أنماط - (48) نمط الرمادي

منذ 2014-08-07

من الأنماط الآمنة التي يلجأ إليها البعض لكونها في مساحة مريحة نمط الأخ "اللي على السِلِم" وتستطيع تسميته أيضًا بالأخ المنتصفي الرمادي.. ولقد صوّرت العبقرية الشعبية هذا النمط بكلماتٍ قليلة لخَّصت بها العديد من المعاني العميقة التي قد تكل الأقلام والألسنة في بيانها.. لقد مثَّلت القريحة المصرية أولئك الرماديين المائعين المميعين ممن أدمنوا إمساك العصيِّ من المنتصف والتزلف لجميع الأطراف بالراقصين على السلالم فلا "اللي" فوق سمعوهم ولا "اللي" تحت شافوهم!

ومن الأنماط الآمنة التي يلجأ إليها البعض لكونها في مساحة مريحة نمط الأخ "اللي على السِلِم" وتستطيع تسميته أيضًا بالأخ المنتصفي الرمادي..

ولقد صوّرت العبقرية الشعبية هذا النمط بكلماتٍ قليلة لخَّصت بها العديد من المعاني العميقة التي قد تكل الأقلام والألسنة في بيانها..

لقد مثلت القريحة المصرية أولئك الرماديين المائعين المميعين ممن أدمنوا إمساك العصيِّ من المنتصف والتزلف لجميع الأطراف بالراقصين على السلالم فلا "اللي" فوق سمعوهم ولا "اللي" تحت شافوهم!

والمثل الشعبي رغم جرأته واستدعائه لتلك الفعلة الخليعة إلا أنه يُلخِّص ببساطة حال كثير ممن نراهم اليوم في مجتمعنا من أهل تلك الخصلة وهذا النمط..

فرغم فجاجة الفعلة إلا أنهم في النهاية ولميوعة خيارهم بالبقاء على السلم لم يتمكنوا من لفت أنظار أيًا ممن حاولوا إسترضاءهم بمنتصفيتهم اللزجة!

حين تتشوش الرؤية ولا يستطيع الإنسان أن يميز بوضوح بين الصواب والخطأ، أو يقصر به فهمه ومعطياته عن إدراك خير الخيرين وشر الشرَّين خصوصًا في أحوال مختلطة لم تعد الخيارات فيها بالبساطة السابقة، فإنه من حق الإنسان في تلك اللحظة أن يرفض تلك الخيارات المتاحة التي لم يجد نفسه في أي منها ولا ينحاز إلى أحدها لحين ظهور البديل الأقرب والأصوب في نظره، أو ربما يقوم هو بنفسه بطرح ذلك البديل يومًا ما.

ولا شك أنه ليست كل النزاعات هي بين حق خالص وباطل مُطلَق، بل قد يكون الأمر اجتهاديًا، وتقصر بالمرء أدوات الاجتهاد والترجيح بينهما فيختار الحياد الجزئي أو الوقتي تمامًا كما يختار السائق في خضم الضباب الكثيف أن يقف على جانب الطريق لحين انقشاع طبقاته وتمكنه من الرؤية والسير من جديد.

وفي هذه الحالة لا يوصف بالتذبذب أو الميوعة مثل هذا الحريص على خطواته الرافض للوقوع في المحظور، أو صاحب الرأي المختلف الذي لم يجد نفسه في أي من الموجود..

لكن أن يكون هذا حال الإنسان دومًا، مُتعلِّلًا بأن هذه هي الوسطية أو التوسط..

أن يكون دائمًا على مسافة واحدة من الجميع حتى لو بدا له جليًا أن الحق أقرب لناحية منهم..

أن يكون موقفه دائمًا اللا موقف ويكون الرمادي هو اللون المفضَّل له..!

أن تكون السلالِم المنتصفية هي ملجأه المستمر ومنتصف العصا هو المكان المختار دومًا ليده..

فهذا على الرغم من أنه أكثر راحة إلا أنه استسهال لا يُفرِّق كثيرًا عن نقيضه الذي يزعم أنه يرفضه، وهو نمط التابع الإمعة المتطرِّف في انحيازه واتِّباعه الأعمى..

ولأصحاب هذا النمط أقول ما هذه بوسطية وما أنتم بوسطيين بل أنتم ببساطة منتصفيون تحاولون إرضاء الجميع بمواقفكم الباهتة المائعة الرمادية..

ثمة فارق كبير بين المنتصفية وبين الوسطية وتلك الأخيرة ليست دائمًا هي المعنى الظرفي المتبادر للأذهان، والذي هو المنتصف بين طرفين أو نقيضين، وإنما يأتي اللفظ في القرآن كثيرًا بمعنى الأعدل والأفضل والأكمل.

من ذلك قوله تعالى في شأن أصحاب الحديقة الذين منعوا حق الفقراء فيها: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، وأوسطهم هنا أي أعدلهم وأفضلهم..

ومنه أيضًا قول الله عن كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة من الآية:89]، أي من أعدل وأفضل وأمثل ما تُطعمون أهليكم، وليس كما يتصوّر البعض من عادي طعامهم ومتواضعه. وعلى ذلك تدور أقوال ابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر وابن جبير وعطاء وابن سيرين والحسن وغيرهم..

أيضًا جاء ذكر الوسط في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة من الآية:143]، ولقد فسّر نبينا معنى {أُمَّةً وَسَطًا} بالعدل، كما في الحديث الصحيح بالبخاري وغيره..

ويقول ابن كثير في تفسيرها: "واخترناكم لنجعلكم خيار الأمم"، وقال القرطبي: "وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء".

وفي مختار الصِّحاح: "والوسط من كل شيء أعدله".

فالوسطية هي الخيرية والعدالة والإنصاف والقصد، وليس شرطًا أن تكون المنتصف كما تظنون فتختاروا من بين كل خيارين خيارًا مائعًا غالبًا ما يكون بلا لون ولا رائحة، لمجرّد أن يقال أنك توسطتم..

إن المنتصف الذي إليه تركنون أو الحياد الذي تدمنون ليس ممدوحًا ولا مذمومًا بإطلاق، ولا تلازم بينه وبين التوسط أو الوسطية، فقد يكون الحياد في لحظة ما خيارًا صائبًا، بشرط ألا يكون منهجًا دائمًا، يجعل صاحبه شخصًا مذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يعرف معروفًا ولا يُنكِر مُنكرًا، ولا ينصر حقًا ولا يُبطِل باطلًا.

ولئن صح أن تكون الشجاعة وسطًا بين الجبن والتهور والكرم وسطًا بين الإسراف والبخل والتواضع وسطًا بين الذلة والكِبر، فكم من متناقضات لا يُتصوّر أن يتم التوسط بينها بل الحق والصواب يكون بانحياز المرء قطعًا لأحدهما؛ فلا توسط مثلًا بين العدل والظلم ولا بين الصدق والكذب أو بين الإيمان والكفر وكلما تطرّف المرء تجاه كمال الصدق والعدل والإيمان فإنه يزداد بذلك خيرًا وشرفًا..

فتأمّلوا حقيقة ذلك المنتصف وراجعوا مواقعكم جيدًا، وفكِّروا بتأنٍ واختاروا على أساس الأقرب إلى الحق أو على الأقل البُعد عن الباطل ولا يغرنّكم أمان اللا موقف ولا يغرينكم راحة منتصف السلم فتمكثوا هنالك دومًا..

وصدقوني الرمادي ليس دومًا يليق بكم..

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 1,712
المقال السابق
(47) نمط الحويط
المقال التالي
(49) نمط الممتحِن

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً