استطالة الألسن في أعراض العلماء والدعاة
إن المسيء إلى العلماء والطاعن عليهم بغيًا وعدوًا قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأنه بطعنه في العلماء قد طعن في الدين فهم حملة العلم وورثته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد؛ عباد الله..
أيها المسلمون:
خطورة اللسان أنه سلاح ذو حدين، يأخذ بصاحبه إلى الجنة أو النار واستطالة بعض الألسنة في أعراض المسلمين، قضية عظيمة جدًا؛ وسنتكلم في هذه الجمعة المباركة عن استطالة الألسنة في أعراض العلماء والقدح فيهم وأن ذلك من عظائم الأمور.
ونتكلم عن هذا الأمر بسبب ذيوعه وانتشاره بين أوساط بعض المسلمين نسأل الله لنا ولهم الهداية!
إن المسيء إلى العلماء والطاعن عليهم بغيًا وعدوًا قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأنه بطعنه في العلماء قد طعن في الدين فهم حملة العلم وورثته.. وهم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، الذين قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله: "يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى. يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه" (اللالكائي: [1/9]).
قال ميمون بن مهران رحمه الله: "العلماء هم ضالتي في كل بلد، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء". وقد تواردت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة المطهرة على الإشادة بفضل العلماء، والإشارة إلى علو مقامهم، فمن ذلك قول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة من الآية:11].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات"، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح").
والعلماء هم أولوا الأمر الذي أوجب الله طاعتهم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده".
وعن أبي الأسود قال: "ليس شيء أعزّ من العلم، وذلك أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك" (جامع بيان العلم: [1/275]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم فيما يرجع إليهم من العلم والدين، وهؤلاء هم أولوا الأمر، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولوا أمرها" (مجموع الفتاوى: [11/551]).
وقال تلميذه الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله واصفًا العلماء: "هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}" [النساء:59].
ورحم الله القائل:
الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء
فإن لم يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به، فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للعلماء منزلة عالية جدًا؛ حيث قال كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
وإن الواجب على الأمة أن تتأدب مع علمائها، وأن توقرهم وتجلهم.
وانظروا إلى أدب السلف الصالح رحمهم الله تعالى مع علمائهم فعن موسى بن يسار قال: "كان رجاء بن حيوه وعدي بن عدي ومكحول في المسجد فسأل رجل مكحولًا عن مسألة فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة. وعن عبيد الله بن عمر قال: كان يحيى بن سعيد يحدثنا فيسحّ علينا مثل اللؤلؤ. قال عبيد الله: فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالًا لربيعة وإعظامًا له" (مناقب الشافعي للبيهقي: [2/252]، سير أعلام النبلاء: [10/ 86-87]).
وقيل لأبي وائل: "أيكما أكبر؛ أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر مني عقلًا، وجاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده، إذ مرّ الشافعي على بغلته فوثب أحمد يُسلِّم عليه وتبعه، فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: دع عنك هذا؛ إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة" (مناقب الشافعي للبيهقي: [2/252]، سير أعلام النبلاء: [10/ 86-87]).
عباد الله:
لقد سمعنا ورأينا إلى آداب العلماء مع بعضهم البعض وقد طالعنا فيما سلف أحوال السلف الصالح الذين تأدبوا بآداب الشرع الشريف، فإذا أطللنا إطلالة على واقع بعض طلبة العلم في زماننا تمثلنا قول ابن المبارك رحمه الله:
لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا *** ليس الصحيح إذا مشا كالمقعدِ
إذ ترى أناسًا انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جحرها، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالبٍ ذمة، يتوجع أحد الدعاة من أمثال هؤلاء فيصفهم بأنهم، أناس فضوليون، يكثر لغطهم، ويقل عملهم، وتنصبغ مجالسهم بصيغة الغيبة وخشونة الألفاظ، حتى تكون تهورات اللسان أمرًا مستساغًا، وتغتال فضائل المجالس الإيمانية اغتيالًا، ويصبح الداعية المشارك فيها قليل الاحترام لعناصر الرعيل الأول، كثير الجرأة عليها... وليس ذلك عرف المؤمنين أبدًا، ولا سمتهم الذي ورثناه؛ إنما ورثنا الحياء، وعفاف اللسان، واحترام الكبير، وتبجيل السابق، والتأول الحسن، وترجيح العذر، وجمال اللفظ، والاستغفار للذين سبقونا بالإيمان، وتكرار الدعاء للمربي والحادي (فضائع الفتن؛ ص: [17]، بتصرف).
ويتضجر آخر من مسلكهم قائلًا: "..حتى إن المتحدِّث منافي أي مسألة من مسائل العلم لا يعدم مخالفًا له، أو ناقدًا، أو ناقمًا، أو واضعًا اسم المتحدِّث في ملف صنَّف فيه الناس أصنافًا، ووصم كل واحد منهم بوصمة تجريح وتشريح" (صفحات في آداب الرأي؛ ص: [5]).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون.. إن الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثمَّ قال الطحاوي في عقيدته: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين -أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل" (شرح الطحاوية؛ تحقيق: الأرناؤوط: [2/740]).
قال ابن المبارك: "من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته" (سير أعلام النبلاء: [8/408]).
وقال أحمد بن الأذرعي: "الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب" (الرد الوافر؛ ص: [197]).
وقال أبو سنان الأسدي: "إذ كان طالب العلم قبل أن يتعلّم مسألة في الدين يتعلّم الوقيعة في الناس من يفلح؟!" (ترتيب المدارك: [2/ 14-15]].
والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، وهم يستجلبون لها بفعلتهم الشنيعة أخبث الأوصاف {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات من الآية:11]. وهم من شرار عباد الله، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه الإمام أحمد وهو محتمل للتحسين، انظر غاية المرام للألباني؛ رقم: [434]).
والطاعنون في العلماء هم مفسدون في الأرض، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس من الآية:81]. وهم عُرضةً لحرب الله تعالى القائل في الحديث القدسي: « » (رواه البخاري).
وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالِم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم -ولو كان فاسقًا- ليس بينها وبين الله حجاب، فيكف بدعوة ولي الله الذي قال فيه: « » (رواه البخاري).
قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: "ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتقِ الله في المشايخ، فربما استُجيبت فيك دعوة" (سير أعلام النبلاء: [14/159]).
ولما أنكر السلطان على الوزير نظامه في صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم أجابه: "أقمت لك بها جندًا لا ترد سهامهم الأسحار" فاستصوب فعله، وساعده عليه (المنهاج النبوي؛ ص: [74]).
وقيل: إن أولاد يحيى -أي بن خالد البرمكي- قالوا له: وهم في القيود مسجونين: "يا أبة! صرنا بعد العِزِّ إلى هذا؟! قال: يا بَنيَّ دعوة المظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنه" (سير أعلام النبلاء: [9/90]).
ونختم هذه الخطبة بقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله قال: "واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم" (المعيد في أدب المفيد والمستفيد؛ ص: [71]).
وقال أيضًا رحمه الله: "ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]".
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة *** فاعدل فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يومًا على جبلٍ *** لاندك منه أعاليه وأسفله
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وجعلنا من أهل الخير والصلاح والاستقامة. والحمد لله رب العالمين...