ولاية المُـتغلب - ولاية المتغلب(6): المتغلب على حي والمتغلب في فراغ

منذ 2015-02-22

ذهب العلماء إلى أن المتغلب الذي يطاع بعد تطبيقه الشرع وإقامة الكتاب هو المتغلب على المتغلب قبله، فكونهما متغلبَيْن، يجوز إبقاء الثاني، لأن اللصوص سطا بعضها على بعض.. كذلك لو تغلب المتغلب بعد فراغ المنصب من إمام مبايَع، كما لو مات الإمام فتغلب أحد، على الوضع من غير أن يحل محلَّ غيره، واستتب له الأمر وأقام كتاب الله في الناس، فهذا يسمع له ولو بغير بيعة..

وأيُّ متغلب هو بعد هذه الشروط؟

لو فرضنا أن هذا المتغلب صار يحكم بما أنزل الله، وأخذ يستتب له الأمر وتسكن له الدهماء، فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد، وتثبت ولايته وتجب طاعته؟ّ كلَّا، وبلَّا!

لصوصٌ تغلَّب بعضُها على بعض

لا، ليس هــذا فحسب، بل هناك أمر آخر جدُّ مهم... فقد ذهب العلماء إلى أن المتغلب الذي يطاع بعد تطبيقه الشرع وإقامة الكتاب هو المتغلب على المتغلب قبله، فكونهما متغلبَيْن، يجوز إبقاء الثاني، لأن اللصوص سطا(1) بعضُها على بعض، والجزاء من جنس العمل، ولا حرمة للمتغلب الأول لكونه لِصًّا اغتصب حق الإمام المبايَع والمنتخب والمختار قَبْلَه، فجاء المتغلب الثاني فسرق المسروق، وغصب المغتصَب من المغتصِب!

والحاكم الشرعي عند تشبثه بمنصبه ومطالبته بحقه في الرئاسة لا يقال بأنه يصارع على الكرسي كما يهذي بها بعض المهوِّسين حتى من بعض دعاة الإسلام، فهم يهرفون بما لا يعرفون، أو يقولونه فرارًا من الواقع وتوليًّا من الزحف، أو تبريرًا لذلك كله. فسيدنا عثمان رضي الله عنه لما قالوا له: "اخلع نفسك من هذا الأمر"، قال: "لا أنزع قميصًا ألبسنيه الله عز وجل"[تاريخ الطبري:3/ 408]، فالقميص الذي هو الخلافة أو الولاية حق للأول، فإذا كان قد أخذه من آخر سطوًا وغَصْبًا، ثم لبسه غلبةً، فإن ذلك لا يصَيِّرُه حقًّا له، ولذلك إذا جاء غاصِبٌ آخر فغصبه منه، لا نطالب الغاصب الثاني بأن يردَّهُ إلى الغاصب الأول، لأن كلاهما غاصب وسارق وساطٍ، ولأن صاحبه هو المالك الأول بالرضى لا بالغصب، فاختار أهل العلم الصبرَ على المتغلب (اللص) الثاني موازنة بين المصالح والمفاسد، ولأن المتغلب (اللص) الأول لا حقَّ له في القميص، فلا يجب علينا ردُّه إليه.. أما المبايَع (المنتخب) الأول فهو حقه المغتصَب ويجب على الأمة إرجاعه إليه.. إلا لعارض المفسدة الأعظم.

المتغلب بعد فراغ المنصب

 كذلك لو تغلب المتغلب بعد فراغ المنصب من إمام مبايَع، كما لو مات الإمام الأول أو اصابه جنون كامل أو استقال؛ فتغلب أحد على الوضع من غير أن يحل محلَّ غيره، وكان أهلًا لها، واستتب له الأمر وأقام كتاب الله في الناس، فهذا يُسمع له ولو بغير بيعة، لدرء المفاسد وحقن الدماء، لأنه لم يأخذها من سابقه غصبًا، ولأن في القيام عليه مفسدة أكبر من الصبر. قال في: "الطريق الثالث من الطرق التي تنعقد بها الإمامة: القهر والاستيلاء فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعة من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعا لشرائط الخلافة بأن كان فاسقًا أو جاهلا فوجهان لأصحابنا الشافعية أصحهما انعقاد إمامته أيضًا لأنا لو قلنا لا تنعقد إمامته لم تنعقد أحكامه ويلزم من ذلك الإضرار بالناس من حيث إن من يلي بعده يحتاج أن يقيم الحدود ثانيا ويستوف الزكاة ثانيا ويأخذ الجزية ثانيًا. والثاني لا تنعقد إمامته لأنه لا تنعقد له الإمامة بالبيعة إلا باستكمال الشروط فكذا بالقهر"[مآثر الإنافة في معالم الخلافة، لأحمد بن عبد الله القلقشندي، مطبعة حكومة الكويت ، 1985، ط2، 1/30)]. ولا أظن قائلا يقول بأن علماء المذاهب الأربعة ليسوا من علماء السلف أو أنهم إخوان أو خوارج! كما أن الفسق الذي يذكرونه هنا هو المعاصي الشخصية وليست المظالم العامة والحكم بغير ما أنزل الله.

وتلاحظ أن إمام القهر والغلبة هو الذي يتغلب وليس للأمة إمام مبايَع، وإنما بعد فقده بموت أو استقالة منه بخلع نفسه لسبب يلجئه إلى ذلك، أو بخلع (إقالة) من أهل الحل والعقد، وهم مجالس المسلمين من شورى وبرلمانيين، وليس بانقلاب عسكري، أتت خطته من يهود ونصارى وعملائهم من العرب من خارج البلاد قلّب الأمور داخلها، ثم نُفِّذَت بعسكر الداخل وسلاحه!
إذن فلو استوفي المتغلب كلَّ شروط الحكم والإمامة، ولكنه كان قد تغلّّب (انقلب) على رئيس قبله منتخب أو مبايَع فإنَّ تغلُّبَه لا يجعل منه إمامًا ولا يوجب طاعته، بل يوجب القيام عليه وردِّ الحق إلى صاحبه.

لا ولاية للمتغلب على الحي الحقيق

أما من تغلَّب على إمام حيِّ مبايَعٍ قبله (منتخب) فلا طاعة له، ولو وفَّى ببقية الشروط التي ذكرناها سابقًا، ووجبت منازعته لرد الحق إلى صاحبه ونصابه "أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحيُّ متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعةٍ أو عهدٍ لم تنعقد إمامة المتغلب عليه"[حواشي الشرواني الشافعي: 9 /78]، ويقول محمد الشربيني الخطيب في:  "مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للنووي الشافعي" في طرائق انعقاد الإمامة، قال "ثالثها: ( باستيلاء ) شخص متغلب على الإمام (جامع الشروط ) المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه)[5/ 423].

وفيه أيضًا: "وكذا تنعقد لمن قهره، أي قهر ذا الشوكة عليها؛ فينعزل هو، بخلاف ما لو قهر عليها من انعقدت إمامته ببيعة أو عهد فلا تنعقد له ولا ينعزل المقهور" ا هـ، فلا تنعقد للسيسي ولا ينعزل بها مرسي، لأن تغلُّب السيسي على مُبايَعٍ وليس على متغلب مثله. فما زالت بيعة الدكتور مرسي في أعناق المصريين جميعًا، لأنه لم ينعزل شرعا بهذا الانقلاب. بل يجب عليهم تحريرُه من الأسر مِن عند الكذّاب الأشِر. وإما أن يكونوا لم ينصبوا لهم إمامًا، بل كانوا فوضى لا إمام لهم ففي هذه الحالة يكون "الإمام المأسور في أيديهم على إمامته، لأن بيعتهم له لازمة وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صار تحت الحجر، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم"[انظر: الأحكام السلطانية، للماوردي" 20، والأحكام السلطانية، لأبي يعلى: ص 23].

وقال ابن عابدين(ت1252هـ): "وإذا تغلب آخر على المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار الثاني إماما وتجب طاعة الإمام عادلا كان أو جائرا إذا لم يخالف الشرع"[رد المحتار على در المختار: 4/ 263].

الواجب على المصريين

وإن هم عجزوا عن تحرير رئيسهم الشرعي وفك أسرِهِ، فعليهم أن ينصبوا لهم إمامًا (حاكما) مسلمًا يقودهم بكتاب الله، على سبيل الدَّوام، أو على سبيل التأقيت حتى يعيدوا رئيسهم. وأبعد شيء شرعًا أن يتركوا هؤلاء المتغلبين (الانقلابيين)، لا للتغلب فحسب، بل لأنهم أساسًا لا يقودونهم بكتاب الله ولا يقيمون الدين. وأنا على شبه اليقين أن كثيرًا من المفتين أدعياء الانتساب إلى العلم أو إلى السلف يُشرعنون عودة (المخلوع) أكثر من عودة (المعزول) بخزعبلات من الفقه البارد، الشاذ الشارد عن فقه السلف رحمهم الله تعالى!

قال الزمخشري: "وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرًا بوجوب نُصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه... يقصد هشام بن عبد الملك"[الكشاف: 1 /318]. رغم إنّ أولئك الحكام والأمراء كانوا إذا تغلبوا وقهروا حكموا بالشريعة لا بالقوانين والوضعية، وتأمن بهم الأمة على أموالها وأعراضها.. فكانوا يسرقون السلطة ولا يسطون على الحاكمية... فشتان شتان أن يقاس عليهم هؤلاء...

اللهم هل بلَّغت.. اللهم فاشهد

ويتبع إن شاء الله تعالى بمقال: ولاية المتغلب (7): حملوا  السلاح علينا.. فليسوا منا

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- سطا على فلان: أذلّه؛ بطش به وقهره، وسطا على الشَّيء: سرقه، انتهبه في بطْش سطَا اللّصُّ على منزلٍ.

يمكن مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة: 

                                                ولاية المتغلب (1) من هو المتغلب؟ وما ولايته؟

                                                ولاية المتغلب (2): من هو الحاكم المطاع؟

                                             ولاية المتغلب (3): الدليل الثاني: يقودكم بكتاب الله ويقيم فيكم الدين

                                             ولاية المتغلب (4) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء

                                              ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص

تاريخ النشر: 3 جمادى الأولى 1436 (22‏/2‏/2015)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 2
  • 1
  • 21,702
المقال السابق
ولاية المتغلب(4 ) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء
المقال التالي
ولاية المتغلب (7): حملوا السلاح علينا. فليسوا مِنَّا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً