همّة أُولي العزم

منذ 2015-02-06

كيف كانوا يرضون بالثوب البالي وهم يجوبون الصحارى يبحثون عن سَنَدٍ، عالٍ... وكيف كانوا لا يحزنون للدنيا ولا يجعلونها مبلغ علمهم، فقد رضوا منها بالإفلاس.. فما شأن هؤلاء القوم قد اعتادوا على الفلوات، وأنسوا بالخلوات، وصار الارتحال ديدنَهم، وامتطاء صهوات الجياد عادتهم..

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

قد يعجب من أضاع عمره في الصَفق بالأسواق، والسبق إلى صفقة الدٌّون وبيعة المغبون، إذا فتح عينيه على صفحة من صحيح البخاري فيها قصة الصِّدِّيق رضي الله عنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ، وَبَابِ الرَّيَّانِ». فقال أبو بكر رضي الله عنه: "هل يُدْعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسولَ اللهِ؟" قال: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3666]).

ويقرأ عن عدل عمر رضي الله عنه وجهاده وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرب العلم حتى رُئِيَ أثر الرِّي يجري في أظفاره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في رؤيا وهو يجرّ قميصه وأوّله -أي: فسره- صلى الله عليه وسلم بالدِّين، وقال: «فما رأيتُ عبقريًّا من الناسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ» (مسند أحمد؛ رقم: [8/26]).

ويقرأ في ترجمة عثمان رضي الله عنه أنه جهز جيش العسرة وحده حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ» (سنن الترمذي؛ رقم [3701]).

ويقرأ في ترجمة عليٍّ رضي الله عنه قوله: "أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟"، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه«يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (صحيح البخاري؛ رقم: [4210]).

ويطالع في ترجمة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عدله بين الناس وإغناؤهم بالزكاة، وإحيائه السننَ وإماتته البدع، ثم يجده في موطأ مالك خارجًا من المدينة يلتفت إليها باكيًا ويقول: "يا مزاحم أما تخشى أن نكون ممن نَفَتِ المدينة؟".

وكلما زاد في تقليب الصفحات ورأى ما نحن عليه من القعود زفرت في حلقه الحسرات، فهذا الحافظ ابن عساكر يذكر أن شيوخه ثلاثة آلاف شيخ! ويكتب لنا في كتاب واحد (تاريخ دمشق) سبعين مجلّدًا، وذاك النووي يقول: إنه كان يتلقّى في اليوم اثني عشر درسًا! فيتساءل: أي رجال هؤلاء؟

لا تَعْرِضَنَّ بِذِكْرِنَا فِي ذِكْرِهِمْ *** لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالْمُقْعَدِ

كيف كانوا يرضون بالثوب البالي وهم يجوبون الصحارى يبحثون عن سَنَدٍ، عالٍ، ، فهو مُنية القلب، ومبلغ الحبّ، كما ذكر ابن الصلاح في المقدمة أنه: "قيل لابن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ، وإسناد عالٍ".

وكيف كانوا لا يحزنون للدنيا ولا يجعلونها مبلغ علمهم، فقد رضوا منها بالإفلاس، كما نقل الذهبي في تذكرة الحفاظ قول شعبة بن الحجاج: "من طلب الحديث أفلس، بعتُ طست أمي بسبعة دنانير"، ولكن كان يحزنهم ألا يحوزوا الفهم ولا يلاقوا أهل العلم، كما ذكر الخطيب في كتابه (الرحلة) أنّ علي بن عاصم رحل إلى منصور بن المعتمر، فلما أتى بابه إذا جنازة قال: "قلت: ما هذه؟ قالوا: جنازة منصور فقعدت أبكي".

وكيف كانوا في عجلة من أمرهم وعلى بينة من ربهم، يهتمون بما ينفعهم ولا تلهيهم الأطعمة والأشربة، كما وقع لعبد الرحمن بن أبي حاتم لما اشترى مع صاحب له سمكة وانشغلا عنها بالدروس فما وجدا وقتًا لشوائها فأكلاها نيّئة إذ "لا يستطاع العلم براحة الجسد" كما قال يحيى بن أبي كثير في أبواب المواقيت من صحيح مسلم.

فما شأن هؤلاء القوم قد اعتادوا على الفلوات، وأنسوا بالخلوات، وصار الارتحال ديدنَهم، وامتطاء صهوات الجياد عادتهم، فلسان حالهم:

تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي *** أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي؟
أَكُلَّ الدَّهْرِ حَلٌّ وَارْتِحَالٌ *** أَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَمَا يَقِينِي!

حتى جاء في (سير أعلام النبلاء) عن صالح بن محمد البغدادي "كانت رحلته الدنيا كلها"، وما بالهم يتحملون العناء والناس في هناء؟ ويحتسبون في ذلك الظمأ والنصب والمخمصة، يعانون أنواع الأذى حتى رُفس الحافظ يحيى بن معين فقال كما نقل الخطيب البغدادي في (الجامع): "كانت تلك الرفسة أحب إليّ من كل شيء"، وجاء في ترجمة ابن طاهر من (تذكرة الحفاظ) أنه بال الدم مرات في طلب العلم، وأنشد شمس الدين بن الجزري في آخر منظومته (الدرة في القراءات الثلاث) يحدِّث عما وقع له وهو يكتب للناس العلم في حال سفره:

غَريبةُ أوْطانٍ بِنَجدٍ نَظَمتُها *** وعُظْمُ اشْتغالِ البالِ وافٍ، وكيف لا؟
صُدِدتُ عَنِ البَيتِ الْحَرامِ وزَوْرِيَ الْ *** مَقامَ الشَّريفَ المُصْطفَى أشْرَف العُلا
وطَوّقَني الأعْرابٌُ بِاللَّيلِ غَفلةً *** فما تَرَكوا شَيئًا وكِدتُ لأُقْتَلا
فَأَدْرَكَني اللُّطفُ الخَفِيُّ ورَدَّني *** عُنَيزةَ حتَّى جاءَني مَنْ تَكَفَّلا
بِحَملي وإيصالي لِطَيْبةَ آمِنًا *** فَيا ربِّ بَلِّغْني مُرادِي وسَهِّلا

يزداد تعجبًا واستغرابًا إذا قرأ في (تاريخ الخلفاء) للسيوطي أن أبا جعفر المنصور سئل: "هل بقي لك في لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة: أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث يقول المستملي: من ذكرت رحمك الله؟ قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدَّنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، بُرد الآفاق ونقلة الحديث".

ولا جواب إلا قول أبي الطيب:

ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ *** وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.

محمد عمر دولة

المصدر: مجموعة مواقع مداد
  • 0
  • 0
  • 1,439

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً