دفن الرؤوس في الرمال

منذ 2014-12-09

البعض يعتبر النصح المطلق من خلال بيان مواطن الخلل والتحذير من الأنماط السلبية والأمراض الخفية التي تجتاح جسد الأمة من حيث لا تشعر انشغالٌ بعيوب الناس وتنغيص لعيشهم وتعكير لصفوهم

تعد الأورام السرطانية من أخطر الأمراض التي تهاجم جسد الإنسان بشراسة وتعتبر من أهم أسباب هلاكه ليس فقط لقسوتها وسرعة انتشارها في الجسم الجسم ولكن لسبب آخر مهم يُرجع إليه البعض وصف تلك الأورام بالخبث مع التحفظ الشرعي على تلك التسمية.

إن مناط الخطورة ها هنا يكمن في دهاء هذا المرض العضال وتخفيه لفترة كافية دون أن يشعر به المريض المسكين الذي ربما لا ينتبه لوجوده إلا بعد أن يكون الأوان قد فات وتمكن المرض من الجسم وصعب استئصاله أو القضاء عليه. إنه مرض يجيد التخفي بشكل مدهش يخفيه عن المريض المسكين الذي ربما لا ينتبه لوجوده إلا بعد أن يكون الأوان قد فات وتمكن المرض من الجسم وصعب استئصاله أو القضاء عليه.

وطبعا البداية الحقيقة لعلاج هذا المرض تكمن في التعرف على وجوده والانتباه إلى مكانه ومدى انتشاره داخل الجسم.

لكن تخيل لو أن مريضًا قرر ألا يعترف بوجود المرض. تخيل لو أن مريضًا هاجم الطبيب الذي نبهه للمشكلة واعتبره طرفًا فيها بل وحمّله مسؤولية تنغيص حياته وتعكير صفوه بذلك التنبيه والتحذير من احتمالية وجود المرض. تخيل لو أنه رفض الانتباه وقرر أن يدس رأسه في الرمال وأبى أن يسعى لاكتشاف حقيقة إصابته بهذا المرض العضال وبالتالي فقد فرصة علاجه أو استئصاله.

مشكلة كبيرة أليس كذلك؟!

البعض للأسف يعيش هكذا ويتعامل بهذا المنطلق مع من ينصحه وينبهه لوجود خلل ما، بل ويعتبر أن النصح المطلق من خلال بيان مواطن الخلل والتحذير من الأنماط السلبية والأمراض الخفية التي تجتاح جسد الأمة من حيث لا تشعر انشغالٌ بعيوب الناس وتنغيص لعيشهم وتعكير لصفوهم، أو هب نظرة سوداوية تبرز فيها فقط النماذج المؤسفة والآفات المتوطنة في ثنايا النفس وجنبات الشخصية.

والحقيقة أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ إن كان في النصح التحذيري تنغيص لحياة البعض وإظهار لشيء من مواطن الخلل فإن إبرازها بشكل صريح ودقيق وبشيء من التفصيل يساعد بشكل أو بآخر على اجتنابها وينبه من ينطبق عليهم شيء من تلك الخصال ويلفت نظرهم إلى أن ثمة مشكلة ربما لا يلحظونها في خضم الصخب المحيط بهم لكن عند النظر إليها بمنظور عين الطائر ومن خلال النظرة النقدية المتسعة فإن ذلك أدعى لوقفة مع النفس ومراجعتها وتصحيح مسارها وهذا أول طريق التغيير والعلاج، وذلك منهج قرآني متقرر ومتكرر.

لو أننا تدبرنا آيات سورة التوبة كمثال لوجدنا لفظ (ومنهم) قد تكرر كثيرًا في تلك السورة، والناظر بعين التدبر لما بعد هذا اللفظ سيجد في كل مرة صفةً من صفات المنافقين ونمطًا متكررًا من أنماطهم الحياتية وسلوكياتهم اليومية التي تُتبين منها حقيقتهم. كل صفات المنافقين تقريبًا ذكرت في هذه السورة ولم يكن متبقيًا إلا أن تُذكر أسماؤهم وكناهم.

قد يقول قائل: هؤلاء منافقون فما شأننا نحن بذلك؟!

إجابة ذلك التساؤل تظهر في تعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع تلك الآفة التي نضرب بها هذا المثال التوضيحي: آفة النفاق.. لم يدس الصحابة رؤوسهم في الرمال ولم يتعاملوا مع هذا المرض العضال والنمط البغيض على أنه مخصوص بطائفة معينة عليهم الحذر منها وحسب، لكنهم تفاعلوا مع تلك النصوص وأدركوا أنهم -على مكانتهم وعلو درجتهم- ليسوا بمعزل عن تلك الخصال التي لخص مجامعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بيّن أن المنافق «إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا عاهد غدَرَ، وإذا خاصمَ فجَر» (متفق عليه)، ثم أوضح أنه من كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدعها ومن اجتمعت فيه فهو منافق خالص عياذًا بالله!

وها هنا بيان واضح أن الخطاب تحذيري من الآفة نفسها وليس فقط من المصابين بها والرسالة الضمنية مفادها: راجعوا أنفسكم فلربما تلبستم بشيء من تلك الخصال من حيث لا تشعرون.

ولقد تلقى الصحابة تلك الرسالة وتفاعلوا معها تفاعلا واضحًا فلم يتغافلوا أو يدسوا رؤوسهم في الرمال بل انتبهوا وخشوا على أنفسهم جدا تلك الخصال.

يقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق"!

ولقد كان سيدنا عمر بن الخطاب عنه حريصًا على تبيُّن حاله وكان يسأل حذيفة رضي الله عنه -وهو من ائتمنه الرسول على أسماء المنافقين- فكان يتحرى أن يتبين منه قائلا: "أوسماني لك رسول الله؟" عمر الفاروق وزير رسول الله وصاحبه وصاحب تلك المنزلة الرفيعة في أمة الإسلام يسأل خائفًا على نفسه من النفاق بينما يأمن كثير من الناس اليوم تمام الأمن من تلك الآفة ويظنون أنهم بمعزل عنها وكأن بينهم وبينها حِجرًا محجورًا وحجابًا مستورًا!!

عندما نتأمل تلك الآيات التي تتحدث عن آفة من الآفات أو سلوك مرفوض مستقبح فلا ينبغي أن نتعامل معها من منطلق المعلومات العامة أو الشأن الغابر لطائفة خيالية أو افتراضية ليس لها أدنى علاقة بنا أو بواقعنا ومن ثم نتغافل عن إسقاطها وقياس حالنا عليها والاستفادة من توجيهاتها وتحذيراتها في واقع نفوسنا وأفعالنا.

الصواب أن يتعامل المرء مع من ينبهه لتلك الآفات على أنه طبيب حريص، وناصح أمين حريص عليه، وليس عدوًا مريبًا يريد أن يستعلي عليه ويزكي نفسه من خلال انتقاصه. وأن يتعامل كذلك مع تفصيل تلك الأمراض القلبية والسلوكيات العملية بمنطق المنتبه المحاذر الذي يسعى بصدق للوقاية منها أو للعلاج إذا كان ممن أصيبوا بشيء منها، بدلا من التغافل والإنكار والإصرار على دفنها.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 125,577

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً