كتاب لأولي الألباب
القرآن الكريم ليس كتاباً عادياً يقرأه القارئ وهو مسترخي الذهن خاملُه، ولكنه كتابٌ لأولي الألباب، لا يستطيع استخراج كنوزه ونفائسه إلا من شحذ ذهنه قبل قراءته وأعمل عقله فيه وقتها، فليعلم كل مسلم أن دينَه وكتاب دينِه يريدُه بل ويعدُه ليكون من أولي الألباب، الذين يفهمون كتاب الله ويفهمون كون الله، كلاهما معاً متلازمين مترابطين.
أسلوب يرقى بالألباب..
إننا إذا تأملنا القرآن الكريم بوصفه كلام الله حقاً، ولو أننا حقاً أدركنا حقيقة أن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على عباده، لأدركنا أن بين أيدينا كنز ليس كمثله كنز، إننا لو قرأنا لمفكر كبير أو عالم جليل مقالة أو كتاب لأحسسنا أن فهم كلامه يصعد بعقولنا من مستواها إلى مستوىً أرقى، فما بالنا بقراءتنا لكتاب أنزله ملك ملوك السماوات والأرض، الذي لا يعلو بلاغةَ كلامه بلاغة، ولا يضاهي فصاحته ومحتواه المعرفي فصاحة نثر أديبٍ أو شعر شاعرٍ، أو بحثِ عالمٍ متفحصٍ.
نظرة ضرورية!
إن هذه النظرة لكتاب الله عز وجل لهي نظرةٌ ضروريةٌ لكل من يقرأه، لأنك إن لم تنظر لكتاب الله هذه النظره فلن تُقدر له قَدره، وتعرف ما يميزه عن سائر الكتب كما أنك لن تستطيع الاستفادة منه؛ لأنه لن تتولد عندك الهمة اللازمة لاستخراج نفائسه من كنوز الإيمان والعلم والمعرفة.
فهمٌ موضوعيٌ يزيدُ الألبابَ رقياً..
إن معظم من يقرأون في كتاب الله يظنونه مقاطعاً وآياتٍ منفصلة، كل مقطع منها يتناول موضوعاً ما.
ولكن ما لا يعرفه جل المسلمين أن كتاب الله مترابطةٌ أجزاؤُه ترابطاً عجيباً، والعجيب في هذا الترابط أنه ترابطٌ خفي جلي! فهو خفيٌ لمن يقرأ القرآن قراءة سطحية ويتعامل معه ككتاب عادي، وهو جليٌ لمن أعطى هذا الكتاب حقه من التأمل والتفكر، وذلك نتيجةً لإيمانه بأنه كتاب الله جل شأنه، فيجب أن تكون قراءتُه على مستوى هذا الكتاب، فلا تكون قراءةً عادية تقليدية، إنما جُعل بيناً واضحاً لأولي الألباب الذين يُعطون القرآن حقه من التدبر والتأمل.. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29].
ضرب الأمثلة في القرآن يوصل المعنى ويشحذ الألباب..
إن الله تعالى عودنا أن يضرب لنا الأمثلة في القرآن ليوضح لنا المعنى، ولكنها ليست كأمثلة البشر التي توضح المعنى فحسب، بل إنه تعالى يحب المسلم القارئ للقرآن قوياً في ذهنه وقريحته، فيعطي المثل بحيث يوضح المعنى دون إرخاء الذهن على عكس شروحات البشر، فالمثل القرآني يكون في صورة لا يمكن للقارئ سبر ما ورائها إلا بإعمال عقله، والتفكر في معانيه، وبالتالي بشحذه وتقويته، يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
كتاب يحث على العلم، وعلم يحث على الإيمان..
إن القرآن الكريم يعج بالآيات الكونية التي تلفت بصائرنا وعقولنا إلى خلق الله المحكم لكونه الرائع
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4].
كما أن الله تعالى يأمرنا أمراً بالتفكر والبحث في الكون من حولنا، وفي بداية الخلق، وما في هذا من عبرة ودلالة على إمكانية إنشاء الدار الآخرة، ليكون بهذا الفكر العميق الأصيل إيمانُنا سبباً في إعمالِ عقولنا، ويكون إعمالُها من ثَم سبباً في زيادة إيماننا! فيا له من كتاب يفتخر به كل من يتخذه مُرشداً ودليلاً، قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20].
الخلاصة:
إن كتاب الله كتاب هداية وإرشاد لمن آمن به في هذه الحياة، ولن يتحقق هذا الرشد إلا بتقوية عقل المسلم وفكره.
فالقرآن الكريم ليس كتاباً عادياً يقرأه القارئ وهو مسترخي الذهن خاملُه، ولكنه كتابٌ لأولي الألباب، لا يستطيع استخراج كنوزه ونفائسه إلا من شحذ ذهنه قبل قراءته وأعمل عقله فيه وقتها، فليعلم كل مسلم أن دينَه وكتاب دينِه يريدُه بل ويعدُه ليكون من أولي الألباب، الذين يفهمون كتاب الله ويفهمون كون الله، كلاهما معاً متلازمين مترابطين.
والله أعلم.
- التصنيف: