسى هذه الهدف منها هو إخراجهم من أرضهم ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ الشعراء:34
* حتى إيمان السحرة المفاجئ كان رد الفرعون المرعوب عليه أنها مؤامرة على مصر لإخراج أهلها منها ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ وحكم عليهم أفظع حكم فقال: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ الأعراف: 123
لذا فنظرية المؤامرة هي شماعة كل حاكم يعلق عليها فشله الذريع في إدارة الدولة، أو قمعه للحريات أو قبضته الأمنية الغير مبررة. ...المزيد
وقبل غروب شمس هذا اليوم الحزين في تاريخ الإنسانية نُفذ فيهم حكم فرعون، وقُتل السحرة أمام الناس، وهم في قمة الصمود والثبات، وسالت دماؤهم الذكية على أرض مصر، ليقيموا الحجة على كل من يرى الظلم ويسكت عليه، ويرى الفاسد ويحابيه، ومضى هذا المشهد المفزع في تاريخ البشرية إعلاناً لحرية القلب البشري واستعلائه على قيود الأرض وسلطان الظلم، طمعاً في رضا الله والجنة.
والله لو سافرت أرواحنا عبر الزمن إلى هناك لرأينا ألسنتهم تُتمتم بأدعية تستمطر من السماء مزيداً من الصبر لتحمُّل تقطيع السيوف لأيديهم وأرجلهم قائلين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ علينا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ الأعراف:126، ولسمعناهم يرددون وهم يعذبون أنشودة الإصرار والصمود:
ضـع فـي يـدي ّ القيـد ألهـب أضلـعـي بالسـوط --- ضـع عنقـي علـى السكّـيـن
لـن تستطـيـع حـصـار فـكـري سـاعـةً --- أو نــــزع إيـمــانــي ونـــــور يـقـيـنــي
فالنـور فـي قلبـي وقلبـي فـي يــديْ ربّـــي --- وربّـــي نــاصــري ومـعـيـنـي
سأعـيـش معتصـمـاً بحـبـل عقيـدتـي --- وأمــــوت مبـتـسـمـاً لـيـحـيـا ديــنــي
صبـراً أخي فـي محنتـي و عقيـدتـي --- لا بـــد بـعــد الـصـبــر مــــن تـمـكـيـن
و لـنـا بيـوسـف أســـوة فـــي صـبــره --- و قد ارتمى في السجن بضـع سنيـن
هــــون عـلـيــك الأمــــر لا تـعـبــأ بــــه --- إن الــصــعــاب تـــهــــون بـالـتـهــويــن(1)
ولرأينا على وجوههم ابتسامة المنتصرين بعدما فاضت أرواحهم إلى السماء ..
ولا تحسبوا أن الله خذلهم، أو تركهم !!
لا وربِّي .. فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " ما يجِدُ الشهيدُ من مَسِّ القتْلِ، إلَّا كَما يجدُ أحدُكمْ من مسِّ القرْصةِ"(1)، فما هي إلا لحظات حتى كانوا .. ﴿ .. فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ القمر:55، في صحبة من سبقوهم إلى الله ﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ النساء:69، لأن سيد الشهداء من قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فأُمر بقتله(2).
أما موسى وهارون فلم يذكر القرآن لنا أنهما تكلما بكلمة في هذه اللحظات، فهما لا يملكان شيئاً يقدموه لهؤلاء الذين بذلوا حياتهم الغالية في سبيل الله، فالدعوة دخلت في مرحلة جديدة، مرحلة الصبر الطويل على البلاء "فإن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب المصلحين ضربات عشوائية، كثور هائج أو كفيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال".
وكأنما على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم، وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال:25.
رد فعل الجماهير
لقد كان تفاعل الجماهير (الطرف المتلقي) رغم هذه المعجزة العظيمة التي شاهدوها، تفاعلاً سلبياً للغاية، فالثابت أن من حضروا في يوم الزينة شاهدوا بعيونهم انقلاب صورة الحبال إلى حيات تسعى، كما شاهدوا ما فعلت عصا موسى بهذه الحيات، وسمعوا السحرة وهم يعترفون أنهم كانوا مكرهين على سحر أعين الناس وخداعهم - بأمر من فرعون - لتضليلهم عن حقائق ما يجري في أروقة الحكم، كما كادت آذنهم تُصَم من هتافات السحرة التي أعلنوا فيها توبتهم لله مما فعلوا، وإيمانهم بدين موسى وهارون؛ كما شاهدوا بأعينهم تنفيذ حكم الإعدام فيهم، ومع ذلك كله لم ينصرفوا إلى الحق !
فيمكنك تخيل خروجهم من المدرجات التي أعدت ليوم الزينة، وقليل منهم من يتحدث همساً عن الحق الذي مع موسى، وأغلبهم -كما ورد- استُخِف فيما بعد، واتبع حكم القوي عسكرياً ومالياً، وصدّق أذرعه الإعلامية وكذب ما رأته عيناه !
التناول الإعلامي ليوم الزينة
انقادت عقول الشعب بالتبعية العمياء إلى أبواق فرعون الإعلامية التي أكدت لهم أن موسى كبير هؤلاء السحرة الذين دبروا هذه المؤامرة لقلب نظام الحكم الفرعوني والاستيلاء على أرض مصر؛ فلقد عمل الجهاز الإعلامي لفرعون على إذاعة أنباء التنظيم السري الذي أنشأته طائفة بني إسرائيل - عملاء الهكسوس السابقين - الذين قدِموا من الشام أيام الاحتلال الهكسوسي البغيض، لضرب استقرار البلاد وإعادتها إلى قرون التخلف والرجعية.
كما أخرج الجهاز الإعلامي رواية تفسيرية مفصلة عن إعداد وإخراج المشهد الذي سيمثل فيه السحرة – بادئ الأمر- أنهم مخلصون للدولة؛ وجاءوا من كل حدب وصوب لمواجهة موسى عدو فرعون، ثم وفي اللحظة المناسبة يُظهرون خيانتهم للدولة وولائهم لموسى وهارون.
ثم مجدوا في عقل وذكاء الفرعون الزعيم الملهم، الذي فطن في اللحظة المناسبة لهذه المكيدة النكراء، وكيف أنه وقف بكل ثبات وشموخ وتوعدهم إن لم يرجعوا عما دبروه أن ينتقم منهم شر انتقام.
وكيف غسل موسى أدمغة السحرة بكلام معسول عن جنة سيدخلونها معه، فانقادوا خلفه وسلموا عقولهم له ولأخيه، فخالفوا دين الدولة ووقفوا ضد إرادة الشعب الذي ارتضى فرعون إلهاً حاكماً، فنُفِذَ فيهم الحُكم العادل !
كما تسابقت وسائل الإعلام إلى إعلان الكشف عن وجود مجوهرات وعملات مالية بأرقام فلكية، استخرجتها الجهات الأمنية من بيوت وقصور السحرة، إلى جانب ما وجدوه من بعض أوراق البردي التي تؤكد المخطط الكامل للمؤامرة الرهيبة التي اكتشفها فرعون.
نظرية المؤامرة
وهكذا لو تأملنا من بداية القصة حتى الآن سنجد أن كل تصرف لا يرغب فيه الفرعون ونظامه الحاكم يتم تأويله إلى مؤامرة من جهات أخرى لقلب نظام الحكم أو لتقسيم مصر وتفكيك وحدة شعبها - المفكك من الأساس - شيعاً وأحزاباً ! ونضرب لذلك أمثلة:
* لم تكن رسالة موسى إلى فرعون وملئه إلا مجرد أن يسمحوا لهم بهجرة بني إسرائيل من مصر، فاعتبر نظام فرعون ذلك الطلب مؤامرة تهدد سلطانهم في الأرض﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ يونس: 78
* وعندما أراهم موسى الدلائل على نبوته بالعصا التي تحولت إلى ثعبان، واليد التي أصبحت بيضاء للناظرين جاء الرد الفوري من فرعون للملأ أن مؤامرة موسى هذه الهدف منها هو إخراجهم من أرضهم ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ الشعراء:34
* حتى إيمان السحرة المفاجئ كان رد الفرعون المرعوب عليه أنها مؤامرة على مصر لإخراج أهلها منها ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ وحكم عليهم أفظع حكم فقال: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ الأعراف: 123
لذا فنظرية المؤامرة هي شماعة كل حاكم يعلق عليها فشله الذريع في إدارة الدولة، أو قمعه للحريات أو قبضته الأمنية الغير مبررة. ...المزيد
معلومات
كاتب وخطيب وداعية إسلامي؛ مؤمن بالتغيير السلمي المتدرج، فلو تغيرت الأفهام سيُكسِّر الأصنام عبادها.
أكمل القراءة