الإسلام المُفتَرَى عليه!
قد يوهم عنوان المقال أن مصادر الافتراء هي في المقام الأول غير المسلمين، ولكن الإنصاف غير ذلك في أغلب الأحوال، فإذا حكمنا على مصادر الافتراء من وجهة نظرٍ حاليةٍ عصريةٍ نجد أن المسئول الأول عن هذا الافتراء هو عامة المسلمين، والمسئول الثاني هو متدينو المسلمين ودعاة الإسلام، والمسئول الثالث مرتبةً بالرغم من أنه الأول تاريخيًا هو تشويه غالب المستشرقين لحقيقة الإسلام مع معرفتهم بها.
أ- مصادر الافتراء.
قد يوهم عنوان المقال أن مصادر الافتراء هي في المقام الأول غير المسلمين، ولكن الإنصاف غير ذلك في أغلب الأحوال، فإذا حكمنا على مصادر الافتراء من وجهة نظرٍ حاليةٍ عصريةٍ نجد أن المسئول الأول عن هذا الافتراء هو عامة المسلمين، والمسئول الثاني هو متدينو المسلمين ودعاة الإسلام، والمسئول الثالث مرتبةً بالرغم من أنه الأول تاريخيًا هو تشويه غالب المستشرقين لحقيقة الإسلام مع معرفتهم بها.
أولًا: اسهام عامة المسلمين في خلق هذا الافتراء.
1- ادَّعاء عوام المسلمين الغير مقصود بأنهم مسلمون حقًا مع بُعدهم الشاسع عن الإسلام الحقيقي. فتجد روح التديُّن موجودة لدى معظم المسلمين ولكنه تديُّن زائف هزلي غير جدي.
2- اعتقاد الغرب أن وصف المسلمين أنفسَهم بالتديُّن كفيل بأن يُصدِّقوا أنهم يتبعون دينهم حقًا، وذلك لأن غالب الغرب تعود على الجدية فلا يقول فرد منهم أنه متَّبِع لمذهب إلا أن يكون متَّبعه حقًا.
3- تخلُّف المسلمين في كافة الميادين الأخلاقي منها والعلمي المادي.
4- ربط الغرب بين الأفكار المُغذية للعالم الإسلامي -الإسلام في نظرهم!- وبين التخلف الحضاري الذي يغوص فيه المسلمون وذلك لاعتياد الغرب على طريقة التفكير البرجماتية "أن كل فكرة لا تكون ذات قيمة إن لم يكون لها أثر ملموس".
5- نتيجة لصد المسلمين غيرَهم عن طريق الإسلام بسمَتهم ودعايتهم السيئة للإسلام نجد نفور غير المسلمين من اتباع الإسلام.. بالرغم من أنهم يسعون وراء أديان جديدة تُشبِع نهمهم الروحي بعد أن غرقوا في بحر المادة الآسن، فتجدهم يتبِعون ديانات وضعية مثل البوذية.
ثانيًا: إسهام متديني المسلمين ودعاة الإسلام في الافتراء.
وذلك عن طريق:
1- ترتَّب على أثر المستشرقين -البند الثالث- ردة فعل عكسية إصلاحية في العالم الإسلامي، ونتيجة لمحاولة الإصلاحيين البُعد تمامًا عن الاستشراق وتلويثه لمصادر الإسلام فقد كانت ردة الفعل بأن عاد المسلمون ليأخذوا من مجتهدي الأمة القدامى لضمان عدم تلوث معرفتهم الجديدة بالإسلام بالسُّم الاستشراقي.
2- كان نتيجة لهذه الحركات المرتبكة إلى حدٍ كبير.. هو محاولة تطبيق الاجتهاد القديم على عصرنا الحالي بدون تجديد، وذلك التجديد الذي كان ينبغي أن يحدث هو الرجوع للقرآن والسنة اللذان يصلحان لكل المكان والزمان، وعليه فقد نشأ نوع من التجميد لفهم النصوص الإسلامية الأصيلة عند نقطة معينة في الماضي وتوقف الاجتهاد في المسائل المعاصرة.
3- تم اختصار الإسلام إلى العبادات والعقائد، بتركيز على علم التوحيد الذي يدافع عن قضايا تعرَّضت لها فلسفات اليونانيين قديمًا وترك ما يُهدِّد عقيدة المسلمين اليوم دون جبهة دفاع قوية، وضعف فِقه المعاملات والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك من فروع الفِقه التي كانت تستحق الاهتمام للحفاظ على الإسلام كدينٍ عالمي المكان والزمان.
4- ردة فعل أخرى لعالم التجميد الذي خضع له فهم المسلمين للإسلام بحركاتٍ أخرى تحرُّرية علمانية.. اتخذت من توقف الاجتهاد تكئة في مهاجمة الإسلام أنه لا يصلح كدين شامل لكل نواحي الحياة.
5- ظهرت ردة فعل أخرى للانتكاسة العلمانية بمحاولة إحياء الاجتهاد، والتركيز على الأخذ من معين الإسلام الأصيل من القرآن والسنة مع عدم إهمال التراث الإسلامي.
6- توالت ردود الأفعال التسلسلية والمتوازية في شتى بقاع العالم الإسلامي إلى أن أدَّى ذلك إلى ظهور جماعاتٍ عِدّة في العالم الإسلامي، كلٌ يريد الاستئثار بالإسلام الحقيقي لنفسه مع تخطيء الآخرين، فظهرت ثقافة "الفرقة الناجية" -لفظ "كلها في النار إلا واحدة"، في حديث تفرُّق المسلمين إلى بضع وسبعين شعبة، عليه اختلاف بين علماء الحديث في ثبوته-، فكلٌ يدَّعي انتمائه لهذه الفرقه.
كانت النتيجة هي التناحر الداخلي في العالم الإسلامي وظهور التكفير والتفسيق من الجماعات بعضها لبعض. وكاد ذلك أن يكون سببًا أو تكئة لاتهام غير المسلمين الإسلامَ أنه طالما اختلف المسلمون أنفسهم على ماهية الإسلام الحقيقي فإن الإسلام الحقيقي لا وجود له.
7- استقر الأمر على تكوين جماعات تؤثر العبادات والعقائد على المعاملات وجماعات تؤثر المعاملات على العبادات والعقائد وجماعات تتخذ من العنف منهجًا لها لنشر الإسلام بدلًا من أن تقصره فقط على صد العدوان عنه، وتبقت القلة القليلة هم من نجحوا في التفكير في الإسلام كدين حياة، دين دنيا وآخرة، دين روح وجسد، دين أصالة تنضح بالمعاصرة ومعاصرة تستمد جذورها وقوتها من الأصالة.
8- رجحت كفة جماعات إيثار العبادات والعقائد -بالتركيز على مواجهة قضايا وشبهات بليت وظهر بدل منها تهديدات عقائدية معاصرة- وأثر ذلك كثيرًا على الدعوة داخل بلاد المسلمين وخارجها فأحس الكثير من المدعويين الغربيين لدين الإسلام أنهم بصدد دين يجلب لهم الراحة النفسية، بالتركيز على الروحانيات، في مقابل تخليهم عن حياتهم المعاصرة بما فيها من تقدُّم وتكنولوجيا وتحريم كثير من عاداتهم بل ومهنهم.
9- صد ذلك الكثير من الغرب عن الدخول تحت مظلة الإسلام ولكنه لم يمنع من اعتناق الإسلام بالرغم من سوء عرض دعاة المسلمين لبضاعتهم على الغرب الغير مسلم، وهذا دليل على القوة الفائقة للإسلام، فبالرغم على كل ما بُلي به من تشويه لمعالمه الأصيلة إلا أن ما زال هو الدين الأكثر انتشارًا.
ثالثًا: إسهام المستشرقين من غير المسلمين في الإفتراء على الإسلام.
1- بدأ الاستشراق كاستجابةٍ لوصية لويس التاسع عشر بعد هزيمية الصليبيين المنكرة على أيدي المسلمين، يوم أن كان المسلمون أقرب كثيرًا للإسلام الحق منهم الآن، وقد كانت وصية لويس التاسع ألا يهاجموا الإسلام من الخارج بهيئة واضحة ومباشرة لأنهم بذلك يقوون شوكة المسلمين ويستفزونهم للدفاع عن دينهم، وإنما ما ينبغي هو أن يهاجموه من الداخل بتحريف تأويل نصوص الإسلام وتقوية النزاع الداخلي بين طوائفه وتشجيع التفرق عِوضًا عن التكامل بين صفوف المسلمين.
2- عظَّم المستشرقون في نفوس المسلمين الروح الاستسلامية وروح الخضوع لولي الأمر وإن كان فاسقًا وأماتوا فيهم روح الجهاد بِدأً من جهاد النفس وانتهاءًا بالجهاد بالنفس.
3- كان ثمرة الاستشراق عظيمة الخبث حيث أنهم هاجموا الإسلام من داخله في الوقت الذي نجحوا في إقناع الغرب بالنظر إلى الدين الإسلامي بمنظور الاستشراق، وساعد في هذا الإقناع تخلُّفُ المسلمين المتزايد حيث فقد دعاة الإسلام مصداقيتهم واكتسب المستشرقون مصداقية مزيَّفة بدعوى أنهم مُنصِفون! لأنهم موضوعيون ولا يُفرِّقون بين الإسلام وغيره في دراساتهم، بيد أن غالبهم كان وما زال يُضمِر العِداء للإسلام، العِداء الذي توارثوه من عهد الهزيمة المنكرة على يد المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي في حطين.
4- ساعد الاستعمار الغربي الحديث لبلاد المسلمين المستشرقين في هدفهم بعد أن ساعده المستشرقون في عودة الهيمنة على دول الإسلام من جديد.
5- نهب الاستعمار الثروة الفكرية قبل الثروة المادية للمسلمين واقنعوا ضِعاف النفوس منهم بأن الحضارة الحقيقية تكمن في التحرُّر من قيود الدين وضربوا بالنوذج العلماني الغربي مثلًا على هذا.
6- كانت نتيجة الاستعمار الفكري هو ترعرع نابهي المسلمين في كنف الجامعات الغربية، ونهلِهم من دراسة نمط الغرب في الحياة كبديل عن النمط الإسلامي، وذلك نتيجة الانبهار والشعور بالدونية، بدلًا من الاكتفاء بما ينقص المسلمين من علوم مادية وحسب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تجاوزه إلى فقدان الثقة في المصادر الإسلامية لدراسة الإسلام! والأخذ عِوضًا عنها بالمصادر الاستشراقية في دراسته، فنشأت أجيال من المسلمين يعرفون عن الإسلام ما يود أعداؤه تعريفَهم إياه وإن كان افتراءًا وكذبًا، وذلك داخل بلاد المسلمين وخارجها.
7- أوهم الاستعمار الغربي الشعوب الإسلامية بالاستقلال عن أراضيهم وذلك بعد أن زرع فيهم عملاءَه كحكام لبلادهم ووضع آليات هدمية لمحاولات الإصلاح بحيث أن تضمنُ الفئةُ الفاسدةُ مرتبة الصدارة في الحكم جيلًا بعد جيل.. ضامنين للاستعمار وجوده الفعلي متخفٍ في زِيِ المسلمين بدلًا من وجوده الظاهر المستفز لنابهي المسلمين وذلك لاستمرار هيمنة الاستعمار على العقول والثروات المادية أثرًا بدون عين بعد أن كان أثرًا مع عين.
8- كانت نتيجة الاستعمار الخفي هو تربية المسلمين على مناهج إسلامية زائفة وشحن الإعلام بالإسلام الاستسلامي، وتشجيع الطرق الصوفية وتشجيع انقسام المسلمين وعودة العصبية الجاهلية، وتأصيل التزييف إلى أن وصل لمفاهيم أساسية مثل التوحيد والولاء والبراء والجهاد وتقويم ولي الأمر وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فشوَّهها إن لم يكن محاها بالكلية.
ب- الإسلام، ما هو؟
الإسلام هو دين الله الذي أرسل به رسله للناس عبر العصور والأمصار بإصداراتٍ مختلفةٍ تُناسِب كل عصر ومِصر، تتفق في عقائدها وتختلف في بعض شرائعها حتى أرسل الله الرسالة الخاتمة إلى الناس كافة وإلى العصور كافة إلى يوم القيامة مع خاتم المرسلين والنبيين محمد صلى الله عليه وسلم متمثلةً في كتاب الله القرآن الكريم الذي شرحه وطبقه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بسنته القولي منها والعملي.
والإسلام هو الاستسلام التام لله وحده لا شريك له، شعوريًا بالخشوع لله واستشعار الخضوع والذُلّ له والإيمان القلبي بما أنزل في كتابه وعلى لسان رسوله ورجاء رضاه وجنته والخشية من غضبه وعذابه، وعمليًا باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه.
وبذلك فهو يقوم على إيمان بالقلب وعمل بالجوارح ودعوة إلى الله وصبر على تبعات كون المسلم مستمسكًا بدينه -انظر سورة العصر: القرآن الكريم-. لا يقوم الإسلام صحيحًا إلا بهؤلاء جميعًا، إن نقص أحدهم أو تشوه، تشوه الإسلام وحاد عن حقيقته.
وحقيقة الإسلام تُستمدُ من نصوصه والتي أراد الله تعالى في كثير منها ألا تتفق العقول جميعًا على فهم واحد لها، ولو أراد الله لهذه النصوص أن تُعطى معنىً واحدًا لما أعجزه ذلك عز وجل.
وينبني على هذا الفهم البحث عن علة تنزيل الله نصوصًا يتعدَّد فهمها، ويسهل فهم هذه العلة إذا نُظر للإسلام كدين عالمي الزمان والمكان، فإن لم تتعدَّد الأوجه الصحيحة لفهم نصوصه لما غطَّى الإسلام الحق طبائع البشر أجمعين وبيئاتهم من نزول الإسلام إلى قيام الساعة، وعليه فإنه ينبغي على أهل الإسلام أن يفهموا هذه الطبيعة فيه ويُقدِّروا مِيزتها بدلًا من أن يًُصرِّوا أن للمعادلة الإسلامية حلًا واحدًا ويتناحروا ويتصارعوا على صحة هذا الفهم أو ذاك. ويترتَّب أيضًا على فهم هذه الطبيعة الكامنة في أصل الإسلام أن يتكامل المسلمون ويُوظِّفوا المعاني المتعدِّدة لنصوصه في صالح المسلمين والدعوة الإسلامية وليس ضدهما.
فإن فعلوا ذلك تقووا ببعضهم البعض كشعيرات الحبل المتين التي تتعدَّد اتجهاتها وتدور حول بعضها البعض.. في مساراتٍ متلاحمةٍ مع الحفاظ على الاتجاه الواحد لهذا الحبل المتين نحو رضا الله وجنته.
وتفكّر فيما لو كانت شعيرات الحبل متوازية، لو كان هذا لانفرط الحبل، بل تفكّر لو كانت شعيرات الحبل متشابكة ولكن كل شعيرة تعتقد أنها وحدها التي على صواب فتنحر في جيرانها ذوي الاتجاهات المختلفة فيتقطع الحبل ويتهرأ وينتهي.
ج- دحض الافتراء، كيف؟
لا يمكن رجوع المسلمين إلى قوتهم ودحض الافتراءات على الإسلام إلا بالفهم الصحيح للإسلام وأصوله والإيمان السليم كمًّا وكيفًا واللذان يقتضيان التعاون بين المسلمين ونبذ التفرُّق والتناحر، التعاون على رضا الله سبحانه وظهور دين الله من جديد على ما سواه من مِللٍ ونِحلٍ باطلة. ويقتضيان أيضًا تعلم فقه إنكار المنكر بأنه لا إنكار على مُخْتَلَفٍ فيه اختلافًا سائغًا تُبرِّره اللغة العربية السليمة وأسباب النزول للآيات مع المواقف المحيطة بنصوص وأفعال السنة النبوية.
والله أعلم.